اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

والمراد ب «شيء» حينئذ : ذلك المستحقّ ، والمراد ب «الأخ» المقتول ، ويحتمل أن يراد على هذا القول أيضا : القاتل ، ويراد بالشيء الدية ، و «عفي» بمعنى : [«يسّر» على هذين القولين ، وقيل : بمعنى «ترك».

وشنّع الزّمخشريّ على من فسّر «عفي»](١) بمعنى «ترك» قال : فإن قلت : هلّا فسّرت «عفي» بمعنى «ترك» ؛ حتى يكون شيء في معنى المفعول به.

قلت : لأنّ : «عفا الشّيء» بمعنى تركه ، ليس يثبت ، ولكن «أعفاه» ، ومنه : «وأعفوا اللّحى» (٢) ، فإن قلت : قد ثبت قولهم : «عفا أثره» إذا محاه وأزاله ، فهلّا جعلت معناه : «فمن محي له من أخيه شيء» قلت : عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسّنة ، واستعمال النّاس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله تعالى على اختراع لغة ، وإدّعاء على العرب ما لم تعرفه ، وهذا جرأة يستعاذ بالله منها.

قال أبو حيّان (٣) : إذا ثبت أنّ «عفا» بمعنى «محا» فلا يبعد حمل الآية عليه ، ويكون إسناد «عفا» لمرفوعه [إسنادا حقيقيا ؛ لأنّه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده لمرفوعه](٤) مجازا ؛ لأنّه مصدر مشبّه بالمفعول به ، فقد يتعادل الوجهان ؛ أعني : كون «عفا» اللّازم لشهرته في الجنايات ، و «عفا» المتعدّي بمعنى «محا» لتعلّقه بمرفوعه تعلّقا حقيقيا.

فإن قيل : تضمّن «عفا» معنى ترك.

فالجواب : أنّ التّضمين لا ينقاس ، وقد أجاز ابن عطيّة (٥) ـ رحمه‌الله ـ أن يكون «عفا» بمعنى «ترك».

وقيل إنّ «عفي» بمعنى فضل ، والمعنى : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الدّيات ؛ من قولهم : عفاء الشّيء إذ كثر ، وأظهر هذه الأقوال أوّلها.

فصل

اعلم أنّ الّذين قالوا : يوجب العهد أحد أمرين : إمّا القصاص ، وإمّا الدّية : تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : الآية تدلّ على أنّ فيها عافيا ومعفوّا عنه ، وليس هاهنا إلّا وليّ الدم ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٣٥١) كتاب اللباس : باب إعفاء اللحى (٥٨٩٣) ومسلم (١ / ٢٢٢) كتاب الطهارة : باب خصال الفطرة حديث (٥٢ / ٢٥٩) من حديث ابن عمر.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ١٥.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٦.

٢٢١

والقاتل ، فيكون العافي أحدهما ، ولا يجوز أن يكون القاتل لأنّ ظاهر العفو هو إسقاط الحقّ ، وذلك إنّما يتأتّى من الوليّ الذي له الحقّ على القاتل ، فصار تقدير الآية : فإذا عفا وليّ الدّم عن شيء يتعلّق بالقاتل ، فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف. وقوله «شيء» مبهم ، فلا بدّ من حمله على المذكور السّابق ، وهو وجوب القصاص ؛ إزالة للإبهام ، فصار تقدير الآية : إذا حصل العفو للقاتل عن شيء فليتبع القاتل العافي بالمعروف ، والأداء إليه بالإحسان. وبالإجماع لا يجب أداء غير الدّية ؛ فوجب أن يكون ذلك الواجب ، هو الدّية ؛ وهذا يدلّ على أنّ موجب العمد هو القود ، أو المال ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، لما كان واجبا عند العفو عن القود ، والله تعالى أعلم.

ومما يؤكّد هذا قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ، أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية ، والقصاص ؛ رحمة عليكم ، لأنّ الحكم في اليهود حتم القصاص ، والحكم في النّصارى حتم العفو ؛ فخفّف عن هذه الأمّة ، وشرع لهم التخيير بين القصاص ، والعفو ، وذلك تخفيف من الله ورحمة في حقّ هذه الأمّة ؛ لأنّ وليّ الدم قد تكون الدية عنده آثر من القود ، إذا كان محتاجا ، وقد يكون القود عنده آثر ، إذا كان راغبا في التشفّي ، ودفع شر القاتل عن نفسه ، فجعل الخيرة فيما أحبّه ؛ رحمة من الله في حقّه.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ العافي هو وليّ الدم ، والعفو إسقاط الحقّ ، بل المراد من قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي فمن سهل له من أخيه شيء ، يقال : أتاني هذا المال عفواصفوا ، أي : سهلا ، ويقال : خذ ما عفي ، أي : ما سهل ؛ قال تبارك وتعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] ، فتقدير الآية : فمن كان من أولياء الدّم ، وسهل له من أخيه الّذي هو القاتل شيء من المال ، أو سهل له من جهة أخيه المقتول ، أي : بسبب أخيه المقتول ، فإمّا أن يكون أخاه حقيقة ، وإمّا أن تكون قرابته غير الأخوّة ، فسمّاه أخا مجازا ؛ كما سمّى المقتول أخا للقاتل ، والمراد : فمن كان من أولياء الدم وسهّل ، فليتبع وليّ الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال ، وليؤدّ القاتل إلى وليّ الدّم ذلك المال بالإحسان ؛ من غير مطل ، ولا مدافعة ، فيكون معنى الآية ؛ على هذا التقدير : «إنّ الله تعالى حثّ الأولياء ، إذا دعوا إلى الصّلح من الدّم على ديته كلّها ، أو بعضها : أن يرضوا به ؛ ويعفوا عن القود.

سلّمنا أن العافي هو وليّ الدم ، لكن لا يجوز أن يقال : المراد هو أن يكون القصاص مشتركا بين شريكين ؛ فيعفوا أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر إلى الدّية ، والله تعالى أمر الشريك السّاكت باتّباع القاتل بالمعروف ، وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان.

سلّمنا أن العافي هو وليّ الدم ، سواء كان له شريك ، أو لم يكن لم لا يجوز أن يقال إن هذا مشروط برضا القاتل إلّا أنّه تبارك وتعالى لم يذكر رضا القاتل ؛ لأنه ثابت معروف لا محالة ، لأنّ الظاهر من كلّ عاقل أنّه يبذل كلّ الدنيا لغرض دفع القتل عن

٢٢٢

نفسه ؛ لأنّه إذا قتل لا يبقى له نفس ولا مال ، وبذل المال فيه إحياء النّفس ، فلمّا كان هذا الرضا حاصلا في الأعمّ الأغلب ، لا جرم ترك ذكره ، وإن كان معتبرا في نفس الأمر.

فالجواب أنّ حمل لفظ «العفو» هنا على إسقاط القصاص أولى من حمله على دفع القاتل المال إلى وليّ الدم ؛ من وجهين :

الأوّل : أنّ حقيقة العفو إسقاط الحقّ ؛ فوجب ألّا يكون حقيقة في غيره ؛ دفعا للاشتراك ، وحمل اللفظ هنا على إسقاط الحقّ أولى من حمله على ما ذكرتم ؛ لأنّه لمّا قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، كان حمل قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) على إسقاط حقّ القصاص أولى ؛ لأنّ قوله «شيء» لفظ مبهم ، وحمل هذا المبهم على ذلك المعيّن المذكور السّابق أولى.

الثاني : لو كان المراد ب «العفو» ما ذكرتم ، لكان قوله (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) عبثا ؛ لأنّ بعد وصول المال إليه في السّهولة واللّين ، لا حاجة به إليه ، ولا حاجة بذلك المعطى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان.

والجواب عن الثاني من وجهين :

الأول : أنّ ذلك الكلام ، إنّما يتمشّى بفرض صورة مخصوصة ، وهي ما إذا كان حقّ القصاص مشتركا بين اثنين ، فعفا أحدهما وسكت الآخر ، والآية دالّة على شرعيّة هذا الحكم على الإطلاق ، فحمل اللّفظ المطلق على صورة خاصّة مقيّدة خلاف الظّاهر.

الثاني : أن الهاء في قوله (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) ضمير عائد إلى مذكور سابق ، وهو العافي ، فوجب أداء هذا المال إلى العافي ، وعلى قولكم : يكون أداؤه إلى غير العافي فيكون باطلا.

والجواب عن الثّالث : أنّ توقيف ثبوت أخذ الدّية وقبول ذلك لوليّ الدم ، على اعتبار رضا القاتل يخالف الظّاهر ، وهو غير جائز.

فصل

قد تقدّم أن تقدير الآية الكريمة يقتضي شيئا من العفو ، وهذا يشكل إذا كان الحقّ ليس إلا القود فقط ، فإنّه يقال : القود لا يتبعّض ، فأما إذا كان مجموع حقّه ، إمّا القود وإمّا المال ؛ كان مجموع حقّه متبعّضا ؛ لأنّ له أن يعفو عن القود دون المال وله أن يعفو عن الكلّ.

وتنكير الشّيء يفيد فائدة عظيمة ؛ لأنّه كان يجوز أن يتوهم أنّ العفو لا يؤثّر في سقوط القود ، وعفو بعض الأولياء عن حقّه ؛ كعفو جميعهم عن حقّهم ، فلو عرّف الحقّ ، كان لا يفهم منه ذلك ، فلمّا نكّره ، صار هذا المعنى مفهوما منه.

٢٢٣

فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمنا

نقل أن ابن عبّاس تمسّك بهذه الآية في كون الفاسق مؤمنا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه تعالى سمّاه مؤمنا ، حال ما وجب القصاص عليه ، وإنّما وجب القصاص عليه إذا صدر القتل العمد العدوان ، وهو بالإجماع من الكبائر ؛ فدلّ على أن صاحب الكبيرة مؤمن(١).

وثانيها : أنّه أثبت الأخوّة بين القاتل ، وبين وليّ الدم ، ولا شكّ أنّ هذه الأخوّة تكون بسبب الدّين ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فلو لا أنّ الإيمان باق مع الفسق ، وإلّا لما بقيت الأخوّة الحاصلة بسبب الدين.

وثالثها : أنه تبارك وتعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والندب إلى العفو ، إنّما يليق بالمؤمن.

أجابت المعتزلة (٢) عن الأوّل : فقالوا : إن قلنا : المخاطب بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) هم الأئمّة ، فالسّؤال زائل ، وإن قلنا : هم القاتلون ، فجوابه من وجهين :

أحدهما : أن القاتل قبل إقدامه على القتل ، كان مؤمنا فسمّاه الله تعالى مؤمنا بهذا التأويل.

الثاني : أن القاتل قد يتوب ، وعند ذلك يكون مؤمنا ، ثم إنّه تعالى أدخل فيه غير التائب تغليبا.

وأجابوا عن الثّاني بوجوه :

الأوّل : أنّ الآية نزلت قبل أن يقتل أحد أحدا ، ولا شكّ أنّ المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل.

والثاني : الظاهر أنّ الفاسق يتوب ، أو نقول : المراد الأخوّة بين وليّ المقتول والقتيل ؛ كما تقدّم.

الثالث : يجوز أن يكون جعله أخا له في الكتاب ؛ كقوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [الأعراف : ٦٥].

الرابع : أنّه حصل بين وليّ الدم ، وبين القاتل نوع تعلّق واختصاص ، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوّة ، كما نقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، إذا كان بينهما أدنى تعلّق.

الخامس : ذكر لفظ الأخوّة ؛ ليعطف أحدهما على صاحبه بذكره ما هو ثابت بينهما من الجنسيّة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٧.

٢٢٤

وعن الثّالث : أنّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد.

والجواب : أنّ هذه الوجوه كلّها تقتضي تقييد الأخوّة بزمان دون زمان ، وبصفة دون صفة ، والله تعالى أثبت الأخوّة على الإطلاق ، وهذا الجواب لا يردّ ما ذكروه في الوجه الثاني من قولهم : المراد بالأخوّة الّتي بين وليّ الدم والمقتول ؛ كأنه قيل : «فمن عفي له بسبب أخيه المقتول شيء والمراد : الدّية ، فليتّبع وليّ الدّم القاتل بالمعروف ، وليؤدّ القاتل الدية إلى وليّ الدّم بإحسان ؛ وحينئذ يحتاج هذا إلى جواب.

أحدها : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطيّة ـ رحمه‌الله تعالى ـ والواجب الاتباع وقدّره الزمخشريّ : «فالأمر اتّباع».

قال ابن عطيّة (١) : وهذا سبيل الواجبات ، وأمّا المندوبات ، فتجيء منصوبة ؛ كقوله (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] قال أبو حيّان (٢) : ولا أدري ما الفرق بين النّصب والرفع ، إلّا ما ذكروه من أنّ الجملة الاسمية أثبت وآكد ؛ فيمكن أن يكون مستند ابن عطيّة هذا ، كما قالوا في قوله : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩].

الثاني : أن يرتفع بإضمار فعل ، وقدره الزمخشري : «فليكن اتباع» قال أبو حيّان (٣) : هو ضعيف ؛ إذ «كان» لا تضمر غالبا إلّا بعد «إن» الشّرطيّة و «لو» ؛ لدليل يدلّ عليه.

الثالث : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ، فمنهم : من قدّره متقدّما عليه ، أي : «فعليه اتباع» ومنهم : من قدّره متأخّرا عنه ، أي : «فاتّباع بالمعروف عليه».

قوله «بالمعروف» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلّق ب «اتّباع» فيكون منصوب المحلّ.

الثاني : أن يكون وصفا لقوله «اتّباع» فيتعلّق بمحذوف ويكون محلّه الرفع.

الثالث : أن يكون في محلّ نصب على الحال من الهاء المحذوفة ، تقديره : «فعليه اتّباعه عادلا» والعامل في الحال معنى الاستقرار.

قوله (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) في رفعه أربعة أوجه ، الثلاثة المقولة في قوله : فاتّباع ؛ لأنّه معطوف عليه.

[والرابع : أن يكون مبتدأ خبره الجارّ والمجرور بعده ، وهو «بإحسان» ، وهو بعيد ، و «إليه» في محلّ نصب ؛ لتعلّقه ب «أداء» ، ويجوز أن يكون في محلّ رفع ؛ صفة ل «أداء» فيتعلّق بمحذوف ، أي : و «أداء كائن إليه».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ١٦.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٢٥

و «بإحسان» فيه أربعة أوجه : الثلاثة المقولة في «بالمعروف»](١).

والرابع : أن يكون خبر الأداء ، كما تقدّم في الوجه الرابع من رفع «أداء». والهاء في «إليه» ، تعود إلى العافي ، وإن لم يجر له ذكر ، لأنّ «عفا» يستلزم عافيا ، فهو من باب تفسير الضمير بمصاحب بوجه ما ، ومنه (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ، أي : الشمس ؛ لأن في ذكر «العشيّ» دلالة عليها ؛ ومثله : [الطويل]

٩١٨ ـ فإنّك والتّأبين عروة بعدما

دعاك وأيدينا إليه شوارع

لكّالرّجل الحادي وقد تلع الضّحى

وطير المنايا فوقهنّ أواقع (٢)

فالضمير في «فوقهنّ» للإبل ؛ لدلالة لفظ «الحادي» عليها ؛ لإنّها تصاحبه بوجه مّا.

فصل

قال ابن عبّاس ، والحسن وقتادة ، ومجاهد : على العافي الاتباع بالمعروف ، وعلى المعفوّ عنه الأداء إليه بإحسان (٣).

وقيل هما على المعفوّ عنه ، فإنّه يتبع عفو العافي بمعروف ، فهو أداء المعروف إليه بإحسان ، والاتباع بالمعروف : ألّا يشتدّ في المطالبة ، بل يجري فيها على العادة المألوفة فإن كان معسرا ، أنظره ، وإن كان واجدا لغير المال ، فلا يطالبه بزيادة على قدر الحقّ ، وإن كان واجدا لغير المال الواجب ، فيمهله إلى أن يبيع ، وأن يستبدل وألّا يمنعه تقديم الأهمّ من الواجبات ، فأمّا الأداء إليه بإحسان فالمراد به : ألّا يدّعي الإعدام في حال الإمكان ، ولا يؤخّره مع الوجود ، ولا يقدّم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي المال ببشر ، وطلاقة ، وقول جميل.

ومذهب أكثر العلماء ، والصحابة ، والتابعين : أنّ وليّ الدم ، إذا عفا عن القصاص على الدّية ، فله أخذ الدية ، وإن لم يرض القاتل.

وقال الحسن ، والنّخعيّ ، وأصحاب الرأي : لا دية له ، إلّا برضى القاتل.

حجّة القول الأوّل : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قتل له قتيل ، فهو بخير النّظرين ، إمّا أن يقتل وإمّا أن يفدي».

قوله : «ذلك تخفيف» الإشارة بذلك إلى ما شرعه من العفو ، والدية ؛ لأنّ العفو ، وأخذ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : لسان العرب (وقع) والمقاصد النحوية ٢ / ٥٢٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٤١٢ ، والدر المصون ١ / ٤٥٣.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٦٧) والحاكم (٢ / ٢٧٣) عن ابن عباس موقوفا. وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣١٦) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

٢٢٦

الدّية محرّمان على أهل التّوراة ، وفي شرع النّصارى العفو فقط ، ولم يكن لهم القصاص ، فخير الله تعالى هذه الأمّة بين القصاص ، وبين العفو على الدّية تخفيفا منه ورحمة.

وقيل إنّ قوله : «ذلك» راجع إلى قوله (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) و (مِنْ رَبِّكُمْ) في محلّ رفع ؛ لأنّه صفة لما قبله ، فيتعلّق بمحذوف.

ورحمة صفتها محذوفة أيضا ، أي : «رحمة من ربّكم».

قوله (فَمَنِ اعْتَدى) يجوز في «من» الوجهان الجائزان في قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) من كونها شرطيّة وموصولة ، وجميع ما ذكر ثمّة يعود هنا.

فصل

قال ابن عبّاس : «اعتدى» ، أي : جاوز الحدّ إلى ما هو أكثر منه ، قال ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن : هو أن يقتل بعد العفو ، وأخذ الدّية (١) ، وذلك أنّ الجاهليّة كانوا إذا عفوا ، وأخذوا الدية ، ثم ظفروا بالقاتل ، قتلوه ، فنهى الله عن ذلك في قوله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، وفيه قولان :

أشهرهما : أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة.

والثاني : روي عن قتادة ، والحسن ، وسعيد بن جبير : هو أن يقتل لا محالة ، ولا يعفو عنه ، ولا يقبل منه الدّية ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدّية»(٢).

قال القرطبيّ (٣) من قتل بعد أخذ الدّية ؛ كمن قتل ابتداء ، إن شاء الوليّ قتله وإن شاء ، عفا عنه ، وعذابه في الآخرة ، وهذا قول مالك ، والشافعيّ وجماعة.

وقال قتادة وعكرمة ، والسّدّيّ ، وغيرهم : عذابه أن يقتل البتّة ، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو.

قال ابن الخطيب (٤) وهذا القول ضعيف ؛ لأن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة ، وأيضا : فإنّ القود تارة يكون عذابا ؛ كما هو في حقّ غير التائب ، وتارة يكون امتحانا ؛ كما في حقّ التائب ، فلا يصحّ إطلاق العذاب عليه إلّا في وجه دون وجه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٧٨) عن ابن عباس ، وذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ٤٨).

(٢) أخرجه أحمد (١٤٩٦٨ ـ شاكر) وأبو داود (٤٥٠٧) والطيالسي في «مسنده» (١٧٦٣) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٧٦) وعبد الرزاق في «تفسيره» ص ١٦ وابن عدي في «الكامل» (٦ / ٢٣٩٢).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣١٧) وعزاه لسمويه في فوائده عن سمرة بن جندب مرفوعا.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧١.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٨.

٢٢٧

قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧٩)

اعلم أن كيفيّة النّظم أنّه تعالى لما أوجب القصاص في الآية المتقدّمة توجّه أن يقال : كيف يليق برحمته إيلام العبد الضّعيف ، فذكر عقيبه حكمة شرع القصاص ؛ دفعا لهذا السؤال.

قوله «لكم» : يجوز أن يكون الخبر ، و «في القصاص» متعلّق بالاستقرار الّذي تضمنّه «لكم» ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من حياة ، لأنّه كان في الأصل صفة لها ، فلما قدّم عليها نصب حالا ، ويجوز أن يكون «في القصاص» هو الخبر ، و «لكم» متعلّق بالاستقرار المتضمّن له ، وقد تقدّم تحقيق ذلك في قوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) [البقرة : ٣٦] وهناك أشياء لا تجيء هنا.

فصل في معنى كون القصاص حياة

في معنى كون القصاص حياة وجوه :

أحدها : أنّه ليس المراد أنّ نفس القصاص حياة ؛ لأنّ القصاص إزالة للحياة ، وإزالة الشيء يمتنع أنّ تكون نفس ذلك الشّيء ، بل المراد أنّ شرع القصاص يفضي إلى الحياة.

أمّا في حقّ من يريد القتل فإنّه إذا علم أنّه إذا قتل قتل ترك القتل ؛ فلا يقتل ، فيبقى حيّا ، وأمّا في حقّ المقتول : فإنّ من أراد قتله ، إذا خاف من القصاص ؛ ترك قتله فيبقى غير مقتول ، وأمّا في حقّ غيرهما : فلأنّ في شرع القصاص بقاء من همّ بالقتل ومن يهمّ به ، وفي بقائهما بقاء من يتعصّب لهما ؛ لأنّ الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدّي إلى المحاربة الّتي تنتهي إلى قتل عالم من النّاس ، وفي شرع القصاص زوال لكلّ ذلك ، فيصير حياة للكلّ.

وثانيها : أنّ نفس القصاص سبب الحياة ؛ لأنّ سافك الدّم ، إذا أقيد (١) منه ، ارتدع من كان يهمّ بالقتل ، فلم يقتل ، فكان القصاص نفسه سببا للحياة من هذا الوجه.

وثالثها : معنى الحياة سلامته من قصاص الآخرة ، فإنّه إذا اقتصّ منه في الدّنيا ، حيي في الآخرة ، وإذا لم يقتصّ منه في الدّنيا اقتصّ منه في الآخرة وهذا الحكم غير مختصّ بالقصاص في النّفس ، بل يدخل فيه القصاص في الجراح والشّجاج.

ورابعها : قال السّدّيّ : المراد من القصاص إيجاب التّوبة.

وقرأ أبو (٢) الجوزاء (٣) في القصص والمراد به القرآن.

__________________

(١) في ب : افتقى.

(٢) انظر : الشواذ «١١».

(٣) أوس بن عبد الله الربعي بفتح الراء والموحدة أبو الجوزاء بجيم ثم زاي بعد الواو البصري عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس. وعنه بديل بن ميسرة وقتادة ومحمد بن جحادة. وثقه أبو حاتم قال عمرو بن علي : مات سنة ثلاث وثمانين. ينظر الخلاصة ١ / ١٠٦.

٢٢٨

قال ابن عطيّة (١) ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص ، أي أنّه إذا قصّ أثر القاتل قصصا ، قتل.

ويحتمل أن يكون قوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي فيما أقصّ عليكم من حكم القتل والقصاص.

فصل في الردّ على احتجاج المعتزلة بالآية

قالت المعتزلة : دلّت هذه الآية على أنّ القصاص سبب للحياة ؛ لقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ، فدلّ ذلك على أنّه لو لم يشرع القصاص ، لكان ذلك سببا للموت قبل حلول وقته ، وكذلك كلّ ما نتج من الحيوان ، فإنّ هلاكه قبل أجله ؛ بدليل أنّه يجب على القاتل الضّمان والدّية.

وأجيب بقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥] وقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: ٣٤] (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٤] (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] فمتى قتل العبد علمنا أنّ ذلك أجله (٢) ، ولا يصحّ أن يقال : إنّه لو لم يقتل ، لعاش ؛ لما ذكرنا من الآيات.

أمّا وجوب الضمان والدّية ، فللإقدام على القتل وللزجر عن الفعل.

فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة

اتفق علماء البيان على أنّ هذه الآية في الإيجاز مع جميع المعاني باللّغة بالغة أعلى

__________________

(١) ينظر : المحر الوجيز ١ / ٢٤٧.

(٢) مختار أهل السنة : وجوب اعتقاد أن الأجل بحسب علم الله تعالى واحد لا تعدد فيه ، وأن كل مقتول ميت بسبب انقضاء عمره ، وعند حضور أجله في الوقت الذي علم الله في الأزل حصول موته فيه ؛ بإيجاده تعالى ، وخلقه من غير مدخلية للقاتل فيه لا مباشرة ولا تولّدا ، وأنه لو لم يقتل ، لجاز أن يموت في ذلك الوقت ، وألا يموت من غير قطع بامتداد العمر ، ولا بالموت بدل القتل ؛ بدليل أن الله تعالى قد حكم بآجال العباد على ما علم من غير تردّد ، وأنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، في آيات وأحاديث دالة على أن كلّ هالك يستوفى أجله من غير تقدّم عليه ولا تأخر عنه ، وحديث : إن بعض الطاعات يزيد في العمر لا يعارض القواطع ؛ لأنه خبر واحد ، وأن الزيادة فيه بحسب الخير والبركة ، أو بالنسبة إلى ما أثبتته الملائكة في صحفها ، فقد يثبت فيها الشيء مطلقا وهو في علم الله تعالى مقيّد ، ثم يئول إلى موجب علمه سبحانه ، على ما يشير إليه قوله تعالى : «يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ». فالمعتبر إنّما هو ما تعلّق العلم الأزلي ببلوغه ، هذا ما عليه أهل الحق (وغير هذا) من مذاهب المخالفين ؛ كمذهب الكعبي من المعتزلة : أنّ المقتول ليس بميّت ؛ لأن القتل فعل العبد ، والموت فعله تعالى وأثر صنيعه ، فالمقتول له أجلان : القتل ، والموت ، وأنه لو لم يقتل ، لعاش إلى أجله الذي هو الموت ؛ وكمذهب الكثير من المعتزلة : أن القاتل قطع على المقتول أجله ، وأنه لو لم يقتل ، لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله موته فيه لو لا القتل ، أو لمات في ذلك الوقت (باطل) أي : غير مطابق للواقع ؛ لمنافاته للقواطع التي لا تقبل التّأويل ، وكل باطل (لا يقبل) عند العقلاء المتمسّكين بالحق.

ينظر : التعليقات على شارح الجوهرة ص ١٣٨ ـ ١٤٠.

٢٢٩

الدّرجات ؛ فإنّه قول العرب في هذا المعنى «القتل أوقى للقتل» ، ويروى «أنفى للقتل» ، ويروى «أكفّ للقتل» ، ويروى «قتل البعض أحيا الجميع» ، ويروى : «أكثروا القتل ليقلّ القتل» فهذا وإن كان بليغا فقد أبدت العلماء بينه وبين الآية الكريمة وجوها عديدة في البلاغة ، وجدت في الآية الكريمة دونه :

منها : أنّ في قولهم تكرار الاسم في جملة واحدة.

ومنها : أنّه لا بدّ من تقدير حذف ؛ لأنّ «أنفى» و «أوقى» و «أكفّ» أفعل تفضيل فلا بدّ من تقدير المفضّل عليه ، أي : أنفى للقتل من ترك القتل.

ومنها : أنّ القصاص أعمّ ؛ إذ يوجد في النّفس وفي الطّرف ، والقتل لا يكون إلّا في النّفس.

ومنها : أنّ ظاهر قولهم كون وجود الشيء سببا في انتفاء نفسه.

ومنها : أنّ في الآية نوعا من البديع يسمّى الطباق ، وهو مقابلة الشيء بضدّه ، فهو يشبه قوله تعالى : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣].

قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) منادى مضاف وعلامة نصبه الياء ، واعلم أنّ «أولي» اسم جمع ؛ لأنّ واحده ، وهو «ذو» من غير لفظه ، ويجري مجرى جمع المذكّر السّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرّه بالياء المكسور ما قبلها ، وحكمه في لزوم الإضافة إلى اسم جنس حكم مفرده ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) ويقابله في المؤنث «أولات» وكتبا في المصحف بواو بعد الهمزة ؛ قالوا : ليفرّقوا بين «أولي كذا» في النّصب والجرّ ، وبين «إلى» الّتي هي حرف جرّ ، ثم حمل باقي الباب عليه ، وهذا كما تقدّم في الفرق بين «أولئك» اسم إشارة ، و «إليك» جارا ومجرورا وقد تقدّم ، وإذا سمّيت ب «أولى» ، من «أولي كذا» قلت : «جاء ألون ، ورأيت ألين» بردّ النّون ؛ لأنّها كالمقدّرة حالة الإضافة ، فهو نظير «ضاربو زيد وضاربي زيد».

والألباب : جمع لبّ ، وهو العقل الخالي من الهوى ؛ سمّي بذلك لأحد وجهين :

إما لبنائه من لبّ بالمكان : أقام به وإمّا من اللّباب ، وهو الخالص ؛ يقال : لببت بالمكان ، ولببت بضمّ العين ، وكسرها ، ومجيء المضاعف على «فعل» بضم العين شاذّ ، استغنوا عنه ب «فعل» مفتوح العين ؛ وذلك في ألفاظ محصورة ؛ نحو عززت ، وسررت ، ولببت ، ودممت ، ومللت فهذه بالضمّ وبالفتح ، إلّا «لببت» فبالضمّ والكسر ؛ كما تقدّم.

قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : قال الحسن والأصمّ : لعلّكم تتّقون نفس القتل (١) ؛ بخوف القصاص (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري بمعناه (٣ / ٣٨٤) عن ابن زيد.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٠.

٢٣٠

وقيل : المراد هو التقوى من كلّ الوجوه.

قال الجبّائيّ (١) : هذا يدلّ على أنّه تعالى أراد التّقوى من الكلّ ، سواء كان في المعلوم أنهم يتّقون أو لا يتّقون بخلاف قول المجبرة ، وقد سبق جوابه.

فإن قيل «لعلّ» للتّرجّي ، وهو في حقّ الله تعالى محال ، فجوابه ما سبق في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١].

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)(١٨٠)

قال القرطبيّ (٢) في الكلام تقدير واو العطف ، أي : «و (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ، فلما طال الكلام ، سقطت الواو ، ومثله في بعض الأقوال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٥ ، ١٦] ، أي : والذي تولّى فحذف.

وقوله : «كتب» مبنيّ للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تعالى ، وللاختصار.

وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون الوصيّة ، أي : «كتب عليكم الوصيّة» وجاز تذكير الفعل لوجهين :

أحدها : كون القائم مقام الفاعل مؤنّثا مجازيا.

والثاني : الفصل بينه وبين مرفوعه.

والثاني : أنّه الإيصاء المدلول عليه بقوله : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) أي : كتب هو أي : الإيصاء ، وكذلك ذكر الضّمير في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) [البقرة : ١٨١] وأيضا : أنّه ذكر الفعل ، وفصل بين الفعل والوصيّة ؛ لأنّ الكلام ، لمّا طال ، كان الفاصل بين المؤنّث والفعل ، كالمعوّض من تاء التّأنيث ، والعرب تقول : حضر القاضي امرأة فيذكرون ؛ لأنّ القاضي فصل بين الفعل وبين المرأة.

والثّالث : أنه الجارّ والمجرور ، وهذا يتّجه على رأي الأخفش ، والكوفيين ، و «عليكم» في محلّ رفع على هذا القول ، وفي محلّ نصب على القولين الأوّلين.

قوله تعالى : (إِذا حَضَرَ) العامل في «إذا» «كتب» على أنّها ظرف محض وليس متضمّنا للشّرط ، كأنّه قيل : «كتب عليكم الوصيّة وقت حضور الموت» ولا يجوز أن يكون العامل فيه لفظ «الوصيّة» ؛ لأنّها مصدر ، ومعمول المصدر لا يتقدّم عليه لانحلاله لموصول وصلة ، إلّا على مذهب من يرى التّوسّع في الظّرف وعديله ، وهو أبو الحسن ؛ فإنّه لا يمنع ذلك ، فيكون التّقدير : «كتب عليكم أن توصوا وقت حضور الموت».

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٠.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٣.

٢٣١

وقال ابن عطيّة (١) ويتّجه في إعراب هذه الآية الكريمة : أن يكون «كتب» هو العامل في «إذا» ، والمعنى : «توجّه عليكم إيجاب الله ، ومقتضى كتابه ، إذا حضر» فعبّر عن توجّه الإيجاب ب «كتب» لينتظم إلى هذا المعنى : أنّه مكتوب في الأزل ، و «الوصيّة» مفعول لم يسمّ فاعله ب «كتب» وجواب الشّرطين «إن» و «إذا» مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم من قوله «كتب».

قال أبو حيان (٢) وفي هذا تناقص ؛ لأنّه جعل العامل في «إذا» «كتب» ، وذلك يستلزم أن يكون إذا ظرفا محضا غير متضمّن للشّرط ، وهذا يناقض قوله : «وجواب» إذا و «إن» محذوف ؛ لأنّ إذا الشّرطية لا يعمل فيها إلّا جوابها ، أو فعلها الشرطيّ ، و «كتب» : ليس أحدهما ، فإن قيل : قوم يجيزون تقديم جواب الشّرط ، فيكون «كتب» هو الجواب ، ولكنّه تقدّم ، وهو عامل في «إذا» ، فيكون ابن عطيّة يقول بهذا القول.

فالجواب : أنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنّه صرّح بأنّ جوابها محذوف مدلول عليه ب «كتب» ، ولم يجعل «كتب» هو الجواب ، ويجوز أن يكون العامل في «إذا» الإيصاء المفهوم من لفظ «الوصيّة» ، وهو القائم مقام الفاعل في «كتب» ؛ كما تقدّم.

قال ابن عطيّة في هذا الوجه : ويكون هذا الإيصاء المقدّر الذي يدلّ عليه ذكر الوصيّة بعد هو العامل في «إذا» ، وترتفع «الوصيّة» بالابتداء ، وفيه جواب الشّرطين ؛ على نحو ما أنشده سيبويه : [البسيط]

٩١٩ ـ من يفعل الصّالحات الله يحفظه

 ..........(٣)

ويكون رفعها بالابتداء ، أي : فعليه الوصيّة ؛ بتقدير الفاء فقط ؛ كأنّه قال : «فالوصيّة للوالدين» ، وناقشه أبو حيّان من وجوه :

أحدها : أنّه متناقض من حيث إنّه إذا جعل «إذا» معمولة للإيصاء المقدر ، تمحّضت للظّرفية ، فكيف يقدّر لها جواب ؛ كما تقدّم تحريره.

والثاني : أنّ هذا الإيصاء إما أن تقدّر لفظه محذوفا ، أو تضمره ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا يعمل ؛ لأنّ المصدر شرط إعماله ألّا يحذف ، ولا يضمر عند البصريّين ، وأيضا : فهو قائم مقام الفاعل ؛ فلا يحذف.

الثّالث : قوله «جواب الشّرطين» والشيء الواحد لا يكون جوابا لاثنين ، بل جواب كلّ واحد مستقلّ بقدره.

الرابع : جعله حذف الفاء جائزا في القرآن ، وهذا نصّ سيبويه (٤) على أنّه لا يجوز إلا ضرورة ، وأنشد : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٣.

(٣) تقدم برقم ١٤٩.

(٤) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٤٣٥.

٢٣٢

٩٢٠ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله سيّان (١)

وإنشاده : «من يفعل الصالحات الله يحفظه» يجوز أن يكون رواية إلّا أنّ سيبويه (٢) لم ينشده كذا ، بل كما تقدّم ، والمبرّد روى عنه : أنّه لا يجيز حذف الفاء مطلقا ، لا في ضرورة ، ولا غيرها ، ويرويه : «من يفعل الخير ، فالرّحمن يشكره» وردّ النّاس عليه بأنّ هذه ليست حجّة على رواية سيبويه.

ويجوز أنّ تكون «إذا» شرطيّة ؛ فيكون جوابها وجواب «إن» محذوفين ، وتحقيقه أنّ جواب «إن» مقدر ، تقديره : «كتب الوصيّة على أحدكم إذا حضره الموت ، إن ترك خيرا ، فليوص» ، فقوله : «فليوص» جواب ل «إن» ؛ حذف ، لدلالة الكلام عليه ، ويكون هذا الجواب المقدّر دالّا على جواب «إذا» فيكون المحذوف دالّا على محذوف مثله.

وهذا أولى من قول من يقول : إنّ الشّرط الثّاني جواب الأوّل ، وحذف جواب الثّاني ، وأولى أيضا من تقدير من يقدّره في معنى «كتب» ماضي المعنى ، إلّا أن يؤوّله بمعنى : «يتوجّه عليكم الكتب ، إن ترك خيرا».

قوله «الوصيّة» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ ، وخبره «للوالدين».

والثاني : أنّه مفعول «كتب» ، وقد تقدّم.

والثالث : أنّه مبتدأ ، خبره محذوف ، أي : «فعليه الوصيّة» ، وهذا عند من يجيز حذف فاء الجواب ، وهو الأخفش ؛ وهو محجوج بنقل سيبويه (٣).

فصل في المراد من حضور الموت

قوله «إذا حضر أحدكم الموت ..» ليس المراد منه معاينة الموت ؛ لأنّ ذلك الوقت يكون عاجزا عن الإيصاء ، ثم ذكر في ذلك وجهين :

أحدهما : وهو المشهور أنّ المراد حضور أمارة الموت ؛ كالمرض المخوف ؛ كما يقال فيمن يخاف عليه الموت حضره الموت ويقال لمن قارب البلد : «وصل» ؛ قال عنترة : [الوافر]

٩٢١ ـ وإنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني (٤)

وقال جرير ، يهجو الفرزدق : [الوافر]

٩٢٢ ـ أنا الموت الّذي حدّثت عنه

فليس لهارب منّي نجاء (٥)

__________________

(١) تقدم قريبا.

(٢) تقدم تقريبا.

(٣) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٤٣٥.

(٤) ينظر : القرطبي ٢ / ١٧٣.

(٥) ينظر : ديوانه ص ١٢ ويروى صدره :

أنا الموت الذي آتي عليكم

٢٣٣

والثاني : قال الأصمّ (١) : إنّ المراد : فرضنا عليكم الوصيّة في حال الصّحّة بأن تقولوا : «إذا حضرنا الموت ، فافعلوا كذا».

فصل في المراد بالخير في الآية

المراد بالخير هنا المال ؛ كقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ٢٧٢] (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] (مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤] قال أبو العبّاس المقرىء : وقد ورد لفظ «الخير» في القرآن بإزاء ثمانية معان :

الأوّل : الخير : المال ؛ كهذه الآية.

الثاني : الإيمان ؛ قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] أي : إيمانا ، وقوله (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) [الأنفال : ٧٠] ، يعني : إيمانا.

الثالث : الخير الفضل ؛ ومنه قوله : (خَيْرُ الرَّازِقِينَ* خَيْرُ الرَّاحِمِينَ* خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

الرابع : الخير : العافية ؛ قال تعالى : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) [يونس : ١٠٧] ، أي : بعافية.

الخامس : الثّواب قال تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) [الحج : ٣٦] ، أي : ثواب وأجر.

السادس : الخير : الطّعام ؛ قال : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤].

السابع : الخير : الظّفر والغنيمة ؛ قال تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) [الأحزاب : ٢٥].

الثامن : الخير : الخيل ؛ قال تعالى : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [ص : ٣٢] ، يعني : الخيل.

ثم اختلفوا هنا على قولين :

فقال الزهريّ (٢) : لا فرق بين القليل ، والكثير ، فالوصيّة واجبة في الكلّ ؛ لأن المال القليل خير ؛ لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤] والخير : ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك ، وأيضا : قوله تعالى في المواريث : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) [النساء : ٧] فتكون الوصية كذلك.

__________________

(١) ينظر : التفسير الرازي ٥ / ٥١.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥١.

٢٣٤

الثاني : أن الخير هو المال الكثير ؛ لأن من ترك درهما لا يقال ترك خيرا ، ولا يقال : فلان ذو مال ، إلّا أن يكون ماله مجاوزا حدّ الحاجة ، ولو كانت الوصيّة واجبة في كلّ ما يترك ، سواء كان قليلا أو كثيرا ، لما كان التقييد بقوله : «إن ترك خيرا» كلاما مفيدا ؛ لأنّ كلّ أحد لا بدّ وأن يترك شيئا ، وأمّا من يموت عريانا ، ولا يبقى منه كسرة خبز ، فذلك في غاية النّدرة ، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير ، فهل هو مقدّر ، أم لا؟ فيه قولان :

الأول : أنه مقدّر ، واختلفوا في مقداره ؛ فروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ : أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أولا أوصي؟ فقال : لا ؛ إنّما قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير : هو المال الكثير ، وليس لك مال.

وعن عائشة : أنّ رجلا قال لها : إنّي أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال أربع ، قالت : قال الله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّ هذا يسير ، فاتركه لعائلتك ، فهو أفضل (١).

وعن ابن عبّاس : «إذا ترك سبعمائة درهم ، فلا يوصي ، فإن بلغ ثمانمائة درهم ، أوصى» (٢) وعن قتادة : ألف درهم (٣) ، وعن النّخعيّ : من ألف وخمسمائة درهم (٤).

وقال قوم : إنه غير مقدّر بمقدار معيّن بل يختلف باختلاف حال الرجال (٥).

فصل في تحرير معنى «الوصيّة»

قال القرطبيّ (٦) : و «الوصيّة» (٧) عبارة عن كلّ شيء يؤمر بفعله ، ويعهد به في

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣١٩) ، وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عائشة.

(٢) أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٣١٩).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥١.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٩٥) عن إبراهيم النخعي.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٢.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٤.

(٧) الوصايا لغة : جمع وصيّة ، قال ابن القطّاع : يقال وصيّت إليه وصاية ووصيّة ، ووصيته وأوصيته ، وأوصيت إليه ، ووصيت الشيء بالشيء وصيا : وصلته. قال الأزهري : وسميت الوصيّة وصيّة ، لأن الميّت لما أوصى بها ، وصل ما كان فيه من أيّام حياته بما بعده من أيام مماته ؛ يقال : وصّى وأوصى بمعنى ، ويقال : وصى الرجل أيضا ، والاسم : الوصيّة والوصاة.

انظر : المصباح المنير ٢ / ٦٦٢ ، والصحاح ٦ / ٥٢٥ ، والمغرب ٢ / ٣٥٧ ، ولسان العرب : ٦ / ٤٨٥٣.

واصطلاحا :

عرفها الحنفية بأنها : تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع. ـ

٢٣٥

الحياة ، وبعد الموت ، وخصّصها العرف بما يعهد بفعله ، وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا ، كالقضايا جمع قضيّة ، والوصيّ يكون الموصي ، والموصى إليه ؛ وأصله من وصى مخفّفا وتواصى النّبت تواصيا ، إذا اتصل ، وأرض واصية : متّصلة النّبات ، وأوصيت له بشيء ، وأوصيت إليه ، إذا جعلته وصيّك ، والاسم الوصاية والوصاية بالكسر والفتح ، وأوصيته ، ووصّيته أيضا توصية بمعنى ؛ والاسم الوصاة ، وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا ، وفي الحديث «استوصوا بالنّساء خيرا ؛ فإنهنّ عوان عندكم» ووصّيت الشيء بكذا ، إذا وصّلته به.

فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين

اعلم : أن الله تعالى بيّن أن الوصية الواجبة للوالدين والأقربين. قال الأصمّ (١) : وذلك أنّهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشّرف ، ويتركون الأقارب في الفقر ، والمسكنة ؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيّة لهؤلاء.

وقال ابن عبّاس ، وطاوس ، وقتادة ، والحسن : إنّ هذه الوصيّة كانت واجبة قبل آية المواريث للوالدين والأقربين من يرث منهم ، ومن لا يرث ، فلما نزلت آية المواريث ، نسخت وجوبها في حقّ الوارث ، وبقي وجوبها في حقّ من لم يرث (٢) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصيّة لوارث» (٣).

وقال طاوس : من أوصى لقوم ، وترك ذوي قرابة محتاجين ، انتزعت منهم ، وردت في ذوي قرابته.

وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخا في حقّ الكافّة ، وهي مستحبّة في حقّ الذين لا يرثون.

روى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حقّ امرىء مسلم

__________________

ـ عرفها الشافعية بأنها : تبرع بحق مضاف ـ ولو تقديرا ـ لما بعد الموت.

عرفها المالكية بأنها : عقد يوجب حقّا في ثلث عاقده ، يلزم بموته أو نيابة عنه بعده.

عرفها الحنابلة بأنها : الأمر بالتّصرّف بعد الموت.

انظر : شرح فتح القدير ٨ / ٤١٦ ، مغني المحتاج ٣ / ٣٩ ، شرح منح الجليل ٤ / ٦٤٢ ، كشاف القناع ٤ / ٣٣٥.

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٩١) عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الترمذي (٢١٢٠ ـ ٢١٢١) والنسائي كتاب الوصايا باب ٥ وابن ماجه (٢٧١٣ و ٢٧١٤) وأحمد (٤ / ١٨٦ ـ ١٨٧ ، ٢٣٨) والبيهقي (٦ / ٨٥ ، ٢٤٤ ، ٣٦٣) وابن أبي شيبة (١١ / ١٤٩) والطبراني في «الكبير» (٧ / ٣٥) والدارقطني (٤ / ٧٠) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٦ / ٣٠٤) وابن عساكر (٦ / ٧٠ ـ تهذيب) والخطيب في تاريخ بغداد (٦ / ٢٢٧).

٢٣٦

له شيء يريد أن يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبة عنده» (١).

وقال بعضهم : إن الوصيّة لم تكن واجبة ، وإنما كانت مندوبة ، وهي على حالها لم تنسخ ، وسيأتي الكلام عليه قريبا ـ إن شاء الله تعالى ـ.

قوله : «بالمعروف» : يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق بنفس الوصيّة.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من الوصيّة ، أي : حال كونها ملتبسة بالمعروف ، لا بالجور.

فصل

يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ، فيسوّى بينهم في العطيّة ، ويحتمل أن يكون المراد من المعروف ألّا يعطي البعض ، ويحرم البعض ؛ كما إذا حرم الفقير ، وأوصى للغنيّ ، لم يكن ذلك معروفا ، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما ، وبين بني العمّ ، لم يكن معروفا ، فالله تعالى كلّفه الوصيّة ؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش ، ونقل عن ابن مسعود : أنه جعل هذه الوصيّة للأفقر فالأفقر من الأقرباء (٢).

وقال الحسن البصريّ : هم والأغنياء سواء (٣).

وروي عن الحسن أيضا ، وجابر بن زيد ، وعبد الملك بن يعلى (٤) : أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته ، وله قرابة لا ترثه ، قالوا : نجعل ثلثي الثّلث لذوي قرابته ، وثلث الثّلث للموصى له ، وتقدّم النّقل عند طاوس أنّ الوصيّة تنزع من الأجنبيّ ، وتعطى لذوي القرابة (٥).

وقال بعضهم : قوله : «بالمعروف» : هو ألّا يزيد على الثّلث ، روي عن سعد بن مالك ، قال : جاءني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلّا ابنتي ، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي رواية : «أوصي بمالي كلّه» قال : لا ، قلت : بالشّطر ؛ قال : لا ، قلت : فالثّلث ، قال : الثّلث ، والثّلث كثير ؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس (٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ٤٦) كتاب الوصايا (٢٧٣٨) ومسلم كتاب الوصية (٤٤١) والنسائي (٦ / ٢٣٩) وأبو داود (٢٨٦٢) وأحمد (٢ / ٨٠) والترمذي (٩٧٤ ، ٢١١٨) وابن ماجه (٢٦٩٩ ، ٢٧٢) والدارقطني (٤ / ١٥٠) والبيهقي (٦ / ٢٧٢) وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٣٤٢).

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٠.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٥.

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٥.

(٦) أخرجه مالك في «الموطأ» (٧٦٣) والبخاري (٢ / ١٧٥) كتاب الجنائز (١٢٩٥) و (٧ / ٢١٨) كتاب المرضى والطب باب قول المريض إني وجع (٥٦٦٨) ، (٧ / ١١١) كتاب النفقات باب فضل النفقة على الأهل (٥٣٥٤) ومسلم في الوصية (٥ ، ٨ ، ١٠٢) والترمذي (٢١١٦) وأبو داود كتاب الوصية ٣٥ ـ

٢٣٧

وقال [عليّ : لأن أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثّلث ، فلم أوصى بالثّلث ، فلم يترك»](١).

وقال الحسن : نوصي بالسّدس ، أو الخمس ، أو الرّبع.

وقال الفارسيّ : إنما كانوا يوصون بالخمس والرّبع.

وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثّلث ، إلّا أصحاب الرأي ، فإنهم قالوا : إن لم يترك الوصيّ ورثة ، جاز له أن يوصي بماله كله.

وقالوا : إنّما جاز الاقتصار على الثّلث في الوصيّة ؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء.

قوله «حقّا» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، ذلك المصدر المحذوف : إما مصدر «كتب» ، أو مصدر «أوصى» ، أي : «كتبا حقّا» أو «إيصاء حقّا».

الثاني : أنه حال من المصدر المعرّف المحذوف ، إما مصدر «كتب» ، أو «أوصى» ؛ كما تقدّم.

الثالث : أن ينتصب على أنّه مؤكّد لمضمون الجملة ؛ فيكون عامله محذوفا ، أي : حقّ ذلك حقّا ، قاله الزّمخشريّ ، وابن عطيّة ، وأبو البقاء (٢).

قال أبو حيّان (٣) : وهذا تأباه القواعد النّحويّة ؛ لأن ظاهر قوله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) أن يتعلّق ب «حقّا» أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين لا يجوز.

أما الأول ؛ فلأنّ المصدر المؤكّد لا يعمل ، وأما الثاني ؛ فلأنّ الوصف يخرجه عن التّأكيد.

قال شهاب الدّين (٤) : وهذا لا يلزمهم ؛ فإنهم ، والحالة هذه ، لا يقولون : إنّ (عَلَى الْمُتَّقِينَ) متعلّق به ، وقد نصّ على ذلك أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ ؛ فإنه قال : وقيل : هو متعلّق بنفس المصدر ، وهو ضعيف ؛ لأنّ المصدر المؤكّد لا يعمل ، وإنّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف ، إذا ناب عنه ؛ كقولك «ضربا زيدا» ، أي : «اضرب» إلّا أنه جعله صفة ل «حقّ» فهذا يرد عليه ، وقال بعض المعربين : إنه مؤكد لما تضمّنه معنى المتقين : كأنّه قيل «على المتّقين حقّا» ؛ كقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٧٤]

__________________

ـ والنسائي كتاب الوصية باب ٣ وابن ماجه (٢٧٠٨ ، ٢٧١١ ، ٣٩٠٨) وأحمد (١ / ١٦٨ ، ١٧١ ، ٢١٧ ، ١٧٣ ، ١٧٤) والبيهقي (٦ / ٢٦٨) ، (٩ / ٢٨) والدارمي (٢ / ٤٠٧) والطبراني في «الكبير» (١٠ / ٣٦١) وابن خزيمة (٢٣٥٥) والحميدي (٦٦ ، ٥٢١) وابن أبي شيبة (١١ / ١٩٩) والبخاري في «الأدب المفرد» (٤٩٩ و ٥٢٠) وابن عساكر (٦ / ٩٥ ، ١٠٣ ـ تهذيب).

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٧٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ١ / ٤٥٦.

٢٣٨

وهذا ضعيف ؛ لتقدمه على عامله الموصول ، ولأنه لا يتبادر إلى الذّهن.

قال أبو حيّان (١) : والأولى عندي : أن يكون مصدرا من معنى «كتب» ؛ لأن معنى «كتب الوصيّة» ، أي : حقّت ووجبت ، فهو مصدر على غير الصدر ، نحو : «قعدت جلوسا».

فإن قيل : ظاهر هذا التّكليف يقتضي تخصيص هذا التّكليف بالمتّقين ، دون غيرهم؟ فالجواب أن المراد بقوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أنّه لازم لمن آثر التقوى ، وتحرّاه ، وجعله طريقة له ومذهبا ، فيدخل الكل فيه.

وأيضا : فإن الآية الكريمة وإن دلّت على وجوب هذا المعنى على المتقين ، فالإجماع دلّ على أنّ الواجبات والتّكاليف عامّة في حقّ المتّقين وغيرهم ، فبهذا الطّريق يدخل الكلّ تحت هذا التّكليف.

فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته

قال القرطبيّ (٢) : أجمعوا على أن للإنسان أن يغيّر وصيّته ، ويرجع فيما شاء منها ، إلّا أنهم اختلفوا في المدبر (٣).

فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا : أن الموصي ، إذا أوصى في صحّته ، أو مرضه بوصيّة ، فيها عتق رقيق ، فإنه يغيّر من ذلك ما بدا له ، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت ، وإن أحبّ أن يطرح تلك الوصيّة ، ويسقطها فعل ، إلّا أن يدبّر ، فإن دبّر مملوكا ، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبّر.

قال أبو الفرج المالكيّ : المدبّر في القياس كالمعتق إلى شهر ؛ لأنه أجل آت لا محالة ، وأجمعوا على أنّه لا يرجع في اليمين بالعتق ، والعتق إلى أجل ؛ فكذلك المدبّر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الإمام الشافعيّ وإسحاق وأحمد : هو وصيّة.

فصل

اختلفوا في الرّجل ، يقول لعبده : «أنت حرّ بعد موتي» ، وأراد الوصيّة ، فله الرّجوع عند مالك ، وإن قال : «فلان مدبّر بعد موتي» لم يكن له الرّجوع فيه ، فإن أراد التدبير لقوله الأول ، لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٦.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٥.

(٣) والتدبير لغة : الإعتاق عن دبر وهو ما بعد الموت ، وشرعا : تعليق العتق بالموت ، والمطلق منه : ما علّقه بمطلق موته ، والمقيد : أن يعلق بصفة على خطر الوجود وأيضا التدبير : استعمال الرأي بفعل شاق ، وقيل : النظر في العواقب بمعرفة الخير.

ينظر : قواعد الفقه ص ٢٢٥.

٢٣٩

وأبو ثور ، فهذا كلّه عندهم وصيّة ؛ لأنّه في الثّلث ، وكلّ ما كان في الثّلث ، فهو وصيّة ، إلا أن الشافعيّ قال : لا يكون له الرّجوع في المدبّر إلّا بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة ، وليس قوله : «فقد رجعت» رجوعا.

فصل

اختلفوا في رجوع المجيزين للوصيّة للوارث في حياة الموصي ، وبعد وفاته.

فقالت طائفة : ذلك جائز عليهم ، وليس لهم الرجوع ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، وطاوس ، والحسن ، وابن سيرين ، وابن أبي ليلى ، والزهريّ ، وربيعة ، والأوزاعي (١) ، وقيل : لهم الرجوع ، إن أحبّوا ، وهو قول ابن مسعود ، وشريح ، والحكم ، والثوريّ ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وأبي ثور ، وابن المنذر (٢).

وقال مالك : إن أذنوا في صحته ، فلهم الرجوع ، وإن أذنوا في مرضه ، فذلك جائز عليهم ، وهو قول إسحاق.

فصل في الحجر على المريض في ماله

وذهب الجمهور إلى أنّه يحجر على المريض في ماله (٣).

وقال أهل الظاهر : لا يحجر عليه ، وهو كالصّحيح.

فصل في توقّف الوصيّة على إجازة الورثة

إذا أوصى لبعض ورثته بمال ، وقال في وصيّته : إن أجازها الورثة ، فهي لك ، وإن لم يجيزوها ، فهو في سبيل الله ، فلم يجزها الورثة ، فقال مالك : مرجع ذلك إليهم.

وقال أبو حنيفة ، ومعمر ، والشافعي في أحد قوليه : يمضي في سبيل الله ، والله أعلم.

فصل

من النّاس من قال : إن الوصيّة كانت واجبة ؛ واستدلّ بقوله كتب وبقوله «عليكم» وأكد الإيجاب بقوله : «على المتّقين» ، وهؤلاء اختلفوا : فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة.

وقال أبو مسلم (٤) : إنها لم تنسخ من وجوه.

أحدها : أن هذه الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث ، ومعناه : «كتب عليكم ما وصّى به الله ؛ من توريث الوالدين والأقربين ، ومن قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين ؛ بتوفير ما وصّى به الله عليهم ، وألّا ينقص من أنصبائهم».

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٥.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٨.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٨.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٥٣.

٢٤٠