اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

ورابعها : الإيمان بالكتب.

__________________

ـ العالم يصدر بعضه عن بعض بواسطة الطبيعة ، إلى غير ذلك مما أسرفوا فيه القول ، وفيما يلي ذلك نذكر شبههم ، ونكرّ عليها بالإبطال :

الشبهة الأولى :

قالوا : لو كانت الأجسام محدثة ، لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها ، وتركها لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا ، وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض موجودة في الأزل فتكون قيمة. الجواب عن هذه الشبهة أن نقول :

قولكم : إن ترك الفعل لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا إلى آخر ما ذكرتم تقسيم فاسد ظاهر البطلان ؛ وذلك لأن الجسم ذو أبعاد ثلاثة : الطول ، والعرض ، والعمق ، وترك الفعل لا يوصف بطول ، ولا عرض ، ولا عمق ، فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ، والعرض هو الوصف الملازم للجسم ، وترك الفعل من الله للجسم والعرض ليس وصفا بشيء ؛ فلا يكون عرضا ، فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ولا عرضا ، وإنما هو عدم محض ، والعدم المحض ليس بشيء ، وترك الفعل من الله تعالى ليس فعلا ألبتة ، بخلاف صنعة خلقه ؛ لأن ترك الفعل من المخلوق فعل. برهان ذلك : أن ترك الفعل من المخلوق لا يكون إلا بفعل آخر ؛ كترك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون ؛ وكتارك القيام لا يكون إلا بفعل آخر ؛ كفعل الجلوس ، أو النوم ، أو غير ذلك.

ويظهر أن الذي سهّل عليهم هذا القول : هو قياس الغائب على الشاهد ؛ فإنهم لما رأوا أن عدم الفعل من المخلوق يكون بفعل آخر ، قاسوا الغائب عليه ، ورتّبوا ذلك الإنكار ، ولو رجعوا إلى قول الأكابر من رؤسائهم ، ما تعلقوا بهذه الشبهة ـ فقد نسب إلى أكابر الماديين أنهم قالوا :

إن قياس الغائب على الشاهد قياس خدّاع ؛ لأنه كثيرا ما يخدع الإنسان ويوقعه في الغلط ، فلا يصحّ التعويل عليه ، فصح أن فعل الباري ـ تعالى ـ غير فعل خلقه ، وأن تركه للفعل ليس فعلا ؛ فبطل ما قالوا.

«الشبهة الثانية» :

قالوا : إن العقل لا يمكن أن يتصوّر موجودا ليس من جنس المخلوقات فلا يكون جسما ولا مادة جسم ولا صورة جسم ولا آخذا قدرا من الفراغ ، وحيث لا يمكن تصور موجود بهذه الصفة ، فلا يمكن التصديق بوجوده ؛ لأن التصديق بالوجوع فرع التصور.

«الجواب عن هذه الشبهة» :

نقول لهم : قد اتفقتم معنا على أن تكوّن العالم ـ سواء كان علويّا أو سفليّا ـ على هذه الحالة التي نشاهدها ـ حدث بعد أن لم يكن ، ولا إخالكم تخالفوننا في أنّ ذلك العالم بلغ من الإتقان ، والإحكام ، والصنع الغريب ما حارت أولو الألباب في اكتناهه ، وعجزت المراصد عن إحصائه ، ووقف علماء الفلك حيارى أمام بدائعه.

ولا شك أن العقل يجزم أن إتقان الأثر يدل على عظمة المؤثّر ، والمبدع ؛ ألا ترى أنهم يستدلون بما يشاهد من أعمال النّفوس ، والآثار العظيمة الباقية من زمن الأمم الغابرة ـ على رقيّ تلك الأمم ، وتقدمها في العلوم والصنائع.

وإلى جانب هذا ؛ انظر إلى منزلة الإنسان من حيث الإدراك تجد أنك لو قارنت بين ما يجهله وما يعلمه ، وسلكت طريق الإنصاف ـ لكانت نسبة المعلوم إلى المجهول كنقطة ماء في بحر ، أو ذرة من رمال ، بل لو نظرت إلى الأشياء التي دخلت تحت دائرة معلوماته ، تجده بعد إعمال فكره وكثرة بحثه ـ

٢٠١

وخامسها : الإيمان بالرسل.

__________________

ـ يجهل كثيرا من مباحثها.

انظر إلى أصحاب النظريات الفلسفية ، تجدهم يبطلون اليوم ما أثبتوه بالأمس ، ولا يستقرّون على رأي ، وتجد الطائفة المتأخرة تفنّد نظريات الطائفة المتقدمة ، وهكذا.

انظر إلى حاسة السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، فإنّا نعتقد أن كلّ حاسة تدرك ما هو من خواصّها ، ولكن كيفية الإدراك لا نعلمها علما يقينيا.

فكل هذه الجزئيات وما ماثلها ممّا يطول المقام بذكره ـ تدلّنا دلالة واضحة لا شك فيها ، ولا مرية على جهل الإنسان بحقائق كثيرة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فهل بعد إدراك عظم هذه المخلوقات الدالّة على عظمة المبدع ، وثبوت جهل الإنسان بأكثر الأشياء ـ تقولون : إن عقولنا لا يمكن أن تتصور موجودا ليس جسما ، وتجعلون عدم تصوّر العقل دليلا على الوجود ، في حين أنكم تعترفون أن هناك حقائق كثيرة نجهلها ، ولا تتصورها عقولنا ، ومع ذلك لا يمكنكم أن تقولوا : إن عدم التصور دليل على عدم الوجود ، ويظهر إيضا أن الذي سهّل عليهم هذا هو قياسهم الغائب على الشاهد ؛ فإنهم لما رأوا في الشاهد أن الموجود لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ ، ولا بدّ أن يكون جسما ، أو مادة جسم ، أو صورة جسم ـ قاسوا ذلك الغائب عليه ، وهو ـ كما علمت سابقا ـ قياس فاسد لا يعوّل عليه ، فثبت أن العالم محدث أحدثه الفاعل المختار ـ جلّ وعلا ـ.

«الشبهة الثّالثة» :

قالوا : الإيجاد جود وإحسان ، فلو لم يكن الله تعالى موجودا في الأزل ، لكان تاركا للجود والإحسان مدة غير متناهية ، وذلك غير جائز ـ وربما عبّروا عنه بعبارة أخرى ، فقالوا : علّة وجود العالم ـ وجود الباري ـ تعالى ـ ، ووجود الباري تعالى أزليّ ؛ فيلزم أن يكون وجود العالم أزليّا.

«الجواب عن هذه الشبهة» :

وهي قولهم : الإيجاد وجود ، قلنا : هذا ينتقض بإيجاد هذه الصّور والأعراض الحادثة ، فإنه وجود ولم يلزم منه قدم الصّور والأعراض ، هذا وقال إمام الحرمين في الإرشاد ـ مستدلّا على حدوث العالم وعدم قدمه بطريق الإلزام ـ :

الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار ، والنار بالأفلاك ، وهي أجرام متميزة شاغلة جوّا وحيّزا ، وبالاضطرار تعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها ، أو متياسرة ، أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما ، أو أصغر من ذلك ـ ليس من المستحيلات ، وكل مختصّ بوجه من وجوه الجواز دون سائر الوجوه ـ محتاج بضرورة العقل إلى مخصّص.

وقد قامت البراهين على أن المخصّص لهذه الكائنات هو الله الفاعل المختار ، فبطل حينئذ كون المادة قديمة ، وعلّة ، وقد قام البرهان القاطع على أن موجد العالم إله متّصف بجميع صفات الكمال ، فيكون هو الموجد للمادة ؛ كما أنه موجد للكائنات بطريق الاختيار ، لا بطريق العلّة والضرورة.

ورأيي في هذه العقيدة : هو ما ذكرته في مبدأ رسالتي ، وأزيد عليه : أنه كان ينبغي ألّا يختلف الناس في هذه العقيدة ؛ لأن دلالة الأثر على المؤثر ، والفعل المحكم على الحكيم ، دلالة بديهية فطرية ، بل قالوا : إن ذلك مما يدركه الحيوان الأعجم ، فضلا عن الإنسان ؛ فإنك إذا ضربت الحيوان ، التفت ليرى من ضربه ؛ لأنه مركوز في فطرته أن الأثر لا يكون بلا مؤثر والفعل لا يكون بلا فاعل ، وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ، وإذا رأيت كلمة من ثلاثة أحرف ، لم تشكّ في أن كاتبا كتبها ، وما مثل من ينكر الخالق ـ جل وعلا ـ وهو أظهر من الشمس ؛ إلا كمن رأى كتابا بديع المباني ، بليغ المعاني ، وفيه من الأفكار السّامية ، ـ

٢٠٢

فإن قيل : لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ، ولا إلى العلم بصدق الكتب ، إلّا بواسطة صدق الرّسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب ، فلم قدّم الملائكة والكتب في الذّكر على الرّسل؟

فالجواب : أنّ الأمر ، إن كان كذلك في عقولنا ، إلّا أنّ الترتيب على العكس ؛ لأنّ الملك يوجد أوّلا ، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل ، فالمراعى في هذه

__________________

ـ والأدب الرائع ما يفوق أفكار أفلاطون ، وأدب «أبي العلاء» ، فلما نظر فيه ، قال : ما هذا الكتاب إلا أوراق كانت في صندوق ، وكان معها شيء من حروف الطباعة ، ثم اهتز الصندوق هزّات متوالية ، فوجد ذلك الكتاب على ما ترون ؛ فهل لا ترمي صاحب تلك الفلسفة بالجنون؟! وإذا كنت لا تسلّم أن باخرة توجد بلا مهندس ، بل لا تسلّم أن كلمة صغيرة توجد بلا كاتب ، فكيف تسلّم أن هذا الكون العظيم الذي بهر العقول ، وحيّر الألباب ـ قد وجد بلا موجد ، ونظم بلا منظم ، وكان كل ما فيه ؛ من نجوم وغيوم ، وقفار وبحار ، وليل ونهار ، وظلمات وأنوار ، وأشجار وأزهار ، وشموس وأقمار ، إلى أنواع لا يحصيها العدّ ، ولا يأتي عليها الحصر ـ قد وجدت بلا موجد ؛ إن هذا لهذيان وجنون.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ترشد هذه الآيات إلى أن القائل في السموات كيف بنيت ، أي كيف نسق هذا النظام البديع ، وارتبطت كواكبها بعضها ببعض ، حتى أشبهت من حيث خضوعها لنظام بديع ، وترتيب عجيب البناء محكم.

فمن الذي نظم عقد هذه الكواكب ، ومن الذي رتّبها حتى صارت بهجة للناظرين ، ومن الذي أزاح عنها الخلل ؛ فليس في هذا البناء المحكم فروج ينفذ فيها الخلل ، فتختل دوراتها ، فيصطدم بعضها ببعض اصطداما يتداعى منه ذلك البنيان ، وتندكّ منه السماء (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

إن الذي بيده أمر هذه المجاميع العلويّة والسفليّة ، وتنظيم أمرها ، ويحفظها من الخلل ويعطي كل شيء منها قسطه الطبيعي ـ لا بد أن يكون موجودا مريدا مختارا.

مثل هذا النظام الذي تتجلى فيه الحكمة ، والعناية ، والدقة ، والإحاطة ـ محال أن ينسب إلى المصادفة كما يقول الملحدون ؛ فإن المصادفة تضادّ النظام ، وتخالفه كل المخالفة.

محال أن يكون هذا النظام المتناهي في الدّقة من أثر الفوضى والإهمال ، وأن ينسب إلى عدم الفاعل والموجد.

تلك محالات أولية ، يرفض العقل الاقتناع بها ، والركون إليها ، وها هي أكثر الآيات الدالة على وجود الخالق العظيم ـ آتية بطريق الاستفهام التقريري ، مما يدل على أن الجميع مقرّين بوجوده.

«هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ»؟ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)؟ (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟ (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟) «أروني (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)؟.

هذه دلائل واضحة يسلّم بها العقل متى عرضت عليه ؛ لأن في فطرته الاعتراف بها ؛ فقد ثبت بهذه الأدلة ، وبما سبقها من الأدلة العقلية والكونية ـ أن للعالم صانعا مختارا في إيجاده ، وكون هذا العالم على هذا الوجه المشاهد بدون اضطرار ولا إيجاب.

٢٠٣

الآية ترتيب الوجود الخارجيّ ، لا الترتيب الذّهنيّ ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته ، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب ، والثّواب ، والمعاد ، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء ؛ ليؤدّوها إلينا إلى غير ذلك ممّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت الإيمان بالنّبيّين الإيمان بنبوّتهم ، وصحّة شريعتهم ، فلم يبق شيء مما يجب الإيمان به ، إلّا دخل تحت هذه الآية.

وتقرير آخر : وهو أنّ للمكلّف مبتدأ ووسطا ، ونهاية ، ومعرفة المبدأ والنهاية ؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى ، واليوم الآخر.

وأمّا معرفة الوسط ، فلا يتمّ إلّا بالرّسالة ، وهي لا تتمّ إلا بثلاثة أمور :

الملك الآتي بالوحي ، ونفس الوحي ، وهو الكتاب ، والموحى إليه ، وهو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح ؛ من إيتاء المال ، والصلاة ، والزّكاة ـ تنبيه على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح.

الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرّ قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] ، فالجار والمجرور في محلّ نصب على الحال العامل فيه «آتى» أي : آتى المال حال محبّته له ، واختياره إيّاه ، والحبّ : مصدر «حببت» ، لغة في «أحببت» ؛ كما تقدّم ، ويجوز أن يكون مصدر الرّباعيّ على حذف الزوائد ، ويجوز أن يكون اسم مصدر ، وهو الإحباب ؛ كقوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].

والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال :

أظهرها : أنه يعود على المال ؛ لأنّه أبلغ من غيره

قال ابن عبّاس ، وابن مسعود : «هو أن تؤتيه ، وأنت صحيح شحيح ، تأمل (١) الغنى ، وتخشى الفقر ، ولا تهمل حتّى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا» ، وهذا بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.

أمّا من حيث اللفظ : رواية أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أيّ الصّدقة أعظم أجرا؟ قال : «أن تصّدّق وأنت صحيح شحيح» (٢) وذكره.

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٢٧٢) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤١) عن ابن مسعود موقوفا.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأورده السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣١٢) وزاد نسبته لابن المبارك في الزهد ووكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني وابن مردويه.

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ٥٠) كتاب الوصايا باب الصدقة عند الموت (٢٦٤٨) ، (٢ / ٢٢٤) كتاب الزكاة باب أي الصدقة أفضل (١٤١٩) ومسلم كتاب الزكاة (٩٢ ، ٩٣) والنسائي (٥ / ٦٨ ، ٦ / ٢٣٧) وأبو ـ

٢٠٤

الثاني : أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى : «آتى» ، أي : على حبّ الإيتاء ؛ كأنه قيل : يعطي ، ويحبّ الإعطاء ؛ رغبة في ثواب الله (١).

قال شهاب الدّين (٢) : وهذا بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى.

أما من حيث اللفظ : فإنّ عود الضمير على غير مذكور ، بل مدلول عليه بشيء ـ خلاف الأصل.

وأمّا من حيث المعنى : فإنّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان ، لأنّ هواه يساعده على ذلك.

قال زهير : [الطويل]

٩١٦ ـ تراه إذا ما جئته متهلّلا

كأنّك تعطيه الّذي أنت سائله (٣)

الثالث : أن يعود على الله تعالى ، يعني : «يعطون المال على حبّ الله» ؛ وعلى هذه الأقوال الثّلاثة يكون المصدر مضافا للمفعول ، وعلى هذا ، فالظاهر أنّ فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي ، وقيل : هو ضمير المؤتون ، أي : «حبّهم له» ، واحتياجهم إليه ، وليس بذلك ، و «ذوي القربى» على هذه الأقوال الثلاثة : منصوب ب «آتى» فقط ، لا بالمصدر ؛ لأنّه قد استوفى مفعوله.

الرابع : أن يعود على «من آمن» ، وهو المؤتي للمال ، فيكون المصدر على هذا مضافا للفاعل ، وعلى هذا : فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفا ، أي : «حبّه المال» ، وأن يكون ذوي القربى ، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله.

قال ابن عطيّة (٤) : ويجيء قوله «على حبّه» اعتراضا بليغا في أثناء القول.

قال أبو حيّان (٥) ـ رحمه‌الله ـ : فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه ، فليس بجيّد ، فإنّ ذلك من خصوصيّات الجملة الّتي لا محلّ لها ، وهذا مفرد ، وله محلّ ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين ، وهما «المال» ، و «ذوي» ، فيصحّ ، إلا أنه فيه إلباس.

فصل في معنى الإيتاء

اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء ، فقال قوم : إنّها الزكاة ، وهذا ضعيف ؛ لأنّه عطف الزكاة عليه ، بقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) [البقرة : ١٧٧] ومن حق المعطوف ، والمعطوف عليه المغايرة ، ثم لا يخلو : إمّا أن يكون تطوّعا ، أو واجبا ، ولا

__________________

ـ داود (٢٨٦٥) وابن ماجه (٢٧٠٦) وأحمد (٢ / ٢٣١ ، ٤١٥ ، ٤٤٧) والبيهقي (٤ / ٩٠) والبخاري في «الأدب المفرد» (٧٧٨) وابن خزيمة (٢٤٥٤).

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ١ / ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٣) ينظر : ديوانه (٩٢) والدر المصون ١ / ٤٤٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٧.

٢٠٥

جائز أن يكون تطوّعا ؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] ، وقف التقوى عليه ، ولو كانه تطوّعا ، لما وقف التقوى عليه ، وإذا ثبت أنّه واجب ، وأنه غير الزكاة ، ففيه أقوال :

أحدها : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضّروريّة ؛ مثل : إطعام المضطرّ ؛ ويدل عليه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا ، وجاره طاو إلى جنبه»(١).

وروي عن فاطمة بنت قيس : «إنّ في المال حقّا سوى الزّكاة» (٢) ثم تلت (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ).

وحكي عن الشّعبيّ أنّه سئل عمّن له مال ، فأدى زكاته ، فهل عليه سواه؟ فقال : نعم ، يصل القرابة ، ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية الكريمة.

وأيضا : فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضّرورة ، وجب على النّاس أن يعطوه مقدار دفع الضّرورة.

فإن قيل : الزّكاة نسخت الحقوق الماليّة.

فالجواب : أنّه ـ عليه‌السلام ـ قال : «في المال حقوق سوى الزّكاة» (٣) ؛ وقول الرسول أولى ، وأجمعت الأمّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرّ ما يدفع به الضّرورة ، وإن سلّمنا أن الزكاة نسخت كلّ حقّ ، فالمراد أنّها نسخت الحقوق المقدّرة ، أمّا الذي لا يكون مقدّرا ، فغير منسوخ ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب ، والمماليك.

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى (٥ / ٩٢) رقم (٢٦٩٩) والبخاري في الأدب المفرد (١١٢) وفي «التاريخ الكبير» (٥ / ١٩٦) والحاكم (٤ / ١٦٧) والخطيب في «تاريخ بغداد» (١٠ / ٣٩١ ـ ٣٩٢) من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٧٠) وقال : رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات.

وله شاهد من حديث أنس مرفوعا بلفظ : ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به.

أخرجه البزار (١١٩ ـ كشف) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٨ / ١٧٠) وقال الهيثمي : وإسناد البزار حسن.

ولفظ البزار : ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره طاوي.

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٢٢) رقم (٦٥٩ ، ٦٦٠) وابن ماجه (١٧٨٩) والدارمي (١ / ٣٨٥) والدراقطني (٢ / ١٢٥) والبيهقي (٤ / ٨٤) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣).

وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن مردويه.

وقال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك ، أبو ميمون الأعور يضعف وقال البيهقي : وهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور ، كوفي ، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ومن بعدهما من حفاظ الحديث.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٤٢) عن الشعبي.

٢٠٦

فإن قيل : إذا صحّ هذا التأويل ، فما الحكمة في هذا التّرتيب؟!

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه تبارك وتعالى قدّم الأولى فالأولى ؛ لأنّ الفقير القريب أولى بالصّدقة من غيره ، لأنّه يجمع فيه بين الصلة ، والصّدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه ، ولذلك يستحقّ بها الإرث ، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيّة ، حتى لا يتمكّن من الوصية ، إلا في الثّلث ، ولذلك كانت الوصيّة للأقارب من الواجبات ؛ لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٨٠].

وإن كانت نسخت عند بعضهم ؛ فلهذه الوجوه ، قدّم ذوي القربى ، ثم أتبعه باليتامى ؛ لأنّ الصغير الفقير الذي لا والد له ، ولا كاسب ، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم بالمساكين ؛ لأنّ الحاجة قد تشتدّ بهم ، ثم ذكر السّائلين ، وفي الرقاب ؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم.

وثانيها : أن علم المرء بشدّة حاجة قريبه (١) أقوى ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ثم (٢) على هذا النّسق.

وثالثها : أن ذا القربى مسكين ، وله صفة زائدة تخصّه ؛ لأن شدّة حاجته تغمّ صاحب المال ، وتؤذي قلبه ، ودفع الضّرر عن النّفس مقدّم على دفع الضرر عن الغير ؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى ، ثم باليتامى ؛ لأن الغمّ الحاصل بسبب عجز الصّغار عن الطّعام والشّراب أشدّ من الغمّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما ، ثم المساكين ؛ لأنّ الغمّ الحاصل بسببهم أخفّ من الغم الحاصل بسبب الصّغار.

وأمّا ابن السّبيل ، فقد يكون غنيّا ، وقد تشتدّ حاجته في الوقت ، والسّائل قد يكون غنيّا ، ويظهر شدّة الحاجة ، وأخّر المكاتب ؛ لأنّ إزالة الرق ليست في محلّ الحاجة الشّديدة.

القول الثاني : أنّ المراد بإيتاء المال : ما روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند ذكره الإبل ، قال : «إنّ فيها حقّا ؛ وهو إطراق فحلها ، وإعارة دلوها» ، وهذا بعيد ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصّ به ابن السّبيل ، والسائل والمكاتب.

القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبا ، ثم نسخ بالزّكاة ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء ، وبين الزكاة.

وقال بعضهم : المراد صدقة التطوّع.

فصل في الوجوه الإعرابية لقوله «ذوي»

قوله «ذوي» فيه وجهان :

__________________

(١) في ب : شدة حاجته لقريبه.

(٢) في ب : السائلين تعم.

٢٠٧

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ : أنه مفعول ب «آتى» وهل هو الأول ، و «المال» هو الثاني ؛ كما هو قول الجمهور ، وقدّم للاهتمام ، أو هو الثاني ، فلا تقديم ، ولا تأخير ؛ كما هو قول السّهيليّ؟

والثاني : أنه منصوب ب «حبّه» ؛ على أن الضمير يعود على «من آمن» ؛ كما تقدّم.

فصل في المراد ب «ذوي القربى»

من النّاس من حمل ذوي القربى على المذكور في آية النفل والغنيمة ، وأكثر المفسّرين على ذوي القربى للمعطين ، وهو الصحيح ؛ لأنّهم به أخصّ ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأبوين ، أو بولادة الجدّين ، أو أبي الجدّين ، ولا يقتصر على ذوي الرّحم المحرم كما حكي عن قوم ؛ لأنّ المحرميّة حكم شرعيّ ، والقرابة لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النّسب ، وأن تفاوتوا في القرب والبعد.

قوله «واليتامى» : ظاهره أنه منصوب ، عطفا على ذوي.

وقال بعضهم : هو عطف على «القربى» ، أي : «آتى ذوي اليتامى» ، أي : أولياءهم ؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحّ ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميّز ، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئا ، ولا حاجة إلى هذا ، فإنّ الإيتاء يصدق ، وإن لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء ، يقال : «آتيت السّلطان الخراج» ، وإنّما أعطيت أعوانه.

وأيضا : إذا كان اليتيم مراهقا عارفا بمواقع حظّه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ، ويلبس ، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به ، جاز دفعها إليه ، هذا على قول من قال : إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصّغر (١).

وقال بعضهم : إن هذا الاسم قد يقع على الصّغير ، وعلى البالغ ؛ لقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٢] وهم لا يؤتون إلّا إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه ؛ فعلى هذا : إن كان اليتيم بالغا ، دفع إليه ، وإلّا دفع إلى وليه ، والمساكين أهل الحاجة ، وهم ضربان : من يكفّ عن السؤال ، وهو المراد هاهنا ، ومنهم من يسأل وينبسط ، وهم السائلون ، وإنما فرق بينهما ؛ من حيث يظهر على المساكين المسكنة ممّا يظهر من حاله ، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله.

وابن السبيل اسم جنس أو واحد أريد به الجمع ، وسمّي «ابن السّبيل» ، أي : الطريق ، لملازمته إيّاها في السّفر ، أو لأنّ الطريق تبرزه ، فكأنها ولدته.

وقيل : هو الضعيف (٢).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٧.

٢٠٨

فصل

من جعل الآية الكريمة في غير الزّكاة ، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «للسّائل حقّ ، ولو جاء على فرس» ، وقال تعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات : ١٩].

الأمر الثالث في تحقيق مسمّى البرّ ، قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) وقد تقدّم.

قوله (وَفِي الرِّقابِ) متعلّق ب «آتى» وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون ضمن «آتى» معنى فعل يتعدى لواحد ؛ كأنه قال : وضع المال في الرّقاب.

والثاني : أن يكون مفعول «آتى» الثاني محذوفا ، أي : آتى المال أصحاب الرّقاب في فكّها ، أو تخليصها ؛ فإنّ المراد بهم المكاتبون ، أو الأسارى ، أو الأرقّاء يشترون ، فيعتقون ، وكلّ قد قيل به.

والرّقاب : جمع «رقبة» ، وهي من مؤخّر أصل العنق ، واشتقاقها من «المراقبة» ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرّقيب المشرف على القوم ؛ وبهذا المعنى : يقال : «أعتق الله رقبته» ، ولا يقال : «أعتق الله عنقه» ؛ لأنها لما سمّيت رقبة ؛ كأنها تراقب العذاب ، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها «رقوب» ؛ لأجل مراقبة موت ولدها.

قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) عطف على صلة «من» ، وهي : «آمن ، وآتى» وإنما قدم الإيمان ، لأنه رأس الأعمال الدينيّة ، وثنّى بإيتاء المال ؛ لأنه أجلّ شيء عند العرب ، وبه يمتدحون ، ويفتخرون بفكّ العاني ، وقرى الضّيفان ، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.

قوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ...) في رفعه ثلاثة أوجه :

أحدها : ذكره الزمخشري : أنه عطف على «من آمن» ، أي : ولكنّ البرّ المؤمنون والموفون.

والثاني : أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الموفون ، وعلى هذين الوجهين : فنصب الصابرين على المدح ؛ بإضمار فعل ، وهو في المعنى عطف على «من آمن» ، ولكن لما تكرّرت الصّفات ، خولف بين وجوه الإعراب.

قال الفارسيّ : وهو أبلغ ؛ لأن الكلام يصير مشتملا على جمل متعددة ، بخلاف اتّفاق الإعراب ؛ فإنه يكون جملة واحدة ، وليس فيها من المبالغة ما في الجمل المتعدّدة.

وقال أبو عبيدة : ومن شأن العرب ، إذا طال الكلام : أن يغيّروا الإعراب والنّسق ؛ كقوله تعالى في سورة النساء : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء : ١٦٢] وفي المائدة : (وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] وقال الفرّاء : إنما رفع «الموفون» ، ونصب «الصّابرين» ؛

٢٠٩

لطول الكلام بالمدح ، والعرب تنصب الكلام على المدح والذّمّ ، إذا طال الكلام في الشّيء الواحد ، وقالوا فيمن قرأ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد : ٣] بنصب «حمّالة» : إنه نصب على الذّمّ.

فإن قيل : لم لا يجوز على هذين الوجهين : أن يكون معطوفا على ذوي القربى ، أي : وآتى المال الصابرين ، قيل : لئلّا يلزم من ذلك محذور ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصّلة بأجنبيّ ، وهو «الموفون» ، فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة ؛ كقوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف: ٣٠] ثم قال «أولئك» ففصل بين المبتدأ والخبر.

قلنا : لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصّلة.

الثالث : أن يكون «الموفون» عطفا على الضّمير المستتر في «آمن» ولم يحتج إلى التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل ، لأنّ طول الكلام أغنى عن ذلك ؛ وعلى هذا الوجه : يجوز في «الصّابرين» وجهان :

أحدهما : النّصيب ؛ بإضمار فعل ؛ لما تقدّم ، قال الخليل (١) : المدح والذمّ ينصبان على معنى «أعني الظريف» وأنكر الفراء ذلك لوجهين :

أحدهما : أنّ «أعني» إنما يقع تفسيرا للمجهول ، والمدح يأتي بعد المعروف.

الثاني : أنه لو صحّ ما قاله الخليل ، لصحّ أن يقال : «قام زيد أخاك» ؛ على معنى «أعني أخاك» ، وهذا مما لم تقله العرب أصلا.

والثاني : العطف على ذوي القربى ، ولا يمنع من ذلك ما تقدّم من الفصل بالأجنبيّ ، لأن «الموفون» على هذا الوجه داخل في الصّلة ، فهو بعضها لا أجنبيّ منها.

قوله «إذا عاهدوا» إذا منصوب ب «الموفون» ، أي : الموفون وقت العهد ، من غير تأخير الوفاء عن وقته ، وقرأ الجحدريّ : «بعهودهم».

فصل في معنى قوله «بعهدهم»

في هذا العهد قولان :

أحدهما : هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان ، والقيام بحدوده ، والعمل بطاعته ؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب : أنّهم نقضوا العهود والمواثيق ، فجحدوا أنبياءه ، وقتلوهم ، وكذّبوا بكتابه. واعترض القاضي (٢) على هذا القول ، وقال : إنّ قوله تبارك وتعالى : (الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) صريح في إضافة العهد

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٧.

٢١٠

إليهم ، ثم إنه تعالى أكّد ذلك بقوله : «إذا عاهدوا» ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى.

وأجيب : بأنه تعالى ، وإن ألزمهم هذه الأشياء ، لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام ، والتزموه ، فصحّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه (١).

القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلّف ابتداء من عند نفسه.

واعلم أنّ هذا العهد إمّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى ؛ كاليمين والنّذر ، وما أشبهه ، أو بينه وبين رسول الله ؛ كالبيعة ؛ من القيام بالنّصرة والمجاهدة ، والمظاهرة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، أو بينه وبين النّاس ، وقد يكون ذلك واجبا ؛ مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التّسليم والتّسلّم ، والشرائط التي يلتزمها في السّلم ، والرّهن (٢) وغيره ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٧.

(٢) الرّهن يطلق لغة على العين المرهونة. قال ابن سيدة : الرّهن ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه ؛ يقال : رهنت فلانا رهنا وارتهنته : إذا أخذه رهنا ، والرهينة والرهن واحدة الرهائن ، والهاء للمبالغة ؛ كالتشيمة والشتم ، ثم استعملا في معنى المرهون ؛ فقيل : هو رهن بكذا ، أو رهينة بكذا ، وفي الحديث : «كل غلام رهينة بعقيقته» ومعناه : أن العقيقة لازمة له لا بد منها ، فشبهه في لزومها ، وعدم انفكاكه منها ، بالرّهن في يد المرتهن. قال الخطابي : تكلّم الناس في هذا ، وأجود ما قيل فيه : ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال : هذا في الشفاعة ، يريد : أنه إذا لم يعقّ عنه ، فمات طفلا ـ لم يشفع في والديه ، أي : إن كل غلام محبوس ومرهون عن الشفاعة ؛ بسبب ترك العقيقة عنه. وقيل : معناه أنه مرهون بأذى شعره ؛ واستدلّوا بقوله : «فأميطوا عنه الأذى» وهو ما علق به من دم الرحم ، ورهن الشيء يرهنه رهنا ، ورهن عنده كلاهما : جعله عنده رهنا ، ورهنه عنه : جعله رهنا بدلا منه قال الشاعر : ارهن بنيك عنهم أرهن بنيّ ، أي : أرهن أنا بنيّ كما فعلت أنت ، ويطلق على الدّوام والحبس ، قال ابن عرفة : الرّهن في كلام العرب هو الشيء الملزم ؛ يقال : هذا راهن لك ، أي : دائم محبوس عليك ، وقوله تعالى : كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي : محتبس بعمله ورهينة محبوسة بكسبها ، وحديث : «نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه» أي : محبوسة عن مقامها الكريم ؛ قال الشاعر :

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

شبّه لزوم قلبه لها ، واحتباسه عندها لشدة وجده بها ـ بالرهن الذي يلزمه المرتهن ، فيبقيه عنده ولا يفارقه ، وكلّ شيء ثبت ودام ـ فقد رهن ، ورهن لك الشيء : أقام ودام ، وطعام راهن : مقيم ؛ قال :

الخبز واللحم لهم راهن

وقهوة راووقها ساكب

وأنشد الأعشى يصف قوما يشربون خمرا لا تنقطع :

لا يستفيقون منها وهي راهنة

إلا بهات وإن علّوا وإن نهلوا

ورهن الشيء رهنا : دام وثبت ، وراهنة في البيت : ثابتة ، ورهين والرهن اسمان ؛ قال أبو ذؤيب :

عرفت الديار لأم الرهي

ن بين الظباء فوادي عشر

ويطلق على الكفالة : أنا لك رهن بالرّي وغيره ، أي : كفيل ؛ قال :

إنّي ودلوي لها وصاحبي

وحوضها الأفيح ذا النصائب

رهن لك بالري غير الكاذب ـ

٢١١

وقد يكون مندوبا ؛ مثل : الوفاء بالعهد في بذل المال ، والإخلاص في المناصرة.

فقوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) يتناول كل هذه الأقسام ؛ فلا تقتصر الآية على بعضها ، وهذا هو الذي عبر عنه المفسّرون ، فقالوا : هم الذين إذا وعدوا ، إنجزوا ، وإذا حلفوا ونذروا ، وفّوا ، وإذا قالوا ، صدقوا ، وإذا ائتمنوا ، أدّوا.

فصل في بلاغة قوله «والموفون» دون «وأوفى»

قال الرّاغب : وإنّما لم يقل «وأوفى» ؛ كما قال «وأقام» ؛ لأمرين :

أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصّلة ، متى طالت ، كان الأحسن أن يعطف على الموصول ، دون الصلة ؛ لئلّا يطول ويقبح.

والثاني : أنّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيّز الشريعة ، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليّة تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر وفاء العهد ، وهو مما تقضي به العقول المجرّدة ، صار عطفه على الأوّل أحسن ، ولما كان الصّبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه : جامعا للفضائل ؛ إذ لا فضيلة إلا وللصّبر فيها أثر بليغ ـ غيّر إعرابه تنبيها على هذا المقصد ؛ وهذا كلام حسن.

وحكى الزّمخشريّ (١) قراءة «والموفين» ، «والصّابرين» وقرأ الحسن (٢) ، والأعمش ، ويعقوب : «والموفون» ، «والصّابرون».

__________________

ـ وأنشد الأزهري : أنا كفيلك رهن بالرضا ، أي : أنا كفيل لك «ويدي لك رهن» يريدون به : الكفالة ؛ وأنشد ابن الأعرابي :

والمرء مرهون فمن لا يخترم

بعاجل الحتف بعاجل بالهرم

فتبين مما ذكر ملخّصا من كتب اللغة والفقه : أن الرهن يطلق على العين المرهونة ، وعلى الحبس ، والاحتباس ، والدوام ، والكفالة ، وقد استعمله الفقهاء في العقد المخصوص ، وهو مناسب للمعاني جميعها ؛ إذ المرهون محبوس أو محتبس بدين المرتهن ، ودائم تحت يده ؛ ليستوفي منه ، وكفيل بدينه.

وقد عرّفه الفقهاء تعاريف مختلفة باختلاف المذاهب :

فعرّفه الحنفية بأنه : جعل الشيء محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن ؛ كالدّيون.

وعرّفه الشافعية بأنه : جعل عين مال متمولة وثيقة بدين ؛ ليستوفى منها عند تعذّر وفائه.

وعرّفه المالكية بأنه : مال قبضه توثّقا به في دين.

وعرفه الحنابلة بأنه : المال الذي يجعله وثيقة بالدين ؛ ليستوفى من ثمنه إن تعذّر استيفاؤه من ذمّة الغريم.

ينظر : لسان العرب : ٣ / ١٧٥٧ ـ ١٧٥٨ ، المصباح المنير : ١ / ٣٣٠ ، الصحاح : ٥ / ٢١٢٨ ، المغرب: ١ / ٣٥٦ ، تكملة فتح القدير : ١ / ١٣٥ ، مجمع الأنهر : ٢ / ٥٨٤ ، حاشية الشرقاوي على شرح التحرير : ٢ / ١٠٩ ، مغني المحتاج : ٢ / ١٢١ ، حاشية الدسوقي : ٣ / ٢٣١ ، أسهل المدارك : ٢ / ٢٦٦ ، الإقناع في فقه الحنابلة : ٢ / ١٥٠ ، المغني لابن قدامة : ٤ / ٣٦١.

(١) انظر : الكشاف ١ / ٢٢٠ ، ونسبها ابن عطية ١ / ٢٤٤ إلى مصحف عبد الله بن مسعود ، وانظر : البحر المحيط ٢ / ٩ ، والدر المصون ١ / ٤٤٩.

(٢) انظر : الشواذ ١١ ، والمحرر الوجيز ١ / ٢٤٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٠ ، والدر المصون ١ / ٤٤٩.

٢١٢

فصل في الأحكام المستفادة من الآية

قال القرطبيّ (١) : تضمّنت هذه الآية الكريمة ستّ عشرة قاعدة من أمّهات الأحكام :

الإيمان بالله وبأسمائه ، وصفاته ، والحشر ، والنشر ، والصراط ، والحوض ، والشّفاعة ، والجنة ، والنار ، والملائكة ، والرّسل ، والكتب المنزلة ، وأنّها حقّ من عند الله ؛ كما تقدم ، والنّبيين ، وإنفاق المال فيما يعنّ له من الواجب ، والمندوب ، وإيصال القرابة ، وترك قطعهم ، وتفقّد اليتيم ، وعدم إهماله المساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل ، وهو : المسافر المنقطع به ، وقيل : الضعيف ، والسّؤّال ، وفكّ الرقاب ، والمحافظة على الصّلوات ، وإيتاء الزّكاة ، والوفاء بالعهود ، والصّبر في الشّدائد ، وكلّ قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.

وقوله (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) : قال ابن عبّاس : يريد الفقر بقوله : «البأساء» ، والمرض بقوله : «والضّرّاء» ، وفيهما قولان :

أحدهما : وهو المشهور أنّهما اسمان مشتقّان من البؤس والضّرّ وألفهما للتأنيث ، فهما اسمان على «فعلاء» ولا «أفعل» لهما ؛ لأنّهما ليسا بنعتين.

والثاني : أنهما وصفان قائمان مقام موصوف ، والبؤس ، والبأساء : الفقر ؛ يقال : بئس يبأس ، إذا افتقر ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٩١٧ ـ ولم يك في بؤس إذا بات ليلة

يناغي غزالا ساجي الطّرف أكحلا (٢)

قوله : (وَحِينَ الْبَأْسِ) منصوب ب الصّابرين ، [أي] : الذين صبروا وقت الشّدّة ، والبأس : شدّة القتال خاصّة ، بؤس الرّجل ، أي : شجع. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد القتال في سبيل الله ، وأصل البأس في اللغة : الشّدّة ؛ يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي : لا شدّة و (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥] أي : شديد ، ثم يسمّى الحرب بأسا ، لما فيه من الشّدّة ، والعذاب يسمّى بأسا ؛ لشدّته ، قال تبارك وتعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤] (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) [الأنبياء : ١٢] (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩].

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) مبتدأ وخبر ، وأتى بخبر «أولئك» الأولى موصولا بصلة ، وهي فعل ماض ؛ لتحقّق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم ، واستقرّ ، وأتى بخبر الثانية بموصول صلته اسم فاعل ، ليدلّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدّدا ، بل صار كالسّجيّة لهم ، وأيضا : فلو أتى به فعلا ماضيا ، لما حسن وقوعه فاصلة.

قال الواحديّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ : إن الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع ،

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٦٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ١ / ٦٧١ والدر المصون ١ / ٤٥٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٠.

٢١٣

فمن شرائط البرّ ، وتمام شرط البارّ : أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحد منها ، لم يستحقّ الوصف بالبرّ ؛ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبرّ ، وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائما بالبرّ إلّا عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم (١) : هذه الصفة خاصّة للأنبياء ؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلّها.

وقال آخرون : هي عامّة في جميع المؤمنين (٢) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)

قوله «في القتلى» ، أي : بسبب القتلى و «في» تكون للسّببية ؛ كقوله ـ عليه‌السلام ـ «إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة» ، أي : بسببها ، و «فعلى» يطّرد أن يكون جمعا لفعيل ، بمعنى مفعول ، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) [البقرة : ٨٥].

فصل في بيان سبب النزول

في سبب النزول وجوه :

أحدها : إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة ، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، والعرب تارة كانوا يوجبون القتل ، وتازة يوجبون الدّية ، لكنّهم كانوا يظهرون التعدّي ، فأما القتل ؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين : أحدهما أشرف من الأخرى ، فكان الأشراف يقولون : «لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرّجل منهم ، وبالرّجل منّا الرّجلين منهم» وربما زادوا على ذلك ، وينكحون نساءهم بغير مهور ؛ قاله سعيد بن جبير (٣).

يروى أن واحدا من الأشراف قتل له ولد ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، فقالوا له : ما تريد؟ فقال : إحدى ثلاث ، فقالوا : ما هي؟ قال : إما تحيون لي ولدي ، أو تملئون داري من نجوم السّماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم ؛ حتّى أقتلهم ، ثم لا أرى أنّي أخذت عوضا(٤).

وأمّا أمر الدّية ، فربّما جعلوا دية الشّريف أضعاف دية الخسيس ، فلما بعث الله

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ٤٠.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ٤٠.

(٣) أخرجه بلفظ قريب منه ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن سعيد بن جبير كما في «الدر المنثور» للسيوطي (١ / ٣١٦).

(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ٤٠).

٢١٤

تعالى محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب رعاية العدل ، وسوّى بين عباده في حكم القصاص ، وأنزل الله هذه الآية.

الوجه الثاني : قال السّدّيّ : إن قريظة والنّضير كانوا مع تديّنهم بالكتاب ، سلكوا طريقة العرب ، فنزلت الآية.

الوجه الثالث : نزلت في واقعة قتل حمزة (١) ـ رضي الله عنه ـ.

الوجه الرابع : روى محمّد بن جرير الطبريّ ، عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، وعن الحسن البصريّ : أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحرّين والعبدين والأنثيين في القصاص ، فأما إذا كان القاتل للعبد حرّا ، أو للحرّ عبدا ، فإنه يجب مع القصاص التراجع ، وأما حرّ قتل عبدا ، فهو قوده ، فإن شاء أولياء العبد أن يقتلوا الحرّ ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقيّة ديته ، وإن قتل عبد حرا ، فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحرّ ، قتلوا العبد ، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحرّ ، وأدّوا بعد ذلك إلى أولياء الحرّ بقيّة ديته ، وإن شاءوا أخذوا كلّ الدية ، وتركوا كل العبد ، وإن قتل رجل امرأة ، فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة ، قتلوه ، وأدّوا نصف الدية ، وإن شاءوا ، أعطوا كلّ الدية ، وتركوها ، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرّين ، [والعبدين والأنثيين ، والذكرين ، فأما عند اختلاف الجنس ، فالاكتفاء غير مشروع فيه].

فصل في اشتقاق كلمة «القصاص»

و «القصاص» : مصدر قاصّه يقاصّه قصاصا ، ومقاصّة ؛ نحو : قاتلته قتالا ، ومقاتلة ، وأصله من : قصصت الشيء ، اتّبعت أثره ؛ لأنّه اتباع دم المقتول.

قال تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [الكهف : ٦٤] ، (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [القصص : ١١] ، أي : اتبعي أثره ، وسمّيت القصّة قصّة ؛ لتتبّع الخبر المحكيّ ، والقصص تتبّع أخبار النّاس ، وسمّي المقصّ مقصّا ؛ لتعادل جانبيه ، هذا أصل المادّة.

فمعنى القصاص : تتبّع الدم بالقود ، ومنه التقصيص ، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه ، والقصّ أيضا : الجصّ ، ومنه «نهيه ـ عليه‌السلام ـ عن تقصيص القبور» أي : تجصيصها.

فصل

روى البخاريّ ، والنّسائيّ ، والدّار قطنيّ ، عن ابن عبّاس ، قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدّية ، فقال الله لهذه الأمّة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤١.

٢١٥

بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ)(١) [البقرة : ١٧٨].

والعفو : أن يقبل الدية في العبد : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) تتبع بالمعروف ، وتؤدي بإحسان ، «ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة» مما كتب على من كان قبلكم ، (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ ، فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) فمن قتل بعد قبول الدّية ، هذا لفظ البخاريّ.

وقال الشّعبيّ في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قال : نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلا قتال عمية ، فقالوا : نقتل بعبدنا فلان ، ابن فلان ، وبأمتنا فلانة بنت فلان ، ونحوه عن قتادة (٢).

فصل في المراد بقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ)

قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) : معناه : «فرض عليكم» ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين :

أحدهما : أن قوله كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب. قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] وقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠] وقد كانت الوصية واجبة ، ومنه الصلوات المكتوبات أي : المفروضات قال عليه‌السلام «ثلاث كتبت عليّ ولم تكتب عليكم».

والثاني : لفظة «عليكم» مشعرة بالوجوب ؛ لقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

والقصاص : أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ، فهو عبارة عن التّسوية ، والمماثلة في الجراحات ، والدّيات.

وقيل «كتب» هنا إخبار عمّا كتب في اللّوح المحفوظ ، وقوله «في القتلى» ، أي : بسبب القتلى ، كما تقدّم ؛ فدلّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى ، إلّا أنّهم أجمعوا على أنّ غير القاتل خارج عن هذا الفارق ، أمّا القاتل ، فقد دخله التخصيص أيضا في صور كثيرة ؛ وهي ما إذا قتل الوالد ولده ، والسّيّد عبده ، وفيما إذا قتل مسلم مسلما خطأ ، إلّا أنّ العامّ إذا دخله التخصيص ، يبقى حجّة فيما عداه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٥٢) كتاب التفسير باب سورة البقرة (٤٤٩٨) والنسائي (٨ / ٣٧) رقم (٤٧٨١) والبيهقي (٨ / ٥١) والطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٧٣) وعبد الرزاق في «تفسيره» ص ١٦ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣١٧) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس موقوفا.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٥٩) عن الشعبي ، وزاد نسبته السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣١٦) لعبد بن حميد.

٢١٦

فإن قيل : قولكم : هذه الآية تقتضي وجوب القصاص ، فيه إشكالان :

الإشكال الأول : لو وجب القصاص ، لوجب إمّا على القاتل ، أو على وليّ الدّم ، أو على ثالث ، والأقسام الثلاثة باطلة ؛ لأنّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وأمّا وليّ الدم ، فلا يجب عليه ؛ لأنّ وليّ الدم يخيّر في الفعل ، والتّرك ، بل هو مندوب إلى التّرك ؛ كقوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وأمّا الثالث : فإنه أجنبيّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلّق له به.

الثاني : أنّا بيّنا أن القصاص عبارة عن التّسوية (١) ، وكان مفهوم الآية إيجاب التّسوية ؛ وعلى هذا التقدير : لا تكون الآية دالّة على إيجاب القتل ألبتّة ، بل تدلّ على وجوب رعاية التّسوية في القتل الذي يكون مشروعا بسبب القتل.

__________________

(١) اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص ، واختلفت أنظار المفكّرين في جوازه أو عدمه ، وأخذ كلّ يدافع عن فكرته ، ويحاجج عن رأيه ؛ حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة ، وقالوا إنها غير صالحة لهذا الزمن ، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن ، مهما بلغوا في الرّقي وتقدّموا في الحضارة.

كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام ، ولكن للاعتداء فيها يده المتنمرة ، وللإسراف فيها ضرره البالغ ، فحدّ الإسلام من غلوائها ، وقصر من غلوائها ، ومنع الإسراف فيها ؛ فقال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) فلم يبح دم من لم يشترك في القتل ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

وقال عزّ من قائل : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) الآية ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس ، وترك للجماعة الرّاقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني ؛ فقال : «فمن تصدق به فهو كفّارة له» على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث ، وعركوا الأمور ، ودرسوا طبائع النفوس البشرية ونزعاتها وغرائزها قد هداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة لإنتاج الغاية المقصودة ؛ وهي إقرار الأمن ، وطمأنينة النفوس ، ودرء العدوان والبغي ، وإنقاذ كثيرين من الهلاك ؛ قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

وقد فهم أولو الألباب هذه الحكم البالغة ، وقدّروها حق قدرها ، وها نحن أولاء نرى اليوم أنّ الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها ؛ لما رأت في ذلك من المصلحة.

وأمكننا الآن أن نقول : إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.

أما القصاص في غير القتل ممّا ورد في الآية الكريمة : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) فهو في غاية الحكم والعدالة ؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك ، لاعتدى القويّ على الضعيف ، وشوه خلقته ، وفعل به ما أمكنته الفرصة ، لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله أو شرّا يصيبه ، ولو اقتصر الأمر على الدّيان كما هو الحال في القوانين الوضعية ـ لكان سهلا على الباغي ، يسيرا على الجاني ، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله ، في سبيل تعجيز عدوّه وتشويهه ، ما دامت القوة في يده ، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسّوء من أعضاء عدوّه سيصيب أعضاءه مثله كذلك ـ انكمش وارتدع وسلموا جميعا من الشر.

٢١٧

والجواب عن الأول من وجهين :

أحدهما : أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام ، ومن يجري مجراه ؛ لأنّ متى حصلت شرائط وجوب القود ، فإنّه لا يحلّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمّة ، كتب عليكم استيفاء القصاص ، إن أراد وليّ الدّم استيفاءه.

والثاني : أنه خطاب مع القاتل ، والتقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الوليّ بالقصاص ؛ وذلك لأنّ القاتل ليس له أن يمتنع ؛ خلاف الزّاني والسارق ، فإنّ لهما الهرب من الحدود ، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله ، فلا يعرفان ، والفرق بينهما : أن ذلك حقّ لآدميّ.

والجواب عن الثاني : أن ظاهر الآية يقتضي التّسوية في القتل ، والتّسوية في القتل صفة القتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذّات ، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه.

قوله «الحرّ بالحرّ» مبتدأ وخبر ، والتقدير : الحرّ مأخوذ بالحرّ ، أو مقتول بالحرّ ، فتقدّر كونا خاصّا ، حذف ؛ لدلالة الكلام عليه ؛ فإنّ الباء فيه للسّبب ، ولا يجوز أن تقدّر كونا مطلقا ؛ إذ لا فائدة فيه ، لو قلت : «الحرّ كائن بالحرّ» إلّا أن تقدّر مضافا ، أي : قتل الحرّ كائن بالحرّ ، وأجاز أبو حيان : أن يكون الحرّ مرفوعا بفعل محذوف ، تقديره : «يقتل الحرّ بالحرّ» ؛ يدلّ عليه قوله تعالى : (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى؛) فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدّر ، وفيه بعد ، والحر وصف ، و «فعل» الوصف ، جمعه على «أفعال» لا يقاس ، قالوا : حرّ وأحرار ، ومرّ وأمرار ، والمؤنّثة حرّة ، وجمعها على «حرائر» محفوظ أيضا ، يقال : «حرّ الغلام يحرّ حرّيّة».

فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر

قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فيه قولان :

الأول : أنّها تقتضي ألّا يكون القصاص مشروعا إلّا بين الحرّين ، وبين العبدين ، وبين الأنثين.

واحتجّ عليه بوجوه :

الأول : أن الألف واللام في «الحرّ» تفيد العموم ؛ فقوله : «الحرّ بالحرّ» يفيد أن يقتل كلّ حرّ بالحر ، فلو كان قتل حرّ بعبد مشروعا ، لكان ذلك الحرّ مقتولا بغير حرّ ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلّ حرّ مقتولا بالحرّ.

الثاني : أن «الباء» من حروف الجرّ ، فتتعلّق بفعل ، فيكون التقدير : يقتل بالحر ، والمبتدأ لا يكون أعمّ من الخبر ، بل إمّا مساويا له ، أو أخصّ منه ، وعلى هذا التقدير ، فهذا يقتضي أن يكون كلّ حرّ مقتولا بالحرّ ، وذلك ينافي كلّ حرّ مقتولا بالعبد.

٢١٨

الثالث : أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة ، وهو قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ..) ، فلما ذكر عقيبه قوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، دلّ على أن رعاية التّسوية في الحرّيّة والعبوديّة معتبرة ؛ لأن قوله : «الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد» خرج مخرج التّفسير لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، فإيجاب القصاص على الحرّ بقتل العبد إهمال لرعاية التّسوية ؛ فوجب ألّا يكون مشروعا ؛ ويؤيّد ما ذكرنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل حرّ بعبد ، ولا مؤمن بكافر» (١) ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : هذه الآية شرع من قبلنا وليس شرعا لنا ، والآية التي نحن فيها شرعنا ، فهذا أقوى في الدّلالة.

والثاني : أن هذه الآية الكريمة مشتملة على أحكام النّفوس على التفصيل والتّخصيص ، وتلك عامّة ، والخاصّ متقدّم على العامّ ، ثم قال أصحاب هذا القول إنّ ظاهر الآية يقتضي ألّا يقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثى بالذّكر ، إلّا إذا خالفنا هذا الظاهر ؛ للإجماع وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية الكريمة ، وذلك المعنى غير موجود في الحرّ بالعبد ؛ فوجب أن يبقى هاهنا على ظاهر اللّفظ ، أمّا الإجماع فظاهر ، وأمّا المعنى المستنبط ، فهو أنه لمّا قتل العبد بالعبد ، فلأن يقتل بالحرّ الذي هو فوقه أولى ، بخلاف الحر ، فإنّه لمّا قتل بالحرّ ، لا يلزم : أن يقتل بالعبد الّذي هو دونه ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذّكر ، وأمّا قتل الذّكر بالأنثى ، فليس فيه إلّا الإجماع.

القول الثاني : أنّ قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) لا يفيد الحصر ، بل يفيد شرع القصاص بين الذّكور من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ؛ واحتجّوا عليه بوجهين :

الأول : أنّ قوله : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) يقتضي قصاص المرأة الحرّة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ..) مانعا من ذلك ، لوقع التناقض.

الثاني : أنّ قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ..) جملة تامّة مستقلّة بنفسها.

وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) تخصيص لبعض الجزئيّات بالذّكر ، وتخصيص بعض الجزئيّات بالذّكر لا يمنع من ثبوت الحكم ؛ كسائر الجزئيّات ، وذلك التخصيص يمكن أن يكون لفائدة سوى نفي الحكم عن سائر الصّور ، ثم اختلفوا في تلك الفائدة ، فذكروا فيها وجهين :

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ٦٦٦ ـ ٦٦٧) كتاب الدّيات : باب إيقاد المسلم بالكافر حديث (٤٥٣٠) والنسائي (٨ / ١٩) كتاب القسامة : باب القود بين الأحرار والحاكم (٢ / ١٤١) وأحمد (١ / ١١٩) من حديث علي بن أبي طالب بلفظ : المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده.

٢١٩

الأول : وعليه الأكثرون : أنّ فائدته إبطال ما كان عليه الجاهليّة من أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحرّ من قبيل القاتل ، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك ، وللقائلين بالقول الأوّل : أن يقولوا : قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) يمنع من جواز قتل الحرّ بالعبد ، لأنّ القصاص عبارة عن المساواة ، وقتل الحرّ بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة ، لأنّه زائد عليه في الشّرف ، وفي أهليّة القضاء ، والإمامة ، والشهادة ؛ فوجب ألّا يشرع ، أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النّصّ في قتل العالم بالجاهل ، والشّريف بالخسيس بالإجماع إلّا أنّه يبقى في غير محلّ الإجماع على الأصل ، ثم إن سلّمنا أنّ قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ..) يوجب قتل الحر بالعبد ، إلّا أنّا بينّا أنّ قوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) يمنع من جواز قتل الحرّ بالعبد ؛ لأنّ هذا خاصّ ، وما قبله عامّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ ، ولا سيّما إذا كان الخاصّ متّصلا بالعامّ في اللّفظ ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناء ، ولا شكّ في وجوب تقديمه على العامّ.

الوجه الثاني من بيان فائدة التّخصيص : نقله محمّد بن جرير ، عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ والحسن البصريّ : أنّ هذه الصّور هي التي يكتفي فيها بالقصاص ، وفي باقي الصّور ، أعني : القصاص بين الحرّ والعبد ، وبين الذّكر والأنثى ، لا يكتفي فيها بالقصاص ، بل لا بدّ من التراجع ، إلّا أنّ أكثر المحقّقين زعم أنّ هذا النّقل لم يصحّ عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ وهو أيضا ضعيف عند النّظر لأنّه قد ثبت أنّ الجماعة تقتل بالواحد ، ولا تراجع ، فكذلك يقتل الذّكر بالأنثى ، ولا تراجع.

قوله (فَمَنْ عُفِيَ) يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطيّة.

والثاني : أن تكون موصولة ، وعلى كلا التقديرين ، فموضعها رفع بالابتداء ؛ وعلى الأوّل : يكون «عفي» في محلّ جزم بالشّرط ؛ وعلى الثّاني : لا محلّ له ، وتكون الفاء واجبة في قوله : «فاتّباع» على الأوّل ، ومحلّها وما بعدها الجزم وجائزة في الثّاني ، ومحلّها وما بعدها الرفع على الخبر ، والظاهر أنّ «من» هو القاتل ، والضمير في «له وأخيه» عائد على «من» و «شيء» هو القائم مقام الفاعل ، والمراد به المصدر ، وبني «عفي» للمفعول ، وإن كان قاصرا ؛ لأن القاصر يتعدّى للمصدر ؛ كقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ) [الحاقة : ١٣] ، والأخ هو المقتول ، أو وليّ الدم ، وسمّاه أخا للقاتل ؛ استعطافا عليه ، وهذا المصدر القائم مقام الفاعل المراد به الدّم المعفوّ عنه ، و «عفي» يتعدّى إلى الجاني ، وإلى الجناية ب «عن» ؛ تقول: «عفوت عن زيد ، وعفوت عن ذنب زيد» فإذا عدي إليهما معا ، تعدّى إلى الجاني ب «اللام» ، وإلى الجناية ب «عن» ؛ تقول «عفوت لزيد عن ذنبه» ، والآية من هذا الباب ، أي : «فمن عفي له عن جنايته» وقيل : «من» هو وليّ الدم أي من جعل له من دم أخيه بدل الدم ، وهو القصاص ، أو الدّية ،

٢٢٠