اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

عند قوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] قاله ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ. قال ابن فارس : ويقال : «إنّ [النّهار](١) فرخ الحبارى» وقدم اللّيل على النّهار لأنّه سابقه ؛ وقال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وهذا أصحّ القولين.

وقيل : النّور سابق الظلمة ، وينبني على هذا الخلاف فائدة ، وهي أنّ الليلة ، هل هي تابعة لليوم [قبلها ، أو لليوم بعدها.

فعلى الصّحيح : يكون الليل لليوم بعدها ، فيكون اليوم تابعا لها ، وعلى الثاني : تكون لليوم قبلها ، فتكون اللّيلة تابعة له](٢).

فيوم عرفة ؛ على الأوّل : مستثنى من الأصل ؛ فإنّه تابع للّيلة الّتي بعده ، وعلى الثاني : جاء على الأصل.

قال القرطبي (٣) : وقسّم ابن الأنباريّ الزّمن ثلاثة أقسام :

قسما جعله ليلا محضا ؛ وهو من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر ، وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشّمس إلى غروبها ، وقسما جعله مشتركا بين النّهار واللّيل ؛ وهو من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ؛ لبقايا ظلمة اللّيل ، [ومبادىء ضوء النّهار].

قوله تعالى : «والفلك» عطف على «خلق» المجرور ب «في» لا على «السّموات» المجرور بالإضافة ، و «الفلك» يكون واحدا ؛ كقوله : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] ، وجمعا كقوله : (فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فإذا أريد به الجمع ، ففيه أقوال :

أصحّها ـ وهو قول سيبويه (٤) ـ : أنّه جمع تكسير ، وإن قيل : جمع التكسير لا بدّ فيه من تغيّر ما ، فالجواب : أنّ تغييره مقدّر ، فالضمة في حال كونه جمعا ، كالضمة في «حمر» و «ندب» وفي حال كون مفردا ، كالضّمّة في «قفل» ، وإنّما حمل سيبويه على هذا ، ولم يجعله مشتركا بين الواحد والجمع ؛ نحو : «جنب» و «شلل» [فلمّا ثنّوه ، وقالوا : فلكان ، علمنا](٥) أنّهم لم يقصدوا الاشتراك الّذي قصدوه في «جنب» و «شلل» ونظيره ناقة هجان ونوق هجان ، ودرع دلاص ، ودروع دلاص ، فالكسرة في المفرد كالكسرة في «كتاب» وفي الجمع كالكسرة في «رجال» ؛ لأنهم قالوا في التّثنية : هجانان ودلاصان.

الثاني : مذهب الأخفش : أنّه اسم جمع ، كصحب ، وركب.

الثالث : أنّه جمع «فلك» بفتحتين ، كأسد وأسد ، واختار أبو حيّان أنه مشترك بين

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٠.

(٤) ينظر الكتاب : ٢ / ١٨١.

(٥) سقط في ب.

١٢١

الواحد والجمع ، وهو محجوج بما تقدّم من التثنية ، ولم يذكر لاختياره وجها ، وإذا أفرد «فلك» ، فهو مذكّر ؛ قال تعالى : (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١]. وقال جماعة ، منهم أبو البقاء (١) : يجوز تأنيثه ؛ مستدلّين بقوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) فوصفه بصفة التأنيث ، ولا دليل في ذلك ؛ لاحتمال أن يراد به الجمع ؛ وحينئذ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحدة.

قال الواحديّ (٢) : وأصله من الدّوران ، فكل مستدير فلك ، ومنه «فلك السّماء» ؛ لدوران النّجوم فيه ، و «فلكة المغزل» [وفلكت الجارية : استدار نهدها](٣) ، وسمّيت السّفينة فلكا لأنّها تدور بالماء أسهل دور.

وجاء بصلة «الّتي» فعلا مضارعا ؛ ليدلّ على التجدّد والحدوث ، وإسناد الجري إليها مجاز ، وقوله : (فِي الْبَحْرِ) توكيد ؛ إذ المعلوم أنّها تجري في غيره ؛ كقوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].

فصل في عدد البحور

قال ابن الخطيب (٤) ـ رحمه‌الله ـ قيل : إنّ البحور المعروفة [خمسة] : بحر الهند ، وهو بحر الصّين ، وبحر المغرب ، وبحر الشّام ، وبحر الرّوم [ومصر] وبحر نيطش وبحر جرجان.

فالأوّل يمتدّ طوله [من المغرب إلى المشرق] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند ، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر ، يسمّى البربريّ ، وخليج بحر أيلة ، وهو بحر القلزم ، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة ، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران ، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة ، وخليج فارس الحجاز واليمن ، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أقصى الهند يسمّى الأخضر ، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها ثلاثة آلاف ميل فيها جبال وأنهار ، ومنها يخرج الياقوت الأحمر.

وأمّا بحر المغرب ، فهو المحيط ويسمّيه اليونانيّون : أوقيانوس ، ويتّصل به بحر الهند ، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذيا لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذيا لأرض السّودان مارّا على [حدود السّوس ، وطنجة وتاهرت] ، ثم الأندلس والجلالقة والصّقالبة ، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق ، وهذا البحر لا تجري فيه السّفن إلا بقرب ساحله ، وفيه

__________________

(١) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٢.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٧٦.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٧٦.

١٢٢

ستّ جزائر تسمى الخالدات ، تقابل أرض الحبشة ، ويخرج منه خليج عظيم يمتد إلى أرض بلغار.

وأما بحر الرّوم وإفريقية [ومصر والشّام :] فيخرج منه إلى أرض البربر ، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستّون جزيرة.

وأما بحر نيطش : فيمتدّ من اللاذقيّة إلى خلف قسطنطينيّة ، وأرض الرّوم والصّقالبة.

وأمّا بحر جرجان ، ويعرف ب «بحر السّكون» فيمتدّ إلى طبرستان والدّيلم ، وباب الأبواب ، وليس يتصل ببحر آخر ، فهذه هي [البحور] العظام ، وأما غيرها : فهي بطائح ؛ كبحيرة خوارزم ، وبحيرة طبريّة.

فصل في سبب تسمية البحر بالبحر

قال اللّيث : سمي البحر بحرا ؛ لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ، ويقال : استبحر فلان [في العلم](١) ، إذا اتّسع فيه ؛ وتبحّر الرّاعي في الرّعي كثر ، وتبحّر فلان في المال.

وقال غيره : سمّي البحر بحرا ؛ لأنّه شقّ في الأرض ، والبحر الشّقّ ، ومنه البحيرة (٢).

قوله تعالى : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ). [في «ما» قولان :

أحدهما : أنها موصولة اسميّة ؛ وعلى هذا : الباء للحال ، أي : تجري مصحوبة بالأعيان الّتي تنفع النّاس.

الثّاني : أنها](٣) حرفيّة ، وعلى هذا تكون الباء للسّبب ، أي : تجري بسبب نفع النّاس في التّجارة وغيرها.

فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع

فأما كيفيّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصّانع تعالى وتقدّس :

فهو أنّ السّفن ، وإن كانت من تركيب النّاس إلّا أنّه تعالى [هو الّذي](٤) خلق الآلات الّتي يمكن بها تركيب هذه السّفن ، وتبحر بها الرياح ، وقوّى قلوب من ركبها ، وخصّ كلّ طرف من أطراف العالم بشيء معيّن ، وأحوج الكلّ إلى الكلّ ؛ حتّى صار ذلك داعيا يدعوهم إلى اقتحام هذه الأخطار في هذه الأسفار ، وسخّر البحر لحمل الفلك ، مع قوّة سلطان البحر إذا هاج ، وعظم هوله ، واضطربت أمواجه ، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يخلّص السّفن عنها ويوصّلها إلى ساحل السّلامة ، وهذا امر

__________________

(١). سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٧٦.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

١٢٣

لا بد له من مدبّر يدبّره ، ومقتدر يحفظه ، وهذه الآية الكريمة تدلّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب ، والتّجارة ؛ لقوله : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ).

فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر

البحر إذا أرتج ، لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ولا في الزّمن الذي الأغلب فيه عدم السّلامة ؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن يكون الغالب فيه السلامة ـ [نقله القرطبيّ (١)](٢).

قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) [البقرة : ١٦٤] [«من»] الأولى معناها ابتداء الغاية ، أي : أنزل من جهة السماء ، وأما الثانية فتحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون لبيان الجنس فإنّ المنزل من السّماء ماء وغيره.

والثاني : أن تكون للتّبعيض ؛ فإنّ المنزل منه بعض لا كلّ.

والثالث : أن تكون هي وما بعدها بدلا من قوله : (مِنَ السَّماءِ) بدل اشتمال بتكرير العامل ، وكلاهما أعني «من» الأولى ، و «من» الثانية متعلّقان ب «أنزل».

فإن قيل : كيف تعلّق حرفان متّحدان بعامل واحد؟

فالجواب : أنّ الممنوع من ذلك أن يتّحدا معنى من غير عطف ، ولا بدل ، لا تقول : أخذت من الدّراهم من الدّنانير ، وأمّا الآية الكريمة : فإنّ المحذور فيها منتف ، وذلك أنّك إن جعلت «من» الثانية للبيان ، أو للتبعيض ، فظاهر ؛ لاختلاف معناهما ؛ فإنّ الأولى للابتداء ، وإن جعلناها لابتداء الغاية ، فهي وما بعدها بدل ، والبدل يجوز ذلك فيه ، كما تقدّم ، ويجوز أن تتعلّق «من» الأولى بمحذوف على أنّها حال ؛ إمّا من الموصول نفسه ، وهو «ما» ، أو من ضميره المنصوب ب «أنزل» ، أي : وما أنزل الله حال كونه كائنا من السّماء.

فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالّة على وجود الصانع

قيل : أراد بالسّماء السّحاب ؛ فإنّ كلّ ما علاك يسمّى سماء ، ومنه قيل : سقف البيت سماؤه ، وقيل : أراد السّماء المعروفة ، وأنّه ينزل من السّماء إلى السّحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ، وفي دلالة إنزال الماء من السّماء على وجود الصّانع : أنّ جسم الماء ، وما قام به من صفات الرّقّة ، والرّطوبة ، واللّطافة والعذوبة ، وجعله سببا لحياة الإنسان ، ولأكثر [منافعه](٣) ، وسببا لرزقه ، وكونه من السحاب معلّقا في جوّ السّماء ، وينزل عند التضرّع ، واحتياج الخلق إليه ـ مقدار المنفعة ، وسوقه إلى بلد ميّت ، فيحيي به

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٢.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : صنائعه.

١٢٤

ـ من الآيات العظيمة الدّالّة على وجود الصانع المدبّر القدير.

قوله تعالى : «فأحيا به» عطف «أحيا» على «أنزل» الّذي هو صلة بفاء التّعقيب ، دلالة على سرعة النبات ، و «به» متعلّق ب «أحيا» والباء يجوز أن تكون للسّبب ، وأن تكون باء الإله ، وكلّ هذا مجاز ؛ فإنّه متعال عن ذلك ، والضمير في «به» يعود على الموصول.

فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع

اعلم أنّ «أحيا الأرض بعد موتها» يدلّ على وجود الصانع من وجوه :

[فإنّ نفس الزّرع وخروجه على هذا الحدّ ليس في مقدور أحد.

واختلاف ألوانه على وجه](١) [لا يحدّ ، ولا يحصى](٢) ، واختلاف الطّعوم والروائح ، مع كونه يسقى بماء واحد.

واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصة ، فإنّ ظهور النّبات من الكلأ ، والعشب ، وغيرهما ، لولاه ما عاش دوابّ الأرض ، ولما حصلت أقوات العباد [وملابسهم](٣).

وهذا لا بدّ له من [مدبّر] ، حكيم ، قادر.

ووصف الأرض بالحياة بعد الموت مجاز ؛ لأنّ الحياة لا تصحّ إلّا على من يدرك ، ويصحّ أن يعلم ، وكذلك الموت ؛ إلّا أنّ الجسم ، إذا صار حيّا ، حصل فيه أنواع من الحسن ، والنّضرة ، [والبهاء](٤) ، والنّماء ، فكذلك الأرض ، لمّا حصل لها سبب النبات ، حسن ، ونضرة ، ونور ، ورونق ، وذلك لشبهه [بالحياة] ، وموتها [يبسها ، وجدبها] ، وهذا مجاز أيضا ؛ لشبهه بالموت.

قوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها) يجوز في «بثّ» وجهان :

أظهرهما : أنّها عطف على «أنزل» داخل تحت حكم الصّلة ؛ لأنّ قوله «فأحيا» عطف على «أنزل» فاتصل به ، وصارا جميعا كالشّيء الواحد ، وكأنه قيل : «وما أنزل في الأرض من ماء ، وبثّ فيها من كلّ دابّة ؛ لأنّهم ينمون بالخصب ، ويعيشون بالحيا» قاله الزمخشري (٥).

والثاني : أنه عطف على «أحيا».

واستشكل أبو حيّان عطفه [عليها ؛ لأنّها صلة للموصول ، فلا بدّ من ضمير يرجع

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : لا تعد ولا تحصى.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر تفسير الكشاف : ١ / ٣٢٥.

١٢٥

من هذه الجملة إليه ، وليس ثمّ ضمير في اللّفظ](١) ؛ لأن «فيها» يعود على الأرض ، فبقي أن يكون محذوفا ، تقديره : وبثّ به فيها ، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرور بحرف إلا بشروط :

أن يكون الموصول مجرورا بمثل ذلك الحرف.

وأن يتّحد متعلّقهما.

وألّا يحصر الضّمير.

وأن يتعيّن للرّبط.

وألا يكون الجارّ قائما مقام مرفوع.

والموصول هنا غير مجرور ألبتّة ، ولمّا استشكل هذا بما ذكر ، خرّج الآية على حذف موصول اسميّ ؛ قال : وهو جائز شائع في كلامهم ، وإن كان البصريّون لا يجيزونه ؛ وأنشد شاهدا عليه : [الخفيف]

٨٦٦ ـ ما الّذي دأبه احتياط وحزم

وهواه أطاع يستويان (٢)

أي : والّذي أطاع ؛ وقوله : [الوافر]

٨٦٧ ـ أمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء (٣)

أي : ومن [يمدحه] وينصره.

وقوله : [الطويل]

٨٦٨ ـ فو الله ، ما نلتم وما نيل منكم

بمعتدل وفق ولا متقارب (٤)

أي : «ما الّذي نلتم» ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا ، وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [أي : وبالّذي أنزل إليكم](٥) ؛ ليطابق قوله : (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] ، ثم قال : وقد يتمشّى التقدير الأوّل ـ يعني : جواز الحذف ـ وإن لم يوجد شرطه. قال : وقد جاء ذلك في أشعارهم ؛ وأنشد : [الطويل]

٨٦٩ ـ وإنّ لساني شهدة يشتفى بها

وهوّ على من صبّه الله علقم (٦)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر في مغني اللبيب : ٢ / ٦٢٥ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٣.

(٣) البيت لحسان بن ثابت ينظر ديوانه : ص ٧٦ ، والمقتضب : ٢ / ١٣٧ ، وتذكرة النحاة : ص ٧٠ ، والدرر : ١ / ٢٩٦ ، وشرح الأشموني : ص ٨٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٣.

(٤) البيت لعبد الله بن رواحة ينظر الدرر : ١ / ٢٩٦ ، ٤ / ٢٤٣ ، وشرح شواهد المغني : ص ٩٣١ ، ومغني اللبيب : ص ٦٣٨ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٨ ، ٢ / ٤٢ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٣.

(٥) سقط في ب.

(٦) تقدم برقم ٣٤٣.

١٢٦

أي : علقم عليه ، وقوله : [الطويل]

٨٧٠ ـ لعلّ الّذي أصعدتني أن يردّني

إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادره (١)

أي : أصعدتني به.

[قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) يجوز في «كلّ» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون في موضع المفعول به](٢) ، وتكون «من» تبعيضيّة.

الثاني : [أن تكون «من» زائدة على مذهب الأخفش ، و «كلّ دابّة» مفعول به ل «بثّ» أيضا.

والثالث](٣) : أن يكون في محلّ نصب على الحال من مفعول «بثّ» المحذوف ، إذا قلنا : إنّ ثمّ موصولا محذوفا ، تقديره : وما بثّ حال كونه كائنا من كلّ دابّة ؛ وفي «من» حينئذ وجهان :

أحدهما : [أن تكون للبيان.

والثاني](٤) : أن تكون للتبعيض.

وقال أبو البقاء (٥) رحمه‌الله : ومفعول «بثّ» محذوف ، تقديره : «وبثّ فيها دوابّ من كلّ دابّة» وظاهر هذا أنّ «من كلّ دابّة» : صفة لذلك المحذوف ، [وهو تقدير لا طائل تحته](٦).

والبثّ : نشر وتفريق.

قال : [الطويل]

٨٧١ ـ ..........

وفي الأرض مبثوثا شجاع وعقرب (٧)

ومضارعه : يبثّ ، بضم العين ، وهو قياس المضاعف [المتعدّي] ، وقد جاء الكسر في أليفاظ ؛ قالوا : «نمّ الحديث ينمّه» بالوجهين.

والدّابّة : اسم لكلّ حيوان ، وزعم بعضهم إخراج الطّير منه ، وردّ [عليه] بقول علقمة : [الطويل]

٨٧٢ ـ كأنّهم صابت عليهم سحابة

صواعقها لطيرهنّ دبيب (٨)

__________________

(١) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه : (١٨٨) ، البحر المحيط : ١ / ٦٤١ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٢.

(٦) سقط في ب.

(٧) عجز بيت لبعض بني فقعس. ينظر الحماسة : ١ / ١٢٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

(٨) ينظر ديوانه : (٤٦) ، والقرطبي : (٢ / ١٣٢) واللسان «صوب» ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

١٢٧

ويقول الأعشى : [الطويل]

٨٧٣ ـ ..........

دبيب قطا البطحاء في كلّ منهل (١)

وبقوله سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) [النور : ٤٥] ثمّ فصّل : بمن يمشي على رجلين ، وهو الإنسان والطّير.

فصل في أنّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع

اعلم أنّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتّوليد ، وقد يكون بالتّوالد :

وعلى التقديرين : فلا بدّ فيهما من [الافتقار إلى](٢) الصّانع الحكيم ؛ يروى أنّ رجلا قال عند عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ : إنّي لأتعجّب من أمر الشّطرنج ، فإنّ رقعته ذراع في ذراع ، وإنّه لو لعب الإنسان ألف ألف مرّة ، فإنّه لا يتّفق مرّتان على وجه واحد ، فقال عمر بن الخطّاب ـ رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين ـ : ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أنّ مقدار الوجه شبر [في شبر] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه ؛ كالحاجبين ، والعينين ، والأنف ، [والفم] ، لا يتغيّر ألبتّة ، ثم إنّك لا ترى شخصين في الشّرق والغرب يشتبهان في الصّورة (٣) ، وكذا اللّون ، والألسنة ، والطّبائع ، والأمزجة ، والصّوت ، والكثافة ، واللّطافة ، والرّقّة ، والغلظ ، والطّول ، والقصر ، وبقيّة الأعضاء ، والبلادة ، والفطنة ، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرّقعة الصّغيرة هذه الاختلافات الّتي لا حدّ لها!

وروي عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ [أنه قال] : «سبحان من أبصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم» (٤).

واعلم أنّ أهل الطبائع ؛ قالوا : أعلى العناصر يجب أن يكون هو النّار ؛ لأنّها حارّة يابسة ، ودونها في اللّطافة : الهواء ، وهو حارّ رطب ، ودونها : الماء ؛ لأنّه بارد رطب ، والأرض لا بدّ أن تكون تحت الكلّ ؛ لثقلها ، وكثافتها ، [ويبسها] ، ثمّ إنّهم قلبوا هذه القضيّة في [تركيب] بدن الإنسان ؛ لأنّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف ، والعظم وهو بارد يابس ، فطبيعته على طبيعة الأرض ، وتحته الدّماغ ، وهو بارد رطب على طبع الماء ، وتحته النّفس ، وهو حارّ رطب على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلب ، وهو حارّ يابس

__________________

(١) عجز بيت وصدره :

نياف كغصن البان ترتج إن مشت

ينظر ديوانه : (١٦١) ، والبحر المحيط : (١ / ٦٢٩) ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) الأثر ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٧٩ ـ ١٨٠) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(٤) ذكره أيضا الفخر الرازي في «تفسيره» (٤ / ١٨٠) عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ.

١٢٨

على طبع النّار ، فسبحان من [بيده قلب] الطبائع ، وترتيبها كيف يشاء ، وتركيبها كيف أراد.

ومن هذا الباب : أنّ كلّ صانع يأتي بنقش لطيف ، فإنّه يصونه عن التّراب ؛ لئلّا يكدّره ، وعن النار ؛ لئلّا تحرقه ، وعن الهواء ؛ لئلّا يغيره ، وعن الماء ؛ لئلا تذهب به ، ثم إنّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء ؛ فقال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] ، وقال في النار : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٥] وقال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١] وقال تعالى في الماء : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ؛ وهذا يدلّ على أن صنعه بخلاف صنع كلّ أحد ؛ وأيضا : انظر إلى الطّفل بعد انفصاله من أمّه ، لو وضعت على فمه وأنفه ثوبا [فانقطع نفسه](١) ، لمات في الحال ، ثمّ إنه بقي في الرّحم المنطبق مدّة [مديدة] ، مع تعذّر النّفس هناك ، ولم يمت ، [ثم إنّه] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء ، وأبعدها عن الفهم ؛ بحيث لا يميز بين الماء والنّار ، وبين الأم وغيرها ، وبعد استكماله يصير أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أنّ ذلك من عظمة القادر الحكيم ، هذا بعض ما في الإنسان.

وأمّا الكلام على بقيّة الحيوان ، فبحر لا ساحل له.

قوله تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : «تصريف» : مصدر «صرّف» ، وهو الرّدّ والتّقليب ، ويجوز أن يكون مضافا للفاعل ، والمفعول محذوف ، تقديره : [وتصريف الرّياح السّحاب ؛ فإنّها تسوق السّحاب ، وأن يكون مضافا للمفعول ، والفاعل محذوف ، أي :](٢) وتصريف الله الرّياح ، والرّياح : جمع «ريح» ، جمع تكسير ، وياء الرّيح ، والرّياح عن واو ، والأصل «روح» ؛ لأنّه من : راح يروح ، وإنّما قلبت في «ريح» ؛ لسكونها ، وانكسار ما قبلها ، وفي «رياح» ؛ لأنّها عين [في جمع] بعد كسرة ، وبعدها ألف ، وهي ساكنة في المفرد ، وهي إبدال مطّرد ؛ ولذلك لمّا زال موجب [قلبها ، رجعت إلى أصلها] ؛ فقالوا : أرواح ؛ قال : [الطويل]

٨٧٤ ـ أربّت بها الأرواح كلّ عشيّة

فلم يبق إلّا آل خيم منضّد (٣)

ومثله : [الوافر]

٨٧٥ ـ لبيت تخفق الأرواح فيه

أحبّ إليّ من قصر منيف (٤)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت لزهير. ينظر ديوانه : (٣٦) ، والبحر المحيط : ١ / ٦٣٠ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

(٤) البيت لميسون بنت بحدل. ينظر الحماسة الشجرية : ٢ / ٥٧٣ ، والدر المصون : ١ / ١ / ٤٢٤.

١٢٩

فصل في لحن من قال : الأرياح

وقد لحن عمارة بن بلال ، فقال «الأرياح» في شعره ، فقال له أبو حاتم : «إنّ الأرياح لا تجوز» فقال له عمارة : ألا تسمع قولهم : رياح؟ فقال أبو حاتم : هذا خلاف ذلك ، فقال : صدقت ، ورجع.

قال أبو حيّان : وفي محفوطي قديما ؛ أنّ «الأرياح» جاء في شعر بعض فصحاء العرب المستشهد بكلامهم ، كأنّهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علّة القلب مفقودة في الجمع ، كما قالوا : «عيد وأعياد» والأصل «أعواد» ؛ لأنّه من : «عاد يعود» ، لكنه لما ترك البدل ، جعل كالحرف الأصليّ.

قال شهاب الدّين : ويؤيد ما قاله الشّيخ أن التزامهم «الياء» في «الأرياح» ؛ لأجل اللّبس [بينه ، وبين «أرواح» جمع «روح» ، كما قالوا : التزمت الياء في «أعياد» ؛ فرقا](١) بينه وبين «أعواد» جمع عود الحطب ؛ كما قالوا في التصغير : «عبيد» دون «عويد» ؛ وعلّلوه باللّبس المذكور.

وقال أبو عليّ : [يجمع] في القليل «أرواح» وفي الكثير «رياح» (٢).

قال ابن الخطيب (٣) وابن عطيّة : «وجاءت في القرآن مجموعة مع الرّحمة ، مفردة مع العذاب ، إلّا في قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [يونس : ٢٢] وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : «اللهمّ ، اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا» ؛ لأنّ ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء ، كأنّها جسم واحد ، وريح الرّحمة ليّنة متقطّعة ، وإنما أفردت مع الفلك ـ يعني في يونس ـ لأنّها لإجراء السّفن ، وهي واحدة متّصلة ؛ ثمّ وصفت بالطّيّبة ، فزال الاشتراك بينها ، وبين ريح العذاب». انتهى.

وردّ بعضهم هذا ؛ باختلاف القرّاء في اثني عشر موضعا في القرآن ، وهذا لا يردّه لأنّ من جمع في الرّحمة ، فقد أتى بالأصل المشار إليه ، ومن أفرد في الرّحمة ، فقد أراد الجنس ، [وأما الجمع في العذاب ، فلم يأت أصلا](٤) ، وأما الإفراد فإن وصف ، كما في يونس من قوله : «بريح طيّبة» فإنّه مزيل للّبس ، وإن أطلق ، كان للعذاب ، كما في الحديث ، وقد تختصّ اللفظة في القرآن بشيء ، فيكون أمارة له ، فمن ذلك : أن عامّة ما في القرآن من قوله : (يُدْرِيكَ) [الشورى : ١٧] مبهم غير مبيّن ، قال تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] وما كان من لفط «أدراك» فإنّه مفسّر ؛ كقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ١٠ ـ ١١].

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٨١.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٨٢.

(٤) سقط في ب.

١٣٠

وقرأ حمزة (١) ، والكسائيّ هنا «الرّيح» بالإفراد ، والباقون (٢) بالجمع ، فالجمع لاختلاف أنواعها : جنوبا ودبورا وصبا وغير ذلك ، وإفرادها على إرادة الجنس ، وكلّ ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام ، اتفق القرّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام ، اختلفوا في جمعها ، وتوحيدها ، إلّا الرّيح العقيم في سورة الذّاريات [٤١] ، اتفقوا على توحيدها ، والحرف الأوّل من سورة الرّوم (الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] اتفقوا على جمعها ، والرّياح : تذكّر ، تؤنّث.

فصل في بيان تصريف الرياح

وأمّا تصريفها : فإنها تصرّف إلى الشّمال والجنوب والقبول والدّبور ، وما بين كلّ واحد من هذه المهابّ ، فهي نكباء ، وقيل في تصريفها : إنها تارة تكون ليّنة ، وتارة تكون عاصفة ، [وتارة حارّة] ، وتارة باردة (٣).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : أعظم جنود الله تعالى الرّيح ، والماء ، وسمّيت الرّيح ريحا ؛ لأنها تريح النفوس (٤).

قال القاضي شريح : ما هبّت ريح إلّا لشفاء سقيم ، ولسقم صحيح (٥). والبشارة في ثلاث من الرّياح : في الصّبا ، والشّمال ، والجنوب ، وأمّا الدّبور ، فهي : الرّيح العقيم ، لا بشارة فيها.

وقيل (٦) : الرّياح ثمانية : أربعة للرّحمة : المبشرات ، والنّاشرات ، والذّاريات ، والمرسلات ، وأربعة للعذاب : العقيم ، والصّرصر في البرّ ، والعاصف والقاصف في البحر.

روى أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وشرّف ، وكرّم ، ومجدّ ، وبجّل ، وعظّم :] «الرّيح من روح الله عزوجل» (٧).

[قال أبو سلمة ـ رضي الله تعالى عنه ـ : فروح الله سبحانه وتعالى](٨) تأتي

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٤٢٥ ، البحر المحيط : ١ / ٦٤١ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٤.

(٢) ينظر : القراءة السابقة.

(٣) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٦.

(٤) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٦.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) أخرجه أبو داود (٥٠٩٧) كتاب الأدب باب ما يقول إذا هاجت الريح وأحمد (٢ / ٢٦٨ ، ٥١٨) والحاكم (٤ / ٢٨٥) والبيهقي (٣ / ٣٦١) وابن حبان (١٩٨٩ ـ موارد) والشافعي (٥٣٣) وابن أبي شيبة (٦٣٦٢) وعبد الرزاق (٢٠٠٠٤) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١٦٧) وفي «الأدب المفرد» (٧٢٠ ، ٩٠٦) والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (٩٢٩ ، ٩٣٠ ، ٩٣١) من طرق عن ثابت عن أبي هريرة مرفوعا. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(٨) سقط في ب.

١٣١

بالرّحمة ، وتأتي بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها واسألوا الله من خيرها ، واستعيذوا بالله من شرّها.

قال ابن الأعرابيّ : النّسيم أوّل هبوب الريح.

فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية

فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيّة الله تعالى الصّانع ، فإنّه صرّفها على وجوه النّفع العظيم في الحيوان ، فإنّها مادّة النّفس الّذي لو انقطع ساعة عن الحيوان ، لمات.

قيل : إنّ كلّ ما كانت الحاجة إليه أشدّ ، كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات ؛ حتى لو انقطع عنه لحظة ، لمات ؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلّ شيء.

وبعد الهواء الماء ؛ لأنّ الحاجة إلى الماء أيضا شديدة ؛ فلا جرم أيضا سهل وجدان الماء ، ولكنّ وجدان الهواء أسهل ؛ لأنّ الماء لا بدّ فيه من تكلّف الاغتراف ، بخلاف الهواء ؛ فإنّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرة أبدا.

ثم بعد الماء : الحاجة إلى الطّعام شديدة ، ولكن دون الحاجة إلى الماء ؛ فلا جرم كان تحصيل الطّعام أصعب من تحصيل الماء ؛ لأنّه يحتاج إلى تكلّف أكثر ، والمعاجين والأدوية تقلّ الحاجة إليها ؛ فلا جرم عسرت وقلّت ، ولمّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى ، نرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلّ شيء ، ولو لا تحرّك الرياح ، لما جرت الفلك ، وذلك ممّا لا يقدر عليه أحد إلّا الله تعالى ، فلو أراد كلّ من في العالم أن يقلب الرياح من الشّمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكنا ، أن يحركه ، لم يقدر على ذلك.

قوله تعالى : «والسّحاب» اسم جنس ، واحدته «سحابة» [سمّي بذلك] ؛ لا نسحابه في الهواء ؛ كما قيل له «حبا» لأنّه يحبو ، ذكره أبو عليّ.

قال القرطبيّ : ويقال : سحبت ذيلي سحبا ، وتسحّب فلان على فلان ؛ والسّحب شدة

الأكل والشّرب ؛ وباعتبار كونه اسم جنس ، وصفه بوصف الواحد المنكّر في قوله : «المسخّر» كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ولما اعتبر معناه تارة أخرى ، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله : (سَحاباً ثِقالاً) ويجوز أن يوصف بما توصف به المؤنّثة الواحدة ؛ كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] وهكذا : كلّ اسم جنس فيه لغتان : التذكير باعتبار اللّفظ ، والتأنيث باعتبار المعنى.

والتّسخير : التذليل ، وجعل الشّيء داخلا تحت الطّوع ، وقال الرّاغب : هو القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه.

قوله تعالى : (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في «بين» قولان :

١٣٢

أحدهما : أنه منصوب بقوله : «المسخّر» فيكون ظرفا للتّسخير.

والثاني : أن يكون حالا من الضّمير المستتر [في اسم المفعول](١) ؛ فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا بين السّماء والأرض ، و «لآيات» اسم «إنّ» ، والجارّ خبر مقدّم ، ودخلت اللّام على الاسم ؛ لتأخّره عن الخبر ، ولو كان موضعه ، لما جاز ذلك فيه.

وقوله : «لقوم» : في محلّ نصب ، لأنّه صفة ل «آيات» ، فيتعلّق بمحذوف ، وقوله : «يعقلون» : الجملة في محلّ جرّ ؛ لأنّها صفة ل «قوم» ، والله أعلم.

فصل في تفسير «السّحاب»

روى ابن عبّاس عن كعب الأحبار ـ رضي الله عنه ـ قال : «السّحاب غربال المطر ، لو لا السّحاب حين ينزل الماء من السّماء ، لأفسد ما يقع عليه من الأرض».

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : سمعت كعبا ، يقول : إنّ الأرض تنبت العام نباتا ، وتنبت نباتا عاما قابلا غيره ، وسمعته يقول : إنّ البذر ينزل من السّماء مع المطر ، فيخرج في الأرض (٢).

فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله

في الاستدلال بتسخير السّحاب على وحدانيّة الصّانع : أنّ طبع الماء ثقيل يقتضي النّزول فكان بقاؤه في جوّ الهواء على خلاف الطّبع ، فلا بدّ من قادر قاهر ، يقهر على ذلك ، فلذلك سمّاه بالمسخّر ، وأيضا : فإنّه لو دام ، لعظم ضرره من حيث إنّه يستر ضوء الشّمس ، ويكثر [الأمطار ، والابتلال](٣) ، ولو انقطع ، لعظم ضرره ؛ لأنّه يفضي إلى القحط وعدم العشب ، والزراعة ؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة ، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدّر قاهر أيضا ؛ فإنّه لا يقف في موضع معيّن ، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرّياح إلى حيث شاء وأراد ، وذلك هو التّسخير.

روى مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : بينما رجل بفلاة من الأرض ، فسمع صوتا من سحابة : اسق حديقة فلان ، فتنحّى ذلك السّحاب ، فأفرغ ماءه في جرّة ، فإذا بشرجة من تلك الشّراج ، قد استوعبت ذلك الماء كلّه ، فتتبّع الماء ، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته ، فقال له : يا عبد الله ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) الأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٣٠٢) عن معاذ بن عبد الله بن حبيب الجهني قال رأيت ابن عباس سأل تبيعا ابن امرأة كعب هل سمعت كعبا يقول في السحاب شيئا ... فذكره.

وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» والبيهقي في «الأسماء والصفات» وابن عساكر.

(٣) في ب : الانتظار والانفلاك.

١٣٣

ما اسمك؟ قال : فلان ؛ للاسم الذي سمع من السّحاب ، فقال له : يا عبد الله ، لم تسألني عن اسمي؟ فقال : إني سمعت صوتا من السّحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان لاسمك ، فماذا تصنع؟ قال : أمّا إذا قلت هذا ، فإنّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدّق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثا وأردّ فيها ثلثه.

وفي رواية : وأجعل ثلثه للمساكين ، والسّائلين ، وابن السّبيل (١).

قوله : «يعقلون» ، أي : يعلمون لهذه الأشياء خالقا وصانعا.

قال القاضي (٢) : دلت الآية على أنّه لو كان الحقّ يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صحّ قوله : «لآيات لقوم يعقلون» ، وأيضا : لو كانت المعارف ضروريّة ، وحاصلة بالإلهام ، لما صحّ وصف هذه الأمور بأنّها آيات ؛ لأنّ المعلوم بالضّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.

قال وهب بن منبّه : ثلاثة لا يدرى من أين يجيء : الرّعد ، والبرق ، والسّحاب (٣).

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ)(١٦٥)

اعلم : أنه ، سبحانه وتعالى ، لمّا قرّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة ، أردفه بتقبيح ما يضاده ؛ لأنّ تقبيح ضد الشيء مما يؤكّد حسن الشّيء.

قال الشاعر : [الكامل]

٨٧٦ ـ ..........

وبضدّها تتبيّن الأشياء

وقالو أيضا : النّعمة مجهولة ، فإذا فقدت عرفت ، والنّاس لا يعرفون قدر الصّحّة ، فإذا مرضوا ، ثم عادت الصحّة إليهم ، عرفوا قدرها ، وكذا القول في جميع النّعم ، فلهذا السّبب أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدّالّة على التّوحيد بهذه الآية الكريمة.

قوله تعالى : (مَنْ يَتَّخِذُ) «من» : في محلّ رفع بالابتداء ، وخبره الجارّ قبله ، ويجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون موصولة.

والثاني : أن تكون موصوفة.

فعلى الأوّل : لا محلّ للجملة بعدها. وعلى الثاني : محلّها الرّفع ، أي : فريق ، أو

__________________

(١) أخرجه مسلم رقم (٢٢٨٨) وأحمد (٢ / ٢٩٦) والبيهقي (٤ / ١٢٣) والطيالسي (١٢١٧ ـ منحة).

وانظر إتحاف السادة المتقين (٩ / ١٢٥).

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٨٣.

(٣) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٦.

١٣٤

شخص متّخذ ، وأفرد الضمير في «يتّخذ» ؛ حملا على لفظ «من» و «يتّخذ» : يفتعل ، من «الأخذ» ، وهي متعدّية إلى واحد ، وهو «أندادا».

قوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) : متعلّق ب «يتّخذ» ، والمراد ب «دون» [هنا «غير»](١) ، وأصلها أن تكون ظرف مكان ، نادرة التصرّف ، وإنما أفهمت معنى «غير» ؛ مجازا ؛ وذلك أنّك إذا قلت : «اتّخذت من دونك صديقا» ، أصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ، ومكانك صديقا ، فهو ظرف مجازيّ ، وإذا كان المكان المتّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطّة عنه ، ودونه ؛ لزم أن يكون غيرا ؛ [لأنه ليس إيّاه ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، مع كونه غيرا](٢) ، فصارت دلالته على الغيريّة بهذا الطريق ، لا بطريق الوضع لغة ، وتقدّم تقرير شيء من هذا أوّل السّورة.

فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد

اختلفوا في «الأنداد» ، فقال أكثر المفسّرين (٣) : هي الأوثان التي اتّخذوها آلهة ، ورجوا من عندها النفع والضّرّ ، وقصدوها بالمسائل ، وقرّبوا لها القرابين ؛ فعلى هذا : الأصنام بعضها لبعض أنداد أي أمثال ، والمعنى : أنّها أنداد لله تعالى ؛ بحسب ظنونهم الفاسدة.

وقال السّدّيّ : إنّها السّادة الّذين كانوا يطيعونهم ، فيحلون لمكان طاعتهم في أنّهم يحلّون ما حرّم الله ، ويحرّمون ما أحلّ الله ؛ ويدلّ على هذا القول وجوه (٤) :

الأوّل : ضمير العقلاء في «يحبّونهم».

والثاني : يبعد أنّهم كانوا يحبّون الأصنام كحبّ الله تعالى ، مع علمهم بأنها لا تضر ، ولا تنفع.

الثالث : قوله بعد هذه الآية : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٦] ؛ وذلك لا يليق إلّا بالعقلاء.

وقال الصّوفية (٥) : كلّ شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى ، فقد جعلته في قلبك ندّا لله تعالى ؛ ويدلّ عليه قوله تبارك وتعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣].

قوله تعالى : «يحبّونهم» في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون في محلّ رفع ؛ صفة ل «من» في أحد وجهيها ، والضمير المرفوع يعود عليها ؛ باعتبار المعنى ، بعد اعتبار اللّفظ في «يتّخذ».

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٨٤.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٨٤.

(٥) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٨٤.

١٣٥

والثاني : أن تكون في محلّ نصب ؛ صفة ل «أندادا» ، والضمير المنصوب يعود عليهم ، والمراد بهم الأصنام ؛ وإنّما جمعوا جمع العقلاء ؛ [لمعاملتهم له معاملة العقلاء ، أو يكون المراد بهم : من عبد من دون الله من العقلاء](١) وغيرهم ، ثم غلب العقلاء على غيرهم.

قال ابن كيسان ، والزّجّاج : معناه : كحبّ الله ، أي : يسوّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبّة (٢).

قال أبو إسحاق : وهذا القول الصحيح ؛ ويدلّ عليه قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) نقله القرطبيّ (٣).

الثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من الضّمير في «يتّخذ» ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد عليه الضّمير في «يتّخذ» ، وجمع حملا على المعنى ؛ كما تقدّم.

قال ابن الخطيب (٤) رحمه‌الله تعالى : في الآية حذف ، أي : يحبّون عبادتهم ، والانقياد إليهم.

قوله تعالى : (كَحُبِّ اللهِ) الكاف في محلّ نصب : إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : يحبّونهم حبّا كحبّ الله ، وأمّا على الحال من المصدر المعرّف ؛ كما تقرّر غير مرّة ، والحبّ : إرادة ما تاه وتظنّه خيرا ، وأصله من : حببت فلانا : أصبت حبّة قلبه ؛ نحو : كبدته ، وأحببته : جعلت قلبي معرّضا بأن يحبّه ، لكن أكثر الاستعمال أن يقال : أحببته ، فهو محبوب ، ومحبّ قليل ؛ كقول القائل : [الكامل]

٨٧٧ ـ ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

منّي بمنزلة المحبّ المكرم (٥)

والحبّ في الأصل : مصدر «حبّه» وكان قياسه فتح الحاء ، ومضارعه يحبّ بالضم ، وهو قياس فعل المضعّف ، وشذّ كسره ، و «محبوب» أكثر من «محبّ» ، و «محبّ» أكثر من «حابّ» وقد جمع الحبّ ؛ لاختلاف أنواعه ؛ قال : [الطويل]

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٧.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٨٤.

(٥) البيت لعنترة. ينظر ديوانه : ص ١٩١ ، وأدب الكاتب : ص ٦١٣ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ٤٠٥ ، والاشتقاق : ص ٣٨ ، والأغاني : ١ / ٢١٢ ، وجمهرة اللغة : ص ٥٩١ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٢٢٧ ، ٩ / ١٣٦ ، والخصائص : ٢ / ٢١٦ ، والدرر : ٢ / ٢٥٤ ، وشرح شذور الذهب : ص ٤٨٦ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٨٠ ، ولسان العرب (جبب) ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٤١٤ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٧٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٦٤ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٢٥ ، والمقرب : ١ / ١١٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٦.

١٣٦

٨٧٨ ـ ثلاثة أحباب فحبّ علاقة

وحبّ تملّاق وحبّ هو القتل (١)

والحبّ مصدر مضاف لمنصوبه ، والفاعل محذوف ، تقديره : كحبّهم الله أو كحبّ المؤمنين الله ؛ بمعنى : أنّهم سوّوا بين الحبّين : حبّ الأنداد ، وحبّ الله.

وقال ابن عطيّة : «حبّ» : مصدر مضاف للمفعول في اللّفظ ، وهو في التقدير مضاف للفاعل المضمر ، يريد به : أنّ ذلك تقديره : كحبّكم الله أو كحبّهم الله ، حسبما قدّر كلّ وجه منهما فرقة انتهى.

وقوله : «للفاعل المضمر» يريد به أنّ ذلك الفاعل من جنس الضمائر ، وهو «كم» أو «هم» أو يسمّى الحذف إضمارا وهو اصطلاح شائع ولا يريد أنّ الفاعل مضمر في المصدر كما يضمر في الأفعال ؛ لأنّ هذا قول ضعيف لبعضهم ؛ مردود بأن المصدر اسم جنس واسم الجنس لا يضمر فيه لجموده.

وقال الزمخشريّ : «كحبّ الله» كتعظيم الله ، والخضوع ، أي : كما يحبّ الله ؛ على أنه مصدر مبنيّ من المفعول ، وإنما استغني عن ذكر من يحبّه ؛ لأنه غير ملتبس انتهى.

أما جعله المصدر من المبنيّ للمفعول ، فهو أحد الأقوال الثلاثة ؛ أعني : الجواز مطلقا.

والثاني : المنع مطلقا ، وهو الصحيح.

والثالث : [التفصيل بين الأفعال التي لم تستعمل إلّا مبنيّة للمفعول ، فيجوز ؛ نحو : عجبت من جنون](٢) زيد بالعلم ، ومنه الآية الكريمة ؛ فإنّ الغالب من «حبّ» أن يبنى للمفعول وبين غيرها ، فلا يجوز ، واستدلّ من أجازه مطلقا بقول عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل وعظّم ـ عن قتل الأبتر ، وذو الطّفيتين (٣) برفع «ذو» ؛ عطفا على محل «الأبتر» ؛ لأنّه مفعول لم يسمّ فاعله تقديرا ، أي : أن يقتل الأبتر ، ولتقرير هذه الأقوال موضع غير هذا.

وقد رد الزّجّاج تقدير من قدّر فاعل المصدر «المؤمنين» أو ضميرهم.

وقال «ليس بشيء» والدليل على نقضه قوله بعد : «والّذين آمنوا أشدّ حبّا لله» ورجّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتّخذين ، أي : يحبّون الأصنام ، كما يحبّون الله ؛ لأنّهم اشركوها مع الله ، فسوّوا بين الله تعالى ، وبين أوثانهم في المحبّة ، وهذا الذي قاله الزّجّاج واضح ؛ لأن التسوية بين محبّة الكفّار لأوثانهم ، وبين محبّة المؤمنين لله ينافي

__________________

(١) ينظر شرح المفصل : ٦ / ٤٧ ، ٤٨ ، ٩ / ١٥٧ ، ولسان العرب (ملق) ، ومجالس ثعلب : ١ / ٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه النسائي (٥ / ١٨٩) كتاب الحج باب قتل الوزغ (٢٨٣١) وأحمد (٢ / ١٤٦) عن عائشة مرفوعا.

١٣٧

قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) فإنّ فيه نفي المساواة. وقرأ أبو رجاء (١) : «يحبّونهم» بفتح الياء من «حبّ» ثلاثيّا ، و «أحبّ» أكثر ، وفي المثل : «من حبّ طبّ».

فصل في المراد من قوله كحب الله

في قوله : كحبّ الله قولان :

الأول : كحبّهم لله.

والثاني : كحبّ المؤمنين لله ، وقد تقدّم ردّ هذا القول.

فإن قيل : العاقل يستحيل أن يكون حبّه للأوثان كحبّه لله ؛ وذلك لأنه بضرورة العقل يعلم أنّ هذه الأوثان ينار لا تسمع ، ولا تعقل ، وكانوا مقرّين بأنّ لهذا العالم صانعا مدبّرا حليما ؛ كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] فمع هذا الاعتقاد ، كيف يعقل أن يكون حبّهم لتلك الأوثان كحبّهم لله تعالى ، وقال تعالى ؛ حكاية عنهم أنّهم قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فكيف يعقل الاستواء في الحبّ؟

والجواب : كحبّ الله تعالى في الطّاعة لها ، والتّعظيم ، فالاستواء في هذه المحبّة لا ينافي ما ذكرتموه.

قوله تعالى : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ:) المفضّل عليه محذوف وهم المتّخذون [الأنداد ، أي : أشدّ حبّا لله من المتّخذين](٢) الأنداد لأوثانهم ؛ وقال أبو البقاء (٣) : ما يتعلّق به «أشدّ» محذوف ، تقديره : أشدّ حبّا لله من حبّ هؤلاء للأنداد ، والمعنى : أنّ المؤمنين يحبّون الله تعالى أكثر من محبّة هؤلاء [أوثانهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن المؤمنين يحبّون الله تعالى أكثر ممّا يحبّه هؤلاء](٤) المتّخذون الأنداد ؛ لأنهم لم يشركوا معه غيره ، وأتى ب «أشدّ» موصّلا بها إلى أفعل التّفضيل من مادّة «الحبّ» ؛ لأنّ «حبّ» مبنيّ للمفعول ، والمبنيّ للمفعول لا يتعجّب منه ، ولا يبنى منه «أفعل» للتّفضيل ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك.

[فأمّا قوله : «ما أحبّه إليّ» فشاذّ على خلاف في ذلك ، و «حبّا» تمييز منقول من المبتدأ ، تقديره : حبّهم لله أشدّ](٥).

فصل في معنى قوله (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)

معنى (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، أي : أثبت وأدوم على حبّه ؛ لأنّهم لا يختارون على الله ما

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٤٢٧ ، البحر المحيط : ١ / ٦٤٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧٣.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

١٣٨

سواه ، والمشركون إذا اتّخذوا صنما ، ثم رأوا أحسن منه ، طرحوا الأوّل ، واختاروا الثّاني (١) قاله ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ.

وقال قتادة : إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ، ويقبل على الله تعالى [كما أخبر الله تعالى عنهم ، فقال : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] والمؤمن لا يعرض عن الله](٢) في السّرّاء والضّرّاء ، والشّدّة والرّخاء ؛ وقال سعيد بن جبير (٣) : إنّ الله ـ عزوجل ـ يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدّنيا على رؤية الأصنام : أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم ، فلا يدخلون ؛ لعلمهم أن عذاب جهنّم على الدوام ، ثم يقول للمؤمنين ، وهم بين أيدي الكفّار : إن كنتم أحبّائي فادخلوا جهنّم فيقتحمون فيها ، فينادي مناد من تحت العرش (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

وقيل : وإنّما قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ؛ لأنّ الله تبارك تعالى أحبّهم أوّلا ، ثم أحبّوه ، ومن شهد له المعبود بالمحبّة ، كانت محبته أتمّ ؛ قال الله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

فإن قيل : كيف يمكن أن تكون محبّة المؤمن لله أشدّ مع أنّا نرى اليهود يأتون بطاعات شاقّة ، لا يأتي بمثلها أحد من المؤمنين ، ولا يأتون بها إلا لله تعالى ، ثم يقتلون أنفسهم حبّا لله؟ والجواب من وجوه :

أحدها : ما تقدّم من قول ابن عبّاس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير.

وثانيها : أنّ من أحب غيره رضي بقضائه ، فلا يتصرف في ملكه ، فأولئك الجهّال [قتلوا أنفسهم بغير إذنه ، إنّما المؤمنون الذي يقتلون أنفسهم بإذنه ، وذلك في الجهاد](٤).

وثالثها : أنّ الإنسان ، إذا ابتلي بالعذاب الشّديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرّبّ ، فالذي فعلوه باطل.

ورابعها : أنّ المؤمنين يوحّدون ربّهم ، فمحبتهم مجتمعة لواحد ، والكفّار يعبدون مع الصنم أصناما ، فتنقص محبّة الواحد منهم ، أما الإله الواحد فتنضم محبّة الجمع إليه.

قوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) جواب «لو» محذوف ، واختلف في تقديره ، ولا يظهر ذلك إلّا بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة. قرأ عامر (٥) ونافع : «ولو ترى» بتاء الخطاب ، «أنّ القوّة» و «أنّ الله» بفتحهما. وقرأ ابن عامر : «إذ يرون» بضم الياء ، والباقون بفتحها.

__________________

(١) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٦.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٦.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر في قراءات هذه الآية : المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٨.

١٣٩

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو والكوفيون : «ولو يرى» بياء الغيبة ، «أنّ القوّة» ، «أنّ الله» بفتحهما. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة (١) ، ويعقوب ، وأبو جعفر : «ولو ترى» بتاء الخطاب ، «أنّ القوّة» ، و «إنّ الله» بكسرهما. وقرأ طائفة : «ولو يرى» بياء الغيبة «إنّ القوّة» و «إنّ الله» بكسرهما. إذا تقرّر ذلك ، فقد اختلفوا في تقدير جواب «لو».

فمنهم من قدّره قبل قوله : «أنّ القوّة» ومنهم من قدّره بعد قوله : (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) هو قول أبي الحسن الأخفش. [والمبرّد.

أمّا من قدّره قبل : «أنّ القوّة» فيكون «أنّ القوّة» معمولا لذلك الجواب](٢) وتقديره على قراءة «ترى» بالخطاب وفتح «أنّ» و «أنّ» : «لعلمت ، أيها السّامع ، أنّ القوّة لله جميعا» والمراد بهذا الخطاب : إمّا النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وإمّا : كلّ سامع ، فيكون معناه: ولو ترى يا محمّد ، أو يا أيّها السّامع ، الّذين ظلموا ، يعني : أشركوا ، في شدّة العذاب لرأيت أمرا عظيما [وقيل : معناه : قل ، يا محمّد : أيّها الظالم ، لو ترى الّذين ظلموا من شدّة العذاب ، لرأيت أمرا فظيعا](٣).

وعلى قراءة (٤) الكسر في «إنّ» يكون التقدير : لقلت إنّ القوّة لله جميعا ، والخلاف في المراد من الخطاب كما تقدّم ، أو يكون التقدير : «لاستعظمت حالهم» ، وإنما كسرت «إنّ» ؛ لأنّ فيها معنى التعليل ؛ نحو قولك : «لو قدمت على زيد ، لأحسن إليك ؛ إنّه مكرم للضّيفان» فقولك : «إنّه مكرم للضّيفان» علّة لقولك : «أحسن إليك» وقال ابن عطيّة (٥) : تقديره : «ولو ترى الّذين في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه ، واستعظامهم له ، لأقرّوا أنّ القوّة لله جميعا».

وناقشه أبو حيّان (٦) ، فقال : كان ينبغي أن يقول : «في وقت رؤيتهم العذاب» فيأتي بمرادف «إذ» وهو الوقت لا الحال وأيضا : فتقديره لجواب «لو» غير مرتّب على ما يلي «لو» ؛ لأن رؤية السّامع أو النبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الظّالمين في وقت رؤيتهم [لا يترتّب عليها إقرارهم بأنّ القوّة لله جميعا ؛ وهو نظير قولك : يا زيد ، لو ترى عمرا في وقت](٧) ضربه ، لأقرّ أنّ الله ـ تعالى ـ قادر عليه. فإقراره بقدرة الله تعالى ليس مترتّبا على رؤية زيد. انتهى.

__________________

(١) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي الهذلي ، قاضي المدينة وإمام أهلها في القراءات ، وكان من ثقات رجال الحديث.

ينظر تهذيب التهذيب : ٤ / ٣٧٧ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ١٤٢.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٥ ، الدر المصون : ١ / ٤٢٨ ، البحر المحيط : ١ / ٦٤٥.

(٥) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٥.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٤٥.

(٧) سقط في ب.

١٤٠