اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

احتجّ الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بأنّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكلّ ، ثم أباحها للمضطرّ الموصوف بأنّه غير باغ ، ولا عاد ، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة ؛ لأنّ قولنا : «فلان ليس بمتعدّ» نقيض لقولنا : «فلان متعدّ» ، وقولنا : «فلان متعدّ» يكفي في صدقه كونه متعدّيا لأمر من الأمور ، سواء كان في سفر ، أو أكل ، أو غيرهما ، وإذا صدق عليه اسم التعدّي بكونه متعدّيا في شيء من الأشياء فإن قولنا (غَيْرَ باغٍ ، وَلا عادٍ) لا يصدق إلّا إذا انتفى عنه صفة التعدّي من جميع الوجوه ، والعاصي بسفره متعدّ بسفره ، فلا يصدق عليه كونه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ، فيجب بقاؤه تحت التّحريم.

فإن قيل : يشكل بالعاصي في سفره ؛ فإنّه يترخّص مع أنّه موصوف بالعدوان.

والجواب : أنّه عامّ دخله التخصيص في هذه الصّورة ، ثم الفرق بينهما : أنّ الرخصة إعانة على السّفر ، فإذا كان السّفر معصية (١) ، كانت الرخصة إعانة على المعصية ، وإذا لم يكن السّفر معصية في نفسه ، لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية ، فافترقا.

فإن قيل : قوله تعالى (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) شرط ، والشرط بمنزلة الاستثناء ؛ في أنه لا يستقلّ بنفسه ، فلا بدّ من تعلّقه بمذكور ، ولا مذكور إلّا الأكل ؛ لأنّا بيّنّا أنّ قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) لا يصدق عليه إلّا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسّفر ضمنا (٢) ، ولا نقول : اللفظ يدلّ على التعيين (٣).

وأمّا تخصيصه بالأكل : فهو تخصيص من غير ضرورة ، ثمّ الذي يدلّ على أنّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوه :

أحدها : أنّ قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حال من الاضطرار ؛ فلا بدّ وأن يكون وصف الاضطرار باقيا ، مع بقاء كون : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حالا من الاضطرار ، فلو كان المراد بقوله : (غَيْرَ باغٍ ، وَلا عادٍ) كونه كذلك في الأكل ـ لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه ؛ لأنّه حال الأكل ، لا يبقى معه حال الاضطرار.

ثانيها : أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي ، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة.

وثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية ،

__________________

(١) في ب : قصيرا.

(٢) في ب : في السفر فمقتضاه أنا.

(٣) في ب : وإذا كان كذلك ؛ وجب أن يكون متعلقا بالأكل الذي هو في حكم المذكور ، لا بالسفر الذي هو غير مذكور فيه ، فالجواب هذا ضعيف ؛ لأنا بيّنّا أن قوله تعالى : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ.

١٨١

وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات ، فتخصيصه بالأكل غير جائز.

وثالثها : قوله تبارك وتعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣] ، فبيّن في هذه أن المضطرّ إنما يترخّص ، إذا لم يكن متجانفا لإثم ، وهذا يؤيّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألّا يكون موصوفا بالبغي والعدوان في أمر من الأمور.

احتجّ أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ، بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩].

وهذا مضطرّ ؛ فوجب أن يترخّص (١).

وثانيها : قوله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: ٢٩] ، (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، والامتناع من الأكل سبب في قتل النّفس ، وإلقاء بها إلى التهلكة ؛ فوجب أن يحرّم.

وثالثها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ رخّص للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاث أيّام ولياليهنّ ، ولم يفرق بين العاصي وغيره.

رابعها : أنّ العاصي بسفره ، إذا كان نائما ، فأشرف على غرق ، أو حرق ، يجب على الحاضر الّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه ، فلأن يجب عليه في هذه الصورة : أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى.

وخامسها : أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك ؛ من الحيوانات الصّائلة عليه ، والحيّة ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا.

سادسها : أنّ العاصي بسفره ، إذا اضطرّ ، فلو أباح له رجل شيئا من ماله ، فله أخذه ، بل يجب دفع الضّرر عن النّفس.

[سابعها : أنّ التوبة أعظم في الوجوب وما ذاك إلا لدفع ضرر النّار عن النّفس](٢) ، وهي أعظم من كلّ ما يدفع المؤمن من المضار عن نفسه ؛ فلذلك دفع ضرر الهلاك عن نفسه لهذا الأكل ، وإن كان عاصيا.

وثامنها : أنّ الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون رضاه ، بل على سبيل القهر ، وهذا التناول يحرم لو لا الاضطرار ، فكذا ههنا.

وأجيب عن التمسّك بالعمومات ؛ بأنّ دليلنا النّافي للترخّص أخصّ دلائلهم

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي.

(٢) سقط في ب.

١٨٢

المرخّصة والخاصّ متقدّم على العامّ ، وعن الوجوه القياسيّة بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه (١) الرخص بالتّوبة ، فإذا لم يتب ، فهو الجاني على نفسه ، ثم تعارض هذه الوجوه : بأنّ الرخصة إعانة على السّفر ، فإذا كان السّفر معصية ، كانت الرخصة إعانة على المعصية ، والمعصية ممنوع منها ، والإعانة سعي في تحصيلها ؛ فالجمع بينهما متناقض (٢).

فصل في اختلافهم في اختيار المضطرّين المحرّمات

اختلفوا في المضطرّ ، إذا وجد كلّ ما يضطرّ من المحرّمات.

فالأكثرون على أنّه مخيّر بين الكلّ ، ومنهم من قال : يتناول الميتة ، دون لحم الخنزير ويعد لحم الخنزير أعظم في التّحريم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤)

قال ابن عبّاس : نزلت في رؤوس اليهود : كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ، ومالك بن الصيف ، وحييّ بن أخطب ، وأبي ياسر بن أخطب ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعوث منهم ، فلما بعث محمّد عليه الصّلاة والسّلام من غيرهم خافوا انقطاع تلك المنافع ؛ فكتموا أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن غيّروا صفته ، ثم أخرجوها إليهم ، فإذا ظهرت السفلة على النّعت المغيّر ، وجدوه مخالفا لصفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يتبعونه ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية (٣).

قال القرطبيّ (٤) : ومعنى «أنزل» : أظهر ؛ كما قال تعالى : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] أي : سأظهر وقيل : هو على بابه من النّزول ، أي : ما أنزل به ملائكته على رسله.

قوله : «من الكتاب» : في محلّ نصب ، على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنّه العائد على الموصول ، تقديره : «أنزله الله» حال كونه «من الكتاب» فالعامل فيه «أنزل».

والثاني : أنه الموصول نفسه ، فالعامل في الحال «يكتمون».

قوله : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) : الضمير في «به» يحتمل أن يعود على «ما» الموصولة ، وأن يعود على الكتم المفهوم من قوله : «يكتمون» ، وأن يعود على الكتاب ، والأوّل أظهر ،

__________________

(١) في ب : تلك.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢١.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٣ ، البغوي ١ / ١٤١.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٥٧.

١٨٣

ويكون ذلك على حذف مضاف ، أي : «يشترون بكتم ما أنزل».

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ وقتادة والسّدّيّ ، والأصمّ وأبو مسلم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يكتمون صفة محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ونعته (١).

وقال الحسن : كتموا الأحكام ، وهو قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤].

فصل في حقيقة الكتمان

اختلفوا في كيفيّة الكتمان.

فروي عن ابن عبّاس أنّهم كانوا يحرّفون ظاهر التّوراة ، والإنجيل (٢).

قال المتكلّمون : وهذا ممتنع ؛ لأنّ التوراة والإنجيل كتابان ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدّ التواتر ؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما ، وإنّما كانوا يكتمون التأويل ، لأنّه قد كان منهم من يعرف الآيات الدالّة على نبوة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ، ويحرّفونها عن محاملها الصحيحة ، والدّالّة على نبوّة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهذا هو المراد من الكتمان ، فيصير المعنى : الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب.

(وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كقوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] لأنّه في نفسه قليل ولأنّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليل ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية ، ذكر الوعيد عليهم ؛ فقال : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

قال بعضهم : ذكر البطن هنا زيادة بيان ؛ كقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وقال بعضهم : بل فيه فائدة ؛ وقوله (فِي بُطُونِهِمْ) ، يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه.

فصل في أكلهم النّار في الدنيا أم في الآخرة

قال الحسن ، والرّبيع ، وجماعة من أهل العلم إنّ أكلهم في الدنيا وإن كان طيّبا في الحال ، فعاقبته النّار ؛ لأنّه أكل ما يوجب النار ؛ فكأنه أكل النّار ؛ كما روي في حديث الشّارب من آنية الذّهب والفضّة : «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم».

وقوله تبارك وتعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] أي : عنبا ؛ فهذا كلّه من تسمية الشيء بما يؤول إليه. وقال الأصمّ إنّهم في الآخرة يأكلون النّار ؛ لأكلهم في الدنيا الحرام(٣).

قوله : «إلّا النّار» استثناء مفرّغ ؛ لأنّ قبله عاملا يطلبه ، وهذا من مجاز الكلام ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٣.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٤.

١٨٤

جعل ما هو سبب للنّار نارا ؛ كقولهم : «أكل فلان الدّم» ، يريدون الدية الّتي بسببها الدّم ؛ قال القائل في ذلك : [الطويل]

٩٠٤ ـ فلو أنّ حبّا يقبل المال فدية

لسقنا إليه المال كالسّيل مفعما

ولكن أبى قوم أصيب أخوهم

رضا العار واختاروا على اللّبن الدّما (١)

وقال القائل : [الطويل]

٩٠٥ ـ أكلت دما إن لم أرعك بضرّة

بعيدة مهوى القرط طيّبة النّشر (٢)

وقال : [الرجز]

٩٠٦ ـ يأكلن كلّ ليلة إكافا

يريد : ثمن إكاف (٣).

وقوله : (فِي بُطُونِهِمْ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أن يتعلّق بقوله «يأكلون» فهو ظرف له ، قال أبو البقاء (٤) : وفيه حذف مضاف ، أي «طريق بطونهم» ولا حاجة إلى ما قاله من التّقدير.

والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ، على أنّه حال من النّار.

قال أبو البقاء (٥) : والأجود : أن تكون الحال هنا مقدّرة ؛ لأنّها وقت الأكل ليست في بطونهم. وإنّما تؤول إلى ذلك ، والتقدير : ثابتة وكائنة في بطونهم.

قال : ويلزم من هذا تقديم الحال على حرف الاستثناء.

وهو ضعيف ، إلّا أن يجعل المفعول محذوفا و «في بطونهم» حالا منه ، أو صفة له ، أي : في بطونهم شيئا ، يعني فيكون : «إلّا النّار» منصوبا على الاستثناء التّامّ ؛ لأنّه مستثنى من ذلك المحذوف إلّا أنّه قال بعد ذلك : وهذا الكلام من المعنى على المجاز وللإعراب حكم اللفظ.

والثالث : أن يكون صفة أو حالا من مفعول «كلوا» محذوفا ؛ كما تقدم تقديره.

قوله : في ذكر البطون تنبيه على أنّهم باعوا آخرتهم بدنياهم ، وهو حظّهم من المطعم الّذي لا خطر له ومعنى «إلّا النّار» ، أي : أنّه حرام يعذّبهم الله عليه ، فسمّى ما

__________________

(١) ينظر : الحماسة ١ / ١٢٥ ، البحر المحيط ١ / ٦٦٧ ، والدر المصون ١ / ٤٤٤.

(٢) البيت لعروة الرحال. ينظر الحماسة ٢ / ٤٦٣ ، الدر المصون ١ / ٤٤٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ١ / ٦٦٧ ، الدر المصون ١ / ٤٤٤.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٧٦.

(٥) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٧٦.

١٨٥

أكلوه من الرّشا نارا ؛ لأنّه يؤدّيهم إلى النار ، قاله أكثر المفسّرين (١).

وقيل : إنّه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النّار في جهنم حقيقة فأخبر عن المآل بالحال ؛ كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] ، أي عاقبتهم تئول إلى ذلك ، ومنه قول القائل : [الوافر]

٩٠٧ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب

 ..........(٢)

وقال القائل [المتقارب]

٩٠٨ ـ ..........

فللموت ما تلد الوالده (٣)

وقال آخر : [البسيط]

٩٠٩ ـ ..........

ودورنا لخراب الدّهر نبنيها (٤)

وهذه الآية تدلّ على تحريم الرّشوة على الباطل.

قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) ظاهره : أنّه لا يكلّمهم أصلا ، لكنه لما أورده مورد الوعيد ، فهم منه ما يجري مجرى العقوبة وذكروا فيه ثلاثة أوجه (٥) :

الأوّل : قد دلّ الدّليل على أنّه سبحانه وتعالى يكلّمهم ؛ وذلك قوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢].

وقوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] فعرفنا أنّه يسأل كلّ واحد من المكلّفين ، والسؤال لا يكون إلّا بكلام ، فقالوا : وجب أن يكون المراد من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلّمهم بتحيّة وسلام وخير ، وإنما يكلّمهم بما يعظم عندهم من الحسرة والغمّ ؛ من المناقشة والمساءلة كقوله تعالى (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].

الثاني : أنّه تبارك وتعالى لا يكلّمهم أصلا ، وأمّا قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى ، وإنّما كان عدم تكليمهم في معرض

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٥٨.

(٢) هذا صدر بيت لأبي العتاهية. ينظر ديوانه ٣٣ ، وللإمام علي بن أبي طالب في خزانة الأدب ٩ / ٥٢٩ ـ ٥٣١ ، والدر ٤ / ١٦٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٣ ، والجنى الداني ٩٨ ، والدر المصون ٣ / ٧٢.

(٣) هذا عجز بيت لنهيلة بن الحارث المازني أو لشييم بن خويلد ، وصدره : وإن يكن الموت أفناهم.

ينظر خزانة الأدب ٩ / ٥٣٠ ، ٥٣٣ ، ٥٣٤ ولشييم أو لسماك بن عمرو في لسان العرب (لوم) وينظر شرح شواهد المغني ٢ / ٥٧٢ ، ومغني اللبيب ١ / ٢١٤.

(٤) البيت لسابق البربري وصدره : أموالنا لذوي الميراث نجمعها.

ينظر : اللامات ص ١٢٠ ولسان العرب (لوم).

(٥) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٤.

١٨٦

التّهديد ؛ لأنّ [يوم القيامة هو اليوم الذي يكلّم الله تعالى فيه كلّ الخلائق بلا واسطة ، فيظهر](١) عند كلامه السّرور في أوليائه ، وضده في أعدائه ويتميّز أهل الجنّة بذلك ، من أهل النار. فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد.

الثالث : أن قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) استعارة عن الغضب ؛ لأنّ عادة الملوك أنّهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ، ولا يكلّمونه ؛ كما أنّهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث.

وقوله (وَلا يُزَكِّيهِمْ)(٢) فيه وجوه :

الأوّل : لا ينسبهم إلى التّزكية ، ولا يثني عليهم.

الثاني : لا يقبل أعمالهم ؛ كما يقبل أعمال الأولياء.

الثالث : لا ينزلهم منازل الأولياء.

وقيل : لا يصلح أعمالهم الخبيثة ، فيطهرهم.

قوله «ولهم عذاب أليم» ، اعلم : أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول ؛ كالجريح والقتيل ، بمعنى المجروح والمقتول ، وقد يكون بمعنى «المفعل» ؛ كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم.

واعلم أنّ العبرة بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السّبب ، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود ، لكنّها عامّة في حقّ كلّ من كتم شيئا من باب الدّين.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(١٧٦)

اعلم أنّ أحسن الأشياء في الدّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضّلال والجهل فلمّا تركوا الهدى في الدّنيا ، ورضوا بالضّلال والجهل ، فلا شكّ أنّهم في نهاية الخسارة في الدنيا ، وأمّا في الآخرة ، فأحسن (٣) الأشياء المغفرة ، وأخسرها العذاب ، فلمّا صرفوا المغفرة ، ورضوا بالعذاب ، فلا جرم : أنهم في نهاية الخسارة ، ومن كانت هذه صفته ، فهو أعظم النّاس خسارة في الدّنيا والآخرة.

قوله (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) في «ما» هذه خمسة أقوال :

أحدها : وهو قول سيبويه (٤) ، والجمهور : أنّها نكرة تامّة غير موصولة ، ولا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٤.

(٣) في ب : فأخسروا.

(٤) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٣٧.

١٨٧

موصوفة ، وأنّ معناها التعجّب ، فإذا قلت : «ما أحسن زيدا» ، فمعناه : شيء صيّر زيدا حسنا.

الثاني : قول الفراء (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ أنّها استفهاميّة صحبها معنى التعجّب ؛ نحو (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ).

قال عطاء ، والسّدّيّ : هو «ما» الاستفهام ، معناه : ما الّذي صبّرهم على النّار؟ وأيّ شيء صبّرهم على النّار ؛ حتى تركوا الحقّ ، واتبعوا الباطل (٢).

قال الحسن ، وقتادة : «والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على العمل الّذي يقرّبهم إلى النار» (٣) وهي لغة يمنية معروفة.

قال الفراء : أخبرني الكسائيّ قال : أخبرني قاضي «اليمن» أنّ خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما ، فحلف ، فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله؟ أي : ما أجرأك عليه (٤).

وحكى الزّجّاجّ : ما أبقاهم على النّار ، من قولهم : «ما أصبر فلانا على الحبس» ، أي : ما أبقاه فيه (٥).

والثالث : ويعزى للأخفش (٦) [أنّها موصولة.

الرابع : ويعزى له أيضا : أنها نكرة موصوفة وهي على الأقوال الأربعة في محلّ رفع بالابتداء ، وخبرها على القولين الأولين : الجملة الفعليّة بعدها ، وعلى قولي الأخفش](٧) : يكون الخبر محذوفا فإنّ الجملة بعدها إما أن تكون صلة ، أو صفة. وكذلك اختلفوا في أفعل الواقع بعدها ، أهو اسم؟ وهو قول الكوفيّن ، أم فعل؟ وهو الصحيح ، ويترتّب على هذا الخلاف خلاف في نصب الاسم بعده ، هل هو مفعول به ، أو مشبّه بالمفعول به ، ولكلّ من المذهبين دلائل ، واعتراضات وأجوبة ليس هذا موضعها.

والمراد بالتعجّب هنا ، وفي سائر القرآن : الإعلام بحالهم ؛ أنّها ينبغي أن يتعجّب منها ، وإلا فالتعجب مستحيل في حقّه تعالى ، ومعنى على النّار ، أي : على عمل أهل النار ، قاله الكسائيّ ، وهذا من مجاز الكلام.

الخامس : أنّها نافية ، أي : «فما أصبرهم الله على النّار». نقله أبو البقاء (٨).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٠٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٣١) عن قتادة ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٩).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٣٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٩) وزاد نسبته لسفيان ابن عيينة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في «الحلية».

(٤) ينظر : القرطبي ٢ / ١٥٩.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٥٩.

(٦) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ١٥٥.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٧٧.

١٨٨

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ:) اختلفوا في محلّ : «ذلك» من الإعراب : فقيل : رفع ، وقيل : نصب والقائلون بأنّه رفع ، اختلفوا على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه فاعل بفعل محذوف ، أي : وجب لهم ذلك.

الثاني : أن «ذلك» مبتدأ ، و «بأنّ الله» خبره ، أي : ذلك العذاب مستحقّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عذاب الكافر.

والثالث : أنّه خبر ، والمبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، والإشارة إلى العذاب. ومن قال بأنّه نصب ، قدّره : «فعلنا ذلك» [والباء متعلّقة بذلك المحذوف ، ومعناها السببية.

فصل في اختلافهم في الإشارة ب «ذلك»

اختلفوا في الإشارة بقوله «ذلك»](١) إلى ماذا؟ على قولين.

الأوّل : أنّه إشارة إلى ما تقدّم من الوعيد على الكتمان ، أي : إنّما كان لأنّ الله أنزل الكتاب بالحقّ في صفة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإنّ هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقّة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يخفونه ، ويوقعون التّهمة فيه ، فلا جرم ، استحقّوا ذلك الوعيد الشديد ، ثم تقدّم في الوعيد أمور :

أقربها : أنّهم اشتروا العذاب بالمغفرة.

ثانيها : اشتروا الضّلالة بالهدى.

ثالثها : أنّ لهم عذابا أليما.

رابعها : أنّ الله لا يزكّيهم.

خامسها : أنّ الله لا يكلّمهم.

فقوله : «ذلك» يصلح أن يكون إشارة إلى [كلّ واحد منها ، وأن يكون إشارة إلى المجموع.

والقول الثاني : أنّ ذلك إشارة إلى](٢) ما يفعلونه من جراءتهم على الله تعالى في مخالفتهم أمر الله ، وكتمانهم ما أنزل الله فبيّن تبارك وتعالى أنّ ذلك إنّما هو من أجل الكتاب بالحقّ وقد نزل فيه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون ، ولا ينقادون ، ولا يكون منهم إلّا الإصرار على الكفر ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٦ ـ ٧] وقوله : «بالحقّ» ، أي : بالصّدق ، وقيل : ببيان الحقّ ، والمراد من «الكتاب» : يحتمل أن يكون التّوراة ، والإنجيل ، ويحتمل أن يكون

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

١٨٩

القرآن ، فإن كان الأوّل ، كان المعنى وإن الّذين اختلفوا في تأويله ، وتحريفه ، لفي شقاق بعيد وإن كان الثّاني ، كان المعنى : وإن الذين اختلفوا في كونه حقّا منزّلا من عند الله تعالى لفي شقاق بعيد.

فصل في المراد باختلافهم

والمراد باختلافهم :

إن قلنا المراد ب «الكتاب» هو القرآن ، كان اختلافهم فيه : أنّ بعضهم قال : هو كهانة ، وقال آخرون هو سحر ، وآخرون قالوا : هو رجز ، ورابع قال هو أساطير الأوّلين وخامس قال : إنّه كلام مختلق. وإن قلنا : المراد ب «الكتاب» هو التوراة والإنجيل ، فالمراد باختلافهم يحتمل وجوها (١).

أحدها : اختلافهم في دلالة التّوراة على نبوّة المسيح (٢) ، فاليهود قالوا : إنّها دالّة على القدح في عيسى ؛ والنصارى قالوا : إنّها دالّة على نبوّته.

وثانيها : اختلافهم في الآيات الدالّة على نبوّة محمّد ـ عليه‌السلام ـ فذكر كلّ واحد منهم له تأويلا فاسدا.

وثالثها : قال أبو مسلم : قوله : «اختلفوا» من باب «افتعل» الذي يكون مكان «فعل» ، كما يقال كسب واكتّسب ، وعمل واعتمل ، وكتب واكتتب ، وفعل وافتعل ، ويكون معنى قوله (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) أي : توارثوه وصاروا خلفاء فيه ؛ كقوله تبارك وتعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) [الأعراف : ١٦٩] وقوله (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [يونس : ٦] أي : كل واحد منهما يأتي خلف الآخر ، [وقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ، أي كلّ واحد منهما يخلف الآخر](٣) ، وفي الآية الكريمة تأويلات ثلاث أخر.

أحدها : أن يكون المراد ب «الكتاب» جنس ما أنزل الله ، والمراد ب (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) الذين اختلف قولهم في الكتاب ، فقلبوا بعض كتب الله ، وهي التوراة والإنجيل ؛ لأجل عداوتك ، وهم فيما بينهم في شقاق بعيد ، ومنازعة شديدة ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتّفاقهم على العداوة (٤) ؛ فإنه ليس بينهم مؤالفة وموافقة.

وثانيها : كأنه تعالى يقول : هؤلاء ، وإن اختلفوا فيما بينهم ، فإنّهم كالمتفقين على عداوتك ، وغاية المشاقّة لك ، فلهذا خصّهم الله بذلك الوعيد.

وثالثها : أنّ هؤلاء الّذين اتّفقوا على أصل التّحريف ، فإن كلّ واحد منهم يكذّب

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٩.

(٢) في ب : عيس.

(٣) سقط في ب.

(٤) في ب : عليها.

١٩٠

صاحبه ، ويشاقّه ، وينازعه ، وإذا كان كذلك ، فقد عرفت كذبهم بقولهم ، فلا يكون قدحهم فيك قدحا ألبتّة.

قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(١٧٧)

قرأ الجمهور برفع «البرّ» وحمزة ، وحفص عن عاصم بنصبه ، فقراءة الجمهور على أنّه اسم «ليس» و «أن تولّوا» خبرها في تأويل مصدر ، أي : ليس البرّ توليتكم ، ورجّحت هذه القراءة من حيث إنّه ولي الفعل مرفوعة قبل منصوبه ، وأمّا قراءة (١) حمزة وحفص ف «البرّ» خبر مقدّم ، و «أن تولّوا» اسمها في تأويل مصدر ، ورجّحت هذه القراءة بأنّ المصدر المؤوّل أعرف من المحلّى بالألف واللام ؛ لأنّه يشبه الضّمير ، من حيث إنّه لا يوصف ؛ ولا يوصف به ، والأعرف ينبغي أن يجعل الاسم وغير الأعرف الخبر ؛ وتقديم خبر «ليس» على اسمها قليل ؛ حتى زعم منعه جماعة [منهم ابن درستويه (٢) ، قال : لأنّها تشبه «ما» المجازيّة ولأنّها حرف على قول جماعة ، لكنه](٣) محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبقول الشاعر [الطويل]

٩١٠ ـ سلي إن جهلت النّاس عنّا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول (٤)

وقال آخر : [الطويل]

٩١١ ـ أليس عظيما أن تلمّ ملمّة

وليس علينا في الخطوب معوّل (٥)

وفي مصحف أبيّ (٦) ، وعبد الله «بأن تولّوا» بزيادة الباء ، وهي واضحة ؛ فإن الباء تزاد في خبر «ليس» كثيرا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤ ، والدر المصون ١ / ٤٤٦.

(٢) عبد الله بن جعفر بن درستويه ـ بضم الدال والراء ـ وضبطه ابن ماكولا بالفتح. صنف الإرشاد في النحو وشرح الفصيح توفي سنة ٣٤٧ ه‍. ينظر البغية ٢ / ٣٦.

(٣) سقط في ب.

(٤) البيت للسموأل ينظر ديوانه ص ٩٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٣١ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٢٣ ، وله أو للجلاح الحارثي في تخليص الشواهد ص ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٧٦ ، والأشموني ١ / ١٢ ، وشرح ابن عقيل ص ١٤٠ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٢٠٤ ، وشرح قطر الندى ص ١٣٠ ، والدر المصون ١ / ٤٤٦.

(٥) البيت لعروة بن الورد ينظر : ديوانه (١٣١). وهو من شواهد البحر (٢ / ٤) ، والحماسة ١ / ٥٩٥.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٣ ، والبحر المحيط ٢ / ٤ والدر المصون ١ / ٤٤٦.

١٩١

فصل في الاختلاف في أصل ليس

الجمهور على أن «ليس» فعل (١) وقال بعضهم إنه حرف حجّة القائلين بأنّها فعل : اتصال الضمائر بها الّتي لا تتصل إلّا بالأفعال ؛ كقولك ، «لست ، ولسنا ، ولستم» ، و «القوم ليسوا قائمين» ، وهذا منقوض بقوله : «إنّني ، وليتني ، ولعلّني».

وحجّة من قال بأنّها حرف أمور :

الأوّل : أنّها لو كانت فعلا ، لكانت فعلا ماضيا ولا يجوز أن تكون فعلا ماضيا ؛ لاتفاق الجمهور على أنّه لنفي الحال ، والقائلون بأنّه فعل قالوا : إنه فعل ماض.

وثانيها : أنّه يدخل على الفعل ، فنقول : «ليس يخرج زيد» ، والفعل لا يدخل على الفعل عقلا ونقلا.

وقول من قال : «إن ليس» داخل على ضمير القصّة ، والشأن ، وكون هذه الجملة تفسيرا لذلك الضّمير ضعيف ؛ فإنّه لو جاز ذلك ، جاز مثله في «ما».

وثالثها : أنّ الحرف «ما» يظهر في معناه في هذه الكلمة ، فإنك لو قلت : «ليس زيد» لم يتمّ الكلام ، لا بدّ أن تقول : «ليس زيد قائما».

ورابعها : أن «ليس» لو كان فعلا ، لكان «ما» فعلا ، وهذا باطل ، فذاك باطل ، بيان الملازمة : أن «ليس» لو كان فعلا لكان ذلك لدلالته على حصول معنى السّلب مقترنا بزمان مخصوص ، وهو الحال ، وهذا المعنى قائم في «ما» ، فيجب أن تكون «ما» فعلا ، فلمّا لم يكن هذا فعلا ، فكذلك القول في ذلك أو تكون في عبارة أخرى : «ليس» كلمة جامدة ، وضعت لنفي الحال ، فأشبهت «ما» في نفي الفعليّة بذلك.

وخامسها : أنّك تصل «ما» بالأفعال الماضية ، فتقول : «ما أحسن زيدا» ، ولا يجوز أن تصل «ما» ب «ليس» فلا تقول : «ما ليس زيد يذكرك».

وسادسها : أنّه على غير أوزان الفعل.

وأجاب القاضي ، والقائلون بالفعليّة عن الأوّل بأنّ «ليس» قد يجيء لنفي الماضي بمعناه ؛ كقولهم : «جاءني القوم ليس زيدا».

وعن الثّاني أنه منقوض بقولهم : «أخذ يفعل كذا».

وعن الثّالث : أنه منقوض بسائر الأفعال النّاقصة.

وعن الرّابع : أنّ المماثلة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة من كلّ الوجوه.

وعن الخامس : أنّ ذلك إنّما امتنع من قبل أنّ : «ما» للحال و «ليس» للماضي ، فلا يمكن الجمع بينهما.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣١.

١٩٢

وعن السّادس : أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل ، لكنّه يجب المصير إليه ؛ لدلالة العمل بما ذكر ، وذكروا وجوها أخر مخالفة للنّحو.

قوله : «قبل» منصوب على الظّرف المكانيّ بقوله : «تولّوا» ، وحقيقة قولك : «زيد قبلك» أي في المكان الذّي يقابلك فيه وقد يتّسع فيه ، فيكون بمعنى «عند» ؛ نحو قولك : «قبل زيد دين» ، أي «عنده دين».

فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه

اختلفوا : هل هذا الخطاب عامّ ، أو خاصّ؟ فقال قتادة ، ومقاتل بن حيّان : لمّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجّه نحو بيت المقدس ، قال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) هذه الطريقة ، (لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ).

وقال مجاهد وعطاء والضّحّاك ـ رضي الله عنهم ـ : المراد مخاطبة المؤمنين ، لمّا ظنّوا هذا الكلام.

وقال بعضهم : هو خطاب للكلّ ؛ لأنّه لما حوّلت القبلة ، حصل للمؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشديد في هذه القبلة ؛ حتّى ظنّوا أنّه الغرض الأكبر في الدّين ، فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب استيفاء جميع الطاعات والعبادات ، وليس البرّ بأن تولّوا وجوهكم شرقا وغربا ، وإنّما البرّ كيت ، وكيت ، وكيت ، فكأنّه تبارك وتعالى قال : ليس البرّ المطلوب هو أمر القبلة ، بل البرّ المطلوب هذه الخصال الّتي عدّدتّها.

فصل في المشار إليه بالضمير

قال القفّال (١) : والذي عندنا أنّه إشارة إلى السّفهاء الذين طعنوا في المسلمين ، وقالوا : ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها؟ مع أنّ اليهود كانوا يستقبلون المغرب ، والنّصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فقال الله تعالى : إنّ صفة البرّ لا تحصل باستقبال المشرق والمغرب ، بل البرّ يحصل بأمور.

منها : الإيمان بالله تعالى ، وأهل الكتاب أخلّوا بذلك ، فأمّا اليهود ، فلقولهم بالتّجسيم ، ولقولهم بأنّ عزيرا ابن الله ، وأمّا النصارى ؛ فلقولهم : المسيح ابن الله ، واليهود وصفوا الله تعالى بالبخل.

وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، واليهود أخلّوا بذلك ، وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] والنصارى أنكروا المعاد الجسمانيّ ، وكلّ ذلك تكذيب باليوم الآخر.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٢.

١٩٣

وثالثها : الإيمان بالملائكة ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ حيث أظهروا عداوة جبريل.

ورابعها : الإيمان بكتب الله تعالى ، واليهود أخلّوا بذلك ، لأن مع قيام الدّلائل على أنّ القرآن كتاب الله تعالى ردّوه ولم يقبلوه ؛ قال تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥].

وخامسها : الإيمان بالنّبيّين ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ حيث قتلوا الأنبياء ؛ على ما قال تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١] ، وطعنوا في نبوّة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

وسادسها : بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ لأنّهم يلقون الشّبهات ؛ لطلب المال القليل ؛ قال تبارك وتعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

وسابعها : إقامة الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، واليهود كانوا يمنعون النّاس منها.

وثامنها : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوا العهد ؛ قال تبارك وتعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠].

وتاسعها : قوله : (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَحِينَ الْبَأْسِ) والمراد بذلك المحافظة على الجهاد ، واليهود أخلّوا بذلك ؛ حيث كانوا في غاية الخوف ، والجبن ؛ قال تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر : ١٤].

فإن قيل : نفى تبارك وتعالى أن يكون التوجّه إلى القبلة برّا ، ثم حكم بأنّ البرّ بمجموع أمور : أحدها : الصّلوات ، ولا بدّ فيها من الاستقبال ، فيلزم التناقض.

فالجواب : أنّ المفسّرين اختلفوا على أقوال (١) :

منها : أنّ قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ) نفي لكمال البرّ وليس نفيا لأصله ؛ كأنه قال : «ليس البرّ كلّه هو هذا» ؛ فإنّ البرّ اسم من أسماء الخصال الحميدة ، واستقبال القبلة واحد منها ، فلا يكون ذلك تمام البرّ.

الثاني : أن يكون هذا نفيا لأصل كونه برّا ؛ لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وحينما نسخ الله تبارك وتعالى ذلك ؛ بل كان ذلك ممّا لا يجوز ؛ لأنّه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه ، وما كان كذلك ، فهو لا يعدّ من البرّ.

الثالث : أنّ استقبال القبلة لا يكون برّا ؛ إذ البرّ يتقدّمه معرفة الله تعالى ، وإنّما يكون برّا ، إذا أتى بها مع الإيمان بالله ورسوله ، فالإتيان بها دون هذا الشّرط ، لا يكون من أفعال البرّ ، إلّا إذا أتي بها مع شرطه ، كما أنّ السّجدة لا تكون من أفعال البرّ ، إلّا إذا أتى بها مع الإيمان بالله ورسوله.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٣.

١٩٤

وروي أنّه لمّا حوّلت القبلة ، كثر الخوض في نسخها ، كأنه لا يراعى بطاعة الله تعالى إلّا الاستقبال ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ؛ كأنه تبارك وتعالى قال : «ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين».

قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في هذه الآية خمسة أوجه :

أحدها : أن «البرّ» اسم فاعل من : برّ يبرّ ، فهو «برّ» والأصل : «برر» بكسر الراء الأولى بزنة «فطن» فلمّا أريد الإدغام ، نقلت كسرة الرّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها ؛ فعلى هذه القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويل ؛ لأنّ البرّ من صفات الأعيان ؛ كأنه قيل: «ولكنّ الشخص البرّ من آمن».

الثاني : أنّ في الكلام حذف مضاف من الأوّل ، تقديره : «ولكنّ ذا البرّ من آمن» ؛ كقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢] أي : لذي التقوى ؛ وقوله (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) [آل عمران : ١٦٣] أي : ذوو درجات ، قاله الزّجّاج (١).

الثالث : أن يكون الحذف من الثاني ، أي : «ولكنّ البرّ برّ من آمن» وهذا تخريج سيبويه (٢) ، واختياره ، وإنّما اختاره ؛ لأنّ السابق ، إنّما هو نفي كون البرّ هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدرك ، إنّما هو من جنس ما ينفى ؛ ونظير ذلك : «ليس الكرم أن تبذل درهما ، ولكنّ الكرم بذل الآلاف» ولا يناسب : «ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف» وحذف المضاف كثير في الكلام ، كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، أي : حبّ العجل ، ويقولون : الجود حاتم ، والشعر زهير ، والشجاعة عنترة ، [وقال الشاعر : [الطويل]

٩١٢ ـ ..........

فإنّما هي إقبال وإدبار (٣)

أي : ذات إقبال ، وذات إدبار.

وقال النّابغة : [المتقارب]

٩١٣ ـ وكيف نواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (٤)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٦٠.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١٠٨.

(٣) البيت للخنساء. ينظر : ديوانها ص ٣٨٣ والأشباه والنظائر ١ / ١٩٨ وخزانة الأدب ١ / ٤٣١ ، ٢ / ٣٤ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨٢ والشعر والشعراء ١ / ٣٥٤ والكتاب ١ / ٣٣٧ ولسان العرب (رهط) ، (قبل) ، (سوا) والمقتضب ٤ / ٣٠٥ والمنصف ١ / ١٩٧ وشرح الأشموني ١ / ٢١٣ وشرح المفصل ١ / ١١٥ والمحتسب ٢ / ٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٦٤٨.

(٤) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه ص ٢٦ ، والكتاب ١ / ٢١٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٩٤ ، ٣٥٤ ، ولسان العرب (رحب) ، (شرب) ، (برر) ونوادر أبي زيد ص ١٨٩ ، وينظر الأشباه والنظائر ٨ / ٢٤٢ ، وإصلاح المنطق ص ١١٢ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٠٢ ، والإنصاف ص ٦٢ ، ومجالس ثعلب ص ٧٧ ، والمحتسب ٢ / ٢٦٤ ، والمقتضب ٣ / ٢٣١.

١٩٥

أي : كخلالة أبي مرحب] ، وهذا اختيار الفرّاء ، والزّجّاج ، وقطرب.

وقال أبو عليّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ،) ثم قال : (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) [التوبة : ١٩] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين ، أو بين فاعلين ؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدر ، وفاعل.

الرابع : أن يطلق المصدر على الشّخص مبالغة ؛ نحو : رجل عدل.

ويحكى عن المبرّد : «لو كنت ممّن يقرأ القرآن ، لقرأت «ولكنّ البرّ» بفتح الباء» وإنّما قال ذلك ؛ لأن «البرّ» اسم فاعل ، نقول برّ يبرّ ، فهو بارّ ، وبرّ ، فتارة تأتي به على فاعل ، وتارة على فعل.

الخامس : أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل ، نحو : رجل عدل ، أي : عادل ، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه ، نحو : أقائما ، وقد قعد الناس ؛ في قول ، هذا رأي الكوفيين ، والأولى فيه ادّعاء أنه محذوف من فاعل ، وأن أصله : بارّ ، فجعل «برّا» ، وأصله ك «سرّ» ، و «ربّ» أصله «رابّ» ، وقد تقدم.

وجعل الفراء (١) «من آمن» واقعا موقع الإيمان ، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه ؛ كأنه قال : «ولكنّ البرّ الإيمان بالله» قال : والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل ؛ وأنشد في ذك : [الطويل]

٩١٤ ـ لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

ولكنّما الفتيان كلّ فتى ندي (٢)

جعل نبات اللحية خبرا للفتيان ، والمعنى : لعمرك ما الفتوّة أن تنبت اللّحى.

وقرأ نافع (٣) ، وابن عامر : «ولكن البرّ» هنا وفيما بعد بتخفيف «لكن» وبرفع «البرّ» ، والباقون بالتّشديد ، والنّصب ، وهما واضحتان ممّا تقدّم في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ١٠٢].

وقرىء (٤) : «ولكنّ البارّ» بالألف ، وهي تقوّي أنّ «البرّ» بالكسر المراد به اسم الفاعل ، لا المصدر.

قال أبو عبيدة : «البرّ» هاهنا بمعنى البارّ ، كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢] أي : للمتّقين ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] أي : غائرا ، وقالت الخنساء : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ١٠٤.

(٢) ينظر : شرح شواهد المغني ٢ / ٩٦٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩١ ، ومعاني القرآن للفراء : ١ / ١٠٥ ، والدر المصون ١ / ٤٤٧.

(٣) انظر : حجة القراءات ١٢٣ ، وشرح شعلة ٢٨٤ ، والعنوان ٧٣ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٢٩.

(٤) انظر : الكشاف ١ / ٢١٨.

١٩٦

٩١٥ ـ وإنّما هي إقبال وإدبار (١)

أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر ، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة ، قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الإنسان : ١٣].

ووحّد الكتاب لفظا ، والمراد به الجمع ؛ وحسّن ذلك كونه مصدرا في الأصل ، أو أراد به الجنس ، أو أراد به القرآن ، فإنّ من آمن به ، فقد آمن بكل الكتب ، فإنه شاهد لها بالصّحّة.

فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرّ

اعلم أنّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البرّ أمورا :

أحدها : الإيمان بخمسة أشياء :

أولها : الإيمان بالله ؛ ولا يحصل ذلك إلّا بالعلم بذاته المخصوصة ، وبما يجب ، ويجوز ، ويستحيل عليه ، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلّا بالعلم بالدلائل الدالّة عليها ، فيدخل فيه العلم بحدوث (٢) العالم ، والعلم بالأصول التي يتفرّع عليها حدوث العالم ، ويدخل فيه العلم

__________________

(١) تقدم برقم ٩١٢.

(٢) ذهب فريق من المتكلمين في إثبات الصانع ـ تعالى ـ بدلالة الحوادث على وجود محدث صانع ، وذهب المتقدمون منهم إلى إثباته ـ تعالى ـ بدلالة إمكان الممكنات ، على مرجّح لأحد طرفي الإمكان مع اتفاقهم جميعا على أن العالم هو الدليل على وجود الصّانع ، ولكنهم اختلفوا في جهة الدلالة : فمنهم من قال : هي حدوثه ، ومنهم من قال : هي إمكانه ، ومنهم من قال : هما معا ، ويرجع هذا الخلاف إلى اختلافهم في علة احتياج العالم إلى الصانع : فاختار البيضاوي ، والفخر الرازي ، وجماعة أنها الإمكان ، ولا مدخل للحدوث فيها ـ وقال كثير من المتكلمين : هي الحدوث ، وقال فريق منهم : هي الإمكان والحدوث ، وقال فريق آخر هي الإمكان بشرط الحدوث ، والحقّ أنها كلها موصلة إلى العلم بالصانع ـ سبحانه وتعالى ـ.

وقد حقّق علماء الكلام الفرق بين الإمكان والحدوث : بأن العلم بحدوث العالم يتأخّر في طريق الاستدلال بالإمكان المجرد عن إثبات الصانع ، وأما في الاستدلال بحدوث العالم يسبق العلم به العلم بالصانع ، وبيان ذلك : أنّا إذا قلنا : العالم ممكن بذاته من حيث هو هو قابل للوجود والعدم ، فالوجود ليس له من ذاته ، وكل ما ليس له وجود من ذاته ، فالوجود له من غيره ، ثم ذلك الغير لا بدّ أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإلا لافتقر إلى ما افتقر العالم إليه ، ودار أو تسلسل ، وكل منهما محال ؛ فثبت العلم بوجود مؤثر لذاته ، فقد ثبت من هذا العلم بالصانع ، لكن مع احتمال كونه صانعا باللزوم الذاتي ، فلا يكون العالم حادثا ، بل قديما كقول الفلاسفة ، واحتمال كونه صانعا بالاختيار ، فيكون العالم حادثا ، فنحتاج إلى دليل آخر لإثبات حدوث العالم ، بعد الفراغ من إثبات وجود الصانع الذي اتفقت أنت والفيلسوف على إثباته ، وانفردت بهذا المطلب الثاني ؛ وهو إثبات حدوث العالم ، فلا بدّ من إبطال كونه صانعا بالعلّة أو بالطبع ، حتى يثبت حدوث العالم ، فنقول :

صانع العالم إمّا أن يكون أوجبه لذاته ، أو اقتضاه بطبعه إذ أوجده باختياره ، وجهاته منحصرة في هذه الثلاث ، لا جائز أن يكون المؤثر لهذه الممكنات موجبا لها بذاته ؛ كالعلّة ، ولا مقتضيا لها بطبعه ، لأن ما يؤثّر كذلك لا يختلف مقتضاه ؛ لاستحالة الاختلاف في معلول العلة الواحدة ، ومطبوع الطبيعة الواحدة ، والله سبحانه وتعالى قد خصّص مثلا عن مثل ، فتعيّن كونه موجدا بالاختيار ، وكل ما وجد ـ

١٩٧

بوجوده ، وقدرته ، وبقائه ، وكونه عالما بكلّ المعلومات قادرا على كلّ الممكنات.

__________________

ـ بالاختيار ، فهو حادث ، لأنه اختيار وجوده مستلزم سبق عدم ، وإلا كان تحصيل حاصل في الوجود ، فينتج أن العالم حادث ، فقد ظهر لك الفرق بين الطريقتين ، وقد أقام المتكلمون على إثبات الصانع أدلة عقلية وأخرى كونية ، ونحن نبدأ بذكر الأدلة العقلية ، فنقول :

الدليل الأول : اعلم أولا أن المعلوم ينقسم على رأي الأشاعرة إلى : موجود ، ومعدوم ؛ لأنه إن كان بحيث يشار إليه بالإشارة الحسية فموجود ، وإن لم يمكن الإشارة إليه بالإشارة الحسية ، فمعدوم ، ولا ثالث ، ثم إن الموجود ينقسم إلى قسمين : موجود واجب ، وموجود ممكن ، لأنه إن كان وجوده يقتضي ذاته فالواجب ، وإن كان وجوده مستفادا من غيره فالممكن ، ثم إن الموجود الممكن ينقسم إلى قسمين : جوهر ، وعرض فالجوهر ما تميز بذاته ، والعرض ما كان تابعا لغيره في التحيّز ، إذا علمت هذا ، فاعلم أنّ العالم بجميع أجزائه من جواهر وأعراض حادث ، وكلّ حادث لا بدّ له من محدث.

أما الصغرى : وهي العالم بجميع أجزائه من جواهر وأعراض حادث ، فقد تضمنت حدوث الجواهر والأعراض ، وهو نظري ، فلذلك وجب إثباته بالدليل ، حتى تكون الصغرى مسلّمة ، فنقول :

الجواهر ملازمة للأعراض الحادثة ، وكل ملازم للأعراض الحادثة حادث ، فالجواهر حادثة ، وتسليم صغرى هذا الدليل مبني على مطالب :

الأول : إثبات أعراض زائدة على الجواهر.

الثاني : ملازمة الجواهر للأعراض.

الثالث : إثبات حدوث الأعراض الزائدة.

ووجه ابتناء تسليم صغرى هذا القياس على هذه المطالب : أن الخصم ربما يقول : لا نسلّم أن هناك زائدا على الجواهر فيبطل هذا القول بالمشاهدة ؛ إذ ما من عاقل إلا ويحس أن لذاته شيئا زائدا عليها ؛ كاللون ، والحركة ، والنوم ، واليقظة ، وغير ذلك وأيضا فإن بعض الأذكياء قدروه بقولهم :

نزاعكم لنا موجود أو معدوم ، فإن قلتم : غير موجود ، فقد خرجتم عن طور العقلاء ، وسقط جوابكم من وجهين : خروجكم عن دائرة العقلاء ، وإقراركم أنكم لم تنازعونا.

وإن قلتم : إن نزاعكم لنا موجود ، فلا شك أنه عرض زائد على ذاتكم ؛ فقد سلمتم مدعانا.

فنقول : سلّمنا ذلك ، لكن لا نسلم ملازمة الجواهر للأعراض ، فيبطل بالمشاهدة ، فإنّا لم نشاهد جوهرا منفكا عن عرض ، كما لا نعقل جسما خاليا عن حركة وسكون ، أو بياض وسواد ، وأما المطلب الثالث ؛ وهو إثبات حدوث الأعراض الزائدة : فينبني على مطالب أربعة أيضا :

الأول : إبطال قيام العرض بنفسه «الثاني» إبطال انتقاله. «الثالث» إبطال كمونه وظهوره. «الرابع» إبطال أن القديم لا يتقدم ، وبيان ذلك : أنا إذا قلنا : هذه الأعراض الزائدة حادثة ؛ لتغيرها من عدم إلى وجود وعكسه ، وكل متغيّر حادث ، فللخصم منع الصغرى ، وادّعاء أن الحركة مثلا لم تكن معدومة ثم وجدت ، بل كانت موجودة قبل ذلك.

فنقول له : إنّها عند وجودها هل كانت قائمة بنفسها أو بمحل؟ فإن قال : بنفسها ، لزمه قيام العرض بنفسه ؛ وهو قلب لحقيقة العرض ، وإن قال بمحل ، فنقول له : ذلك القائم به هل هذا المنزل الآن أو غيره؟ فإن قال : غيره ثم انتقلت عن هذا ، لزمه ما ذكر ـ وهو قيام العرض بنفسه في لحظة الانتقال ـ ، وإن قال : هذا المحل ، وكانت كامنة فيه ثم ظهرت ، لزم اجتماع الضدين ، وهما الحركة والسكون في الجسم الواحد ، وذلك باطل.

هذا إذا كان التغير من عدم إلى وجود ، أما إذا كان التغير من وجود إلى عدم ، ربما يقول الخصم : إن ذلك لا يدلّ على حدوث الزائد ؛ لاحتمال أن يكون قديما ، وقد انعدم والقديم ينعدم ، فنقول : إنّ ـ

١٩٨

وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، وهذا متفرّع على الأوّل ؛ لأنّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات ، لا يمكننا أن نعلم صحّة الحشر والنّشر.

__________________

ـ القديم لو انعدم ، لكان جائزا ، والجائز لا يكون وجوده إلا حادثا ، وقد قلتم : إنه قديم وإلى هنا سلمت المقدمة الصغرى القائلة الجواهر ملازمة للأعراض الحادثة.

أما الكبرى القائلة : وكل ملازم للحادث حادث ، فثبوت صحتها ظاهر ، لأن ملازم الأعراض الحادثة لا يصح أن يسبقها ؛ إذ لو سبقها ، لانتفت الملازمة ، وإذ لم يصح أن يسبقها ، يكون حادثا مثلها لكن للخصم أن يقول :

إني أسلّم لكم أن الجواهر حيث كانت ملازمة للأعراض الحادثة ، فلا تسبقها ، ولكن كونها حادثة غير مسلّم ؛ لأن حدوثها إنما يسلم إذا كانت الأعراض الحادثة التي لازمت الجواهر لها مبدأ يفتتح عددها ، وليس هذا بمسلّم.

لم لا يجوز أن تكون تلك الأعراض الحادثة لا مبدأ لها ، وما من حادث إلا وقبله حادث مثله ، وهكذا لا إلى أول فتكون الجواهر قديمة ، ونوع الأعراض الذي لا ينفك عن الجواهر قديم ، والحادث هو شخص العرض.

ولدفع ذلك نذكر الأدلة الآتية :

الدليل الأول :

أنه لو سلم أن هناك حوادث لا أوّل لها ، للزم التسلسل ؛ وهو محال.

والتسلسل : هو أن يستند الممكن في وجوده إلى علّة موثرة ، وتستند العلة المؤثرة إلى علة أخرى مؤثرة ، وهكذا إلى غير النهاية.

وقد ذكر علماء الكلام أدلة كثيرة على بطلان التسلسل ، نقتصر منها على «برهان التطبيق» ، وحاصله :

أننا نفرض جملة من الحوادث من الآن إلى ما لا نهاية له في الأزل ، ثم نفرض من هذه السلسلة نفسها جملة أخرى تبتدىء من الطوفان إلى ما لا نهاية له من الأزل ، وبعد هذا الفرض نقابل أول فرد من السلسلة الطوفانية بأول فرد من السلسلة الآنية ، وتستمر في باقي الأفراد هكذا إلى الأزل ، فعند ذلك لا يخلو الحال من واحد من أمرين : إما أن يتساوبا ، وإما أن يتفاوتا ، فإن تساويا ، لزم مساواة الزائد للناقص ، وهو محال ، فما أدّى إليه ـ وهو التسلسل ـ محال ، وإن تفاوتا وانتهت الناقصة ، كان التفاوت بينهما بمقدار متناه ؛ لأنه من الآن إلى الطوفان ، والتفاوت بالمتناهي يستلزم التناهي ، فلا تسلسل ، وذلك لأن الناقصة لما انقطعت كانت متناهية ، والزائدة لم تزد عليها إلا بذلك المقدار المبتدأ من الحادث الأخير إلى الطوفان ، وهو متناه ؛ فيلزم التناهي لا محالة.

الدليل الثاني على إبطال حوادث لا أول لها :

ذكر الآمدي في أبكار الأفكار أدلة كثيرة على إبطال حوادث لا أوّل لها ، ثم كرّ على بعضها بالإبطال ، وقال في البعض الآخر : إنه غير سديد ، ثم قال : والأقرب في ذلك أن يقال :

لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية ، لكان كل واحد منها ممكنا على ما وقع به الفرض ، فهي إمّا متعاقبة أو لا ، فإن كانت متعاقبة ، فقد قيل : إن ذلك محال ؛ لثلاثة أوجه :

الأول : أن كل واحد منها يكون مسبوقا بالعدم ، والجملة مجموع الآحاد ، فالجملة تكون مسبوقة بالعدم ، وكل جملة مسبوقة بالعدم ، فلوجودها أوّل ينتهي إليه ، فالقول بكونه غير متناه محال.

الثاني : هو أنّ كلّ واحد منها يكون مشروطا في وجوده بوجود علته قبله ، فلا يوجد حتى توجد علته ، وكذا الكلام في علته بالنسبة إلى علتها ، وهلمّ جرّا ، فإذا قيل بعدم النهاية ، فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود ، فلا وجود لواحد منها ، وهذا كما قيل : لا أعطيك درهما إلا وقبله درهم ، فإنه لمّا كان ـ

١٩٩

وثالثها : الإيمان بالملائكة.

__________________

ـ إعطاء الدرهم مشروطا بإعطاء درهم قبله ، وكذا في إعطاء كل درهم يفرض إلى غير النهاية ـ كان الإعطاء محالا ، ولهذا البيان سلمت المقدمة الصغرى من الدليل القائلة : العالم بجميع أجزائه من جواهر وأعراض حادث.

وأما المقدمة الكبرى القائلة : وكل حادث لا بد له من محدث ، فمن العلماء من قال بأنها ضرورية حتى قال الفخر الرازي في معالمه : إن العلم بها مركوز في فطرة طبائع الصبيان ، فإنك إذا لطمت وجه الصبي من حيث لا يراك وقلت : إن هذه اللطمة حصلت من غير فاعل ، فإنه لا يصدقك بل في فطرة البهائم ؛ فإن الحمار إذا أحس بصوت الخشبة ، فزع ، لأنه تقرر في طبعه أن حصول صوتها بدونها محال ، ومنهم من قرّرها بدليل ، فقال :

إن الحادث إذا حدث في وقت معيّن ، فالعقل يجوز حصوله قبله أو بعده ، فاختصاصه بالوجود في ذلك الوقت المعيّن بدلا عن العدم ، وعن الوجود في غيره ـ جائز في العقل ، فيفتقر إلى مخصّص مختار ، وإلا كان أحد المتساويين مساويا لذاته ، راجحا لذاته ، وهو محال ضرورة ، فتعيّن كون الترجيح للوجود بدلا عن العدم ، وللوجود في هذا الوقت بدلا عن الوجود في غيره من الأوقات ، بمرجّح منفصل عن الحادث ، وهو الفاعل المختار ، وهو الله سبحانه وتعالى.

الدليل الثاني على إثبات الصانع جل وعلا :

جملة الممكنات الموجودة ممكنة بداهة ، وكل ممكن يحتاج إلى سبب يعطيه الوجود ، «النتيجة» جملة الممكنات محتاجة إلى سبب يعطيها الوجود ، ثم ننظر بعد ذلك في هذا السبب ، فنقول : ذلك السّبب إما أن يكون عين الجملة ، وإما أن يكون جزأها ، وإما أن يكون خارجا عنها ، لا جائز أن يكون عينها ؛ لاستلزام تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال بداهة ، ولا جائز أن يكون جزأها ؛ لاستلزام أن يكون الشيء سببا لنفسه ولما سبق عليه إن لم يكن هو الأول ، ولنفسه إن فرض الأول ـ وهو محال ، فوجب أن يكون السبب وراء جملة الممكنات ، وليس وراء جملة الممكنات إلا المستحيل والواجب ، والمستحيل فاقد الوجود ، فلا يعطيه لغيره ؛ فتعين أن يكون للمكنات الموجودة موجدا هو واجب الوجود ، وهو المطلوب.

الدليل الثالث من الأدلة العقلية على إثبات الصانع :

لو تحقّق موجود ، لوجد الواجب ، لكن الموجود قد تحقّق ، النتيجة : الواجب موجود ، وإنما كانت النتيجة ما ذكر ؛ لأن استثناء عين المقدّم ينتج عين التالي ، ثم إن المحتاج للإثبات في هذا الدليل هو الملازمة ، وأما المقدّم فهو ثابت بالمشاهدة ودليل الملازمة :

أن ذلك الموجود إن كان واجبا ، فقد تم المطلوب ، وإن كان ممكنا ، فلا بدّ له من سبب ، وذلك السبب إن كان واجبا ، فقد تم المطلوب ، وإن كان ممكنا ، فلا يخلو عن واحد من أمور ثلاثة : إما أن ينتهي إلى واجب ، وإما أن يدور أو يتسلسل ـ وكل من الدور والتسلسل محال ـ ؛ فتعين الثالث ، وهو أن السبب واجب ؛ وهو المطلوب.

وإذا جال الإنسان بنظره وفكره الثاقب في هذا العالم وما فيه من الكائنات ـ مع ما فيها من لطف التدبير ، وصواب التقدير ، وإتقان الصنعة ـ وأدرك شيئا من خواصّها ومزاياها ـ لا يسعه إلا أن يعتقد أن لها موجدا ، حكيما مختارا في تصرفه ، قديما منزّها عن كل نقص ، وفي كل شيء له آية تدل على أنه موجود ولإيضاح ذلك أسرد لك عدة أمور من الكائنات التي تشاهدها ببصرك مع بيان شيء من منافعها ومزاياها وإبطال القول بقدم العالم ينبني على ذكر شبه القوم القائلين بقدم العالم وإبطالها ، فنقول :

نظر المادّيّون في كيفية تكوين العالم نظرة قاصرة ، ولم تسع عقولهم ما وراء المحسوس ، فقالوا : إن ـ

٢٠٠