اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

الصفة ، ولا يجوز أن يكون «هدى» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : «هو هدى» ؛ لأنه عطف عليه منصوب صريح ، وهو : «بيّنات» ؛ و «بيّنات» عطف على الحال ، فهي حال أيضا وكلا الحالين لازمة ؛ فإنّ القرآن لا يكون إلا هدى وبينات ، وهذا من باب عطف الخاصّ على العامّ ، لأنّ الهدى يكون بالأشياء الخفيّة والجليّة ، والبيّنات من الأشياء الجليّة.

فإن قيل : ما معنى قوله (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) بعد قوله : «هدى».

فالجواب من وجوه :

الأول : أنه تبارك وتعالى ذكر أولا أنه هدى ، ثمّ الهدى على قسمين :

تارة : يكون هدى للنّاس بيّنا جليّا.

وتارة : لا يكون كذلك.

والقسم الأول : لا شكّ أنّه أفضل ؛ فكأنه قيل : هو هدى ؛ لأنه هو البيّن من الهدى ، والفارق بين الحقّ والباطل ، فهذا من باب ما يذكر الجنس ، ويعطف نوعه عليه ؛ لكونه أشرف أنواعه ، والتقدير : كأنه قيل : هذا هدى ، وهذا بيّن من الهدى ، وهذا بيّنات من الهدى ، وهذا غاية المبالغة.

الثاني : أن يقال : القرآن هدى في نفسه ، ومع كونه كذلك ، فهو أيضا بيّنات من الهدى والفرقان ، والمراد : ب (الْهُدى وَالْفُرْقانِ) التوراة والإنجيل ؛ قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٣. ٤] وقال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء : ٤٨] فبيّن تعالى أنّ القرآن مع كونه هدى في نفسه ، ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدّمة التي هي هدى وفرقان.

الثالث : أن يحمل الأوّل على أصول الدّين ، والهدى الثاني على فروع الدّين ؛ حتّى يزول التّكرار.

قوله : (مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) هذا الجارّ والمجرور صفة لقوله : «هدى وبيّنات» فمحلّه النصب ، ويتعلّق بمحذوف ، أي : إنّ كون القرآن هدى وبيّنات هو من جملة هدى الله وبيّناته ؛ وعبّر عن البيّنات بالفرقان ، ولم يأ ت «من الهدى والبيّنات» فيطابق العجز الصّدر ؛ لأنّ فيه مزيد معنى لازم للبيان ، وهو كونه يفرّق بين الحقّ والباطل ، ومتى كان الشيء جليّا واضحا ، حصل به الفرق ، ولأنّ في لفظ الفرقان تواخي الفواصل قبله ؛ فلذلك عبّر عن البينات بالفرقان ، وقال بعضهم : «المراد بالهدى الأوّل ما ذكرنا من أنّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها». وقال ابن عطية : «اللام في الهدى للعهد ، والمراد الأوّل ، يعني أنه تقدّم نكرة ، ثم أعيد لفظها معرّفا ب «أل» ، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول ؛ نحو قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)

٢٨١

[المزمل : ١٥ ـ ١٦] ، ومن هنا قال ابن عبّاس : «لن يغلب عسر يسرين» وضابط هذا أن يحلّ محلّ الثاني ضمير النكرة الأولى ؛ ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه ، لكان كلاما صحيحا»؟

قال أبو حيان : «وما قاله ابن عطية لا يتأتّى هنا ؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن «هدى» منصوب على الحال ، والحال وصف في ذي الحال ، وعطف عليه «وبيّنات» ، فلا يخلو قوله «من الهدى» ـ المراد به الهدى الأول ـ من أن يكون صفة لقوله «هدى» أو لقوله «وبيّنات» أو لهما ، أو متعلّقا بلفظ «بيّنات» ، لا جائز أن يكون صفة ل «هدى» ؛ لأنه من حيث هو وصف ، لزم أن يكون بعضا ، ومن حيث هو الأول ، لزم أن يكون إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضا كلّا بالنسبة لماهيّته ، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط ؛ لأنّ «وبيّنات» معطوف على «هدى» و «هدى» حال ، والمعطوف على الحال حال ، والحالان وصف في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصّص بهما ذو الحال ؛ إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت «بيّنات» بقوله : «من الهدى» خصصناها به ، فتوقّف تخصيص القرآن على قوله : «هدى وبيّنات» معا ، ومن حيث جعلت «من الهدى» صفة ل «بيّنات» ، وتوقّف تخصيص «بيّنات» على هدى ، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محال ، ولا جائز أن يكون صفة لهما ؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهدى فقط ، أو بينات فقط.

ولا جائز أن يتعلّق بلفظ «بيّنات» ؛ لأنّ المتعلّق قيد في المتعلّق به ؛ فهو كالوصف ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف ، وأيضا : فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرا ، فقلت : منه ـ أي : من ذلك الهدى ـ لم يصحّ ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامّين ، حتى يكون هدى وبينات بعضا منهما».

قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) إلى قوله : (تَشْكُرُونَ) نقل الواحديّ في «البسيط» عن الأخفش والمازنيّ أنهما قالا : الفاء في قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ) زائدة ؛ قالا : وذلك لأنّ الفاء قد تدخل للعطف ، أو للجزاء ، أو تكون زائدة ، وليس لكونها للعطف ، ولا للجزاء هاهنا وجه ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ (١) مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨].

قال : وأقول : يمكن أن تكون «الفاء» هاهنا للجزاء ؛ فإنه تعالى لما بيّن رمضان مختصّا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشّهور فيها ، فبيّن أنّ اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة ، ولو لا ذلك ، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه ، كأنه قيل : لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة ، فأنتم أيضا خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة ، وأما قوله تعالى : (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] الفاء فيه غير زائدة أيضا ، بل هذا من باب مقابلة الضّدّ بالضدّ ؛ كأنه قيل : لمّا فرّوا من

٢٨٢

الموت ، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم ؛ ليعلموا أنّه لا يغني الحذر عن القدر. و «من» فيها الوجهان : أعني كونها موصولة ، أو شرطية ، وهو الأظهر ، و «منكم» في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «شهد» فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا منكم ، وقال أبو البقاء (١) : «منكم» حال من الفاعل ، وهي متعلقة ب «شهد» ، قال أبو حيان : «فناقض ؛ لأنّ جعلها حالا يوجب أن يكون عاملها محذوفا ، وجعلها متعلّقة ب «شهد» يوجب ألّا تكون حالا» ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيّان عليه بأنّ مراده التعلّق المعنويّ ، فإنّ «كائنا» الذي هو عامل في قوله «منكم» هو متعلّق ب «شهد» وهو الحال حقيقة.

وفي نصب «الشّهر» قولان :

أحدهما : أنه منصوب على الظرف ، والمراد بشهد : حضر ، ويكون مفعول «شهد» محذوفا ، تقديره : فمن شهد منكم المصر أو البلد في الشّهر.

والثاني : أنه منصوب على المفعول به ، وهو على حذف مضاف ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف : فالصحيح أنّ تقديره : «دخول الشّهر» ، وقال بعضهم : «هلال الشّهر» قال شهاب الدين : وهذا ضعيف ؛ لوجهين :

أحدهما : أنك لا تقول : شهدت الهلال ، إنما تقول : شاهدت الهلال.

ويمكن أن يجاب بأنّ المراد من الشّهود : الحضور.

والثاني : أنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال ، وليس كذلك ، قال : ويجاب بأن يقال: نعم ، الآية تدلّ على وجوب الصوم على عموم المكلّفين ، فإن خرج بعضهم بدليل ، فيبقى الباقي على العموم.

قال الزمخشريّ : «الشّهر» منصوب على الظرف ، وكذلك الهاء في «فليصمه» ولا يكون مفعولا به ؛ كقولك : شهدت الجمعة ؛ لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشّهر» وفي قوله : «الهاء منصوبة على الظرف» نظر لا يخفى ؛ لأن الفعل لا يتعدّى لضمير الظرف إلّا ب «في» ، اللهم إلّا أن يتوسّع فيه ، فينصب نصب المفعول به ، وهو قد نصّ على أنّ نصب الهاء أيضا على الظرف.

والفاء في قوله : «فليصمه» : إمّا جواب الشّرط ، وإمّا زائدة في الخبر على حسب ما تقدّم في «من».

واللام لام الأمر ، وقرأ الجمهور (٢) بسكونها ، وإن كان أصلها الكسر ، وإنما

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٢.

(٢) انظر : الشواذ ١٢ ، ونسبها ابن عطية ١ / ٢٥٤ إلى الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي حيوة.

وانظر : البحر المحيط ٢ / ٤٨ ، والدر المصون ١ / ٤٦٨.

٢٨٣

سكّنوها ؛ تشبيها لها مع الواو والفاء ب «كتف» ؛ إجراء للمنفصل مجرى المتصل. وقرأ السّلميّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل ، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن. وفتح هذه اللام لغة سليم فيما حكاه الفراء ، وقيّد بعضهم هذا عن الفراء ، فقال : «من العرب من يفتح اللام ؛ لفتحة الياء بعدها» ، قال : «فلا يكون على هذا الفتح إن انكسر ما بعدها أو ضمّ : نحو : لينذر ، ولتكرم أنت خالدا».

والألف واللام في قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) للعهد ، إذ لو أتى بدله بضمير ، فقال : «فمن شهده منكم» لصحّ إلا أنّه أبرزه ظاهرا ؛ تنويها به.

فصل في بناء القولين على مخالفة الظاهر

قال ابن الخطيب (١) واعلم أن كلا القولين أعني : كون مفعول «شهد» محذوفا أو هو الشّهر لا يتم إلّا بمخالفة الظاهر.

أما الأوّل : فإنّما يتم بإضمار زائد ، وأمّا الثاني : فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنّ شهود الشّهر حاصل في حقّ الصبيّ والمجنون والمسافر ، مع أنّه لم يجب على واحد منهم الصّوم إلّا أنا بيّنا في «أصول الفقه» أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار ، فالتخصيص أولى ، وأيضا ، فلأنّا على القول الأول ، لما التزمنا الإضمار لا بدّ أيضا من التزام التّخصيص ؛ لأنّ الصبيّ والمجنون والمريض كلّ واحد منهم شهد الشّهر مع أنه لا يجب عليهم الصّوم.

فالقول الأول : لا يتمشى إلّا مع التزام الإضمار والتّخصيص.

والقول الثاني : يتمشى بمجرّد التخصيص ؛ فكان القول الثاني أولى ، هذا ما عندي فيه ، مع أن أكثر المحقّقين كالواحديّ وصاحب الكشّاف ذهبوا إلى الأوّل.

فصل

قال ابن الخطيب (٢) قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) جملة مركّبة من شرط وجزاء ، فالشّرط ه و «من شهد منكم الشهر» ، والجزاء هو الأمر بالصّوم ، وما لم يوجد الشرط بتمامه ، لم يترتّب عليه الجزاء ، والشهر اسم للزمان المخصوص من أوّله إلى آخره ، وشهود الشّهر إنما يحصل عند الجزء الأخير من الشّهر ، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنّ عند شهود الجزء الأخير من الشّهر يجب عليه صوم كل الشهر ، وهذا محال ؛ لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزّمان المنقضي ؛ وهو ممتنع ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، وأنه لا بدّ من صرفها إلى التأويل ، وطريقه : أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر ؛ فيصير تقديره : من شهد جزءا من أجزاء

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٦.

٢٨٤

الشّهر ، فليصم كلّ الشهر ، فعلى هذا : من شهد هلال رمضان ، فقد شهد جزءا من أجزاء الشّهر ، وعلى هذا التقدير ، يستقيم معنى الآية ، وليس فيه إلّا حمل لفظ الكل على الجزء ، وهو مجاز مشهور.

ولقائل أن يقول : إنّ الزجّاج قال : إنّ الشّهر اسم للهلال نفسه ؛ كما تقدّم عنه ، وإذا كان كذلك ، فقد زال كلّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره.

قال القرطبيّ (١) : وأعيد ذكر الشّهر ؛ تعظيما له ؛ كقوله (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٢] ؛ وأنشد على أنّه اسم للهلال قول الشاعر : [الكامل]

٩٤٣ ب ـ أخوان من نجد على ثقة

والشّهر مثل قلامة الظّفر

حتّى تكامل في استدارته

في أربع زادت على عشر (٢)

فصل

روي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنّ من دخل عليه الشهر ، وهو مقيم ثم سافر فالواجب عليه الصّوم ، ولا يجوز له الفطر ؛ لأنه شهد الشهر (٣).

وأما سائر الفقهاء من الصّحابة وغيرهم ، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السّفر في رمضان ، جاز له الفطر ، ويقولون : قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، وإن كان عامّا يدخل فيه الحاضر والمسافر ، إلّا أن قوله بعد ذلك : «فمن كان مريضا ، (أَوْ عَلى سَفَرٍ) ، (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) خاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ.

ذهب أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إلى أنّ المجنون ، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى.

قال : لأنّا دللنا على أنّ الآية دلّت على أنّ من أدرك جزءا من رمضان ، لزمه صوم رمضان ؛ فيكون صوم ما تقدّم منه واجبا ؛ فيجب قضاؤه.

فصل في كيفية شهود الشّهر

شهود الشّهر : إما بالرّؤية أو بالسّماع.

أما الرؤية : فنقول : إذا رأى إنسان هلال رمضان وحده ، فإما أن يرد الإمام شهادته أو لا ؛ فإن ردّت شهادته ، وجب عليه الصّوم ؛ لأنّه شهد الشّهر ، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرّؤية ، فلا شك في وجوب الصّوم.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٩٥.

(٢) تقدم برقم ٩٤٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٥٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٤٤) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.

٢٨٥

وأما السماع : فنقول : إذا شهد عدلان على رؤية الهلال ، حكم به في الصّوم والفطر جميعا ، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوّال ، لا يحكم به ، وإذا شهد على رؤية هلال رمضان يحكم به ؛ احتياطا لأمر الصّوم ، والفرق بينه وبين هلال شوّال : أنّ هلال رمضان للدّخول في العبادة ، وهلال شوال للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان.

قال ابن الخطيب (١) وعندي : أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان ؛ لكي يصوموا ، ولا يفطروا ؛ احتياطا ؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوّال ؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطا.

فصل في حدّ الصوم

الصّوم : هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائما من أوّل الفجر الصّادق إلى غروب الشّمس مع النّيّة.

فقولنا : «إمساك» هو الاحتزاز عن شيئين :

أحدهما : لو طارت ذبابة إلى حلقه ، أو وصل غبار الطريق إلى باطنه ، لا يبطل صومه ؛ لأنّ الاحتزاز عنه شاقّ ، وقد قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

والثاني : لو صبّ الطعام أو الشراب في حلقه كرها ، أو حال النوم ـ لا يبطل صومه ، والإكراه لا ينافي الإمساك.

وقولنا : «عن المفطرات» وهي ثلاثة : دخول داخل ، أو خروج خارج ، والجماع.

وحدّ الدخول : كلّ عين وصل من الظّاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن ؛ إما إلى الدماغ ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة ، أما الدّماغ فيحصل الفظر بالسّعوط ، وأما البطن ، فيحصل الفطر بالحقنة ؛ وأما الخروج ، فالقيء [بالاختيار] ، والاستمناء [يبطلان الصوم] ، وأما الجماع فمبطل للصّوم بالإجماع.

وقولنا «مع العلم بكونه صائما» فلو أكل أو شرب ناسيا ، لم يبطل صومه عند أبي حنيفة ، والشّافعيّ ، وأحمد ، وعند مالك يبطل.

وقولنا : «من أوّل طلوع الفجر الصّادق» ؛ لقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] وكلمة «حتّى» ؛ لانتهاء الغاية.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٧.

٢٨٦

وكان الأعمش يقول : أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس (١) ؛ ويحتج بأنّ انتهاء الصّوم [من وقت] غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها ، وهذا باطل بالنصّ الذي ذكرناه (٢).

وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده ، فقال له الأعمش : إنّك لثقيل على قلبي ، وأنت في بيتك ، فكيف إذا زرتني ، فسكت عنه أبو حنيفة ، فلمّا خرج من عنده ، قيل له : لم سكتّ عنه؟ قال : فماذا أقول في رجل ما صام ولا صلّى عمره ، وذلك لأنه كان يأكل بعد الفجر الثّاني قبل طلوع الشمس ، فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإنزال ، فلا صلاة له.

وقولنا : «إلى غروب الشّمس» ؛ لقوله عليه‌السلام : «إذا أقبل اللّيل من هاهنا وأدبر النّهار من هاهنا فقد أفطر الصّائم» (٣) ومن الناس من يقول : وقت الإفطار عند غروب ضوء الشّمس ، قاس الطّرف الثاني على الطّرف الأوّل من النهار ؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشّمس ، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها ، وهو مغيب الشمس.

وقولنا «مع النّيّة» ؛ لأنّ الصوم عمل ؛ لقوله عليه‌السلام : «الصّوم أفضل الأعمال» ، والعلم لا بدّ فيه من النيّة ، لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما الأعمال بالنّيّات» ، ومن الناس من قال : لا حاجة لصوم رمضان إلى النيّة ؛ لأن الله تعالى أمر بالصّوم بقوله : «فليصمه» والصّوم هو الإمساك ، وقد وجد ، فيخرج عن العهدة ، وهذا مردود بقوله ـ عليه‌السلام ـ «إنّما الأعمال بالنّيّات» والصوم عمل.

وقوله «ومن (كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد تقدّم الكلام عليها ، وبيان السبب في تكريرها.

قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) تقدّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) [البقرة : ٢٦]. و «أراد» يتعدّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه ، وقد ينعكس الأمر ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٩٤٤ ـ أرادت عرارا بالهوان ومن يرد

عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم (٤)

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٧.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٨٠) كتاب الصوم باب متى يحل فطر الصائم (١٩٥٤) والبيهقي (٤ / ٢١٦) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٢٥٩) وفي «تفسيره» (١ / ١٦٤) والطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٣) والحميدي (٢٠).

(٤) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٤٩ ، والكامل ١ / ٢٧٣ ، وشرح الحماسة ١ / ٢٨٠ ومعجم الشعراء (٢٢) والدر المصون ١ / ٤٦٨.

٢٨٧

والباء في «بكم» قال أبو البقاء (١) : للإلصاق ، أي : يلصق بكم اليسر ، وهو من مجاز الكلام ، أي : يريد الله بفطركم في حال العذر اليسر ، وفي قوله : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) تأكيد ؛ لأنّ قبل ه «يريد بكم اليسر» وهو كاف عنه. وقرأ (٢) أبو جعفر ويحيى بن وثّاب وابن هرمز : «اليسر ، والعسر» بضمّ السين ، والضمّ للإتباع؟ والأظهر الأول ؛ لأنه المعهود في كلامهم.

و «اليسر» في اللغة السّهولة ، ومنه يقال للغنى والسّعة : اليسار ؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليسرى ، قيل : تلي الفعال باليسر ، وقيل إنه يتسهّل الأمر بمعاونتها اليمنى.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

استدلّوا بهذه الآية على أنّ تكليف ما لا يطاق غير واقع ؛ لأنه تعالى لمّا بيّن أنه يريد بهم اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، فكيف يكلّفهم ما لا يقدرون عليه.

وأجيبوا : بأنّ اللفظ المفرد ، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم ، ولو سلّمنا ذلك ؛ لكنّه قد ينصرف إلى المعهود السّابق في هذا الموضع (٣).

فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أنّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى ؛ وذلك لأنّ المريض لو تحمّل الصّوم حتى أجهده ، لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله تعالى منه ، إذ كان لا يريد غيره.

وأجيبوا بحمل اللّفظ على أنّه تعالى لا يريد أن يأمر بما فيه عسر ، وإن كان قد يريد منه العسر ؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة (٤).

قالت المعتزلة : هذه الآية دالّة على أنه تعالى لا يريد بهم الكفر فيصيرون إلى النّار ، فلو خلق فيهم ذلك الكفر ، لم يكن لائقا به أن يقول (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وجوابه : أنه معارض بمسألة العلم.

قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) في هذه اللام ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها زائدة في المفعول به ؛ كالتي في قولك : ضربت لزيد ، و «أن» مقدّرة بعدها ، تقديره : «ويريد أن تكملوا العدّة» ، أي : تكميل ، فهو معطوف على اليسر ؛ ونحوه قول أبي صخر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٢.

(٢) انظر : البحر المحيط ٢ / ٤٩ ، والدر المصون ١ / ٤٦٩ ، وإتحاف ١ / ٤٣٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٨.

(٤) ينظر : تفسير الفخر ٥ / ٧٩.

٢٨٨

٩٤٥ ـ أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تخيّل لي ليلى بكلّ طريق (١)

وهذا قول ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء (٢) وإنّما حسنت زيادة هذه اللام في المفعول ـ وإن كان ذلك إنّما يكون إذا كان العامل فرعا ، أو تقدّم المعمول ـ من حيث إنه لمّا طال الفصل بين الفعل وبين ما عطف على مفعوله ، ضعف بذلك تعدّيه إليه ، فعدّي بزيادة اللام ؛ قياسا لضعفه بطول الفصل على ضعفه بالتقديم.

الثاني : أنّها لام التعليل ، وليست بزائدة ، واختلف القائلون بذلك على ستة أوجه :

أحدها : أن يكون بعد الواو فعل محذوف وهو المعلّل ، تقديره : «ولتكملوا العدّة فعل هذا» ، وهو قول الفراء (٣). الثاني ـ وقاله الزّجّاج ـ أن تكون معطوفة على علّة محذوفة حذف معلولها أيضا تقديره : فعل الله ذلك ؛ ليسهّل عليكم ، ولتكملوا.

الثالث : أن يكون الفعل المعلّل مقدّرا بعد هذه العلة تقديره : «ولتكملوا العدّة رخّص لكم في ذلك» ونسبه ابن عطيّة لبعض الكوفيين.

الرابع : أنّ الواو زائدة ، تقديره : يريد الله بكم كذا لتكملوا ، وهذا ضعيف جدا.

الخامس : أن يكون الفعل المعلّل مقدّرا بعد قوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، تقديره : شرع ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصّ كلامه قال : «شرع ذلك ، يعني جملة ما ذلك من أمر الشاهد بصوم الشّهر ، وأمر المرخّص له بمراعاة عدّة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطر ، فقوله : «ولتكملوا» علّة الأمر بمراعاة العدّة ، و «لتكبّروا» علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر و (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير ، وهذا نوع من اللّفّ لطيف المسلك ، لا يهتدي إلى تبيّنه إلا النّقّاب من علماء البيان».

السادس : أن تكون الواو عاطفة على علّة محذوفة ، التقدير : لتعملوا ما تعملون ، ولتكملوا ، قاله الزمخشريّ ؛ وعلى هذا ، فالمعلّل هو إرادة التيسير.

واختصار هذه الأوجه : أن تكون هذه اللام علة لمحذوف : إمّا قبلها ، وإمّا بعدها ، أو تكون علة للفعل المذكور قبلها ، وهو «يريد».

القول الثالث : أنّها لام الأمر وتكون الواو قد عطفت جملة أمرية على جملة خبريّة ؛ فعلى هذا يكون من باب عطف الجمل ؛ وعلى ما قبله : يكون من عطف المفردات ؛ كما تقدّم تقريره ، وهذا قول ابن عطيّة ، وضعّفه أبو حيان بوجهين :

__________________

(١) البيت لكثير. ينظر : ديوانه ١ / ٢٤٨ ، والمغني ١ / ٢١٦ ، وشواهد المغني (٦٥) والكامل (٨٢٣) وأمالي القالي ٢ / ٦٥ ، والبحر ٢ / ٤٩ والعمدة ٢ / ٢٨٨ والدر المصون ١ / ٤٦٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٨٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ١١٤.

٢٨٩

أحدهما : أنّ أمر المخاطب بالمضارع مع لامه لغة قليلة ، نحو : لتقم يا زيد ، وقد قرىء (١) شاذّا : فبذلك فلتفرحوا [يونس : ٥٨] بتاء الخطاب.

والثاني : أن القرّاء أجمعوا على كسر هذه اللام ، ولو كانت للأمر ، لجاز فيها الوجهان : الكسر والإسكان كأخواتها.

وقرأ الجمهور «ولتكملوا» مخفّفا من «أكمل» ، والهمزة فيه للتعدية ، وقرأ (٢) أبو بكر بتشديد الميم ، والتضعيف للتعدية أيضا ؛ لأنّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالبا ، والألف واللام في «العدّة» تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها للعهد ، فيكون ذلك راجعا إلى قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهذا هو الظاهر.

والثاني : أن تكون للجنس ، ويكون ذلك راجعا إلى شهر رمضان المأمور بصومه ، والمعنى: أنكم تأتون ببدل رمضان كاملا في عدّته ، سواء كان ثلاثين أم تسعة وعشرين.

قال ابن الخطيب (٣) : إنما قال : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ولم يقل : «ولتكملوا الشّهر» ؛ لأنه لما قال : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) دخل تحته عدة أيّام الشهر ، وأيام القضاء ، لتقدّم ذكرهما جميعا ؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلا لعدد المقضي ، ولو قال : «ولتكملوا الشّهر» لدل على حكم الأداء فقط ، ولم يدخل حكم القضاء.

واللام في «ولتكبّروا» كهي في «ولتكملوا» فالكلام فيها كالكلام فيها ، إلا أن القول الرابع لا يتأتّى هنا.

قوله : (عَلى ما هَداكُمْ) هذا الجارّ متعلّق ب «تكبّروا» وفي «على» قولان :

أحدهما : أنها على بابها من الاستعلاء ، وإنما تعدّى فعل التكبير بها ؛ لتضمّنه معنى الحمد. قال الزّمخشري : «كأنّه قيل : ولتكبّروا الله حامدين على ما هداكم» قال أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا منه تفسير معنى ، لا إعراب ؛ إذ لو كان كذلك ، لكان تعلّق «على» ب «حامدين» التي قدّرها ، لا ب «تكبّروا» ، وتقدير الإعراب في هذا هو : «ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم» ؛ كما قدّره الناس في قوله : [الرجز]

٩٤٦ ـ قد قتل الله زيادا عنّي (٤)

__________________

(١) ستأتي في يونس ٥٨.

(٢) وكذلك رويت عن أبي عمرو.

انظر : الحجة ٢ / ٢٧٤ ، وحجة القراءات ١٢٦ ، والعنوان ٧٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٩٢ ، وشرح شعلة ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، وإتحاف ١ / ٤٣١.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٩.

(٤) تقدم.

٢٩٠

أي : صرفه بالقتل عني ، وفي قوله : [الطويل]

٩٤٧ ـ ويركب يوم الرّوع منّا فوارس

بصيرون في طعن الكلى والأباهر (١)

أي : متحكّمون بالبصيرة في طعن الكلى»

والثاني : أنها بمعنى لام العلّة والأوّل أولى لأنّ المجاز في الحرف ضعيف.

و «ما» في قوله : (عَلى ما هَداكُمْ) فيها وجهان :

أظهرهما : أنها مصدرية ، أي : على هدايته إيّاكم.

والثاني : أنّها بمعنى «الذي» قال أبو حيان «وفيه بعد من وجهين :

أحدهما : حذف العائد ، تقديره : هداكموه ، وقدّره منصوبا ، لا مجرورا باللام ، ولا ب «إلى» لأنّ حذف المنصوب أسهل.

والثاني : حذف مضاف يصحّ به معنى الكلام ، على إتباع الذي هداكم أو ما أشبهه».

وختمت هذه الآية الكريمة بترجّي الشّكر ، لأنّ قبلها تيسيرا وترخيصا ، فناسب ختمها بذلك ، وختمت الآيتان قبلها بترجّي التقوى ، وهو قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٧٨] لأنّ القصاص والصوم من أشقّ التكاليف ، فناسب ختمها بذلك ، وهذا أسلوب مطّرد ، حيث ورد ترخيص عقّب بترجّي الشكر غالبا ، وحيث جاء عدم ترخيص عقّب بترجّي التقوى وشبهها ، وهذا من محاسن علم البيان والله أعلم.

فصل في المراد بالتكبير في الآية

في المراد بهذا التكبير قولان :

أحدهما : المراد منه التّكبير ليلة الفطر.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ حقّ على المسلمين ، إذا رأوا هلال شوّال أن يكبّروا(٢).

قال مالك والشّافعي ـ رحمه‌الله ـ وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد : سنّ التكبير في ليلتي العيدين.

وقال أبو حنيفة : يكره في غداة الفطر.

واحتجّ الأوّلون بقوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [قالوا :

__________________

(١) البيت لكعب بن زهير. ينظر : ديوانه (١٣٤) وأمالي ابن الشجري ٢ / ٢٦٨ ، والهمع ٢ / ٣٠ ، والأشموني ٢ / ٢١٩ والدرر ٢ / ٢٦ والدر المصون ١ / ٤٧٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٣ / ٤٧٩ عن ابن عباس موقوفا وذكره الرازي في تفسيره ٥ / ٧٩.

٢٩١

معناه] ولتكملوا عدّة صوم رمضان ، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطّاعة.

واختلفوا في أي العيدين أوكد في التّكبير؟ فقال الشّافعيّ في «القديم» : ليلة النّحر أوكد ؛ لإجماع السّلف عليها ، وقال في «الجديد» (١) ليلة الفطر أوكد ؛ لورود النصّ فيها ، وقال مالك : لا يكبّر في ليلة الفطر ، ولكنه يكبّر في يومه ، وهو مرويّ عن أحمد (٢).

وقال إسحاق : إذا غدا إلى المصلّى.

واستدلّ الشافعيّ بقوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) تدلّ على أن الأمر بهذا التّكبير وقع معلّلا بحصول الهداية ، وهي إنما حصلت بعد غروب الشّمس ؛ فلزم التّكبير من ذلك الوقت ، واختلفوا في انقضاء وقته ، فقيل : يمتدّ إلى تحريم الإحرام بالصّلاة.

وقيل : إلى خروج الإمام.

وقيل : إلى انصراف الإمام ، وقال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله تعالى ـ إذا أتى المصلّى ترك التّكبير.

القول الثاني في المراد بهذا التّكبير : هو التعظيم لله تعالى ؛ شكرا على توفيقه لهذه الطّاعة.

قال القرطبي (٣) : (عَلى ما هَداكُمْ) قيل : لما ضلّ فيه النصارى من تبديل صيامهم.

وقيل : بدلا عمّا كانت الجاهليّة تفعله بالتّفاخر بالآباء ، والتّظاهر بالأحساب ، وتعديد المناقب.

وقيل : لتعظّموه على ما أرشدكم إليه من الشّرائع.

قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(١٨٦)

في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

أحدها : أنّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما

__________________

(١) القديم : ما قاله الشافعي بالعراق ، أو قبل انتقاله إلى مصر ، وأشهر رواته : أحمد بن حنبل ، والزعفراني ، والكرابيسي ، وأبو ثور ، وقد رجع الشافعي عنه ، وقال : لا أجعل في حل من رواه عني ، وقال الإمام : لا يحل عد القديم من المذهب. وقال الماوردي في أثناء كتاب «الصداق» : غيّر الشافعي جميع كتبه القديمة في الجديد ، إلا الصداق ؛ فإنه ضرب على مواضع منه ، وزاد مواضع ، والجديد : ما قاله بمصر ، وأشهر رواته : البويطي ، والمزني ، والربيع المرادي ، والربيع الجيزي ، وحرملة ، ويونس بن عبد الأعلى ، وعبد الله بن الزبير المكي ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وأبوه.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٠.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٠٦.

٢٩٢

هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فأمر العبد بالتّكبير الذي هو الذّكر وبالشكر ، أعلم العبد أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره ، فيسمع نداءه ويجيب دعاءه.

الثاني : أنه أمره بالتّكبير أولا ، ثم رغبه في الدعاء ثانيا تنبيها على أن الدعاء لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالثناء الجميل ؛ ألا ترى أن الخليل ـ عليه‌السلام ـ لمّا أراد الدعاء قدّم أولا الثناء ؛ فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] إلى قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢] فلما فرغ من هذا الثناء ، شرع في الدّعاء ، فقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) [الشعراء : ٨٣] فكذا هاهنا.

الثالث : أنّه لما فرض عليهم الصّيام ، كما فرض على الذين من قبلهم ؛ وكانوا إذا ناموا ، حرم عليهم ما حرم على الصّائم ، فشقّ ذلك على بعضهم ؛ حتّى عصوا في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن توبتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مخبرا لهم بقبول توبتهم ، وبنسخ ذلك التّشديد ؛ بسبب دعائهم وتضرّعهم.

فصل في بيان سبب النزول

ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوه :

أحدها : ما قدّمناه.

الثاني : قال ابن عبّاس : إنّ يهود المدينة قالوا : يا محمّد ، كيف يسمع ربّك دعاءنا ، وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسائة عام ، وأنّ غلظ كلّ سماء مثل ذلك؟ فنزلت الآية الكريمة (١).

الثالث : قال الضّحّاك : إنّ أعرابيّا سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى الآية (٢).

الرابع : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في غزاة خيبر ، وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتّهليل والدّعاء ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنّما تدعون سميعا قريبا وهو معكم (٣).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٥.

(٢) أخرجه سفيان بن عيينة في «تفسيره» وعبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد الزهد» كما في «الدر المنثور» (١ / ٣٥٢).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٣٩) كتاب الجهاد والسير باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (٢٩٩٢) ، (٨ / ٢٢٤) كتاب القدر باب لا حول ولا قوة إلا بالله (٦٦١٠) ومسلم «الذكر والدعاء» (٤٤) وأحمد (٤ / ٣٩٤ ، ٤٠٢ ، ٤١٨) وأبو داود (١٥٢٨) والبيهقي (٢ / ١٨٤) وعبد الرزاق (٩٢٤٤) وابن أبي شيبة (٢ / ٤٨٨) والطبري في «تفسيره» (٨ / ١٤٧) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٦٦) وفي «التفسير» (١ / ١٥٩) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٢٧٤).

٢٩٣

الخامس : قال قتادة وغيره : إنّ الصحابة قالوا : كيف ندعو ربنا ، يا رسول الله ، فنزلت الآية (١).

السادس : قال عطاء وغيره : إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعو ربنا فأنزل الله الآية(٢).

السابع : قال الحسن : سأل أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : أين ربّنا؟ فأنزل الله الآية(٣).

فصل

واعلم أنّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القرب بالجهة ؛ لأنّه تبارك وتعالى ، لو كان في مكان ، لما كان قريبا من الكلّ ، بل كان يكون قريبا من حملة العرش ، وبعيدا من غيرهم ، ولكان إذا كان قريبا من زيد الذي بالشّرق ، كان بعيدا من عمرو الذي بالمغرب ، فلمّا دلّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريبا من الكلّ ، علمنا أنّ القرب المذكور في الآية الكريمة ليس قربا بجهة ، فثبت أن المراد منه أنه قريب بمعنى أنه يسمع دعاءهم. والمراد من هذا القرب العلم والحفظ ؛ على ما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] وقال (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وقال تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] ونظيره : وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم.

قال ابن الخطيب : وإذا عرف هذا فنقول : لا يبعد أن يقال : إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلا بالتّشبيه ، فقد كان من مشركي العرب ، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أين ربّنا؟ صحّ أن يكون الجواب : فإنّي قريب ، فإنّ القريب من المتكلّم يسمع كلامه ، وإن سألوه كيف يدعون ؛ برفع الصّوت أو بإخفائه؟ صحّ أن يجيب بقوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدّعاء؟ صحّ هذا الجواب ، وإن سألوه : إنا إذا أذنبنا ثم تبنا ، فهل يقبل الله توبتنا؟ صحّ أن يجيب بقوله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي : فأنا القريب بالنظر إليهم ، والتجاوز عنهم ، وقبول التّوبة منهم ؛ فثبت أنّ هذا الجواب مطابق للسّؤال على كلّ تقدير.

قوله تعالى : (أُجِيبُ) فيها وجهان :

أحدهما : أنها جملة في محلّ رفع صفة ل «قريب».

والثاني : أنها خبر ثان ل «إنّي» ؛ لأنّ «قريب» خبر أوّل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» ٣ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٨٢) عن عطاء ، وذكره الرازي في «تفسيره» ٥ / ٨١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٨١) وذكره السيوطي «الدر المنثور» (١ / ٣٥٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق في «تفسيره» عن الحسن وذكره الرازي في «تفسيره» ٥ / ٨١.

٢٩٤

ولا بدّ من إضمار قول بعد فاء الجزاء ، تقديره : فقل لهم إنّي قريب ، وإنما احتجنا إلى هذا التقدير ؛ لأنّ المترتّب على الشّرط الإخبار بالقرب ، وجاء قوله «أجيب» ؛ مراعاة للضمير السابق على الخبر ، ولم يراع الخبر ، فيقال : «يجيب» بالغيبة ؛ مراعاة لقوله : «قريب» ؛ لأنّ الأشهر من طريقتي العرب هو الأوّل ؛ كقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل : ٥٥] وفي أخرى (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) [النمل : ٤٧] ، وقول الشاعر : [الطويل]

٩٤٨ ـ وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول (١)

ولو راعى الخبر ، لقال : «ما يرون القتل».

وفي قوله : «عنّي» و «إنّي» التفات من غيبة إلى تكلّم ؛ لأنّ قبله : «ولتكبّروا الله» والاسم الظاهر في ذلك كالضمير الغائب ، والكاف في «سألك» للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإن لم يجر له ذكر ، إلّا أنّ قوله : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) يدلّ عليه ؛ لأنّ تقديره : «أنزل فيه القرآن على الرّسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ» وفي قوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) مجاز عن سرعة إجابته لدعوة داعيه ، وإلّا فهو متعال عن القرب الحسّيّ ، لتعاليه عن المكان.

قال أبو حيّان : والعامل في «إذا» قوله : «أجيب» يعني «إذا» الثانية ، فيكون التقدير : أجيب دعوته وقت دعائه ، فيحتمل أن تكون لمجرّد الظرفية ، وأن تكون شرطية ، وحذف جوابها ؛ لدلالة «أجيب» عليه ؛ وحينئذ لا يكون «أجيب» هذا الملفوظ به هو العامل فيها ، بل ذلك المحذوف ، أو يكون هو الجواب عند من يجيز تقديمه على الشّرط ، وأمّا «إذا» الأولى ، فإنّ العامل فيها ذلك القول المقدّر ، والهاء في «دعوة» ليست الدالّة على المرّة ، نحو : ضربة وقتلة ، بل التي بني عليها المصدر ، نحو : رحمة ونجدة ؛ فلذلك لم تدلّ على الوحدة.

والياءان من قوله : «الدّاع ـ دعان» من الزوائد عند القرّاء ، ومعنى ذلك أنّ الصحابة لم تثبت لها صورة في المصحف ، فمن القرّاء من أسقطها تبعا للرسم وقفا ووصلا.

ومنهم من يثبتها في الحالين ، ومنهم من يثبتها وصلا ويحذفها وقفا ، وجملة هذه الزوائد اثنتان وستّون ياء ، فأثبت أبو عمرو وقالون هاتين الياءين وصلا وحذفاها وقفا.

فصل في بيان حقيقة الدّعاء

قال أبو سليمان الخطّابيّ (٢) : والدّعاء مصدر من قولك : دعوت الشّيء أدعوه دعاء ، ثم أقاموا المصدر مقام الاسم ؛ تقول : سمعت الدعاء ؛ كما تقول : سمعت الصّوت ، وقد

__________________

(١) تقدم برقم ٧٨٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٣.

٢٩٥

يوضع المصدر موضع الاسم ؛ كقولك : رجل عدل ، وحقيقة الدعاء : استدعاء العبد ربّه جلّ جلاله العناية ، واستمداده إيّاه المعونة.

والإجابة في اللّغة : الطاعة وإعطاء ما سئل ، فالإجابة من الله العطاء ، ومن العبد الطاعة.

وقال ابن الأنباريّ «أجيب» ههنا بمعنى «أسمع» ؛ لأنّ بين السماع والإجابة نوع ملازمة (١).

فصل في الجواب على من ادّعى أن لا فائدة في الدّعاء

قال بعضهم : الدعاء لا فائدة فيه لوجوه (٢) :

أحدها : أنّ المطلوب بالدّعاء ، إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى ، كان وقوعه واجبا ؛ فلا حاجة إلى الدّعاء ، وإن كان معلوم الانتفاء واجب العدم ، فلا حاجة إلى الدّعاء.

وثانيها : أنّ وقوع الحوادث في هذا العالم إن كان لا بدّ لها من مؤثّر قديم اقتضى وجودها اقتضاء قديما ، كانت واجبة الوقوع ، وكلّ ما لم يقتض المؤثّر القديم وجوده اقتضاء أزليّا ، كان ممتنع الوقوع ، وإذا كانت هذه المقدّمة ثابتة في الأزل ، لم يكن للدعاء ألبتّة أثر ، وربّما عبّروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة ، والأقضية متقدّمة ، فالإلحاح في الدّعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص منها شيئا ، فأيّ فائدة في الدعاء ، وقال عليه الصلاة والسلام : «أربع قد فرغ منها : الخلق والخلق والرّزق والأجل» (٣).

وثالثها : أنّه سبحانه وتعالى قال : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩] وإذا كان يعلم ما في الضمير ، فأيّ حاجة إلى الدّعاء.

ورابعها : أنّ المطلوب بالدعاء ، إن كان من مصالح العبد ، فالجواد المطلق لا يهمله ، وإن لم يكن من مصالحه ، لم يجز طلبه.

وخامسها : أنّه ثبت أنّ أجلّ مقامات الصّدّيقين وأعلاها الرّضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك ؛ لأنه اشتغال بالالتماس ، وترجيح لمراد النّفس على مراد الله.

وسادسها : أنّ الدعاء يشبه الأمر والنّهي ، وذلك من العبد في حقّ المولى الكريم سوء أدب.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٦.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٣.

(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٩٨) وقال : رواه الطبراني وفيه عيسى بن المسيب وثقه الحاكم والدارقطني في السنن وضعفه جماعة وبقية رجاله في أحد الإسنادين ثقات.

٢٩٦

وسابعها : قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن الله تعالى : «من شغله ذكري عن مسئلتي»(١).

وقال الجمهور (٢) : الدعاء أفضل مقامات العبوديّة ، واحتجّوا بأدلّة :

الأول : هذه الآية الكريمة.

الثاني : قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠].

الثالث : قوله (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٤٣] بين أنه تعالى ، إذا لم يسأل يغضب ، وقال ـ عليه‌السلام ـ «لا ينبغي لأحدكم أن يقول : اللهمّ ، اغفر لي أن شئت ، ولكن يجزم فيقول : اللهمّ اغفر لي» وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «الدّعاء هو العبادة» (٣) وقرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، فقوله «الدّعاء هو العبادة» معناه أنه معظم العبادة ، وأفضل العبادة ؛ كقوله عليه الصّلاة والسّلام : «الحجّ عرفة» (٤) ، أي : الوقوف بعرفة هو الرّكن الأعظم.

الرابع : قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] وقال : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) [الفرقان : ٧٧] والآيات في هذا الباب كثيرة ، فمن أبطل الدعاء ، فقد أنكر القرآن ، وأمّا الأحاديث فكثيرة.

والجواب عن شبهتهم الأولى بالمناقضة ؛ فنقول : إقدام الإنسان على الدعاء ، إن

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ١٥٢) والدارمي (٢ / ٤٤١) وابن نصر في «قيام الليل» ص ٧١ والعقيلي في «الضعفاء» رقم (٣٧٥) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ٢٣٨ عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي : حديث حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ٨٢) عن أبيه : هذا حديث منكر وأخرجه أبو نعيم (٧ / ٣١٣) عن حذيقة بلفظ : من شغله ذكرى عن مسألتي.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٨٤.

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ٤٦٦) كتاب الصلاة : باب الدعاء حديث (١٤٧٩) والترمذي (٥ / ١٩٤) كتاب التفسير باب من سورة البقرة حديث (٢٩٦٩) وابن ماجه (٣٨٢٨) والطيالسي (١٢٥٢) وابن أبي شيبة (١٠ / ٢٠٠) وأحمد (٤ / ٢٦٧ ، ٢٧١ ، ٢٧٦) وابن حبان (٨٧٨ ـ موارد) والحاكم (١ / ٤٩٠ ـ ٤٩١) والطبراني في «الصغير» (٢ / ٩٧) والبخاري في «الأدب المفرد» (٧١٤) والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٢٩ ، ٣٠) من حديث النعمان بن بشير. وقال الترمذي : حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

وأخرجه أبو يعلى في معجم شيوخه (ص ٣٤٦) رقم (٣٢٨) والخطيب في «تاريخ بغداد» (١٢ / ٢٧٩) من حديث البراء بن عازب مرفوعا بلفظ : «إن الدعاء هو العبادة» وله شاهد من حديث أنس بلفظ : الدعاء مخ العبادة أخرجه الترمذي (٣٤٣١) وقال : غريب.

(٤) أخرجه أبو داود (١٩٤٩) والنسائي (٢ / ٤٥ ، ٤٦ ، ٤٨) والترمذي (١ / ١٦٨) وابن ماجه (٣٠١٥) والدارمي (٢ / ٥٩) والطحاوي (١ / ٤٠٨) وابن الجارود (٤٦٨) وابن حبان (١٠٠٩) والدارقطني (٢٦٤) والحاكم (١ / ٤٦٤) ، (٢ / ٢٧٨) والبيهقي (٥ / ١١٦ ، ١٧٣) والطيالسي (١٣٠٩) وأحمد (٤ / ٣٠٩) والحميدي (٨٩٩) وابن خزيمة (٢٨٢٢). وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي.

٢٩٧

كان معلوم الوقوع ، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدّعاء ، وإن كان معلوم العدم ، لم يكن إلى إنكاركم حاجة.

والجواب عن الثّانية : علم الله تعالى وكيفيّة قضائه وقدره غائبة عن العقول والحكمة الإلهيّة تقتضي أن يكون العبد معلّقا بين الرّجاء والخوف اللّذين بهما يتمّ العبودية ، ولهذا صحّحنا القول بالتّكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله تعالى بالكلّ وجريان قضائه وقدره في الكلّ ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغ منه ، أم أمر يستأنفه؟ فقال : «بل أمر فرغ منه» فقالوا : ففيم العمل إذن؟ قال : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» فانظر إلى لطائف هذا الحديث ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علّقهم بين أمرين ، فرهّبهم سابق القدر المفروغ منه ، ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبّد ، فلم يبطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأخبر أنّ فائدة العمل هو المقدّر المفروغ ، فقال : «كلّ ميسّر لما خلق له» يريد أنّه ميسّر في أيّام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده وكذا القول في باب الكسب والرّزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطّلب ، ولا ينقصه التّرك.

والجواب عن الثالثة : أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام بالمطلوب ، بل إظهار العبوديّة والذلّة والانكسار والرّجوع إلى الله تعالى بالكلّيّة.

والجواب عن الرابعة : أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.

والجواب عن الخامسة : إذا كان مقصوده من الدّعاء إظهار الذلّة والمسكنة ، ثم بعده الرضا بما قدّره الله تعالى وقضاه ، فذلك من أعظم المقامات ، وهذا الجواب أيضا عن بقيّة الشّبه.

فإن قيل : إنّه تعالى قال (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وقال هنا «أجيب دعوة الدّاعي إذا دعان» ، وقال (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ) [النمل : ٦٢] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدّعوات والتضرّع ، فلا يجاب.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن هذه الآيات ، وإن كانت مطلقة إلّا أنه وردت في آية أخرى مقيّدة ، وهو قوله تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٤١] والمطلق يحمل على المقيّد.

وثانيها : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «دعوة المسلم لا تردّ إلّا لإحدى ثلاث : ما لم يدع بإثم ، أو

٢٩٨

قطيعة رحم ، أو يستعجل ، قالوا : وما الاستعجال ، يا رسول الله؟ قال : يقول : قد دعوتك يا ربّ ، قد دعوتك يا ربّ ، قد دعوتك يا ربّ ، فلا أراك تستجيب لي ، فيستحسر عند ذلك فيدع الدّعاء» (١).

وثالثها : أنّ قوله (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقتضي أنّ الداعي عارف بربّه ، ومن صفات الربّ سبحانه وتعالى أنه لا يفعل إلّا ما وافق قضاءه وقدره ، وعلمه وحكمته ، فإذا علم العبد أنّ صفة ربّه هكذا ، استحال منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربّ ، أفعل الشّيء الفلانيّ ، بل لا بدّ وأن يقول : أفعل هذا الفعل ، إن كان موافقا لقضائك وقدرك ؛ وعند هذا يصير الدّعاء المجاب مشروطا بهذه الشرائط ، فزال السؤال.

ورابعها : أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوها كثيرة :

فقيل : الدعاء عبارة عن : التوحيد والثّناء على الله تعالى ؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنت ، فدعوته ، ثم وحّدته وأثنيت عليه فهذا يسمّى دعاء بهذا التأويل ، فسمي قبوله إجابة للتجانس ، ولهذا قال ابن الأنباريّ : «أجيب» ههنا بمعنى «أسمع» ؛ لأن بين السماع والإجابة نوع ملازمة ، فلهذا السبب يقام كلّ واحد منهما مقام الآخر ، فقولنا : «سمع الله لمن حمده» ، أي : أجاب الله ، فكذا هاهنا قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ، أي : أسمع تلك الدّعوة ، فإذا حملنا قوله تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) على هذا الوجه ، زال الإشكال.

وقيل : المراد من الدعاء التّوبة من الذّنوب ؛ وذلك لأنّ التائب يدعو الله تعالى بتوبته ، فيقبل توبته ، فإجابته قبول توبته إجابة الدّعاء ، فعلى هذا الوجه أيضا يزول الإشكال.

وقيل : المراد من الدّعاء العبادة ، قال عليه الصّلاة والسّلام : الدعاء هو العبادة (٢) ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] فالدّعاء هاهنا هو العبادة.

وإذا ثبت ذلك ، فإجابة الله تعالى للدّعاء عبارة عن الوفاء بالثّواب للمطيع ؛ كما قال (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الشورى : ٢٦] روى شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «أعطيت أمّتي ثلاثا ، لم تعط إلّا للأنبياء : كان الله إذا بعث النّبيّ ، قال : «ادعني أستجب لك» ، وقال لهذه الأمّة : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وكان الله إذا بعث النّبيّ ، قال له : «ما جعل عليك في

__________________

(١) أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» ١ / ٣٧٥.

(٢) أخرجه أبو داود (١٤٧٩) والترمذي (٣٢٤٧ ، ٣٢٧٢) وأحمد (٤ / ٢٧١) وابن حبان (٢٣٩٦) والطبراني في «الصغير» (٢ / ٩٧) وابن أبي شيبة (١٠ / ٢٠٠) والطبري في «تفسيره» (٢٤ / ٥١) وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٢٠) والقضاعي في «المسند» (٢٩) والحاكم (١ / ٤٩٠ ـ ٤٩١) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٢٩٩

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقال لهذه الأمّة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النّبيّ جعله شهيدا على قومه ، وجعل هذه الأمّة شهداء على النّاس».

وخامسها : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) إن وافق القضاء ، وأجيب إن كانت الإجابة خيرا له ، أو أجيبه إن لم يسأل محالا.

وسادسها : روى عبادة بن الصّامت ؛ أنّ النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ما على الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزوجل بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو كفّ عنه من السّوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» (١).

وسابعها : إنّ الله يجيب دعاء المؤمن في الوقت ، ويؤخّر إعطاء من يجيب مراده ، ليدعوه فيسمع صوته ، ويعجّل إعطاء من لا يحبّه ؛ لأنه يبغض صوته.

فصل

قال سفيان بن عيينة (٢) : لا يمنعنّ أحدا من الدّعاء ما يعلمه من نفسه ، فإنّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرّ الخلق إبليس ، لعنه الله ؛ قال : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) [الأعراف : ١٤ ـ ١٥].

وللدّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، كالسّحر ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظّهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار وحالة السّفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصّفّ في سبيل الله تعالى كلّ هذا جاءت به الآثار.

وروى شهر بن حوشب ؛ أنّ أمّ الدرداء قالت له : يا شهر ، ألا تجد القشعريرة؟ قلت : نعم قالت فادع الله فإنّ الدّعاء يستجاب عند ذلك (٣).

قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) في الاستفعال هنا قولان :

أحدهما : أنّه للطلب على بابه ، والمعنى : فليطلبوا إجابتي ، قاله ثعلب.

والثاني : قال مجاهد (٤) معناه : فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان ، أي : الطّاعة والعمل ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤].

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٣٥٧٣) والبغوي في شرح السنة (١ / ١٦١).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٠٩.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٠٩.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢٠٩.

٣٠٠