اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

وإمّا التسلسل (١) ، وإن عرفه بالدليل ، وجب أن تطلب العلم بالدليل ، لا بالتّقليد ؛ لأنّك لو

__________________

ـ ومنها : لو توقّف كل منهما على الآخر ، لافتقر الشيء إلى نفسه ، لكن افتقار الشيء إلى نفسه محال ، فما أدى إليه ـ وهو الدّور ـ محال.

بيان الملازمة : أن لو توقف كل منهما على الآخر ، لكان المتوقّف مفتقرا إلى المتوقف عليه ، وعلى اعتبار الدّور يكون كل منهما مفتقرا إلى الآخر.

وهذا يؤدّي إلى افتقار الشيء لنفسه ؛ لأن المفتقر للشيء مفتقر إلى ذلك الشيء ، فلو افتقر بكر إلى أحمد ، وقد فرض أن أحمد مفتقر إلى بكر ـ لكان بكر مفتقرا إلى نفسه ، وافتقار الشيء إلى نفسه محال ؛ لأن الافتقار نسبة بين شيئين : أحدهما يقال له : منسوب ، والآخر : منسوب إليه ، فيجب أن يكون بينهما تغاير.

ونظرا لوضوح استحالة الدور ، قال بعض المتكلمين : إن استحالة الدور بديهية ، وما يذكر لإثبات استحالته ليس دليلا ، وإنما هو من باب التنبيه ، والضروري لا مانع من التنبيه عليه.

(١) التسلسل : هو أن يستند الممكن في وجوده إلى علة مؤثرة ، وتستند تلك العلة المؤثرة إلى علة أخرى مؤثرة ، وهلم جرّا إلى غير نهاية.

وقد ذكر علماء الكلام عدة أدلة على بطلان التسلسل ، نقتصر منها على برهان التطبيق ؛ وحاصله : أن نفرض من معلول ما بطريق التصاعد إلى ما لا نهاية له جملة ، ومما قبله بمتناه إلى غير متناه جملة ، فيحصل غير متناهيتين : إحداهما زائدة على الأخرى بقدر متناه ؛ مثلا : نفترض جملة من الآن إلى ما لا نهاية له في الأزل ؛ وهذه تسمى الآنية ، ثم نفرض من هذه السلسلة نفسها جملة أخرى ، تبتدىء من الطوفان إلى ما لا نهاية له في الأزل ؛ وهذه تسمى الطوفانية ، وبعد هذا الفرض نقابل أول فرد في السلسلة الطوفانية بأول فرد من السلسلة الآنية ، ونستمر في باقي الأفراد هكذا إلى الأزل ، فعند ذلك لا يخلو الحال عن واحد من أمرين : إما أن يتساويا ، وإما أن يتفاوتا ، فإن تساويا ، لزم مساواة الزائد للناقص ؛ وهو محال ، فما أدّى إليه ـ وهو التسلسل ـ محال ، وإن تفاوتا وانتهت الناقصة ، كان التفاوت بينهما بمقدار متناه ؛ لأنه من الآن إلى الطوفان ، والتفاوت بالتناهي يستلزم التناهي ؛ فلا تسلسل ؛ وذلك لأن الناقصة لما انقطعت ، كانت متناهية ، والزائدة لم تزد عليها إلا بذلك المقدار المبتدأ من المعلول الآخر إلى الطوفان ، وهو التناهي ؛ فيلزم التناهي لا محالة.

وملخص هذا الدليل : أنه عند تطبيق إحدى السلسلتين إلى الأخرى إن فرض التساوي كان محالا ، فما أدى إليه ـ وهو التسلسل ـ محال ، وإن فرض التفاوت ، فلا تسلسل أصلا ؛ لأن كلّا من السلسلتين قد انتهى ، وقد أوردوا على هذا الدليل نقضين : الأول على فرض المساواة ، والثاني على فرض التفاوت وحاصل الأول : لا نسلّم إمكان المساواة حتى تفرض ؛ لأن المتبادر من لفظ المساواة تماثل كل من السلسلتين في الحكم ، بمعنى : أن عدد أفراد إحدى السلسلتين يكون مساويا لعدد أفراد الأخرى ، وهذا لا يتأتى هنا ؛ لأن الموضوع أن السلسلة غير متناهية ، والحكم بالتماثل في الحكم فرع انحصار الأفراد ؛ فحينئذ لا يصح فرض التساوي.

ويجاب عن ذلك : أن التساوي لا يتوقف على الانحصار ؛ لأن معناه كون كل من السلسلتين اشتملت على ما اشتملت عليه الأخرى ، وهذا المعنى يتحقّق مع عدم التناهي.

وحاصل الثاني : سلّمنا أن هناك تفاوتا بين السلسلتين ، لكن لا نسلّم التناهي ؛ بدليل أنّا إذا فرضنا جملتين من الأعداد : إحداهما من الواحد إلى ما لا نهاية له ، والثانية من الثاني إلى ما لا نهاية له ، ثم طبّقنا إحداهما على الأخرى ، فجعلنا الواحد من الأولى بإزاء الواحد من الثانية وهكذا ، فإن إحداهما تكون أزيد من الأخرى ، ولا يلزم من ذلك التناهي ؛ لأن الأعداد لا تتناهى ، وكما يقال هذا في ـ

١٦١

طلبته بالتقليد ، لا بالدّليل ، مع أنّ ذلك المتقدّم طلبه بالدليل لا بالتقليد ، كنت مخالفا له ، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه ، فيكون باطلا ، وإنّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشّيطان ؛ تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان ، وبين متابعة التّقليد ، وفيه أقوى دليل على وجوب النّظر ، والاستدلال ، وترك التّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.

فصل في بيان ما يستثنى من التّقليد

قال القرطبيّ : ذمّ الله تعالى الكفّار ؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل](١) واقتدائهم بهم في الكفر ، والمعصية ، وهذا الذّمّ في الباطل صحيح ، وأما التقليد في الحقّ ، فأصل من «أصول الدّين» ، وعصمة من عصم المسلمين ، يلجأ إليها الجاهل المقصّر عن درك النّظر ، واختلف العلماء ـ رضي الله عنهم ـ في جوازه في مسائل الأصول ، وأمّا جوازه في مسائل الفروع ، فصحيح.

فصل في وجوب التّقليد على العامّي

قال القرطبيّ ـ رضي الله عنه ـ : فرض العامّيّ الذي لا يستقلّ باستنباط الأحكام من أصولها ، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ، ويحتاج إليه ـ أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده ؛ فيسأله عن نازلته ، فيتمثّل فيها فتواه ؛ لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه ؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه ، وعلى العالم أيضا أن يقلّد عالما مثله في نازلة خفي عليه وجه الدليل فيها.

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)

لما حكى عن الكفّار أنّهم عند الدّعاء إلى اتّباع ما أنزل الله تعالى ، تركوا النّظر ،

__________________

ـ الأعداد ، يقال في مقدورات الله تعالى ومعلوماته ؛ فإن المعلومات أكثر عددا من المقدورات ؛ لأن القدرة خاصة بالممكنات ، فالمقدور هو الممكن فقط.

والعلم يشمل الواجبات ، والجائزات ، والمستحيلات ، فالمعلوم الممكن والواجب والمستحيل ، ومع هذا التفاوت فلا تناهي ؛ لأن مقدورات الله ـ تعالى ـ ومعلوماته لا تناهى.

ويجاب عن ذلك : بأن النقض بالأعداد لا يرد ؛ لأن التطبيق المستدل به على بطلان التسلسل إنما اعتبر بين الأمور الموجودة ، وهي المعلولات التي ضبطها وجود ، وأما الأعداد فهي من قبيل الأمور الوهمية المحضة التي لا وجود لها في نفس الأمر ، حتى يكون هناك جملتان تطبقان ، فلا يصح النقض بها ، وأما النقض بمعلومات الله ـ تعالى ـ ومقدوراته ، فلا يرد أيضا ؛ لأن عدم تناهي المقدورات عدم وقوفها عند حد فما من مقدور إلا ويتصور وراءه مقدور آخر ، وأما الموجود من المقدورات فهو متناه قطعا ، وكذلك المعلومات الوجودية متناهية قطعا ؛ لأنه قد ضبطها وجود ، وأما العدمية فهي بمعزل عن الدليل.

(١) في ب : أديانهم الباطلة.

١٦٢

وأخلدوا إلى التّقليد ، وقالوا : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ـ ضرب لهم هذا المثل ؛ تنبيها للسّامعين لهم : أنهم إنما وقعوا فيه ؛ بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الاهتمام بالدّين ، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام ، وضرب مثل هذا المثل يزيد السّامع اجتهادا في معرفة أحوال نفسه ، ويحقّر إلى الكافر نفسه ، إذا سمع ذلك ، فيكون كسرا لقلبه ، وتضييقا لصدره ؛ حيث صيّره كالبهيمة ، فكان ذلك في نهاية الرّدع والزّجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة التقليد.

وقد اختلف النّاس في هذه الآية اختلافا كثيرا ، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلّا بعد معرفة المعنى المذكور في الآية الكريمة ، وقد اختلفوا في ذلك :

فمنهم من قال : معناها : أنّ المثل مضروب بتشبيه الكافر بالنّاعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الكافر بالمنعوق به ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه داعي الكفر بالنّاعق ، ومنهم من قال : هو مضروب بتشبيه الدّاعي والكافر بالنّاعق ، والمنعوق به ، فهذه أربعة أقوال.

فعلى القول الأول : يكون التقدير : «ومثل الّذين كفروا في قلّة فهمهم ، كمثل الرّعاة يكلّمون البهم والبهم لا تعقل شيئا».

وقيل : يكون التقدير : «ومثل الّذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم ، كمثل النّاعق بغنمه ؛ لا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنّه في عناء» ؛ وكذلك الكافر ليس له من دعائه آلهته إلّا العناء ؛ كما قال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤].

قال الزّمخشريّ (١) لمّا ذكر هذا القول : «إلّا أنّ قوله : «إلّا دعاء ونداء» ، لا يساعد عليه ؛ لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا».

قال أبو حيّان (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «ولحظ الزمخشريّ في هذا القول تمام التشبيه من كلّ جهة ، فكما أنّ المنعوق به لا يسمع إلّا دعاء ونداء ، فكذلك مدعوّ الكافر من الصّنم ، والصّنم لا يسمع ، فضعف عنده هذا القول» قال : «ونحن نقول : التشبيه وقع في مطلق الدّعاء في خصوصيّات المدعوّ ، فتشبيه الكافر في دعائه الصّنم بالنّاعق بالبهيمة ، لا في خصوصيّات المنعوق به» ، وقال ابن زيد في هذا القول ـ أعني : قول من قال : التقدير : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم ـ : إنّ الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم ، وإنّما المراد به الصائح في جوف الجبل ، فيجيبه الصّدى ، فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعق إلّا دعاء نفسه ، ونداءها ، فعلى هذا القول : يكون فاعل «يسمع» ضميرا عائدا على «الّذي ينعق» ويكون العائد على «ما» الرابط للصّلة بالموصول محذوفا ؛ لفهم المعنى ، تقديره : «بما لا يسمع منه» وليس فيه شرط

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ٢١٤.

(٢) ينظر البحر المحيط : ٤ / ٦٥٦.

١٦٣

جواز الحذف ؛ فإنه جرّ بحرف غير ما جرّ به الموصول ، وأيضا : فقد اختلف متعلّقاهما إلّا أنه قد ورد ذلك في كلامهم ، وأمّا على القولين الأوّلين ، فيكون فاعل «يسمع» ضميرا يعود على «ما» الموصولة ، وهو المنعوق به.

وقيل : المراد ب «الّذين كفروا» المتبوعون ، لا التابعون ، والمعنى : «مثل الّذين كفروا في دعائهم أتباعهم ، وكون أتباعهم لا يحصل لهم منهم إلّا الخيبة ، كمثل النّاعق بالغنم» فعلى هذه الأقوال كلّها : يكون «مثل» مبتدأ و «كمثل» خبره ، وليس في الكلام حذف إلّا جهة التّشبيه.

وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدّمة : فقيل : معناه : «ومثل الّذين كفروا في دعائهم إلى الله تعالى ، وعدم سماعهم إيّاه ، كمثل بهائم الّذي ينعق» فهو على حذف قيد في الأوّل ، وحذف مضاف في الثاني.

وقيل : التقدير : «ومثل الّذين كفروا في عدم فهمهم عن الله ورسوله ، كمثل المنعوق به من البهائم الّتي لا تفقه من الأمر والنّهي غير الصّوت» فيراد بالذي ينعق : الذي ينعق به ، ويكون هذا من القلب ، وقال قائل : «هذا كما تقولون : «دخل الخاتم في يدي ، والخفّ في رجلي» وتقولون : «فلان يخافك ؛ كخوف الأسد» ، أي : كخوفه الأسد ، وقال تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص : ٧٦] وإنّما العصبة تنوء بالمفاتح». وإلى هذا ذهب الفرّاء ، وأبو عبيدة ، وجماعة إلّا أنّ القلب لا يقع على الصّحيح إلّا في ضرورة أو ندور.

وأمّا على القول الثّالث ، وهو قول الأخفش ، والزّجّاج ، وابن قتيبة : فتقديره : «ومثل داعي الّذين كفروا كمثل النّاعق بغنمه ؛ في كون الكافر لا يفهم ممّا يخاطب به داعيه إلّا دويّ الصّوت ، دون إلقاء فكر وذهن ؛ كما أنّ البهيمة كذلك ، فالكلام على حذف مضاف من الأوّل.

فصل في المراد ب «ما لا يسمع»

قال الزّمخشريّ (١) : ويجوز أن يراد ب «ما لا يسمع» الأصمّ الأصلج الذي لا يسمع من كلام الرّافع صوته بكلامه إلّا النّداء والصّوت ، لا غير ؛ من غير فهم للحرف ، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق «ما» على العقلاء ، أو لما تنزّل هذا منزلة من لا يسمع من البهائم ، أوقع عليه «ما».

وأما على القول الرابع ـ وهو اختيار سيبويه (٢) في هذه الآية ـ : فتقديره عنده : «مثلك يا محمّد ، ومثل الذين كفروا ، كمثل النّاعق والمنعوق به» ، واختلف النّاس في

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ٢١٤.

(٢) ينظر الكتاب : ١ / ١٠٨.

١٦٤

فهم كلام سيبويه ، فقائل : هو تفسير معنى ، وقيل : تفسير إعراب ، فيكون في الكلام حذفان : حذف من الأوّل ، وهو حذف «داعيهم» ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذف من الثّاني ، وهو حذف المنعوق ، وقد أثبت نظيره في الأول ؛ فشبّه داعي الكفّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبّه الكفّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه ، إلّا أصواتا لا يعرفون ما وراءها ، وفي هذا الوجه حذف كثير ؛ إذ فيه حذف معطوفين ؛ إذ التقدير الصناعيّ : «ومثل الّذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق بالمنعوق به».

وقد ذهب إليه جماعة ، منهم : أبو بكر بن طاهر (١) ، وابن خروف (٢) ، والشّلوبين (٣) ؛ قالوا : العرب تستحسن هذا ، وهو من بديع كلامها ؛ ومثله قوله : [(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢]](٤) تقديره : «وأدخل يدك في جيبك ، تدخل ، وأخرجها تخرج» ؛ فحذف «تدخل» ؛ لدلالة «تخرج» وحذف «وأخرجها» ؛ لدلالة «وأدخل» ، قالوا : ومثله قوله :

٨٩٥ ـ وإنّي لتعروني لذكراك فترة

كما انتفض العصفور بلّله القطر (٥)

لم يرد أن يشبّه فترته بانتفاض العصفور حين بلّله القطر ؛ لأنّهما ضدّان ؛ إذ هما حركة وسكون ، ولكنّ تقديره : إنّي إذا ذكرتك ، عراني انتفاض ، ثمّ أفتر ؛ كما أن العصفور إذا بلّله القطر ، عراه فترة ، ثم ينتفض ، غير أنّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه.

وهذه الأقوال كلّها ، إنّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السّابق بجزء من الكلام المشبّه به.

أمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملة بجملة ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر إلى المعنى ، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب ؛ قال الرّاغب : «فلمّا شبّه قصّة الكافرين في إعراضهم عن الدّاعي لهم إلى الحقّ ، بقصّة النّاعق قدّم ذكر النّاعق ؛ لينبني عليه ما يكون منه ، ومن المنعوق به».

__________________

(١) محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي أبو بكر المعروف بالحزب توفي سنة ٥٨٠ ه‍. ينظر البغية : ١ / ٢٨.

(٢) علي بن محمد بن علي بن محمد نظام الدين أبو الحسن ابن خروف الأندلسي النحوي توفي سنة ٦٠٩ ه‍. ينظر البغية : ٢ / ٢٠٣.

(٣) عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأستاذ أبو علي الإشبيلي الأزدي المعروف بالشلوبين ـ بفتح المعجمة واللام وسكون الواو وكسر الموحدة وبعدها تحتانية ونون ـ ومعناه بلغة أهل الأندلس الأبيض الأشقر. كان إمام عصره في العربية بلا مدافع توفي في العشر الأخير من صفر سنة خمس وأربعين وستمائة. ينظر البغية : ٢ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم برقم ٤٢١.

١٦٥

والكاف ليست بزائدة ؛ خلافا لبعضهم ؛ فإنّ الصّفة ليست عين الصّفة الأخرى ، فلا بدّ من الكاف ؛ حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف ، اعتقدنا وجودها تقديرا تصحيحا للمعنى.

وقد تلخّص ممّا تقدّم : أنّ «مثل الّذين» مبتدأ ، و «كمثل الّذي» خبره : إمّا من غير اعتقاد حذف ، أو على حذف مضاف من الأوّل ، أي : مثل : «داعي الّذين» ، أو من الثّاني: أي : «كمثل بهائم الّذي» ، أو على حذفين : حذف من الأوّل ما أثبت نظيره في الثّاني ، ومن الثّاني ما أثبت نظيره في الأوّل ؛ كما تقدّم تحريره.

والنعيق دعاء الرّاعي ، وتصويته بالغنم ؛ قال الأخطل في ذلك : [الكامل]

٨٩٦ ـ فانعق بضأنك يا جرير فإنّما

منّتك نفسك في الخلاء ضلالا (١)

قال القتيبيّ (٢) : لم يكن جرير راعي ضأن ، وإنّما أراد أنّ بني كليب يعيّرون برعي الضأن ، وجرير منهم ؛ فهو من جهلتهم ، والعرب تضرب المثل في الجهل براعي الضّأن ، ويقولون : أجهل من راعي ضأن.

يقال : نعق ، بفتح العين ، ينعق ، بكسرها ، والمصدر النّعيق والنّعاق ، والنّعق ، وأما «نغق الغراب» ، فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملة أيضا في الغراب ، وهو غريب.

قال بعضهم : إنّ الياء والنّون من قوله : «ينعق» من نصف هذه السّورة الأوّل ، والعين والقاف من النصف الثّاني.

«إلّا دعاء» : هذا استثناء مفرّغ ؛ لأن قبله «يسمع» ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن «إلّا» زائدة ، فليس من الاستثناء في شيء ، وهذا قول مردود ، وإن كان الأصمعيّ قد قال بزيادة «إلّا» في قوله : [الطويل]

٨٩٧ ـ حراجيج لا تنفكّ إلّا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا (٣)

فقد ردّ النّاس عليه ، ولم يقبلوا قوله ، وفي البيت كلام تقدّم.

وأورد بعضهم هنا سؤالا معنويّا ، وهو أن قوله : (لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١] ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمّهم بأنّهم لا يسمعون إلا الدعاء ؛ وكأنّه قيل: لا يسمعون إلّا المسموع ، وهذا لا يجوز؟

__________________

(١) البيت. ينظر في ديوانه : (٢٥٠) ، البحر المحيط : (١ / ٦٥١) ، والدر المصون : ١ / ٤٣٩.

(٢) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٤٤.

(٣) البيت لذي الرمة. ينظر ديوانه : ص ١٤١٩ ، لسان العرب (فكك) ، تخليص الشواهد : ص ٢٧٠ ، خزانة الأدب : ٩ / ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٠ ، ٢٥٥ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٢١٩ ، الكتاب : ٣ / ٤٨ ، المحتسب : ١ / ٣٢٩ ، همع الهوامع : ١ / ١٢٠ ، وبلا نسبة في أسرار العربية : ص ١٤٢ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ١٧٣ ، والإنصاف : ١ / ١٥٦ ، الجنى الداني : ص ٥٢١ ، شرح الأشموني : ١ / ١٢١ ، مغني اللبيب : ١ / ٧٣ ، همع الهوامع ١ / ٢٣٠ ، والدر : ١ / ٤٤٠.

١٦٦

فالجواب : أن في الكلام إيجازا ، وإنّما المعنى : لا تفهم معاني ما يقال لهم ؛ كما لا تميّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوّت بها ، وإنّما تفهم شيئا يسيرا ، قد أدركته بطول الممارسة ، وكثرة المعاودة ؛ فكأنه قيل لهم : إلّا سماع النّداء دون إدراك المعاني ، والأغراض.

قال شهاب الدّين (١) : وهذا السّؤال من أصله ليس بشيء ، ولو لا أنّ الشّيخ ذكره ، لم أذكره.

وهنا سؤال ذكره عليّ بن عيسى (٢) ، وهو هل هذا من باب التّكرار لمّا اختلف اللّفظ ، فإنّ الدعاء والنّداء واحد؟ والجواب : أنه ليس كذلك ؛ فإن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصّوت.

وقال القرطبيّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ : النداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداء ؛ لأنه للأباعد ، وفي هذا نظر ؛ لأنّ النبيّ ـ عليه‌السلام ـ قال : «الخلافة في قريش ، والحكم في الأنصار ، والدّعوة في الحبشة» (٤).

قال ابن الاثير في «النّهاية» (٥) : أراد بالدّعوة الأذان ، وجعله في الحبشة ؛ تفضيلا لمؤذّنه بلال ، وقال شاعر الجاهليّة : [الوافر]

٨٩٨ ـ فلست بصائم رمضان عمري

ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بقائم كالعير يدعو

قبيل الصّبح حيّ على الفلاح

أراد أذان الصّبح ، وقد تضمّ النون في النّداء ، والأصل الكسر.

قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٧١] لمّا شبّههم بالبهائم ، زاد في تبكيتهم ، فقال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ؛ لأنّهم صاروا بمنزلة الأصمّ ؛ في أنّ الذي سمعوه ، كأنّهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البكم ؛ في ألّا يستجيبوا لما دعوا إليه ، ومن حيث العمي ؛ من حيث إعراضهم عن الدّلائل ؛ فصاروا كأنّهم لم يشاهدوها ، قال النّحاة : «صمّ» ، أي : هم صمّ ، وهو رفع على الذّمّ.

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٤٤٠.

(٢) علي بن عيسى بن علي بن عبد الله أبو الحسن الرماني كان إماما في العربية علامة في الأدب صاحب التفسير والحدود الأكبر والأصغر وشرح أصول ابن السراج توفي في حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. ينظر البغية : ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٤٥.

(٤) أخرجه أحمد (٤ / ١٨٥) والطبراني (١٧ / ١٢١) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١٣٨) وابن أبي عاصم (٢ / ٥٢٧ ، ٥٢٨ ، ٥٣٢).

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ١٩٥) وعزاه لأحمد والطبراني وقال : رجاله ثقات.

وأورده المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣٣٨٠٩).

(٥) ينظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير : ٢ / ١٢٢.

١٦٧

وقوله : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فالمراد : العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثّلاثة ، فلمّا أعرضوا عنها ، فقد فقدوا العقل الكسبيّ ، ولهذا قيل : من فقد حسّا ، فقد فقد علما ، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)

قال بعض المفسّرين : إنّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوّل السّورة إلى هنا دلائل للتّوحيد والنّبوّة ، واستقصى في الرّدّ على اليهود والنصارى ، ومن هنا : شرع في بيان الأحكام ، فقال : «كلوا» واعلم : أنّ الأكل قد يكون واجبا ، وذلك عند دفع الضرر عن النّفس ، وقد يكون مندوبا ، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل ، إذا انفرد ، وللبساطة في الأكل ، إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوب ، وقد يكون مباحا ، إذا خلا عن هذه العوارض ، فلا جرم كان مسمّى الأكل مباحا ، وإذا كان كذلك ، كان قوله في هذا الموضع «كلوا» لا يفيد الإيجاب ، والنّدب ، [بل الإباحة ، ومفعول «كلوا» محذوف ، أي : «كلوا رزقكم حال كونه بعض طيّبات ما رزقناكم» ويجوز في رأي الأخفش : أن تكون «من» زائدة في المفعول به ، أي : «كلوا طيّبات ما رزقناكم» (١).

فصل في بيان حقيقة الرّزق

استدلّوا على أنّ الرزق قد يكون حراما ؛ بقوله تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)؛ فإنّ الطّيّب هو الحلال ، فلو كان كلّ رزق حلالا ؛ لكان قوله : «كلوا من](٢) طيّبات ما رزقناكم» معناه : من محلّلات ما أحللنا لكم ، فيكون تكرارا ، وهو خلاف الأصل ، وأجابوا عنه ؛ بأن الطّيّب في أصل اللّغة : عبارة عن المستلذّ المستطاب ، فلعلّ أقواما ظنّوا أنّ التوسّع في المطاعم ، والاستكثار من طيّباتها ممنوع منه ، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك ؛ لقوله تعالى : «كلوا» من لذائذ ما أحللناه لكم ، فكان تخصيصه بالذّكر لهذا المعنى.

فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة «الطّيّب» في القرآن

قالوا : «والطّيّب» ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجه :

أحدها : الطّيّبات بمعنى الحلال ؛ قال الله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء : ٢] ، أي : لا تتبدّلوا الحرام بالحلال.

الثاني : الطيّب بمعنى الطّاهر ؛ قال تبارك وتعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء :

__________________

(١) زاد في ب : وهذا جائز ، ويجوز أن تكون «من» زائدة في المفعول به على رأي الأخفش ، أي : كلوا من طيبات ما رزقناكم.

(٢) سقط في ب.

١٦٨

٤٣] ، وقال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠].

الثالث : الطّيّب : معناه الحسن ، أي : الكلام الحسن للمؤمنين.

قوله : «واشكروا الله» أمر ، وليس بإباحة ، بمعنى أنه يجب اعتقاد كونه مستحقّا إلى التعظيم ، وإظهار الشّكر باللّسان ، أو بالأفعال ، إن وجدت هنا له تهمة.

[الرابع : ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف ، قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ٣٥].

قوله : «إن كنتم» شرط ، وجوابه محذوف ، أي : فاشكروا له ، وقول من قال من الكوفيّين : إنّها بمعنى «إذ» ضعيف ، و «إيّاه» : مفعول مقدّم ؛ ليفيد الاختصاص ، أو لكون عامله رأس آية ، وانفصاله واجب ، ولأنه متى تأخّر ، وجب اتصاله إلّا في ضرورة ؛ كقوله : [الرجز]

٨٩٩ ـ إليك حتّى بلغت إيّاك](١)

وفي قوله : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) التفات من ضمير المتكلّم إلى الغيبة إذ لو جرى على الأسلوب الأوّل ، لقال : «واشكرونا».

فصل في المراد من الآية

في معنى الآية وجوه :

أحدها : «واشكروا الله ، إن كنتم عارفين بالله ونعمه» فعبّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقا لاسم الأثر على المؤثر.

وثانيها : معناه : «إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله ، فاشكروه ؛ فإنّ الشّكر رأس العبادات».

وثالثها : «واشكروا الله الّذي رزقكم هذه النّعمة ، إن كنتم إيّاه تعبدون» ، أي : إن صحّ أنّكم تخصّونه بالعبادة ، وتقرّون أنّه هو إلهكم لا غيره ، قال ـ عليه الصلاة والسلام عن الله ـ : «إنّي والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري؟!» (٢).

__________________

(١) البيت لحميد الأرقط. ينظر الكتاب : ٢ / ٣٦٢ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٤٠ ، الخصائص : ١ / ٣٠٧ ، شرح المفصل : ٣ / ١٠٢ ، الإنصاف : ٢ / ٦٩٩ ، الخزانة : ٥ / ٢٨٠ ، الدر المصون : ١ / ٤٤٠.

(٢) أخرجه ابن عساكر (٥ / ١٨٩) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٦ / ٣) وعزاه للحكيم الترمذي والبيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٦).

وينظر تفسير الفخر الرازي : ٥ / ١٠.

١٦٩

فصل في أن الشيء المعلق ب «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء

احتجّ من قال بأنّ المعلّق بلفظ «إن» لا يكون عدما عند عدم ذلك الشّيء ؛ بهذه الآية ، فإنّه تعالى علّق الأمر بالشّكر بكلمة «إن» على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضا.

قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)

لما أمر في الآية المتقدّمة بأكل الحلال ، فصّل في هذه الآية [أنواع](١) الحرام.

قوله : «إنّما حرّم» : الجمهور قرءوا «حرّم» مشدّدا مبنيّا للفاعل «الميتة» نصبا على أنّ «ما» كافّة مهيّئة ل «إنّ» في الدّخول على هذه الجملة الفعليّة ، وفاعل «حرّم» ضمير الله تعالى ، و «الميتة» : مفعول به ، وابن أبي عبلة (٢) برفع «الميتة» وما بعدها ، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون «ما» موصولة ، و «حرّم» صلتها ، والفاعل ضمير الله تعالى ، والعائد محذوف ؛ لاستكمال الشّروط ، تقديره : «حرّمه» ، والموصول وصلته في محلّ نصب اسم «إنّ» ، و «الميتة» : خبرها.

وقرأ أبو جعفر (٣) ، وحمزة مبنيّا للمفعول ، فتحتمل «ما» في هذه القراءة وجهين :

أحدهما : أن تكون «ما» مهيئة ، و «الميتة» مفعول ما لم يسمّ فاعل.

والثاني : أن تكون موصولة ، فمفعول «حرّم» القائم مقام الفاعل ضمير مستكنّ يعود على «ما» الموصولة ، و «لميتة» خبر «إنّ».

وقرأ (٤) أبو عبد الرحمن السّلميّ (٥) : «حرم» ، بضمّ الراء مخفّفة ، و «الميتة» رفعا و «ما» تحتمل الوجهين أيضا ، فتكون مهيّئة ، و «الميتة» ؛ فاعل ب «حرم» ، أو موصولة ، والفاعل ضمير يعود على «ما» وهي اسم «إنّ» ، و «الميتة» : خبرها ، والجمهور على تخفيف «الميتة» في جميع القرآن ، وأبو جعفر بالتّشديد ، وهو الأصل ، وهذا كما تقدّم في أنّ «الميت» مخفّف من «الميّت» ، وأن أصله «ميوت» ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [آل عمران : ٢٧].

ونقل عن قدماء النحاة : أنّ «الميت» بالتّخفيف : من فارقت روحه جسده ،

__________________

(١) في ب : بنوع.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٦٠ ، الدر المصون : ١ / ٤٤١.

(٣) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٤) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٩ ، البحر المحيط : ١ / ٦٦٠ ، والدر المصون : ١ / ٤٤١.

(٥) عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي تابعي ثقة توفي سنة ١٩٤ ه‍. ينظر غاية النهاية : ١ / ٤١٣.

١٧٠

وبالتشديد : من عاين أسباب الموت ، ولم يمت ، [وحكى ابن عطيّة (١) ـ رحمه‌الله ـ عن أبي حاتم : أنّ ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت](٢) بعد ، لا يقال فيه بالتخفيف ، ثم قال : ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزّيّ عن ابن كثير : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، وأما قوله : [الوافر]

٩٠٠ ـ إذا ما مات ميت من تميم

فسرّك أن يعيش فجىء بزاد (٣)

فقد حمل على من شارف الموت ، وحمله على الميّت حقيقة أبلغ في الهجاء.

وأصل «ميتة» ميوتة ، فأعلّت بقلب الواو ياء ، وإدغام الياء فيها ، وقال الكوفيّون : أصله «مويت» ، ووزنه «فعيل».

قال الواحديّ : «الميتة» : ما فارقته الرّوح من غير ذكاة ممّا يذبح (٤).

فصل في بيان أن الآية عامّة مخصّصة بالسّنّة

هذه الآية الكريمة عامّة دخلها (٥) التخصيص ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أحلّت لنا ميتتان : السّمك والجراد ، ودمان : الكبد والطّحال» (٦) وكذلك حديث جابر في العنبر ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في البحر : «هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته» (٧) وهذا يدلّ على تخصيص الكتاب بالسّنة.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٩.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت لأبي المهوس. ينظر : اللسان «لفف» ، والقرطبي : ٢ / ١٤٦ ، والدر المصون : ١ / ٤٤١.

(٤) ينظر تفسير الرازي : ٥ / ١١.

(٥) ومحلها في ب.

(٦) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١١٠١ ـ ١١٠٢) كتاب الأطعمة باب الكبد والطحال (٣٣١٤) والدارقطني (٤ / ٢٧١ ـ ٢٧٢) كتاب الصيد والذبائح والأطعمة (٢٥) والبيهقي (١ / ٢٥٤) كتاب الطهارة باب (الحوت يموت في الماء والجراد) والشافعي في «المسند» (٢ / ١٧٣) كتاب الصيد والذبائح (٦٠٧) وأحمد في مسنده (٢ / ٩٧).

(٧) أخرجه مالك في الطهارة (١٢) باب الطهور للوضوء ، والشافعي في «الأم» (١ / ٣) وابن أبي شيبة (١ / ١٣١) وأبو داود (١ / ٦٤) رقم (٨٣) والترمذي (١ / ١٠٠) رقم (٦٩) والنسائي (١ / ٥٠) وابن ماجه (١ / ١٣٦) رقم (٣٨٦) والدارمي (١ / ١٨٥ ـ ١٨٦) وأحمد (٢ / ٣٦١) والبيهقي (١ / ٣) والدارقطني (١ / ٣٦) رقم (١٣) وابن خزيمة (١١١) والحاكم (١ / ١٤١) وعبد الرزاق (١ / ٩٣ ـ ٩٦) وابن حبان (١١٩ ـ موارد) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٣٦٨) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وله شاهد من حديث جابر :

أخرجه أحمد (٣ / ٣٧٣) وابن ماجه (٣٨٨) وابن حبان (٢ / ٢٧٢) رقم (١٢٤١) وابن خزيمة (١١٢) والحاكم (١ / ١٤٣).

١٧١

وقال عبد الله بن أبي أوفى : «غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات ، نأكل الجراد» (١) وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [بعلاج ، أو حتف أنفه] ، والله أعلم.

فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر

إذا وقع طائر ونحوه في قدر ، فمات ، فقال مالك : لا يؤكل كل ما في القدر.

وقال ابن القاسم : يغسل اللّحم ويؤكل ، ويراق المرق ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما (٢).

فصل في بيان حكم الدّم

وأما الدّم : فكانت العرب تجعل الدم في النّار ، وتشويها ، ثم تأكلها ، فحرّم الله تعالى الدّم ، واتفق العلماء على أن الدم حرام نجس ، لا يؤكل ، ولا ينتفع به.

قال بعضهم (٣) : يحرم ، إذا لم تعم به البلوى ، ويعفى عنه ، إذا عمّت به البلوى ، كالذي في اللّحم والعروق ، واليسير في الثّوب والبدن يصلّى فيه ، وأطلق الدّم هنا ، وقيّده بالمسفوح في «الأنعام» (٤) ، فيحمل المطلق على المقيّد ، وأمّا لحم الخنزير ، فاللّحم معروف ، وأراد الخنزير بجميع أجزائه ، لكنه خصّ اللحم ؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل ، واللّحم جمعه لحوم ولحمان ، يقال : لحم الرّجل ، بالضم ، لحامة ، فهو لحيم ، أي : غلظ ، ولحم ، بالكسر يلحم ، بالفتح ، فهو لحم : اشتاق إلى اللّحم ، ولحم النّاس ، فهو لاحم ، أي : أطعمهم اللحم ، وألحم : كثر عنده اللّحم [والخنزير : حيوان معروف ، وفي نونه قولان :

أصحهما : أنّها أصليّة ، ووزنه : «فعليل» ؛ كغربيب.

والثاني : أنها زائدة ، اشتقوه من خزر العين ، أي : ضيقها ؛ لأنه كذلك ينظر ، وقيل : الخزر : النّظر بمؤخّر العين ؛ يقال : هو أخزر ، بيّن الخزر](٥).

فصل في بيان تحريم الخنزير

أجمعت الأمّة على تحريم لحم الخنزير ، قال مالك : إن حلف لا يأكل الشّحم ، فأكل لحما لم يحنث بأكل اللحم ، ولا يدخل اللحم في اسم الشّحم ؛ لأنّ اللحم مع الشّحم يسمّى لحما ، فقد دخل الشّحم في اسم اللّحم ، واختلفوا في إباحة خنزير الماء ؛

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٦٢٠) كتاب الذبائح والصيد : باب أكل الجراد (٤٥٩٥) ومسلم (٣ / ١٥٤٦) كتاب الصيد والذبائح : باب إباحة الجراد (٥٢ / ١٩٥٢) والنسائي (٧ / ٢١٠) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٣٨).

(٢) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٤٨.

(٣) وهو خويزمنداد من المالكية.

(٤) [الآية : ١٤٥].

(٥) سقط في ب.

١٧٢

قال القرطبيّ (١) : لا خلاف في أنّ جملة الخنزير محرّمة ، إلّا الشّعر ، فإنّه يجوز الخرازة به.

قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ) : «ما» موصولة بمعنى «الّذي» ، ومحلّها : إمّا النصب ، وإمّا الرفع ؛ عطفا على «الميتة» والرّفع : إما خبر «إنّ» ، وإما على الفاعلية ؛ على حسب ما تقدم من القراءات ؛ و «أهلّ» مبنيّ للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في «به» والضمير يعود على «ما» والباء بمعنى «في» ولا بد من حذف مضاف ، أي : «في ذبحه» ؛ لأن المعنى : «وما صيح في ذبحه لغير الله» ، والإهلال : مصدر «أهلّ» ، أي : صرخ.

قال الأصمعيّ : أصله رفع الصّوت ، وكلّ رافع صوته ، فهو مهلّ. ومنه الهلال ؛ لأنّه يصرخ عند رؤيته ، واستهلّ الصبيّ ؛ قال ابن أحمر : [السريع]

٩٠١ ـ يهلّ بالغرقد ركبانها

كما يهلّ الرّاكب المعتمر (٢)

وقال النّابغة : [الكامل]

٩٠٢ ـ أو درّة صدفيّة غوّاصها

بهج متى يرها يهلّ ويسجد (٣)

وقال القائل : [المديد]

٩٠٣ ـ تضحك الضّبع لقتلى هذيل

وترى الذّئب لها يستهلّ (٤)

وقيل للمحرم : مهلّ ؛ لرفع الصوت بالتّلبية ، و «الذّابح» مهلّ ؛ لأنّ العرب كانوا يسمّون الأوثان عند الذّبح ، ويرفعون أصواتهم بذكرها ، فمعنى قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، يعني : ما ذبح للأصنام ، والطّواغيت ، قاله مجاهد ، والضّحّاك وقتادة (٥) ، وقال الرّبيع ابن أنس ، وابن زيد : يعني : ما ذكر عليه غير اسم الله (٦).

قال ابن الخطيب (٧) ـ رحمه‌الله ـ : وهذا القول أولى ؛ لأنّه أشدّ مطابقة للّفظ.

قال العلماء : لو ذبح مسلم ذبيحة ، وقصد بذبحها التقرّب إلى [غير] الله تعالى ، صار مرتدّا ، وذبيحته ذبيحة مرتدّ ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب.

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٥٠.

(٢) البيت ذكره ابن منظور في اللسان «عمر». وينظر الدر المصون : ١ / ٤٤٢.

(٣) ينظر ديوانه : (١٠٧) ، والقرطبي : ٢ / ١٥١ ، والدر المصون : ١ / ٤٤٢.

(٤) البيت لتأبط شرا. ينظر الحماسة : ١ / ٤٠٣ ، واللسان «ضحك» ، والبحر المحيط : ١ / ٦٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٤٤٢.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٢٠) عن قتادة ومجاهد والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم بمعناه عن أبي العالية ، كما في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٨).

(٧) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٥ / ١١.

١٧٣

أمّا ذبائح أهل الكتاب ، فتحلّ لنا ، لقوله تبارك وتعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥].

فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال

اختلفوا في التّحريم المضاف إلى الأعيان ، [هل يقتضي الإجمال؟

فقال الكرخيّ : إنّه يقتضي الإجمال ، لأنّ الأعيان](١) لا يمكن وصفها بالحل والحرمة ، فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها ، وهو غير محرّم ، فلا بدّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصّ ، وليس بعض الأفعال أولى من بعض ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملة.

وأمّا أكثر العلماء ، فقالوا : إنّها ليست بمجملة ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرّف ؛ قياسا على هذه الأجسام ؛ كما أنّ الذوات لا تملك ، وإنّما تملك التصرّفات فيها ، فإذا قيل : «فلان يملك جارية» ، فهم كلّ أحد أنه يملك (٢) التصرّف فيها ؛ فكذا هاهنا.

فإن قيل : لم لا يجوز تخصيص هذا التّحريم بالأكل ؛ لأنّه المتعارف من تحريم الميتة ، ولأنّه ورد عقيب قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خبر شاة ميمونة : «إنّما حرّم من الميتة أكلها» (٣).

فالجواب عن الأوّل : لا نسلّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.

وعن الثّاني : بأنّ هذه الآية الكريمة مسألة بنفسها ؛ فلا يجب قصرها على ما تقدّم ، بل يجب إجراؤها على ظاهرها.

وعن الثّالث : أنّ ظاهر القرآن مقدّم على خبر الواحد ، هذا إذا لم نجوّز تخصيص القرآن بخبر الواحد ، فإن جوّزناه ، يمكن أن يجاب عنه ؛ بأن المسلمين ، إنّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية ؛ فدلّ انعقاد إجماعهم على أنّها غير مختصّة ببيان حرمة الأكل ، وللسّائل أن يمنع هذا الإجماع ، والله تعالى أعلم.

فإن قيل : كلمة «إنّما» تفيد الحصر ، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة ، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات ، وزاد فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنّطيحة ، وما أكل السّبع ، فما معنى هذا الحصر؟

فالجواب : أنّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها ، وإن قلنا : إنّ كلمة «إنّما» لا تفيد الحصر ، فالإشكال زائل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : كلما خدمته بملك.

(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (٤٩٨) والبخاري (٢ / ١٥٨) ، (٣ / ١٠٧) ومسلم كتاب الحيض ١٠٠ ، ١٠١ ، وأبو داود كتاب اللباس باب ٤ والنسائي (٧ / ١٧٢) وابن ماجه (٣٦١٠) وأحمد (١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، ٣٣٠) و (٦ / ٣٢٩) والدارمي (٢ / ٨٦) والبيهقي (١ / ١٥ ، ٢٣) والطبراني (١١ / ١٦٧) وابن أبي شيبة (٨ / ١٩١) وابن عبد البر في «التمهيد» (٤ / ١٥٤) والطحاوي في «المشكل» ، (١ / ١٩٧) وفي «شرح المعاني» (١ / ٤٧٢) والدار قطني (١ / ٤١) والحميدي (٣١٥ ، ٤٩١).

١٧٤

فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ

للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ :

فأولها : قول الزّهريّ : يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدّباغ ، ويليه داود ، قال : تطهر كلّها بالدّباغ ، ويليه مالك ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلّها دون باطنها ، ويليه أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : يطهر كلها بالدّباغ إلا جلد الخنزير ، ويليه قول الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ قال : تطهر كلّها بالدّباغ إلّا جلد الكلب والخنزير ، ويليه الأوزاعي ، وأبو ثور ، قالا : يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ، ويليه أحمد بن حنبل ، قال : لا يطهر منها شيء بالدباغ ؛ واحتجّ بالآية الكريمة ، والخبر ؛ أما الآية : فقوله تبارك وتعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] فأطلق التحريم ، ولم يقيّده بحال دون حال ، وأمّا الخبر : فقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حديث عبد الله بن عكيم ، لأنه قال : «أتانا كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته بشهر ، أو شهرين : إنّي كنت رخّصت لكم في جلود الميتة ، فإذا أتاكم كتابي هذا ، فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب» (١).

واختلفوا في أنّه ، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيّ ، والبهيمة؟ فمنهم : من منع منه ؛ وقال : لأنّه انتفاع بالميتة ، والآية الكريمة دالّة على تحريم الانتفاع بالميتة ، فأمّا إذا أقدم البازيّ من عند نفسه على أكل الميتة ، فهل يجب عليه منعه ، أم لا؟ فيه احتمال.

فصل اختلافهم في حرمة الدّماء غير المسفوحة

حرّم جمهور العلماء الدّم ، سواء كان مسفوحا ، أو غير مسفوح ، وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : [دم السّمك ليس بمحرّم.

حجّة الجمهور : ظاهر هذه الآية الكريمة ، وتمسّك أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ](٢) بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥] فصرّح بأنّه لم يجد من المحرّمات شيئا ، إلّا ما ذكر ، فالدّم الذي لا يكون مسفوحا ، وجب ألّا يكون محرّما ؛ لأنّ هذه الآية الكريمة خاصّة ، وتلك عامّة ، والخاصّ مقدّم على العامّ.

وأجيب بأنّ قوله «لا أجد» ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٦٥) كتاب اللباس باب من روى أنه لا ينتفع بإهاب الميتة (٤١٢٧) والترمذي (٤ / ١٩٤) رقم (١٧٢٩) وابن ماجه (٣٦١٣) والنسائي (٧ / ١٧٥) وأحمد (٤ / ٣١٠ ـ ٣١١) وابن أبي شيبة (٨ / ٣١٥) و (١٣ / ٥٣) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٢٥٩) وابن عبد البر (٤ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ـ ٢٦١) والطبراني في «الأوسط» (٢ / ١٠١) من حديث عبد الله بن عكيم.

(٢) سقط في ب.

١٧٥

هذه الآية ، بل على أنّه تعالى ما بيّن له إلّا تحريم هذه الأشياء ، وهذا لا ينافي أن يبيّن له بعد ذلك تحريم شيء آخر ، فلعلّ قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] نزلت بعد ذلك ، فكان ذلك بيانا لتحريم الدّم مسفوحا ، أو غير مسفوح.

وإذا ثبت هذا ، وجب الحكم بحرمة جميع الدّماء ، ونجاستها ، فيجب إزالة الدّم عن اللّحم ما أمكن ، وكذا في السّمك ، وأيّ دم وقع في الماء ، أو الثّوب ، فإنه ينجس ذلك المورود.

واختلفوا في قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «أحلّت لنا ميتتان ودمان» ، هل تسمية الكبد والطّحال دما حقيقة ، أم تشبيه (١).

فصل في شراء الخنزير ، وأكل خنزير الماء

أجمعت الأمّة على أنّ الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه ؛ لأن معظم الانتفاع متعلّق به ، واختلفوا في أنّه هل يجوز أن يشترى؟

فقال أبو حنيفة ، ومحمد : يجوز ، وقال الشافعيّ : لا يجوز ، وكره أبو يوسف ـ رحمه‌الله تعالى ـ الخزز به ، وروي عنه الإباحة.

واختلفوا في خنزير الماء ، فقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعيّ : لا بأس بأكل شيء يكون في البحر. وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل.

حجّة الشافعيّ قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) [المائدة : ٩٦] وحجّة أبي حنيفة : أنّ هذا خنزير ، فيدخل في آية التّحريم.

قال الشّافعيّ (٢) ـ رضي الله عنه ـ : إذا أطلق الخنزير ، لم يتبادر إلى الفهم لحم السّمك ، بل غير السّمك بالاتّفاق ، ولأنّ خنزير الماء لا يسمّى خنزيرا على الإطلاق ، بل يسمّى خنزير الماء.

فصل

من الناس : من زعم أنّ المراد ب (ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ذبائح عبدة الأوثان على النصب ، قال ابن عطيّة ـ رضي الله عنه ـ : رأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن : أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرسا ، فذبحت جزورا ، فقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : لا يحلّ أكلها ، فإنها نحرت لصنم ، وأجازوا ذبيحة النّصارى ، إذا سمّوا عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ، ومكحول ، والحسن ، والشّعبيّ ، وسعيد بن المسيّب. وقال مالك ، والشافعيّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك ، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٨.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٩.

١٧٦

قال عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلّون لغير الله ، فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم ، فكلوا ، فإنّ الله تبارك وتعالى ، قد أحلّ ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون ؛ واحتجّ المخالف بقوله تبارك وتعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] وهذا عامّ ، وبقوله : «وما ذبح على النّصب» فدلّت هذه الآية الكريمة على أنّ المراد بقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) هو المراد ب «ما ذبح على النّصب» ، ولأن النّصارى ، إذا سمّوا الله تعالى ، فإنّما يريدون به المسيح ، فإذا كانت إرادتهم لذلك ، لم تمنع حلّ ذبيحتهم ، مع أنّه يهلّ به لغير الله تعالى ، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه ، إذ ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح.

والجواب عن الأوّل : أن قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة: ٥] عامّ ، وقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) خاصّ ، والخاصّ مقدّم على العامّ.

وعن الثاني أن قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) لا يقتضي تخصيص قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ؛ لأنهما آيتان متباينتان.

وعن الثالث : إنّما كلّفنا بالظّاهر ، لا بالباطن ، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى ، وجب أن يحلّ ، ولا سبيل لنا إلى الباطن.

قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) في «من» وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطية.

والثاني : أن تكون موصولة بمعنى «الذي».

فعلى الأوّل : يكون «اضطرّ» في محلّ جزم بها ، وقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) جواب الشرط ، والفاء فيه لازمة.

وعلى الثاني : لا محلّ لقوله «اضطرّ» من الإعراب ، لوقوعه صلة ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ تشبيها للموصول بالشّرط ، ومحلّ (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) الجزم على الأوّل ، والرفع على الثاني. والجمهور على «اضطرّ» بضمّ الطاء ، وهي أصلها ، وقرأ (١) أبو جعفر بكسرها ؛ لأنّ الأصل «اضطرر» بكسر الراء الأولى ، فلمّا أدغمت الراء في الرّاء ، نقلت حركتها إلى الطّاء بعد سلبها حركتها ، وقرأ (٢) ابن محيصن : «اطّرّ» بإدغام الضّاد في الطّاء ، وقد تقدّم الكلام في المسألة هذه عند قوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة : ١٢٦].

وقرأ أبو عمرو (٣) ، وعاصم ، وحمزة بكسر نون «من» على أصل التقاء الساكنين ، وضمّها الباقون ؛ إتباعا لضمّ الثالث.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٤٠ ، البحر المحيط ١ / ٦٦٥ ، والدر المصون ١ / ٤٤٢.

(٢) ينظر المصادر السابقة.

(٣) ينظر : البحر المحيط ١ / ٦٦٥ ، الدر المصون ١ / ٤٤٣.

١٧٧

وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين ؛ وضمّ الثالث ضمّا لازما نحو : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) [الأنعام : ١٠] (قُلِ ادْعُوا) [الإسراء : ١١٠] ، (وَقالَتِ اخْرُجْ) [يوسف : ٣١] ، جرى الخلاف المذكور ، إلّا أنّ أبا عمرو خرج عن أصله في (أَوِ) [المزمل : ٣] و (قُلِ ادْعُوا) [الإسراء : ١١٠] فضمّهما ، وابن ذكوان خرج عن أصله ، فكسر التنوين خاصّة ؛ نحو (مَحْظُوراً انْظُرْ) [الإسراء : ٢٠ ، ٢١] واختلف عنه في (بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا) [الأعراف : ٤٩] (خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) [إبراهيم : ٢٦] فمن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضمّ ، فللإتباع ، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك عند ذكره ، إن شاء الله ـ تعالى ـ والله أعلم.

قوله : «غير باغ» : «غير» : نصب على الحال ، واختلف في صاحبها :

فالظاهر : أنه الضمير المستتر [في «اضطرّ»](١) ، وجعله القاضي ، وأبو بكر الرازيّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله «اضطرّ» ؛ قالا : تقديره : «فمن اضطرّ فأكل غير باغ» ؛ كأنهما قصدا بذلك أن يجعلاه قيدا في الأكل لا في الاضطرار.

قال أبو حيّان (٢) : ولا يتعيّن ما قالاه ؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدّر بعد قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بل هو الظاهر والأولى ؛ لأنّ في تقديره قبل «غير باغ» فصلا بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : «غير باغ».

و «عاد» : اسم فاعل من : عدا يعدو ، إذا تجاوز حدّه ، والأصل : «عادو» فقلب الواو ياء ؛ لانكسار ما قبلها ؛ كغاز من الغزو ، وهذا هو الصحيح ؛ وقيل : إنّه مقلوب من : عاد يعود ، فهو عائد ، فقدّمت اللام على العين ، فصار اللّفظ «عادو» فأعلّ بما تقدّم ، ووزنه «فالع» ؛ كقولهم : «شاك» في «شائك» من الشّوكة ، و «هار» ، والأصل «هائر» ، لأنّه من : هار يهور.

قال أبو البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوبا ؛ عطفا على موضع «غير» جاز» ، يعني : فكان يقال : «ولا عاديا».

قوله : «اضطرّ» أحوج وألجىء ، فهو : «افتعل» من الضّرورة ، وأصله : من الضّرر ، وهو الضّيق ، وهذه الضّرورة لها سببان :

أحدهما : الجوع الشّديد ، وألّا يجد مأكولا حلالا يسدّ به الرّمق ، فيكون عند ذلك مضطرا.

والثاني : إذا أكره على تناوله.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : البحر المحيط ١ / ٦٦٥.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٧٦.

١٧٨

واعلم أنّ الاضطرار ليس من فعل المكلّف ؛ حتى يقال : إنّه لا إثم عليه ، فلا بدّ من إضمار ، والتقدير : «فمن اضطرّ ، فأكل ، فلا إثم عليه» ونظيره : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] ، فحذف «فأفطر» ، وقوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦] وإنما جاز الحذف ؛ لعلم المخاطب به ، ودلالة الخطاب عليه.

والبغي : أصله في اللغة الفساد.

قال الأصمعيّ : يقال : بغى الجرح بغيا : إذا بدأ في الفساد ، وبغت السماء ، إذا كثر مطرها ، والبغي : الظلم ، والخروج عن الإنصاف ؛ ومنه قوله تبارك وتعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى : ٣٩] وأصل العدوان : الظّلم ، ومجاوزة الحد.

فصل

اختلفوا في معنى قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) فقال بعضهم (١) : «غير باغ» أي غير خارج على السّلطان ، و «لا عاد» أي : متعدّ بسفره ، أعني : عاص بأن خرج لقطع الطّريق ، والفساد في الأرض ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد (٢) بن جبير.

وقالوا : لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة ، إذا اضطر إليها ، ولا أن يترخّص في السّفر بشيء من الرّخص ؛ حتى يتوب ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل ، واختلفوا في معناه.

فقال الحسن ، وقتادة ، والرّبيع ، ومجاهد ، وابن زيد : أي : يأكل من غير ضرورة (٣) أي : بغي في أكله «ولا عاد» ، أي : ولا يعدو لشبعه.

وقيل : «غير باغ» أي : غير طالبها ، وهو يجد غيرها ، «ولا عاد» ، أي : غير متعدّ ما حد له ، فيأكل حتّى يشبع ، ولكن يأكل ما يسدّ رمقه (٤).

وقال مقاتل : «غير باغ» أي : مستحلّ لها ، «ولا عاد» أي : يتزوّد منها ، وقيل : «غير باغ» ، أي : مجاوز للحدّ الذي أحلّ له ، «ولا عاد» ، أي : لا يقصّر فيما أبيح له فيدعه.

قال مسروق : من اضطرّ إلى الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، فلم يأكل ، ولم يقرب ، حتى مات ، دخل النّار.

وقال سهل بن عبد الله : «غير باغ» : مفارق للجماعة ، «ولا عاد» ، أي : ولا مبتدع مخالف السنة ، ولم يرخّص للمبتدع تناول المحرّم عند الضرورة.

فإن قيل : الأكل في تلك الحالة واجب ، وقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أيضا يفيد الإباحة ،

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤٠.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤٠.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤١.

(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٤١.

١٧٩

وأيضا : فإنّ المضطرّ كالملجأ إلى الفعل ، والملجأ لا يوصف بأنّه لا إثم عليه.

فالجواب : أنّا قد بينّا عند قوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] : أنّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، وأيضا : قوله تبارك وتعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) : معناه : رفع الحرج والضّيق.

واعلم : أنّ هذا الجائع ، إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل له فيه النّفرة الشّديدة ، فإنّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرّمق ، وكما يصير ملجأ إلى الهرب من السّبع ، إذا أمكنه ذلك ، أمّا إذا حصلت النّفرة ، فإنّه بسبب تلك النّفرة ، يخرج عن أن يكون ملجأ ، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النّفار.

فإن قيل : قوله تبارك وتعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يناسب أن يقال بعده : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنّ الغفران ، إنّما يذكر عند حصول الإثم.

فالجواب من وجوه (١) :

أحدها : أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدّم إلّا أنه زالت الحرمة ؛ لقيام المعارض ، فلمّا كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضي للحرمة ، عبّر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر بعده أنّه رحيم ، يعني : لأجل الرحمة عليكم ، أبحت لكم ذلك.

وثانيها : لعل المضطرّ يزيد على تناول قدر الحاجة.

وثالثها : أن الله تعالى ، لمّا بيّن هذه الأحكام ، عقّبها بقوله تعالى : «غفور» للعصاة ، إذا تابوا ، «رحيم» بالمطيعين المستمرّين على منهج الحكمة.

فصل في معنى المضطر

قال الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) معناه : أن كل من كان مضطرّا ، ولا يكون موصوفا بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان ألبتّة ، فأكل ؛ فلا إثم عليه (٢).

وقال أبو حنيفة : معناه : «فمن اضطرّ ، فأكل غير باغ ، ولا عاد في الأكل ، فلا إثم عليه» فخصّص صفة البغي والعدوان بالأكل ، ويتفرّع على هذا الخلاف ، هل يترخّص العاصي بسفره ، أم لا؟

فقال الشافعيّ : لا يترخّص ؛ لأنّه يوصف بالعدوان ؛ فلا يندرج تحت الآية الكريمة (٣).

وقال أبو حنيفة : يترخّص ؛ لأنّه مضطرّ ، وغير باغ ، ولا عاد في الأكل ، فيندرج تحت الآية (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٠.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٠.

١٨٠