اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٣

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٤

من [جميع](١) الوجوه ؛ ترك العمل به في بعض الأشياء ؛ فيبقى معمولا به في السّعي.

والجواب عن الأوّل (٢) من وجوه :

الأوّل : ما بيّنّا [أن قوله](٣) : «لا (جُناحَ عَلَيْهِ) [ليس فيه إلّا أنه لا إثم على فاعله](٤) وهذا القدر مشترك بين الواجب ، وغيره ؛ فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب ، وتحقيق ذلك قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) [النساء : ١٠١] والقصر عند أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ واجب ، مع أنّه قال فيه : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ذا ههنا.

الثاني : أنه رفع الجناح عن الطّواف [بهما لا عن الطّواف بينهما].

والأوّل عندنا غير واجب ، والثاني هو الواجب.

الثالث : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان على الصّفا صنم ، [وعلى المروة صنم ، وكان الذي على الصّفا](٥) اسمه : «إساف» ، والذي على المروة صنم اسمه «نائلة» وكان أهل الجاهليّة يطوفون بهما ، فلمّا جاء الإسلام ، كره المسلمون الطّواف بهما ؛ لأجل الصنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. إذا عرفت هذا ، فنقول : انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطّواف ، لا إلى نفس الطّواف ؛ كما لو كان في الثّوب نجاسة يسيرة عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جناح عليكم أن تصلوا فيه ، فإنّ رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة ، لا إلى نفس الصلاة.

الرابع : كما أن قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب ؛ ولا شكّ في أنّ السّعي مندوب ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر ، والعمل بظاهرها ، وأما التمسّك بقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة : ١٨٤] فضعيف ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطّواف المذكور ، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئا آخر ؛ كقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) [البقرة : ١٨٤] ثم قال : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فأوجب عليهم الطّعام ، ثم ندبهم إلى التّطوّع بالخير ، فكان المعنى : فمن تطوّع ؛ فزاد على طعام مسكين ، كان خيرا له ، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوّع مصروفا إلى شيء آخر ؛ وهو من وجهين :

أحدهما : أنه يزيد في الطّواف ، فيطوف أكثر من الطّواف الواجب ، مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر.

__________________

ـ والطيالسي (١ / ٢٢٠) والطحاوي (٢ / ٢٠٩) والدارمي (٢ / ٥٩) من طرق عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر مرفوعا.

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٥.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

١٠١

والثاني : أن يتطوّع بعد فرض الحجّ وعمرته بالحجّ والعمرة مرة أخرى ؛ حتى طاف بالصّفا والمروة تطوّعا.

وقال الحسن وغيره : أراد سائر الأعمال ، يعني : فعل غير الفرض ؛ من صلاة ، وزكاة ، وطواف ، وغيرها من أنواع الطّاعات. وأصل الطاعة الانقياد.

وأما الحديث : فنقول فيه إنه عام ، وحديثنا خاص ، والخاصّ مقدّم على العامّ.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

قال ابن الخطيب (١) : اعلم أنّ الشاكر في اللّغة هو المظهر للإنعام عليه ، وذلك في حقّ الله محال ، فالشاكر في حقّه ـ تبارك وتعالى ـ مجاز ، ومعناه المجازيّ على الطاعة ، وإنما سمى المجازاة على الطّاعة ، شكرا ؛ لوجوه :

الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطّف للعباد ، ومبالغة في الإحسان إليهم ؛ كما قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض ، ولكنه تلطف في الاستدعاء ؛ كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض ؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم.

الثاني : أنّ الشّكر لما كان مقابلا [للإنعام أو الجزاء](٢) عليه ، سمّي كلّ ما كان جزاء شكرا ؛ على سبيل التشبيه.

الثالث : أن الشكر اسم لما يجازى به ، والله تعالى هو المجازي ، فسمّي شاكرا ، لعلاقة المجازاة.

[وقال غيره :](٣) بل هو حقيقة ؛ لأنّ الشكر في اللّغة : هو الإظهار ؛ لأنّ هذه المادّة ، وهي الشين ، والكاف ، والراء تدلّ على الظّهور ، ومنه : كشر البعير عن نابه ، إذا أظهره ؛ فإنّ الله تعالى يظهر ما خفي من أعمال العبد من الطّاعة ، ويجازي عليه.

وقيل : الشّكر : الثناء ، والله تعالى يثني على العبد ، حين يفعل الطاعة.

وقوله : «عليم» بذات المعنى أنّه يعلم قدر الجزاء ، فلا يبخس المستحقّ حقّه ؛ لأنّه عالم بقدره ، ويحتمل أنه يريد أنّه عليم بما يأتي العبد ، فيقوم بحقّه من العبادة والإخلاص.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(١٥٩)

في «الكاتمين» قولان :

__________________

(١) ينظر الرازي : ٤ / ١٤٧.

(٢) في ب : للأعمال كالجزاء.

(٣) بياض في ب.

١٠٢

أحدهما : أنه كلام مستأنف يتناول كلّ من كتم شيئا من الدين.

الثاني : عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والرّبيع ، والسّدّيّ ، والأصمّ : أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنّصارى (١).

الثالث : نزلت في اليهود والّذين كتموا ما في التّوراة من صفة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (٢).

قال ابن الخطيب : والأوّل أقرب إلى الصّواب ؛ لوجوه (٣) :

الأوّل : أن اللفظ عامّ ، وثبت في «أصول الفقه» أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.

الثاني : ثبت أيضا في «أصول الفقه» أن العبرة بعموم اللّفظ ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [مشعر بالعلّيّة](٤) ، وكتمان الدّين يناسب استحقاق اللّعن ؛ فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف.

الثالث : أن جماعة من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ حملوا هذا اللّفظ على العموم ؛ كما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : «من زعم أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من الوحي ، فقد أعظم الفرية على الله تعالى» ، والله تعالى يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) [البقرة : ١٥٩]» فحملت الآية على العموم.

وعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال [لو لا آية](٥) من كتاب الله ، ما حدّثت حديثا بعد أن قال النّاس : أكثر أبو هريرة ، وتلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ)(٦).

احتجّ من خصّ الآية بأهل الكتاب : أنّ الكتمان لا يصحّ إلّا منهم في شرع نبوّة محمّد ـ صلوات الله ، وسلامه عليه ـ وأمّا القرآن ، فإنّه متواتر ، فلا يصحّ كتمانه.

والجواب : أنّ القرآن الكريم قبل صيرورته متواترا يصحّ كتمانه ، والكلام إنّما هو فيما يحتاج المكلّف إليه.

__________________

(١) أخرج هذه الآثار الطبري في «التفسير» (٣ / ٢٥٠) ، وذكر طرفا منها السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٥).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٥) ، وعزاه لابن سعد وعبد بن حميد عن قتادة.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٧.

(٤) في ب : يشعر بالقلب.

(٥) في أ : لو آيتان.

(٦) أخرجه البخاري (١ / ١٩٠ ـ ١٩١) ، (٥ / ٢١) والحاكم (٢ / ٢٧١) والطبري (٣ / ٢٥٢) وأحمد (٧٦٩١ ـ شاكر) وابن سعد (٢ / ٢ / ١١٨).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٧) ، وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٠٣

فصل في تفسير «الكتمان»

قال القاضي (١) : الكتمان ترك إظهار الشّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهار ؛ لأنّه متى لم يكن كذلك ، لا يعدّ من الكتمان ، فدلّت الآية على أنّ ما يتّصل بالدّين ، ويحتاج المكلّف إليه ، لا يجوز كتمانه.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ١٧٤] وقوله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فهذه كلّها زواجر عن الكتمان.

ونظيرها في بيان العلم ، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه ، قوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة : ١٢٢].

وروى أبو هريرة عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كتم علما يعلمه جيء يوم القيامة بلجام من نار» (٢).

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٨.

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩) كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم (٢٦٤٩) وابن ماجه (١ / ٩٦) رقم (٢٦١) وأبو داود (٣ / ٣٢١) كتاب العلم باب كراهيه منع العلم (٣٦٥٨) وابن حبان (٩٥ ـ موارد) وأحمد (٢ / ٤٩٥) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٣٠١) والطبراني في «الصغير» (١ / ١٦٤) والحاكم (١ / ١٠١) وأبو يعلى (١١ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث أبي هريرة حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو :

أخرجه الحاكم (١ / ١٠٢) وابن حبان (٩٦ ـ موارد) والخطيب (٥ / ٣٩) وقال الحاكم : هذا حديث صحيح من حديث المصريين على شرط الشيخين ليس له علة ووافقه الذهبي.

وذكره الهيثمي في المجمع (١ / ١٦٣) وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله موثقون.

وله شاهد من حديث جابر أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٧ / ١٩٨) و (٩ / ٩٢) ، (١٢ / ٣٦٩).

ويشهد له حديث ابن عباس أخرجه أبو يعلى (٤ / ٤٥٨) رقم (٢٥٨٥) والطبراني في الكبير كما في «مجمع الزوائد» (١ / ١٦٣) وقال : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.

وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣٠٢٧) وعزاه إلى أبي يعلى وقال صحيح.

قال البغوي في شرح السنة : ١ / ٢٣٨. قيل : معنى الحديث : كما أنه ألجم لسانه عن قول الحقّ ، وإظهار العلم ، يعاقب في الآخرة بلجام من نار. وقال أبو سليمان الخطّابيّ : هذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إيّاه ، ويتعين فرضه عليه ؛ كمن رأى كافرا يريد الإسلام ، يقول : علّموني ؛ ما الإسلام؟ وكمن يرى رجلا حديث عهد بالإسلام ، لا يحسن الصلاة ، وقد حضر وقتها ، يقول : علّموني كيف أصلّي ، وكمن جاء مستفتيا في حلال أو حرام ، يقول : أفتوني وأرشدوني ، فإنه يلزم في هذه الأمور ألّا يمنعوا الجواب ، فمن فعل ، كان آثما مستحقّا للوعيد ، وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها ، والله أعلم. ـ

١٠٤

واعلم أن العالم ، إذا قصد كتمان العلم ، عصى ، وإن لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره ، وأما من سئل ، فقد وجب عليه التبليغ ؛ لهذه الآية ، وللحديث.

واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن ، ولا العلم ؛ حتى يسلم ، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال ، والحجاج ، ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجّة ، ليقتطع بها ماله ، ولا السّلطان تأويلا يتطرّق به على مكاره الرّعيّة ، ولا ينشر الرّخص من السّفهاء ، فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ، ونحو ذلك. [وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «لا تمنعوا الحكمة أهلها ؛ فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها ، فتظلموها» (١)](٢).

وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لا تعلّقوا الدّرّ في أعناق الخنازير» (٣) يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.

قوله تعالى : «ما أنزلنا» مفعول ب «يكتمون» ، و «أنزلنا» صلته ، وعائده محذوف ، أي : أنزلناه ، و «من البيّنات» [يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها حال من «ما» الموصولة ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا من البيّنات.

الثاني : أن يتعلّق ب «أنزلنا» فيكون مفعولا به ، قاله أبو البقاء (٤) ، وفيه نظر من حيث إنّه إذا كان مفعولا به ، لم يتعد الفعل إلى ضمير ، وإذا لم يتعدّ](٥) إلى ضمير الموصول ، بقي الموصول بلا عائد.

الثالث : أن يكون حالا من الضمير العائد على الموصول ، والعامل فيه «أنزلنا» ؛ لأنه عامل في صاحبها.

فصل في المراد من «البيّنات»

والمراد من «البيّنات» ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي ، دون أدلّة العقل.

__________________

ـ وقال سفيان الثوري : ذاك إذا كتم سنّة ، وقال : لو لم يأتني أصحاب الحديث ، لأتيتهم في بيوتهم ، ولو أنّي أعلم أحدا يطلب الحديث بنيّة ، لأتيته في منزله حتى أحدّثه ، ومنهم من يقول : إنه علم الشهادة.

(١) ذكره القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (٢ / ١٢٤) بصيغه التمريض.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٩ / ٣٥٠) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢٣٢) من حديث أنس.

وله شاهد عند ابن ماجه (١ / ٨١) رقم (٢٢٤).

وقال البوصيري في الزوائد (١ / ٩٤) رقم ٨٣ : وهذا إسناد ضعيف لضعف حفص بن سليمان البزار.

(٤) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧١.

(٥) في ب : مفعول ثان ، أي : يتعلق ب «أنزلنا» ، فيكون مفعولا به لم يتعد الفعل.

١٠٥

وقوله «والهدى» يدخل فيه الدّلالة العقليّة ، والنّقليّة ؛ لما تقدّم في دليل قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٣] أنّ الهدى عبارة عن الدلائل ، فيعمّ الكلّ. فإن قيل : فقد قال : (وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فعاد إلى الوجه الأوّل.

قلنا : الأوّل : هو التنزيل ، والثاني : ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.

وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدّين بالدلائل العقليّة لمن كان محتاجا إليها ، ثم تركها ، أو كتم شيئا من أحكام الشرع مع الحاجة إليه ، فقد لحقه هذا الوعيد.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) متعلّق ب «يكتمون» ، ولا يتعلّق ب «أنزلنا» لفساد المعنى ؛ لأنّ الإنزال لم يكن بعد التّبيين ، وأمّا الكتمان فبعد التّبيين ، والضمير في [«بيّنّاه» يعود على «ما» الموصولة.

وقرأ الجمهور «بيّنّاه» ، وقرأ طلحة (١) بن مصرّف «بيّنه» على ضمير الغائب ، وهو التفات من التكلّم إلى الغيبة ، و «للنّاس» متعلّق بالفعل قبله.

وقوله : (فِي الْكِتابِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه متعلّق بقوله : «بيّنّاه».

والثاني : أنه يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال من الضّمير المنصوب في](٢) «بيّنّاه» أي : بيّنّاه حال كونه مستقرّا كائنا في الكتاب ، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة.

فصل في حكم هذا «البيان»

قال بعضهم : هذا الإظهار فرض على الكفاية ، لأنّه إذا أظهره البعض ، صار بحيث يتمكنّ كلّ أحد من الوصول إليه ، فلم يبق مكتوما ، وإذا خرج عن حد الكتمان ، لم يجب على الباقين إظهاره مرةّ أخرى ، والله أعلم (٣).

فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد

من الناس من يحتجّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد ، لأنّ إظهار هذه الأحكام واجب ، [ولو لم يجب العمل](٤) ، لم يكن إظهارها واجبا ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) [البقرة : ١٦٠] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٤١٧ ، البحر المحيط : ١ / ٦٣٣ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٣١.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٨.

(٤) في ب : وإن لم يكن عملها.

١٠٦

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّا عن الكتمان ، ومأمورا بالبيان ؛ [ليكثر المخبرون](١) ؛ فيتواتر الخبر.

فالجواب : هذا غلط ؛ لأنّهم ما نهوا عن الكتمان ، إلّا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم التّواطؤ على الكتمان ، جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والمراد من [الكتاب](٢) قيل : التّوراة والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : أراد بالمنزل الأوّل ما في كتب المتقدّمين ، والثّاني ما في القرآن.

قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يجوز في «أولئك» وجهان :

أحدهما : أن يكون مبتدأ ، و «يلعنهم» خبره ، والجملة خبر «إنّ الّذين».

والثاني : أن يكون بدلا من «الّذين» و «يلعنهم» الخبر ؛ لأن قوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما قبله ، وهو (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) وأن يكون مستأنفا ، وأتى بصلة «الّذين» فعلا مضارعا ، وكذلك بفعل اللّعنة ؛ دلالة على التجدّد والحدوث ، وأن هذا يتجدّد وقتا فوقتا ، وكرّرت اللعنة ؛ تأكيدا في ذمّهم. وفي قوله (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) التفات ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام ، لقال : «نلعنهم» ؛ لقوله : «أنزلنا» ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير.

فصل في معنى اللعنة ، والمراد باللاعنين

اللّعنة في أصل اللّغة : هي الإبعاد ، وفي عرف الشّرع : الإبعاد من الثّواب ، واختلفوا في الّلاعنين ، من هم؟ فقيل : دوابّ الأرض وهوامّها ؛ فإنّها تقول : منعنا القطر بمعاصي بني آدم ، نقله مجاهد ، عن عكرمة (٣).

وقال : «اللّاعنون» ، ولم يقل «اللاعنات» ؛ لأنّه تعالى وصفها بصفة من يعقل ، فجمعها جمع من يعقل ؛ كقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] و (يا أَيُّهَا النَّمْلُ])(٤)(ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) [فصلت : ٢١].

و (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقيل : «كلّ شيء إلّا الإنس والجنّ» قاله ابن عبّاس (٥).

فإن قيل : كيف يصحّ اللعن من البهائم ، والجمادات؟

فالجواب من وجهين :

__________________

(١) في ب : ليكن للمخبر.

(٢) في ب : الكتب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٦) وزاد نسبته لسعيد بن منصور عن مجاهد.

(٤) في ب : وكآية النمل.

(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٤٩).

١٠٧

الأول : على سبيل المبالغة ، وهي أنّها لو كانت [عاقلة](١) ، لكانت تلعنهم.

الثاني : أنها في الآخرة ، إذا أعيدت ، وجعلت من العقلاء فإنّها تلعن من فعل ذلك في الدّنيا ، ومات عليه.

وقيل : إنّ أهل النّار يلعنونهم وقيل يلعنهم الإنس والجنّ (٢).

وقال ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ : ما تلاعن اثنان من المسلمين إلّا رجعت تلك اللّعنة على اليهود والنّصارى الّذين كتموا أمر محمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وصفته (٣). وعن ابن عبّاس : أنّ لهم لعنتين لعنة الله ، ولعنة الخلائق ، قال : وذلك إذا وضع الرّجل في قبره ، فيسأل ما دينك؟ وما نبيّك؟ وما ربّك؟ فيقول : لا أدري فيضرب ضربة يسمعها كلّ شيء إلّا الثّقلين ، فلا يسمع شيء صوته إلّا لعنه ، ويقول الملك : لا دريت ولا تليت ، كذلك كنت في الدّنيا (٤).

وقال أبو مسلم (٥) : «اللّاعنون هم الّذين آمنوا به ، ومعنى اللّعنة : مباعدة الملعون ، ومشاقّته ، ومخالفته مع السّخط عليه.

وقيل : الملائكة ، والأنبياء ، والصالحون ؛ ويؤكّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

وقال قتادة : «الملائكة» (٦).

قال الزّجّاج : والصواب قول من قال : «اللّاعنون الملائكة والمؤمنون» ، فأمّا أن يكون ذلك لدوابّ الأرض فلا يوقف على حقيقته إلّا بنصّ أو خبر لازم ، ولم يوجد شيء من ذلك.

قال القرطبيّ (٧) : قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب ، قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله ، وسلّم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ في قوله تعالى : (يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) قال : دوابّ الأرض (٨) أخرجه ابن ماجة.

__________________

(١) في ب : تعقل.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٩.

(٣) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٦) من طريق محمد بن مروان أخبرني الكلبي عن أبي صالح عن ابن مسعود موقوفا.

(٤) ذكر هذا الأثر الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٤٩) عن ابن عباس.

(٥) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٩.

(٦) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢٥.

(٧) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢٥.

(٨) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٣٤) كتاب الفتن باب العقوبات (٤٠٢١) قال الحافظ البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٢٤٦) : هذا إسناد ضعيف ؛ لضعف ليث بن أبي سليم.

والحديث ذكره القرطبي في تفسيره (٢ / ١٨٧).

١٠٨

وقال الحسن : «جميع عباد الله» (١).

قال القاضي : «دلّت الآية على أنّ هذا الكتمان من الكبائر لأنّه تعالى أوجب فيه اللّعن(٢).

قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠)

في الاستثناء وجهان :

أحدهما : أن يكون متّصلا ، والمستثنى منه هو الضّمير في «يلعنهم».

والثاني : أن يكون منقطعا ؛ لأنّ الّذين كتموا ، لعنوا قبل أن يتوبوا. وإنّما جاء الاستثناء ؛ لبيان قبول التّوبة ؛ لأنّ قوما من الكاتمين لم يلعنوا ، نقل ذلك أبو البقاء (٣).

قال بعضهم : «وليس بشيء».

فصل

اعلم أنّه تعالى لمّا بيّن عظيم الوعيد ، فكان يجوز أن يتوهّم أنّ الوعيد يلحقهم على كلّ حال ، فبيّن تعالى أنّهم إذا تابوا ، تغيّر حكمهم ، ودخلوا في أهل الوعد. والتّوبة عبارة عن النّدم على فعل القبيح لقبحه ، لا لغرض سواه ؛ لأنّ من لم يردّ الوديعة ، ثم ندم للوم الناس وذمّهم ، أو لإنّ الحاكم ردّ شهادته لم يكن تائبا ، وكذلك ، لو عزم على ردّ الودائع والقيام بالواجبات ؛ لكي تقبل شهادته أو يمدح بالثّناء عليه ، لم يكن تائبا وهذا معنى الإخلاص في التوبة ثم بيّن تعالى أنه لا بدّ له بعد التوبة من إصلاح ما أفسده مثلا ، لو أفسد على رجل دينه بإيراد شبهة عليه ، يلزمه إزالة تلك الشّبهة ، ثمّ بيّن بأنه يجب عليه بعد ذلك أن يفعل ضدّ الكتمان ، وهو البيان بقوله «وبيّنوا» فدلّت الآية على أنّ التّوبة لا تحصل إلّا بترك كلّ ما ينبغي.

وقيل : بيّنوا توبتهم وصلاحهم. قال ابن الخطيب (٤) : قالت المعتزلة : الآية تدلّ على أنّ التّوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض لا تصحّ ؛ لأن قوله «وأصلحوا» عامّ في الكلّ.

والجواب : أنّ اللفظ المطلق يكفي في صدقه حصول فرد واحد من أفراده.

وقوله : (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أتجاوز عنهم ، وأقبل توبتهم. (وَأَنَا التَّوَّابُ) الرّجّاع بقلوب عبادي المنصرفة عنّي إليّ ، القابل لتوبة كلّ ذي توبة ، الرحيم بهم بعد إقبالهم عليّ.

__________________

(١) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٤.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥٠.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٧١.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥٠.

١٠٩

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)

اعلم أنّ ظاهر الآية يعمّ كلّ كافر مات على كفره.

وقال أبو مسلم (١) : يجب حمله على الّذين تقدّم ذكرهم ، وهم الذين يكتمون الآيات ، واحتجّ بأنّه تعالى لمّا ذكر حال الّذين يكتمون ، ثمّ ذكر حال التّائبين منهم ، ذكر أيضا حال من يموت منهم من غير توبة ، وأيضا : فإنه تعالى لمّا ذكر أنّ أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة ، بيّن أنّهم ملعونون بعد الموت. وجوابه : إنّما يصحّ هذا ، لو كان الّذين يموتون منهم من غير توبة دخلوا تحت الآية ، وإلّا لاستغنى عن ذكرهم فوجب حمل الكلام على أمر مستأنف.

فإن قيل : كيف يلعنه النّاس أجمعون ، وأهل [دينه لا يلعنونه](٢).

فجوابه من وجوه :

أحدها : أنّ أهل دينه يلعنونه في الآخرة ؛ لقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] قال أبو العالية : «يوقف الكافر يوم القيامة ، فيلعنه الله ، ثمّ تلعنه الملائكة ، ثم تلعنه النّاس» (٣).

وثانيها : قال قتادة ، والرّبيع : أراد بالنّاس أجمعين المؤمنين (٤) ؛ كأنه لم يعتدّ بغيرهم ، وحكم بأنّ المؤمنين هم النّاس لا غير.

وثالثها : أنّ كلّ أحد يلعن الجاهل ، والظّالم ؛ لأنّ قبح ذلك مقرّر في العقول (٥) فإذا كان في نفسه [هو جاهلا ، أو ظالما ، وإن كان لا يعلم هو من نفسه كونه كذلك](٦) كانت لعنته على الجاهل والظّالم تتناول نفسه.

ورابعها : أنّ يحمل وقوع اللّعنة على استحقاق اللّعن ، وحينئذ يعمّ ذلك.

فصل في بيان جواز لعن من مات كافرا

قال أبو بكر الرّازيّ (٧) ـ رضي الله عنه ـ : الآية الكريمة تدلّ على أنّ للمسلمين

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥١.

(٢) في ب : دينهم يلعنونهم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٦٢) عن أبي العالية ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٦٢) عن الربيع وقتادة ، وأورده السيوطي في «الدر المنثور» عن قتادة (١ / ٢٩٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٥) ذكره الفخر الرازي في تفسيره : ٤ / ١٥١.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥١.

١١٠

لعن من مات كافرا ، وأنّ زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه اللّعنة ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أمر لنا بلعنه بعد موته ؛ وهذا يدلّ على أنّ الكافر ، لو جنّ ، لم يكن زوال التّكليف عنه مسقطا اللّعنة والبراءة منه ، وكذلك السّبيل فيما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصّلاح ، فموت من كان كذلك أو [جنونه لا يغيّر](١) حكمه عمّا كان عليه قبل حدوث الحال به.

قوله تعالى : (وَماتُوا) الواو هذه واو الحال ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، وإثبات الواو هنا أفصح ؛ خلافا للفرّاء ، والزّمخشريّ ، حيث قالا : إنّ حذفها شاذّ. وقوله (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) : «أولئك» : مبتدأ ، [و (عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) : مبتدأ وخبره ، خبر عن أولئك»](٢) و «أولئك» وخبره : خبر عن «إنّ» ، ويجوز في «لعنة» الرفع بالفاعليّة بالجار قبلها ؛ لاعتمادها ؛ فإنّه وقع خبرا عن «أولئك» وتقدّم تحريره في (عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ١٥٧].

فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين

قال ابن العربيّ : قال لي كثير من أشياخي : إنّ الكافر المعيّن لا يجوز لعنه ؛ لأنّ حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية الكريمة في إطلاق اللّعنة : الموافاة على الكفر.

وأمّا ما روي عن النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ، وشرّف وكرّم ، ومجّد ، وبجّل وعظّم ـ أنّه لعن أقواما بأعيانهم من الكفّار ، فإنما كان ذلك ؛ لعلمه بمآلهم (٣).

قال ابن العربيّ : والصحيح عندي : جواز لعنه ؛ لظاهر حاله ، ولجواز قتله وقتاله.

وقد روي عن النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ، وشرّف ، وكرّم ، ومجّد ، وبجّل ، وعظّم ـ أنه قال : «اللهمّ ، إنّ عمرو بن العاص هجاني ، وقد علم أنّي لست بشاعر ، فالعنه ، واهجه عدد ما هجاني» (٤) [فلعنه ، وإن كان الإيمان والدّين والإسلام مآله ، وانتصف بقوله «عدد ما هجاني»](٥) ولم يزد ؛ لتعليم العدل والإنصاف ، وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء ، دون الابتداء بالوصف بذلك ؛ كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة ، تعالى الله عن ذلك.

__________________

(١) في ب : جنانه لا بيغير.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢٦.

(٤) الحديث أخرجه الروياني في «مسنده» وابن عساكر في «تاريخ دمشق» كما في «كنز العمال» (١٣ / ٥٤٨) رقم (٣٧٤٣١) عن البراء بن عازب.

وقال ابن عساكر : في إسناده مقال.

(٥) سقط في ب.

١١١

قال القرطبيّ (١) : أما لعن الكفّار جملة من غير تعيين ، فلا خلاف فيه ؛ لما روى مالك ، عن داود بن الحصين ، أنّه سمع الأعرج يقول : «ما أدركت النّاس إلّا وهم يلعنون الكفرة في رمضان ، وسواء كانت لهم ذمّة أو لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنّه مباح».

قوله تعالى : «والملائكة» الجمهور على جرّ الملائكة ؛ [نسقا على اسم الله تعالى](٢) ، وقرأ الحسن (٣) بالرّفع ، «والملائكة والنّاس أجمعون» وخرّجها النحاة على العطف على موضع اسم الله تعالى ، فإنه وإن كان مجرورا بإضافة المصدر ، فموضعه رفع بالفاعلية ؛ لأنّ هذا المصدر ينحلّ لحرف مصدريّ ، وفعل ، والتقدير : «أن لعنهم» ، أو «أن يلعنهم الله» ، فعطف الملائكة على هذا التّقدير.

قال أبو حيان (٤) : وهذا ليس بجائز على ما تقرّر من العطف على الموضع ، فإنّ من شرطه: أن يكون ثمّ محرز للموضع ، وطالب ، والطالب للرفع وجود التّنوين في المصدر ، هذا إذا سلّمنا أن «لعنة» تنحلّ لحرف مصدريّ ، وفعل ؛ لأنّ الانحلال لذلك شرطه أن يقصد به العلاج ؛ ألا ترى أنّ قوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود : ١٨] ليس المعنى على تقدير : أن يلعن الله على الظالمين ، بل المراد اللّعنة المستقرّة ، وأضيفت لله على سبيل التّخصيص ، لا على سبيل الحدوث. ونقل عن سيبويه (٥) : أنّ قولك : هذا ضارب زيد غدا وعمرا ، بنصب «عمرا» : أنّ نصبه بفعل محذوف ، وأبى أن ينصبه بالعطف على الموضع ، ثم بعد تسليمه ذلك كلّه ، قال : المصدر المنوّن لم يسمع بعده فاعل مرفوع ، ومفعول منصوب ، إنّما قاله البصريّون قياسا على «أن والفعل» ومنعه الفرّاء ، وهو الصحيح ثم إنّه خرّج هذه القراءة الشّاذّة على أحد ثلاثة أوجه :

الأول : أن تكون الملائكة مرفوعة بفعل محذوف ، أي : «وتلعنهم الملائكة» ؛ كما نصب سيبويه «عمرا» في قولك «ضارب زيدا وعمرا» بفعل محذوف.

الثاني : أن تكون الملائكة عطفا على «لعنة» بتقدير حذف مضاف ، أي : «ولعنة الملائكة» فلمّا حذف المضاف ، أقيم المضاف إليه مقامه.

الثالث : أن يكون مبتدأ قد حذف خبره تقديره «والملائكة والنّاس أجمعون تلعنهم» وهذه أوجه متكلّفة ، وإعمال المصدر المنوّن ثابت ؛ غاية ما في الباب : أنه قد يحذف فاعله ؛ كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد : ١٤ ـ ١٥] وأيضا : فقد أتبعت

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٢٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الدر المصون : ١ / ٤١٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٦٣٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٣٢.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٣٥.

(٥) ينظر الكتاب : ١ / ٥٦ ، ١ / ٨٦.

١١٢

العرب المجرور بالمصدر على موضعيه رفعا ؛ قال : [البسيط]

٨٦١ ـ ..........

مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل (١)

برفع «الفضل» وهي صفة ل «الهلوك» على الموضع ؛ وإذا ثبت ذلك في النّعت ، ثبت في العطف ؛ لأنّهما تابعان من التوابع الخمسة ، و «أجمعين» : من ألفاظ التأكيد المعنويّ بمنزلة كلّ.

قال ابن الخطيب (٢) : والآية تدلّ على جواز التّخصيص مع التّوكيد ؛ لأنّه تعالى قال : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) مع أنّه مخصوص على مذهب من قال : المراد بالنّاس بعضهم.

قوله تعالى : «خالدين» حال من الضّمير في «عليهم» والعامل فيها الظرف من قوله «عليهم» ؛ لأنّ فيه معنى الاستقرار للّعنة ، والخلود : اللّزوم الطّويل ، ومنه قوله تعالى : «أخلده» أي : لزمه ، وركن إليه.

قال بعضهم : «خالدين في اللّعنة».

وقيل : في النّار ، أضمرت ؛ تفخيما وتهويلا ؛ كقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١].

والأول أولى ؛ لوجوه (٣) :

الأول : أنّ ردّ الضّمير [إلى المذكور السّابق أولى من ردّه ، إذا لم يذكر.

الثاني : أنّ حمل هذا الضّمير على اللّعنة](٤) أكثر فائدة؟ لأنّ اللّعن هو الإبعاد من الثّواب بفعل العقاب في الآخرة ، وإيجاده في الدّنيا ، فيدخل في اللعن النّار وزيادة [فكان حمل اللّفظ عليه أولى].

[الثالث : أن حمل الضمير على اللّعن يكون حاصلا في الحال وبعده ، وحمله على النّار لا يكون حالا حاصلا في الحال ، بل لا بدّ من تأويل](٥).

قوله تعالى : «يخفّف» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون مستأنفا.

الثاني : أن يكون حالا من الضّمير في «خالدين» فيكون حالان متداخلان.

الثالث : أن يكون حالا ثانية من الضّمير في «عليهم» ، وكذلك عند من يجيز تعدّد

__________________

(١) عجز بيت للمتنخل الهذلي. ينظر ديوان الهذليين : ٢ / ٣٤ ، والخصائص : ٢ / ١٦٧ ، والهمع : ١ / ١٨٧ ، والأشموني : ٢ / ٢٩٠ ، والدرر : ١ / ١٦٠ ، والدر المصون : ١ / ٤١٨.

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٥١ ـ ١٥٢.

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

١١٣

الحال. وقد منع أبو البقاء (١) هذا الوجه ، بناء منه على مذهبه في ذلك.

وقوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

قال مكّيّ رحمه‌الله : هو ابتداء وخبر في موضع الحال من الضّمير في «خالدين» أو من الضّمير في «عنهم».

فصل في وصف العذاب

اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمور :

أحدها : الخلود ، وهو المكث الطّويل عندنا ، أو المكث الدّائم عند المعتزلة (٢).

وثانيها : عدم التخفيف ، ومعناه أنّ العذاب في الأوقات كلّها متشابه ؛ لا يكون بعضه أقلّ من بعض.

فإن قيل : هذا التّشبيه ممتنع ؛ لوجوه (٣) :

أحدها : أنّه إذا تصوّر حال غيره في شدّة العذاب ، كان ذلك كالتّخفيف عنه.

وثانيها : أنّه تعالى يزيد عليهم في أوقات ، ثمّ تنقطع تلك الزّيادة فيكون ذلك تخفيفا.

وثالثها : أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] لا نشكّ أنّه يزاد عنهم في ذلك الوقت.

فالجواب أنّ التفاوت في هذه الأمور قليل ، فالمستغرق في العذاب الشّديد لا ينتبه لهذا القدر القليل من التّفاوت ، وهذه الآية تدلّ على دوام العذاب ، وأبديته ، فإنّ الواقع في [محنة](٤) عظيمة [وشدّة](٥) في الدّنيا ، إذا بشّر بالخلاص ، وقيل له : إنّك تخلص من هذه الشّدّة بعد أيّام ، فإنّه يفرح ويسهل عليه موقع هذه المحنة.

الصفة الثانية : قوله (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) والإنظار : هو التأجيل والتأخير ؛ قال سبحانه (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] والمعنى : أن عذابهم لا يؤجّل ، بل يكون حاضرا متّصلا بعذاب مثله ؛ ووجه اتّصال هذه الآية بها قبلها : أنّه تعالى لمّا حذّر من كتمان الحقّ بين أن أوّل ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد ، ووصل ذلك بذكر البرهان ، وعلّم طريق النّظر ، وهو الفكر في عجائب الصّنع ؛ ليعلم أنّه لا بدّ من فاعل لا يشبهه شيء.

ويحتمل أن يكون من النّظر ؛ كقوله : (لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

__________________

(١) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧١.

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٢٥٢.

(٣) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٢٥٢.

(٤) في ب : شدة.

(٥) في ب : محنة.

١١٤

قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)

قوله : (إِلهٌ واحِدٌ) خبر المبتدأ ، و «واحد» صفة ، وهو الخبر في الحقيقة ؛ لأنّه محطّ الفائدة ، ألا ترى أنّه لو اقتصر [على ما قبله ، لم يفد ، وهذا يشبه الحال الموطّئة ؛ نحو : «مررت بزيد رجلا صالحا» ف «رجلا» حال](١) وليست مقصودة ، إنّما المقصود وصفها.

قال أبو عليّ : قولهم واحد : اسم جرى على وجهين في كلامهم (٢).

أحدهما : أن يكون اسما.

والآخر : أن يكون وصفا ، فالاسم قولهم في العدد : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، فهذا اسم ليس بوصف ، كما أنّ سائر أسماء العدد كذلك ، وأمّا كونه صفة ؛ فقولك : مررت برجل واحد ، وهذا شيء واحد ، فإذا جرى هذا الاسم على الحقّ سبحانه وتعالى ، جاز أن يكون الذي هو الوصف كالعالم والقادر ، وجاز أن يكون الذي هو الاسم كقولك شيء ويقوّي الأوّل قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(٣).

فصل في وجوه وصفه تعالى بأنه واحد

قال الجبّائيّ (٤) : وصف الله بأنّه واحد من وجوه أربعة : لأنّه ليس بذي أبعاض ، ولا بذي أجزاء ؛ ولأنّه منفرد [بالقدم ؛ ولأنّه منفرد](٥) بالإلهيّة ؛ ولأنه منفرد بصفات ذاته ؛ نحو كونه [عالما بنفسه ، قادرا بنفسه.

قوله تعالى : «إلا هو» : رفع «هو» على أنه](٦) بدل من اسم «لا» على المحلّ ؛ إذ محلّه الرفع على الابتداء ، أو هو بدل من «لا» وما عملت فيه ، لأنّها وما بعدها في محلّ رفع بالابتداء ، وقد تقدّم تقرير ذلك ، ولا يجوز أن يكون «هو» خبر «لا» التّبرئة ، لما تقرّر من أنّها لا تعمل في المعارف ، بل الخبر محذوف ، أي : «لا إله لنا» هذا إذا فرّعنا على أنّ «لا» المبنيّ معها اسمها عاملة في الخبر ، أمّا إذا جعلنا الخبر مرفوعا بما كان عليه قبل دخول «لا» وليس لها فيه عمل وهو مذهب سيبويه (٧) فكان ينبغي أن يكون «هو» خبرا إلّا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥٣.

(٣) تحقيق هذا الكلام في العقل : أن الأشياء التي يصدق عليها أنها واحد ـ مشتركة في مفهوم الوحدانية ، ومختلفة في خصوصيات ماهياتها ، أعني : كونها جوهرا ، أو عرضا ، أو جسما ، أو مجردا ، ويصحّ أيضا لعمل كل واحد منهما ، أعني : ماهيته ، وكونه واحدا مع الذهول عن الآخر ، فإذن كون الجوهر جوهرا مثلا غير ، وكونه واحدا غير ، والمركّب منهما غير ، فلفظ الواحد تارة يفيد مجرد معنى أنه واحد ؛ وهذا هو الاسم ، وتارة يفيد معنى أنه واحد حينما يحصل نعتا لشيء آخر ؛ وهذا معنى كونه نعتا.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٥٦.

(٥) في ب : بالقدم ومنفرد.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر الكتاب : ١ / ٣٤٥.

١١٥

أنّه منع منه كون المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو ممنوع إلّا في ضرائر (١) الشّعر في بعض الأبواب.

واستشكل الشّيخ أبو حيّان (٢) كونه بدلا من «إله».

[قال : لأنّه لم يمكن تكرير العامل ؛ لا نقول : «لا رجل إلّا زيد» والذي يظهر أنه ليس بدلا من «إله» (٣)] ولا من «رجل» في قولك : «لا رجل إلّا زيد» ، إنما هو بدل من الضّمير المستكنّ في الخبر [المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلّا زيد ، فالتقدير : «لا رجل كائن ، أو موجود إلّا زيد» ، ف «زيد» بدل من الضمير المستكنّ في الخبر](٤) لا من «رجل» ، فليس بدلا على موضع اسم «لا» ، وإنّما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، وذلك الضّمير هو عائد على اسم «لا» ، ولو لا تصريح النّحويّين : أنّه بدل على الموضع من اسم «لا» ، لتأوّلنا كلامهم على ما تقدّم تأويله.

قال شهاب الدين (٥) : والّذي قالوه غير مشكل ؛ لأنهم لم يقولوا : هو بدل من اسم «لا» على اللّفظ ؛ حتى يلزمهم تكرير العامل ، وإنّما كان يشكل لو أجازوا إبداله من اسم «لا» على اللّفظ ، وهم لم يجيزوا ذلك لعدم تكير العامل ، ولذلك منعوا وجه البدل في قولهم «لا إله إلّا الله» وجعلوه انتصابا على الاستثناء ، وأجازوه في قولك : «لا رجل في الدّار إلّا صاحبا لك» لأنّه يمكن فيه تكرير العامل.

قوله تعالى : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون بدلا من «هو» بدل ظاهر من مضمر ، إلا أن هذا يؤدّي إلى البدل بالمشتقّات وهو قليل ؛ ويمكن أن يجاب بأنّ هاتين الصفتين جرتا مجرى الجوامد ولا سيّما عند من يجعل [الرّحمن](٦) علما ، وقد تقدّم تحقيقه في «البسملة».

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الرّحمن ، وحسّن حذفه توالي اللفظ ب «هو» مرّتين.

الثالث : أن يكون خبرا ثالثا لقوله : (وَإِلهُكُمْ) أخبر عنه بقوله : (إِلهٌ واحِدٌ) وبقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وبقوله : «الرّحمن الرّحيم» ، وذلك عند من يرى تعدّد الخبر مطلقا.

الرابع : أن يكون صفة لقوله «هو» ، و [ذلك](٧) عند الكسائيّ ؛ فإنّه يجيز وصف الضّمير الغائب بصفة المدح ، فاشترط في وصف الضّمير هذين الشّرطين : أن يكون غائبا ، وأن تكون الصفة صفة مدح ؛ وإن كان ابن مالك أطلق عنه جواز وصف ضمير

__________________

(١) في أ : ضرورة.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٦٣٧.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر الدر المصون : ١ / ٤١٩.

(٦) سقط في ب.

(٧) سقط في ب.

١١٦

الغائب ، ولا يجوز أن يكون خبرا ل «هو» هذه المذكورة ؛ لأنّ المستثنى ليس بجملة.

فصل في سبب النّزول

قال ابن عبّاس : سبب نزول هذه الآية أنّ كفّار قريش قالوا : يا محمّد ، صف وانسب لنا ربّك فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص ، وهذه الآية (١).

قال أبو الضّحى : لمّا نزلت هذه الآية ، قال المشركون : إنّ محمّدا يقول : إلهكم إله واحد ، فليأتنا بآية ، إن كان من الصّادقين ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٢) [والمراد بالخلق هنا المخلوق.

قال أبو مسلم (٣) : وأصل الخلق التقدير ؛ قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(٤) [الفرقان : ٢].

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

ذكر ابن جرير في سبب نزول هذه الآية عن عطاء أيضا ما ذكرناه آنفا.

وعن سعيد بن مسروق ، قال : سألت قريش اليهود ، فقالوا : حدّثونا عمّا جاءكم به موسى ـ عليه‌السلام ـ من الآيات. فحدّثوهم بالعصا وباليد البيضاء ، وسألوا النّصارى عمّا جاءهم به عيسى ، فحدّثوهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ؛ فقالت قريش عند ذلك للنّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : ادع الله لنا أن يجعل الصّفا ذهبا ، فنزداد يقينا ، ونتقوّى على عدوّنا [فسأل ربّه ذلك](٥) فأوحى الله تعالى إليه أن يعطيهم ، ولكن إن كذّبوا بعده ، عذّبتهم عذابا شديدا لا أعذّبه أحدا من العالمين فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام : ـ ذرني وقومي ، أدعوهم يوما فيوما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٦) مبيّنا لهم أنهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم الصّفا ذهبا ؛ ليزدادوا يقينا ؛ فخلق السّموات والأرض وسائر ما ذكر أعظم وأكبر.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» الجامع لأحكام القرآن (٢ / ١٢٨) عن ابن عباس.

(٢) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٥.

(٣) ينظر تفسير الرازي : ٤ / ١٦٢.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٦٩) عن سعيد بن مسروق.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٩) بمعناه عن ابن عباس ، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه. وعزاه أيضا (١ / ٢٩٩) لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير.

١١٧

وقيل : لمّا نزل قوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، قالوا : هل من دليل على ذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ فبيّن لهم الدّليل وقد تقدّم في قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ) [البقرة : ٢٢].

قال البغوي (١) : ذكر «السموات» بلفظ الجمع ، لأنّ كلّ سماء من جنس آخر ، وأفرد الأرض ؛ لأن الأرضين كلّها من جنس واحد ، وهو التراب ، والآية في السّموات سمكها وارتفاعها من غير عمد ، ولا علاقة ، وما يرى فيها من الشّمس ، والقمر ، والنّجوم ، واختلاف أحوالها من الطّلوع ، والغروب ، وغير ذلك ، والآية من الأرض : مدّها ، وبسطها وسعتها ، وما يرى فيها من الأشجار ، والأثمار ، والأنهار ، والجبال ، والبحار ، والجواهر ، والنبات ، وقد تقدّم طرف من هذا.

قوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ذكروا للاختلاف تفسيرين :

أحدهما : أنّه افتعال من قولهم : «خلفه يخلفه» إذا ذهب الأوّل ، وجاء الثّاني ، فاختلاف اللّيل والنّهار تعاقبهما في الذّهاب والمجيء ؛ يقال : فلان يختلف إلى فلان ، إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده ، فذهابه يخلف مجيئه ، ومجيئه يخلف ذهابه ، وكلّ شيء يجيء بعد شيء آخر ، فهو خلفة ، وبهذا فسّروا قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ؛ ومنه قول زهير : [الطويل]

٨٦٢ ـ بها العين والأرآم يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم (٢)

وقال آخر : [المديد]

٨٦٣ ـ ولها بالماطرون إذا

أكل النّمل الّذي صنعا

خلفة حتّى إذا ارتبعت

سكنت من جلّق بيعا (٣)

الثاني : اختلاف الليل والنهار ، في الطول والقصر ، والنور والظلمة ، والزيادة والنقصان.

__________________

(١) ينظر تفسير البغوي : ١ / ١٣٥.

(٢) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه : ص ٥ ، وجمهرة اللغة : ص ٤١٥ ، ٤١٦ ، ولسان العرب (خلف) ، (طلى) ، ورصف المباني : ص ١٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٤٢١.

(٣) البيتان لأبي دهبل الجمحي ينظر ديوانه : ص ٨٥ ، والحيوان : ٤ / ١٠ ، والمستقصى : ١ / ٥١ ، وللأحوص الأنصاري ينظر ديوانه : ص ٢٢١ ، وليزيد بن معاوية : ص ٢٢ في ديوانه ، وشرح التصريح : ١ / ٧٦ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٨ ، وليزيد أو للأحوص في خزانة الأدب : ٧ / ٣٠٩ ، ٣١٠ ، ٣١١ ، ٣١٢ ، وللأخطل في لسان العرب (مطر) ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب : ٢ / ٦٢٦ ، ولسان العرب (مطر) ، والممتع في التصريف : ١ / ١٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٤٢١.

١١٨

قال الكسائي : «يقال لكلّ شيئين اختلفا : هما خلفان».

قال ابن الخطيب (١) : وعندي فيه وجه ثالث ، [وهو](٢) أنّ اللّيل والنهار كما يختلفان بالطّول والقصر في الأزمنة ، فهما يختلفان في الأمكنة فإنّ من يقول : إنّ الأرض كرة ، فكلّ ساعة عنيتها ، فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح ، وفي موضع آخر ظهر ، وفي آخر عصر وفي آخر مغرب ، وفي آخر عشاء ، وهلمّ جرّا ، هذا إذا [اعتبرنا البلاد المختلفة في الطّول ، أما البلاد المختلفة](٣) في العرض ، فكلّ بلد يكون عرضه الشماليّ أكثر ، كانت أيّامه الصيفيّة أطول ولياليه الصّيفيّة أقصر ، وأيّامه الشتويّة بالضّدّ من ذلك ، فهذه الأحوال المختلفة في الأيّام واللّيالي بحسب اختلاف أطوال البلاد وعروضها أمر عجيب مختلف.

وأيضا : فإنّ إقبال الخلق في أوّل الليل على النّوم يشبه موت الخلائق عند النّفخة الأولى في الصّور ، ويقظتهم آخر اللّيل يشبه عودة الحياة إليهم عند النّفخة الثانية ، وهذا أيضا من الآيات العظيمة.

وأيضا : انشقاق ظلمة الليل بظهور الصّبح المستطيل كأنّه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدّر الصّافي بالكدر ، ولا الكدر الصافي ، وهو المراد بقوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦].

قال علماء الهيئة (٤) : إنّ الموضع الذي يكون القطب فيه على سمت الرأس تكون السّنة فيه [ستّة أشهر نهارا](٥) وستّة أشهر ليلا ، وهناك لا يتمّ النّضج ، ولا يصلح لمسكن الحيوان ولا يتهيأ فيه سبب من أسباب المعيشة.

فصل في أصل الليل

اختلفوا ؛ قيل : الليل : اسم جنس ، فيفرق بين واحده وجمعه بتاء التأنيث ؛ فيقال : ليلة وليل ؛ كتمرة وتمر ، واللّيالي جمع الجمع ، والصحيح : أنّه مفرد ، ولا يحفظ له جمع ؛ وكذلك خطأ الناس من زعم أنّ «الليالي» جمع «ليل» ، بل الليالي جمع «ليلة» وهو جمع غريب ، ولذلك قالوا : هو جمع «ليلاة» تقديرا ، وقد صرّح بهذا المفرد في قول الشّاعر : [السريع أو الرجز]

٨٦٤ ـ في كلّ يوم ما وكلّ ليلاه

حتّى يقول كلّ راء إذ رآه

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٧٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٧٦.

(٥) سقط في ب.

١١٩

يا ويحه من جمل ما أشقاه (١)

ويدلّ على ذلك تصغيرهم لها على «لييلة» ونظير «ليلة» و «وليال» : «كيكة وكياك» ؛ كأنّهم توهّموا أنّها «كيكات» في الأصل ، والكيكة : البيضة.

وأمّا النّهار : فقال الرّاغب (٢) : «هو في الشّرع : اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشّمس».

قال ابن فارس : «والنّهار» : ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال القرطبي(٣) : وهو الصحيح ؛ ويدلّ عليه ما ثبت في «صحيح مسلم» : عن عديّ بن حاتم ، قال : لمّا نزلت : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] قال له عديّ : يا رسول الله ، إنّي جعلت تحت وسادتي عقالين ؛ عقالا أبيض ، وعقالا أسود ، أعرف بهما اللّيل من النّهار ، فقال رسول الله ـ صلوات الله البرّ الرّحيم وسلامه عليه ـ : «إنّ وسادك لعريض» يعني إنّما هو سواد الليل وبياض النهار (٤) ، وبهذا يقضي الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام.

وظاهر اللّغة أنّه من وقت الإسفار.

وقال ثعلب والنّضر بن شميل : «هو من طلوع الشّمس» زاد النّضر : ولا يعدّ ما قبل ذلك من النّهار.

وقال الزّجّاج : «أوّل النّهار ذرور الشّمس».

ويجمع على نهر وأنهرة ؛ نحو : قذال ، وقذل ، وأقذلة.

وقيل : لا يجمع ؛ لأنه بمنزلة المصدر ، [والصحيح : جمعه على ما تقدّم](٥).

قال : [الرجز]

٨٦٥ ـ لو لا الثّريدان لمتنا بالضّمر

ثريد ليل ، وثريد بالنّهر (٦)

وقد تقدّم اشتقاق هذه المادّة ، وأنّها تدلّ على الاتّساع ، ومنه «النّهار» لاتّساع ضوئه

__________________

(١) الرجز لأبي زغيب. ينظر شرح المفصل (٥ / ٧٣) والدرر (٢ / ٢٢٨) ، والمخصص : ٩ / ٤٤ ، واللسان (ليل) والدر المصون : ١ / ٤٢٠.

(٢) ينظر المفردات : ٥٢٨.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٠.

(٤) أخرجه مسلم رقم (٧٦٧) وأبو داود (١ / ٧١٧) كتاب الصيام باب وقت السحور (٢٣٤٩) والطبراني في «الكبير» (١٧ / ٣٩) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٢٢٢) وانظر فتح الباري (٤ / ١٣٣) وإتحاف السادة المتقين.

(٥) سقط في ب.

(٦) البيت ذكره ابن منظور في اللسان «نهر» وينظر : الدر المصون : ١ / ٤٢٠.

١٢٠