اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

وقال آخر : [السريع]

٤٩٩ ـ رحت وفي رجليك ما فيهما

وقد بدا هنك من المئزر (١)

يريد : «هنك ـ وتعرفكم» فهذه حركات إعراب ، وقد سكّنت ، وقد أنشد ابن عطية وغيره ردّا عليه قوله : [الرجز]

٥٠٠ ـ قالت سليمى : اشتر لنا سويقا (٢)

وقول آخر : [الرجز]

٥٠١ ـ إذا اعوججن قلت : صاحب قوّم (٣)

وقول الآخر : [الرمل]

٥٠٢ ـ إنّما شعري شهد

قد خلط بجلجلان (٤)

ولا يحسن ذلك ؛ لأنها حركات بناء ، وإنما منع هو ذلك في حركات الإعراب ، وقراءة أبي عمرو صحيحة ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيل ، ولذلك اجتزىء عليها بجميع أنواع التخفيف ، فاستثقلت عليها الحركة فقدّرت ، وهذه القراءة (٥) تشبه قراءة حمزة ـ رحمه‌الله ـ في قوله تعالى : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا) فإنه سكن همزة «السّيّىء» وصلا ، والكلام عليهما واحد ، والذي حسنه ـ هنا ـ أنّ قبل كسرة الهمزة راء مكسورة ، والراء حرف تكرير ، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التّسكين ، وليت المبرّد اقتدى بسيبويه في الاعتذار عن أبي عمرو. وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التّخفيف ، ولذلك يدغم المثلين ، والمتقاربين ، ويسهّل الهمزة ، ويسكن نحو : (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦] و (يَأْمُرُكُمْ) [البقرة : ٦٧] و (بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣] على تفصيل معروف عند القرّاء ، وروي عنه إبدال هذه الهمزة السّاكنة ياء ، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة ، وبعضهم ينكر ذلك عنه ، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو (٦).

__________________

(١) البيت للأقيشر الأسدي في ديوانه : ص ٤٣ ، وينظر خزانة الأدب : ٤ / ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، ٨ / ٣٥١ ، الدرر : ١ / ١٧٤ ، شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٩١ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٥١٦ ، وللفرزدق في الشعر والشعراء : ١ / ١٠٦ ، الأشباه والنظائر : ١ / ٦٥ ، ٢ / ٣١ ، تخليص الشواهد : ص ٦٣ ، الخصائص : ١ / ٧٤ ، ٣ / ٩٥ ، ٣١٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٢) البيت للعذافر الكندي. ينظر الخصائص : ٢ / ٣٤٠ ، المنصف : ٢ / ٢٣٧ ، شرح شواهد الشافية : ٢٢٤ والدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٣) البيت لأبي نخيلة. ينظر الكتاب : ٢ / ٢٩٧ ، الخصائص : ١ / ٧٥ ، الفراء : ٢ / ١٢ ، اللسان «عوم» والدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٤) تقدم برقم (١٣٤).

(٥) ستأتي في سورة «فاطر» آية (٤٣).

(٦) سبق تخريج هذه القراءة.

٨١

وروى ابن عطية عن الزهري (١) : «باريكم» بكسر الياء من غير همزة قال : «ورويت عن نافع».

قلت : من حق هذا القارىء أن يسكن الياء ؛ لأن الكسرة ثقيلة عليها ، ولا يجوز ظهورها إلّا في ضرورة شعر ؛ كقول أبي طالب : [الطويل]

٥٠٣ ـ كذبتم وبيت الله نبزي محمّدا

ولم تختضب سمر العوالي بالدّم (٢)

وقرأ قتادة (٣) : «فاقتالوا» وقال : هي من الاستقالة.

قال ابن جنّي : اقتال : افتعل ، ويحتمل أن تكون عينها واوا ك «اقتادوا» أو ياء ك «اقتاس» ، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة.

ولكن قتادة ينبغي أن يحسن الظنّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده.

وقرىء أيضا : «فأقيلوا أنفسكم» بالياء المثنّاة التحتية ، وهي موافقة للرسم أيضا.

«والبارىء» : الخالق ، برأ الله الخلق أي : خلقهم ، وقد فرق بعضهم بين الخالق والبارىء ، بأن البارىء هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدر النّاقل من حال إلى حال ، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز ، ومنه : برأ المريض برءا وبرءا وبراءة ، وبرئت أيضا من الدّين براءة ، والبريّة : الخلق ؛ لأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود ، إلّا أنه لا يهمز.

وقيل : أصله من البرى وهو التراب. وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى.

قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

قال بعض المفسرين : هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم ؛ لأنها أمر بالقتل ، والقتل لا يكون نعمة ، وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ نبّههم على عظم ذنبهم ، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم ، وذلك من أعظم النعم في الدين ، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية ، فتعديد النعم الدينية أولى ، ثم إنّ هذه النعمة ، وهي كيفية التّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضا من تمام النّعمة ، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدودا في نعم الله تعالى ، فجاز التذكير بها.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ،

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٤٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٨.

(٢) ينظر الهمع : ١ / ٥٣ ، الدرر : ١ / ٣٠ ، شرح التسهيل : ١ / ٦٠ ، شفاء العليل : ص ١٢٩ ، البحر المحيط : ١ / ٣٣٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٨.

(٣) وروي عنه أيضا : «فأقيلوا».

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٤٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٦٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٨.

٨٢

فكان ذلك نعمة في حقّ الباقين والموجودين في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه رفع القتل عن آبائهم ، فكان نعمة في حقهم.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقتل مع أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول لهم : لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل ، بل إن رجعتم عن كفركم ، وآمنتم قبل الله إيمانكم فكان بيان التّشديد في تلك التوبة تنبيها على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلة هيّنة.

ورابعها : أن فيه ترغيبا شديدا لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما رغبوا في تلك التّوبة مع [غاية](١) مشقّتها على النفس ، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مجرّد الندم أولى.

فصل في كيفية قتل أنفسهم

أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده ، قال الزّهري : لما قيل لهم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) قاموا صفّين ، وقتل بعضهم بعضا ، حتى قيل لهم : كفّوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ.

وقيل : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك.

وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا ، إذ لم يعبدوا العجل. وقيل : إن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال : ملعون من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله ، أو اتّقاه بيد أو رجل. فلم يحلّ أحد منهم حبوته حتى قتل منهم من قتل. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم ـ على القول الأول ـ لأنهم لم يغيروا المنكر ، وإنما اعتزلوا ، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده.

وهذه سنّة الله في عبادة ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعزّ منهم وأمنع لا يغيّرون إلا عمّهم الله بعقاب» (٢).

فإن قيل : التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره؟

والجواب : كأنه قال : لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله.

فإن قيل : كيف استحقّوا القتل ، وهم تابوا من الردّة ، والتائب من الردة لا يقتل؟

والجواب : أن ذلك مما يختلف [بالشرائع](٣).

__________________

(١) في ب : نهاية.

(٢) أخرجه ابن ماجه في السنن (٢ / ١٣٢٩) كتاب الفتن (٣٦) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢٠) حديث رقم (٤٠٠٩) وأبو داود كتاب الملاحم ب ١٧ وأحمد (٤ / ٣٦٤) والبيهقي ١٠ / ٩١.

(٣) في ب : بالتشريع.

٨٣

قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ).

قال بعضهم : «ذلكم» مفرد واقع موقع «ذانكم» المثنّى ؛ لأنه قد تقدّم اثنان : التوبة ، والقتل.

قال أبو البقاء : «وهذا ليس بشيء ؛ لأن قوله : «فاقتلوا» تفسير للتوبة فهو واحد».

و «خير» «أفعل» تفضيل ، وأصله : أخير ، وإنما حذفت همزته تخفيفا ، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة ؛ قال : [الرجز]

٥٠٤ ـ بلال خير النّاس وابن الأخير (١)

ومثله : «شرّ» لا يجوز «أشرّ» إلا في ندور ، وقد قرىء (٢) : (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦] وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على «أفعل» ، فلا تحذف همزته إلا في ندور ، كقولهم : «ما خير اللبن للصحيح ، وما شرّه للمبطون» ف «خير وشرّ» قد خرجا عن نظائرهما في باب التّفضيل والتعجّب.

و «خير» أيضا مخفف من «خير» على «فيعل» ولا يكون من هذا الباب ، ومنه : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠].

قال بعضهم : مخفف من «خيّرات». والمفضّل عليه محذوف للعلم به ، أي : خير لكم من عدم التوبة. ول «أفعل» التفضيل أحكام كثيرة ، وباقي منها ما يضطر إليه.

قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) في الكلام حذف ، وهو : ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم ، والفاء الأولى في قوله : (فَتُوبُوا) للسببية ؛ لأن الظلم سبب التوبة.

والثانية للتعقيب ؛ لأن المعنى : فاعزموا على التّوبة ، فاقتلوا أنفسكم.

والثّالثة متعلقة بمحذوف ولا يخلو : إما أن ينتظم في قول موسى لهم فيتعلّق بشرط محذوف ، كأنه قال : وإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإما أن يكون خطابا من الله لهم على طريقة الالتفات ، فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى ، فتاب عليكم بارئكم. قاله الزمخشري.

وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ ،) أي : فتجاوز عن الباقين منكم. إنه هو التواب الرحيم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٦)

قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ) إنما تعّدى ب «اللام» دون «الباء» لأحد وجهين :

__________________

(١) ينظر المحتسب : ٢ / ٢٩٩ ، شرح التصريح : ٢ / ١٠١ ، الهمع : ٢ / ١٦٦ ، شرح الأشموني : ٣ / ٤٣ ، الدرر : ٢ / ٢٢٤ ، البحر : ١ / ٣٦٣ ، الدرّ : ١ / ٢٢٨.

(٢) ستأتي في «القمر» آية (٢٦).

٨٤

إمّا أن يكون التقدير : لن نؤمن لأجل قولك.

وإما أن يضمن معنى الإقرار ، أي : لن نقر لك بما ادعيته.

وقرأ (١) أبو عمرو بإدغام النون في اللام ، لتقاربهما.

وفرق بعضهم بين قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) وجعل الإيمان به بما جاء به ، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد.

قوله : (جَهْرَةً) فيها قولان :

أحدهما : أنها مصدر ، وفيها حينئذ قولان :

أحدهما : أن ناصبها محذوف ، وهو من لفظها تقديره : جهرتم جهرة ، نقله «أبو البقاء».

والثاني : أنها مصدر من نوع الفعل ، فتنتصب انتصاب «القرفصاء» من قولك ، «قعد القرفصاء» فإنها نوع من الرؤية ، وبه بدأ «الزمخشري».

والثّاني : أنها مصدر واقع موقع الحال ، وفيها حينئذ أربعة أقوال :

أحدها : أنه حال من فاعل «نرى» ، أي : ذوي جهرة ، قاله «الزمخشري».

والثاني : أنها حال من فاعل «قلتم» ، أي : قلتم ذلك مجاهرين ، قاله «أبو البقاء». وقال بعضهم : فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي : قلتم جهرة : لن نؤمن لك ، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير ، بل أتي بمقول القول ، ثم بالحال من فاعله ، فهو نظير : «ضربت هندا قائما».

والثالث : أنها حال من اسم الله ـ تعالى ـ أي : نراه ظاهرا غير مستور.

والرابع : أنها حال من فاعل «نؤمن» ، نقله «ابن عطية» ، ولا معنى له. والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني.

وقرأ «ابن عبّاس» : جهرة بفتح الهاء ، وفيها قولان :

أحدهما : أنها لغة في «جهرة».

قال «ابن عطية» : «وهي لغة «مسموعة» عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكن قد انفتح ما قبله ، والكوفيون يجيزون فيه الفتح ، وإن لم يسمعوه» وقد تقدم تحريره.

والثاني : أنها جمع «جاهر» نحو : «خادم وخدم» ، والمعنى : حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر ، وهي تؤيد كون «جهرة» حالا من فاعل «نرى».

__________________

(١) ووافقه يعقوب.

انظر السبعة : ١١٨ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٩.

٨٥

و «الجهر» : ضد السّرّ ، وهو الكشف والظهور ، ومنه : جهر بالقراءة أي : أظهرها. قال الزمخشري : «كأن الّذي يرى بالعين جاهر بالرّؤية ، والذي يرى بالقلب مخافت بها».

قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قرأ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم «الصّعقة» بغير ألف ، وقرأ الباقون بالألف ، وهما لغتان.

فصل في زمان هذه الواقعة

قال محمد بن إسحاق : هذه الواقعة قبل تكليفهم بالقتل لما رجع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الطّور ، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، وقال لأخيه والسامري ما قال ، وحرق العجل ، وألقاه في البحر ، واختار من قومه سبعين رجلا ، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : [أرنا ربك حتى](١) يسمعنا كلامه ، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام فأجاب الله إليه ، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام ، وتغشّى الجبل كله ، ودنا من موسى ذلك الغمام ، فدخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وادعوا ، وكان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ متى كلمه ربه أوقع على جبهته نورا ساطعا لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه ، وسمع القوم كلام الله ـ تعالى ـ مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل ، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه ، فقال القوم بعد ذلك : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) فماتوا جميعا ، وقام موسى رافعا يديه إلى السماء يدعو ، ويقول : يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم ، فأرجع إليهم ، وليس معي منهم واحد ، فما الذي يقولون لي؟ فلم يزل موسى مشتغلا بالدعاء حتى ردّ الله عليهم أرواحهم ، وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : «لا ، إلّا أن يقتلوا أنفسهم» (٢).

وقال «السّدي» : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله ـ تعالى ـ أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلا ، فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة ، وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل ، فإني أمرتهم بالقتل ، ثم اخترت من أنفسهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ، وليس معي منهم أحد فماذا أقول لهم؟ فأحياهم الله ـ تعالى ـ فقاموا ، ونظر كل واحد منهم إلى الآخر [كيف يحييه الله تعالى](٣).

__________________

(١) في ب : سهل ربك.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٧٧) وفي تاريخه (١ / ٢٢١) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ١٧٠) عن ابن إسحاق.

(٣) سقط في ب.

٨٦

فصل

في «الصّاعقة» قولان :

الأول : قال «الحسن وقتادة» : هي الموت ، لقوله تعالى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] وهذا ضعيف لوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ،) ولو كانت الصاعقة هي الموت لا متنع كونهم ناظرين إلى الصّاعقة.

وثانيها : قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] أثبت الصّاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتا ؛ لأنه قال : أفاق ، والإفاقة لا تكون عن الموت.

وثالثها : أن الصّاعقة وهي التي تصعق ، وذلك إشارة إلى سبب الموت.

والقول الثاني : الصّاعقة هي سبب الموت ، واختلفوا فيها.

فقيل : هي نار وقعت من السماء فأحرقتهم.

وقيل : صيحة جاءت من السماء.

وقيل : أرسل الله جنودا ، فلما سمعوا حسّها خروا صعقين ميتين يوما وليلة.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة حالية ، والمعنى : وأنتم تنظرون موت بعضكم خلف بعض ، أو : تنظرون إلى ما حلّ بكم ، أو : أنتم أعيتكم صيحة وتفكّر.

قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) [أحييناكم من بعد موتكم](١).

قال قتادة : ماتوا وذهبت أرواحهم ، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم.

قال النحاس : «وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش ، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا».

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ما فعل بكم من البعث بعد الوت.

وقيل : ماتوا موت همود يعتبر به الغير ، ثم أرسلوا.

وأصل البعث الإرسال.

وقيل : بل أصله إثارة الشيء من محلّه ، يقال : بعثت الناقة : أثرتها ، أي حركتها ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٠٥ ـ وفتيان صدق قد بعثت بسحرة

فقاموا جميعا بين عاث ونشوان (٢)

وقال غيره : [الكامل]

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر ديوانه : ٩١ ، الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧٥.

٨٧

٥٠٦ ـ وصحابة شمّ الأنوف بعثتهم

ليلا وقد مال الكرى بطلاها (١)

وقيل : (بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) علّمناكم من بعد جهلكم.

فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته

قال الماورديّ : اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ، ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين :

أحدهما : بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد.

الثاني : سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.

والأول أصحّ ، لقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ،) ولفظ : الشكر يتناول جميع الطاعات ، لقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣].

فإن قيل : كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ، ولو جاز ذلك جاز تكليف أهل الآخرة بعد البعث؟

فالجواب : أنّ الذي منع من تكليف أهل الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء ، وإنما المانع كونه اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته ، وإلى معرفة لذّات الجنّة ، وآلام النّار ، وبعد العلم الضروري لا تكليف ، وإذا كان كذلك ، فيكون موت هؤلاء بمنزلة النّوم والإغماء.

قوله تعالى : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

هذا هو الإنعام السابع المذكور في سورة «الأعراف» ، وظاهر هذه الآية يدلّ على أن هذا الإظلال كان بعد البعث ، لأنه ـ تعالى ـ قال : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٦] ، (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي : وجعلنا الغمام يظلكم ، وذلك في التّيه سخر الله ـ تعالى ـ لهم السحاب يظلّهم من الشمس ، ونزل عليهم المنّ (٢) وهو «التّرنجبين» بالتاء والراء ـ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع.

وقال «مجاهد» : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشّهد (٣).

وقال «وهب» (٤) : خبز الرقاق (٥). وقال «السدي» : عسل كان يقع على الشجر من الليل (٦).

__________________

(١) البيت لعنترة. ينظر ديوانه : ٧٥ ، الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧٥.

(٢) زاد في أ : والسلوى.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٩١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٧) وزاد نسبته لوكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) في أ : مرّة.

(٥) أخرجه الطبري (٢ / ٩٢) وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٧) لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٦) أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس كما في «الدر المنثور» (١ / ١٣٧).

٨٨

وقال «الزجاج» : «المنّ : ما يمنّ الله ـ عزوجل ـ به مما لا تعب فيه ولا نصب».

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» (١).

«والسّلوى» قال «ابن عباس» وأكثر المفسرين : هو طائر يشبه السّماني (٢).

وقال أبو العالية ومقاتل : هو السّماني.

وقال «عكرمة» : طير «الهند» أكبر من العصفور.

وقيل : السّلوى : العسل نقله المؤرّج (٣) ، وأنشد قول الهذليّ : [الطويل]

٥٠٧ ـ وقاسمها بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها (٤)

وغله «ابن عطية» وادّعى الإجماع على أن السّلوى : طائر ، وهذا غير مرض ، فإن «المؤرج» من أئمة اللغة والتفسير ، واستدلّ ببيت الهذلي ، وذكر أنه بلغة «كنانة». وقال «الراغب» : «السّلوى مصدر ، أي : لهم بذلك التّسلّي».

قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) تقديره : وجعلنا الغمام يظلّلكم.

قال «أبو البقاء» : ولا يكون كقولك : «ظلّلت زيدا يظلّ» ؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الغمام مستورا بظل آخر.

وقيل التقدير : بالغمام ، وهذا تفسير معنى لا إعراب ، لأن حذف الجر لا ينقاس.

فصل في اشتقاق الغمام

الغمام : السّحاب ، لأنه يغم وجه السماء ، أي : يسترها ، وكل مستور مغموم أي مغطى.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٢٢) ومسلم في كتاب الأشربة ١٥٧ والترمذي (٢٠٦٦) وابن ماجه (٣٤٥٣) وأحمد (١ / ١٨٧ ، ١٨٨) والبيهقي (٩ / ٣٤٥) والحميدي رقم (٨١) والطبراني في «الأوسط» (١ / ١٢٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٩٦).

(٣) مؤرج بن عمرو بن الحارث من بني سدوس بن شيبان أبو فيد. عالم بالعربية والأنساب من أعيان أصحاب الخليل بن أحمد من أهل البصرة كان له اتصال بالمأمون العباسي ، ورحل معه إلى خراسان فسكن مدة بمرو ، ثم انتقل إلى نيسابور من كتبه : جماهير القبائل ، و «غريب القرآن» وكتاب «الأمثال» ، و «المعاني» وله شعر جيد.

ينظر الأعلام : ٧ / ٣١٨ (٢٥٦٩) ، وفيات الأعيان : ٢ / ١٣٠ ، بغية الوعاة : ٤٠٠ ، نزهة الألبأ : ١٧٩ ، إنباه الرواة : ٣ / ٣٢٧.

(٤) ينظر ديوان الهذليين : ١ / ١٥٨ ، اللسان (سلا) ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٨٣ ، مجمع البيان : ١ / ٢٥٨ ، روح المعاني : ١ / ٢٦٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٠.

٨٩

وقيل : الغمام : السّحاب الأبيض خاصّة ، ومثله : الغيم والغين ـ بالميم والنون ـ وفي الحديث : «إنه ليغان على قلبي» (١).

وواحدته «غمامة» فهو اسم جنس. و «المنّ» تقدم تفسيره ، ولا واحد له من لفظه.

والمنّ ـ أيضا ـ مقدار يوزن به ، وهذا يجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة ، فيقال : منا مثل : عصا ، وتثنيته : منوان ، وجمعه : أمناء. والسّلوى تقدمت أيضا ، واحدتها : سلواة ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٥٠٨ ـ وإنّي لتعروني لذكراك سلوة

كما انتفض السّلواة من بلل القطر (٢)

فيكون من باب «قمح وقمحة».

وقيل : سلوى مفرد وجمعها : سلاوى ك «فتوى وفتاوى» قاله «الكسائي».

وقيل : سلوى يستعمل للواحد والجمع ك : دفلى. و «السّلوانة» ـ بالضم ـ خرزة كانوا يقولون : إذا صبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا ؛ [قال : [الطويل]

٥٠٩ ـ شربت على سلوانة ماء مزنة

فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو (٣)](٤)

واسم ذلك الماء «السّلوان».

وقال بعضهم : «السّلوان» دواء يسقاه الحزين فيسلو ، والأطباء يسمونه المفرّح.

يقال : سليت وسلوت ، لغتان. وهو في سلوة من العيش ، قاله «أبو زيد».

و «السّلوى» عطف على «المنّ» لم يظهر فيه الإعراب ، لأنه مقصور ، وهذا في المقصور كلّه ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف.

قال الخليل : «والألف حرف هوائيّ لا مستقرّ له ، فأشبه الحركة ، فاستحالت حركته».

وقال «الفراء» : «لو حركت الألف صارت همزة».

فصل في سبب تقديم المن على السلوى

فإن قيل : المعهود تقديم الأهم [فالأهم](٥) والمأكول مقدّم على الفاكهة والحلوى ؛ لأن به قيام البنية ، فالإنسان أول ما يأكل الغذاء ، ثم بعد الشّبع يتحلّى ويأكل الفاكهة وهاهنا قدم المنّ وهو الحلوى على الغذاء وهو السلوى فما فائدته؟

فالجواب : أن نزول الحلوى من السماء أمر مخالف للعادة ، فقدم لاستطعامه

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٧٥) رقم (٤١ / ٢٧٠٢) وأبو داود (١٥١٥) وأحمد (٤ / ٢١١) والبيهقي (٧ / ٥٢) والطبراني (١ / ٢٨٠) والبخاري في التاريخ الكبير (٢ / ١٣).

(٢) تقدم برقم (٤٢١).

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٢٧٧.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

٩٠

بخلاف الطيور المأكولة ، فإنها ليست مخالفة للعادة ، فإنها مألوفة الأكل.

«كلوا» هذا على إضمار القول ، أي : وقلنا لهم : كلوا ، وإضمار القول كثير ، ومنه قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣] أي : يقولون سلام ، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا) [الزمر : ٣] أي : يقولون : ما نعبدهم إلّا. (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي : فيقال لهم : أكفرتم ، وتقدم الكلام في كل تصريفه.

قوله : (مِنْ طَيِّباتِ) من : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض.

وقال : «أبو البقاء» : أو لبيان الجنس. والمفعول محذوف ، أي : كلوا شيئا من طيبات. وهذا ضعيف ؛ لأنه كيف يبين شيء ثم يحذف.

قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) يجوز في «ما» أن تكون بمعنى الّذي ، وما بعدها حاصلة لها ، والعائد محذوف ، أي : رزقناكموه ، وأن تكون نكرة موصوفة.

فالجملة لا محلّ لها على الأول ، ومحلّها الجر على الثّاني ، والكلام في العائد كما تقدّم ، وأن تكون مصدرية ، والجملة صلتها ، ولم تحتج إلى عائد على ما عرف قبل ذلك ، ويكون هذا المصدر واقعا موقع المفعول ، أي : من طيبات مرزوقنا.

قوله : (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

«أنفسهم» مفعول مقدم ، و «يظلمون» في محل نصب خبر «كانوا» وقدّم المفعول إيذانا باختصاص الظّلم بهم ، وأنه لا يتعدّاهم.

والاستدراك في «لكن» واضح ، ولا بدّ من حذف جملة قبل قوله : (وَما ظَلَمُونا) ، فقدره ابن عطية : فعصوا ، ولم يقابلوا النعم بالشكر.

وقال «الزمخشري» : تقديره فظلمونا (١) بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة (وَما ظَلَمُونا) عليه.

فإن قيل : قوله : (وَما ظَلَمُونا) جملة خبرية ، فكيف عطفت على قوله : «كلوا» ، وهي جملة أمرية؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن هذه جملة مستأنفة لا تعلّق لها بما قبلها.

والثاني : أنّها معطوفة على الجملة القولية المحذوفة أي : وقيل لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وما ظلمونا ، فيكون قد عطف جملة خبرية على خبريّة.

و «الظلم» : وضع الشيء في غير موضعه.

__________________

(١) في ب : فظلموا.

٩١

وقوله : (كانُوا) وكانت هذه عادتهم كقولك : «كان حاتم كريما».

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)

هذا هو الإنعام الثّامن ، وحذفت الألف من «قلنا» لسكونها ، وسكون الدال بعدها ، والألف التي يبتدأ بها قبل الدّال ألف وصل ؛ لأنه من يدخل.

قوله : (هذِهِ الْقَرْيَةَ).

هذه منصوبة عند سيبويه (١) على الظرف ، وعند الأخفش على المفعول به ، وذلك أنّ كل ظرف مكان مختصّ لا يتعدّى إليه الفعل إلّا ب «في» ، تقول : صلّيت في البيت ولا تقول : صلّيت البيت إلّا ما استثني.

ومن جملة ما استثني «دخل» مع كل مكان مختصّ ، نحو : «دخلت البيت والسّوق» ، وهذا مذهب سيبويه وقال الأخفش : الواقع بعد «دخلت» مفعول به كالواقع بعد «هدمت» كقولك : «هدمت البيت» فلو جاء «دخل» مع الظرف تعدّى ب «في» نحو : «دخلت في الأمر» ولا تقول : «دخلت الأمر» ، وكذا لو جاء الظرف المختصّ مع غير «دخل» تعدّى ب «في» إلا ما شذّ ؛ كقوله : [الطويل]

٥١٠ ـ جزى الله [ربّ النّاس خير جزائه] (٢)

رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد (٣)

و «القرية» «المدينة» ، وهي نعت ل «هذه» ، أو عطف بيان كما تقدم ، والقرية مشتقّة من قريت أي : جمعت ، تقول : قريت الماء في الحوض ، أي : جمعته ، واسم ذلك الماء قرى ـ بكسر القاف ـ و «المقراة» للحوض ، وجمعها (٤) «مقار» ، قال : [الطويل]

٥١١ ـ عظام المقاري ضيفهم لا يفزّع

 .......... (٥)

و «القريان» : اسم لمجتمع الماء ، و «القرية» في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم ، وقد يطلق عليهم مجازا ، وقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يحتمل الوجهين.

__________________

(١) ينظر الكتاب : ١ / ١٥.

(٢) في أ : بالخيرات ما فعل بكم ، وهو صدر بيت آخر.

(٣) قيل هذا البيت لرجل من الجن ، سمعوا ب «مكة» صوته ولم يروا شخصه. انظر الهمع : (١ / ٢٠٠) ، الشذور : (٢٣٥) ، الدرر : (١ / ١٦٩) ، تعليق الفرائد : (١ / ١٦١٢) ، مشاهد الإنصاف : (٢ / ١٤٦).

(٤) في ب : والجمع.

(٥) ينظر شواهد القرطبي : ١ / ٢٧٨ ، الدر : ١ / ٢٣٢.

٩٢

وقال الراغب : «إنها اسم للموضع وللناس جميعا ، ويستعمل في كل واحد منهما».

و «القرية» ـ بكسر القاف ـ في لغة «اليمن» ، واختلف في تعيينها.

فقال الجمهور : هي بيت المقدس (١).

وقال ابن عباس : «أريحا» وهي قرية الجبّارين ، وكان فيها قوم من بقيّة عاد يقال لهم : العمالقة ، ورئيسهم عوج بن علق (٢).

وقال «ابن كيسان» : «الشّام».

وقال الضحاك : «الرّملة» و «الأردنّ» ، و «فلسطين» و «تدمر».

وقال مقاتل : «إيليا».

وقيل : بلقاء.

وقيل : «مصر». والصحيح الأول ، لقوله في المائدة : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١].

قوله : «وكلوا (مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) تقدّم الكلام على هذه المادة.

قوله : (الْبابَ سُجَّداً) حال من فاعل «ادخلوا» وهو جمع «ساجد».

قال أبو البقاء : «وهو أبلغ من السجود» ، يعني : أن جمعه على «فعّل» فيه من المبالغة ما ليس في جمعه على «فعول».

وأصل باب : بوب ، لقولهم : أبواب ، وقد يجمع على «أبوبة» ؛ لازدواج الكلام ؛ قال: [البسيط]

٥١٢ ـ هتّاك أخبية ولّاج أبوبة

يخلط بالجدّ منه البرّ واللّينا (٣)

ورواه الجوهريّ : [البسيط]

٥١٣ ـ ..........

يخلط بالبرّ منه الجدّ واللّينا (٤)

ولو أفرده لم يجز ، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : «مرحبا بالقوم ـ أو بالوفد ـ غير خزايا ولا ندامى» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ١٠٢) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٨) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٣) عن ابن زيد.

(٣) البيت لتميم بن مقبل. ينظر ملحق ديوانه (٤٠٦) ، أدب الكاتب ٤٨٦ ، اللسان (بوب) ، الجامع لأحكام القرآن ١ / ٢٧٩ ، الصحاح (بوب) ، الدر المصون ١ / ٢٣٢.

(٤) تقدم برقم (٥١٢).

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح (١ / ٣٦) كتاب الإيمان باب أداء الخمس ... حديث رقم (٥٣) ، (٨ / ـ

٩٣

وتبوّبت بوّابا اتخذته. وأبواب مبوّية ، كقولهم : أصناف مصنّفة ، وهذا شيء من بابتك ، أي : يصلح لك ، وتقدّم معنى السجود.

قوله : (وَقُولُوا) قال [ابن كثير](١) الواو هنا حالية لا عاطفة ، أي : ادخلوا سجّدا في حال قولكم حطّة.

وأما قوله : (حِطَّةٌ) قرىء بالرّفع والنصب ، فالرفع على أنه خبر مبتدأ (٢) محذوف ، أي : مسألتنا حطّة ، أو أمرك حطة.

قال «الزمخشري» : والأصل النصب بمعنى : حطّ عنا ذنوبنا حطّة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله : [الرجز]

٥١٤ ـ يشكو إليّ جملي طول السّرى

صبر جميل فكلانا مبتلى (٣)

والأصل : صبرا عليّ ، اصبر صبرا ، فجعله من باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] وتكون الجملة في محلّ نصب بالقول.

وقال «ابن عطية» : وقيل : أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ.

يعني : على الحكاية ، فعلى هذا تكون هي وحدها من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول ، وإنما منع [النصب](٤) حركة الحكاية.

وقال أيضا : وقال عكرمة : أمروا أن يقولوا : لا إله إلا الله ، لتحطّ بها ذنوبهم وحكى قولين آخرين بمعناه ، ثم قال : «فعلى هذه الأقوال تقتضي النّصب» ، يعني أنه إذا كان المعنى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللّفظ الخاصّ ، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة ، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولا به نحو : قيل لزيد خيرا ، المعنى : قل له ما هو من جنس الخيور. وقال النّحّاس : الرفع أولى ، لما حكي عن العرب في معنى «بدّل».

__________________

ـ ٧٥) كتاب الأدب باب قول الرجل مرحبا ... حديث رقم (٦١٧٦) ، (١ / ٥٤) كتاب العلم باب تحريض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٨٧).

ومسلم في الصحيح (١ / ٤٧ ـ ٤٨) كتاب الإيمان (١) باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) حديث رقم (٢٤ / ١٧) وابن خزيمة في صحيحه حديث رقم (٣٠٧) ـ والطبراني في الكبير (١٢ / ٢٢٥) ، ٢٤٣ ـ والبيهقي في السنن (٤ / ١٩٩) ـ وابن أبي شيبة (١٢ / ٢٠٢).

(١) سقط من ب.

(٢) في ب : لمبتدأ.

(٣) البيت من شواهد الكتاب ١ / ٣٢١ ، أمالي المرتضى ١ / ٧٢ ، المشكل (١٠٧) مجاز القرآن ١ / ٣٠٣ ، الكشاف ٤ / ٤٧٧ ، الدر المصون ١ / ٢٣٢.

(٤) في ب : التفسير.

٩٤

قال أحمد بن يحيى : يقال : بدّلته أي غيرته ، ولم أزل عينه ، وأبدلته أزلت عينه وشخصه ؛ كقوله : [الرجز]

٥١٥ ـ عزل الأمير للأمير المبدل (١)

وقال تعالى : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥].

وبحديث ابن مسعود قالوا : حطّة تغير على الرّفع ـ يعني : أن الله ـ تعالى ـ قال : فبدّل الذي يقتضي التّغيير لا زوال العين ، قال : وهذا المعنى يقتضي الرّفع لا النصب.

وقرأ (٢) ابن أبي عبلة : حطّة بالنصب وفيها وجهان :

أحدهما : أنها مصدر نائب عن الفعل ، نحو : ضربا زيدا.

والثاني : أن تكون منصوبة بالقول ، أي : قولوا هذا اللّفظ بعينه ، كما تقدم في وجه الرّفع ، فهي على الأوّل منصوبة بالفعل المقدر ، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول ، ورجح الزمخشري هذا الوجه.

و «الحطّة» اسم الهيئة من الحطّ ك «الجلسة» و «القعدة».

وقيل : هي لفظة أمروا بها ، ولا ندري معناها.

وقيل : هي التّوبة ، وأنشد : [الخفيف]

٥١٦ ـ فاز بالحطّة الّتي جعل اللّ

ه بها ذنب عبده مغفورا (٣)

فصل في المراد بالباب

اختلفوا في «الباب» قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضّحاك ، وقتادة : إنه باب يدعى باب الحطّة من بيت المقدس (٤) ، وحكى الأصمّ عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القرية ، ومدخلا إليها.

واختلفوا في «السّجود» ، فقال الحسن : أراد به نفس السّجود ، أي : إلصاق الوجه بالأرض ، وهذا بعيد ، لأن الظّاهر يقتضي وجوب الدّخول حال السجود ، فلو حملنا السجود على ظاهره لا متنع ذلك.

__________________

(١) ينظر : إعراب القرآن (١ / ٢٢٩) ، معاني القرآن (٢ / ٢٥٩) ، اللسان : بدل ، القرطبي ١ / ٢٧٩ ، الدر المصون ١ / ٢٣٢.

(٢) نسبها الزمخشري لابن أبي عبلة.

انظر الكشاف ١ / ١٤٣ ، والدر المصون ١ / ٢٣٢ ، والبحر المحيط ١ / ٣٨٤ ، والمحرر الوجيز ١ / ١٥٠.

(٣) ينظر البحر : ١ / ٣٧٨ ، الجامع لأحكام القرآن : ١ / ٢٧٩ ، روح المعاني : ١ / ٢٦٥ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٣ ، ١٠٤) عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.

٩٥

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنّ المراد به الركوع ، لأنّ الباب كان صغيرا يحتاج الدّاخل فيه إلى الانحناء (١).

قال ابن الخطيب : وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركّعا ، فلا حاجة فيه إلى الأمر.

وأجيب بأنه روي عن ابن عبّاس : أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم.

وقيل : المراد بالسجود : الخضوع. وهو الأقرب ؛ لأنه لما تعذّر حمله على السجود الحقيقي وجب حمله على التواضع ؛ لأن التّائب عن الذنب لا بدّ وأن يكون خاضعا.

فصل في تفسير «الحطة»

وأما تفسير «الحطّة» فقال «القاضي» : إنه ـ تعالى ـ لما أمرهم بدخول الباب خاضعين أمرهم بأن يقولوا ما يدلّ على التوبة ؛ لأن التوبة صفة القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بذنب ، أو بمذهب خطأ ، ثم تاب عن الذنب ، أو أظهر له الحق ، فإنه يلزم أن يعرف إخوانه الّذين عرفوا منه ذلك الذنب ، أو ذلك المذهب ، فتزول عنه التّهمة في الثبات على الباطل ، ويعودوا إلى موالاته ، فالحاصل أنه أمر القوم أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم التماس حطّ الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب ، وخضوع الجوارح ، والاستغفار باللّسان.

وقال «الأصمّ» : هذه اللّفظة من ألفاظ أهل الكتاب التي لا يعرف معناها في العربية.

وقال أبو مسلم الأصفهاني : معناه : أمرنا حطّة ، أي : أن نحطّ في هذه القرية ، ونستقر فيها ، ورد القاضي ذلك ، وقال : لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به ، ولكن قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) يدلّ على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطّة ، ويمكن أن يجاب عنه بأنهم لما حطّوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجدّا مع التّواضع كان الغفران متعلقا به.

وقال معناه : اللهم حط عنا ذنوبنا ، فإنّا إنما انحططنا لوجهك ، وإرادة التذلل لك ، فحطّ عنا ذنوبنا.

فصل في بيان التلفظ بالحطة أو بمعناها

اختلفوا هل كلّفوا بهذه اللفظة بعينها ، أو بما يؤدي معناها؟

روي عن ابن عباس : أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها ، وفيه نظر ؛ لأن هذه اللفظة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣٨) وزاد نسبته لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٩٦

عربية ، ولم يكونوا يتكلمون بالعربية ، وأيضا فإنما أمروا بأن يقولوا قولا دالّا على التوبة والندم ؛ فلو قالوا : اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا.

قوله : «نغفر» هو مجزوم في جواب الأمر ، وقد تقدم الخلاف ، هل الجازم نفس الجملة ، أو شرط مقدر؟ أي : يقولوا نغفر.

وقرىء (١) : «نغفر» بالنون وهو جار على ما قبله [من قوله :](٢)(وَإِذْ قُلْنَا) ، و «تغفر» بالتاء بالياء مبنيّا للمفعول.

و «خطاياكم» مفعول لم يسم فاعله ، فالتّاء لتأنيث الخطايا ، والياء ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي ، وللفصل أيضا ب «لكم».

وقرىء (٣) : «يغفر» مبنيا للفاعل ، وهو الله ـ تعالى ـ وهو في معنى القراءة الأولى ، إلّا أن فيه التفاتا.

و «لكم» متعلّق ب «نغفر».

وأدغم «أبو عمرو» الراء (٤) في اللّام ، والنحاة يستضعفونها ، قالوا : لأن الرّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام ، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عكس ، وليس فيها ضعف ؛ لأن انحراف اللّام يقاوم تكرير الراء. وقد بيّن «أبو البقاء» ضعفه ، وتقدم جوابه.

قوله : «خطاياكم» : إما منصوب بالفعل قبله ، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات ، وفيها [أربعة] أقوال :

أحدها : قول الخليل [أنّ](٥) أصلها «خطايىء» بياء بعد الألف ، ثم همزة ؛ لأنها جمع «خطيئة» مثل : «صحيفة وصحايف» ، فلو تركت على حالها لوجب قلب الياء همزة ؛ لأن مدة «فعايل» يفعل بها كذا ، على ما تقرر في التصريف ، فضر من ذلك ، لئلا تجتمع همزتان ، بأن

__________________

(١) قراءة الجمهور بالنون كما هو مذكور ، وقرأ ابن عامر بالتأنيث ، وقرأ نافع وأبو جعفر بالتذكير.

انظر السبعة : ١٥٦ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٨٥ ، وحجة القراءات : ٩٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٣١ ، وشرح شعلة : ٢٦٣ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٤ ، والعنوان : ص ٦٩ ، والكشف : ١ / ٢٤٣.

(٢) سقط في أ.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٠ ، ونسبها ابن عطية إلى عاصم ، الدر المصون : ١ / ٢٣٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٥.

(٤) انظر السبعة : ١٢١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٣.

والإدغام هو : «اللفظ بساكن فمتحرك ، بلا فصل ، من مخرج واحد» فقولهم : اللفظ بساكن فمتحرك جنس يشمل المظهر ، والمدغم ، والمخفي ، و «بلا فصل» أخرج المظهر ، و «من مخرج» أخرج المخفي.

(٥) سقط في ب.

٩٧

قلب فقدم اللام ، وأخّر عنها المدّة فصارت : «خطائي» ، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه ، وبعده ياء من جنس الكسرة فقلبوا الكسرة فتحة ، فتحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله فقلبت ألفا ، فصارت : «خطاءا» بهمز بين ألفين ، فاستثقلوا ذلك ، فإنّ الهمزة تشبه الألف ، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات ، فقلبوا الهمزة ياء ؛ لأنها واقعة موقعها قبل القلب ، فصارت «خطايا» على وزن «فعالى» ففيها أربعة أعمال : قلب ، وإبدال الكسرة فتحة ، وقلب الياء ألفا ، وإبدال الهمزة ياء ، هكذا ذكر التصريفيون ، وهو مذهب الخليل.

الثاني : وعزاه «أبو البقاء» (١) إليه أيضا أنه : «خطائىء» بهمزتين : الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في «خطيئة» فهو مثل «صحيفة» و «صحائف» ، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين ، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية ، فصار وزنه «فعلى» ، وإنما فعلوا ذلك ، لتصير المكسورة طرفا ، فتنقلب ياء ، فتصير «فعالىء» ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة ، فانقلبت الياء بعدها ألفا كما قالوا في : «يا لهفى» «ويا أسفى» ، فصارت الهمزة بين ألفين ، فأبدل منها ياء ، لأن الهمزة قريبة من الألف ، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات. فعلى هذا فيها خمسة تغييرات : تقديم اللام ، وإبدال الكسرة فتحة ، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء ، ثم إبدالها ألفا ، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء. والقول الأول أولى ، لقلّة العمل ، فيكون للخليل في المسألة قولان.

الثالث : قول سيبويه (٢) أن أصلها عنده : «خطايىء» كما تقدم ، فأبدل الياء الزائدة همزة ، فاجتمع همزتان ، فأبدل الثانية منهما «ياء» لزوما ، ثم عمل العمل المتقدّم ، ووزنها عنده «فعائل» مثل : «صحائف» ، وفيها على قوله خمسة تغييرات : إبدال الياء المزيدة همزة ، وإبدال الهمزة الأصلية ياء ، وقلب الكسرة فتحة ، وقلب الياء الأصلية ألفا ، وقلب الهمزة المزيدة ياء.

الرابع : قول «الفرّاء» ، هو أن «خطايا» عنده ليس جمعا ل «خطيئة» بالهمز ، إنما هو جمع ل «خطيّة» ك «هديّة وهدايا» و «ركيّة وركايا».

قال الفراء : ولو جمعت «خطيئة» مهمزة لقلت : «خطاءا» يعني : فلم تقلب الهمزة ياء ، بل تبقيها على حالها ، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات.

ولكنه لم يقله العرب ، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعا للمهموز.

وقال «الكسائي» : ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل : «دواب».

وقرىء (٣) : «يغفر لكم خطيئاتكم» و «خطيئتكم» بالجمع والتوحيد ، وبالياء والتاء

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٣٨.

(٢) ينظر الكتاب : ٢ / ١٦٩ ، ٣٧٨.

(٣) وهي قراءة الحسن ، وأما قراءة التوحيد أو الإفراد ، فهي قراءة الأعمش ، وحكى الأهوازي : أن أبا حيوة قرأ : خطاياكم. ـ ـ انظر التخريجات النحوية والصرفية لقراءة الأعمش د. سمير أحمد عبد الجواد : ص ٥٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٠.

٩٨

على ما لم يسمّ فاعله ، و «خطاياكم» بهمز الألف الأولى دون الثانية ، وبالعكس. والمعنى في هذه القراءات واحد ؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله ـ تعالى ـ فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله.

والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث ، وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [هود : ٦٧]. و (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود : ٩٤].

وقرأ (١) الجحدري (٢) : «خطيئتكم» بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة.

وقرأ (٣) ابن كثير : «خطايأكم» بهمزة قبل الكاف.

وقرأ الكسائي : بكسر الطاء والتاء ، والباقون بإمالة الياء.

و «الغفر» : السّتر ، ومنه المغفر : لسترة الرأس ، وغفران الذّنوب ؛ لأنها تغطيها ، وقد تقدّم الفرق بينه وبين العفو.

و «الغفارة» : خرقة تستر الخمار أن يمسّه دهن الرأس.

و «الخطيئة» من الخطأ ، وأصله : العدول عن الجهة ، وهو أنواع :

أحدها : إرادة غير ما تحسن إرادته ، فيفعله ، وهذا هو الأصل [التام](٤) يقال منه : «خطىء يخطأ خطأ وخطأة».

والثاني : أن يريد ما يحسن فعله ، ولكن يقع بخلافه ، يقال منه : أخطأ إخطاء ، فهو مخطىء ، وجملة الأمر أنّ من أراد شيئا ، فاتفق منه غيره يقال : «أخطأ» ، وإن وقع كما أراد ، يقال : «أصاب» ، وقد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل : إنه أخطأ ولهذا يقال : أصاب الخطأ ، وأخطأ الصّواب ، وأصاب الصواب ، وأخطأ الخطأ.

قوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم ، وهو

__________________

(١) ينظر تخريج القراءة السابقة.

(٢) عاصم بن أبي الصباح العجاج ، وقيل : ميمون أبو المجشر بالجيم والشين المعجمة مشددة مكسورة الجحدري البصري ، أخذ القراءة عرضا عن سليمان بن قتة عن ابن عبّاس ، وقرأ أيضا على نصر بن عاصم والحسن ، وروى حروفا عن أبي بكر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات قبل سنة ١٣٠ ه‍ ، وقيل : غير ذلك.

ينظر غاية النهاية : ١ / ٣٤٩.

(٣) المنقول في كتب القراءات : أن السبعة على «خطاياكم» غير ما ورد من أن الكسائي كان يميلها.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٨٥ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٣٢.

(٤) سقط في ب.

٩٩

اسم فاعل من «أحسن» ، والمحسن من صحّح عقد توحيده ، وأحسن سياسة نفسه ، وأقبل على أداء فرائضه ، وكفى المسلمين شره.

وقال بعض المفسرين : معناه : من كان محسنا جازيناه بالإحسان إحسانا ، أو زيادة كما جعل للحسنة عشرا وأكثر.

وقيل : من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة ، فإنا نغفر خطاياه ، ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل ، وفيه وجه آخر أن المعنى من كان خاطئا غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ، ومن لم يكن خاطئا ، بل كان محسنا زدنا في إحسانه.

قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

لا بدّ في هذا الكلام من تأويل ؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم ، لا إذا بدّلوا قولا غيره.

فقيل : تقديره : فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم ف «بدّل» يتعدّى لمفعول واحد بنفسه ، وإلى آخر بالباء ، والمجرور بها هو المتروك ، والمنصوب هو الموجود ، كقول أبي النجم : [الرجز]

٥١٧ ـ وبدّلت والدّهر ذو تبدّل

هيفا دبورا بالصّبا والشّمأل (١)

فالمتطوع عنها الصّبا ، والحاصل لها الهيف.

قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون «بدل» محمولا على المعنى ، تقديره : فقال الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ؛ لأن تبديل القول كان بقول «فنصب» غير عنده في هذين القولين على النّعت ل «قولا».

وقيل : تقديره : فبدل الذين قولا بغير الذي ، فحذف الحرف ، فانتصب «غير».

ومعنى التّبديل : التغيير كأنه قيل : فغيروا قولا بغيره ، أي جاءوا بقول آخر ، فكان القول الذي أمروا به ، كما يروا في القصّة أنهم قالوا : بدل حطّة حنطة.

والإبدال والتبديل والاستبدال : جعل الشيء مكان آخر ، وقد يقال : التبديل : التغيير ، وإن لم يأت ببدله.

وقد تقدم الفرق بين بدل وأبدل ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غير إزالة العين ، وأبدل تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قرىء : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا) [القلم : ٣٢] (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما) [الكهف : ٨١] بالوجهين ، وهذا يقتضي اتّحادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد ، وبدله غيره.

__________________

(١) ينظر خزانة الأدب : ٢ / ٣٩١ ، والخصائص : ١ / ٣٣٦ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٤٥٠ و ٢ / ٨٠٨ ، والطرائف الأدبية : ٥٨ ، وبلا نسبة في الدرر : ٤ / ٢٦ ، ولسان العرب : ١١ / ٤٩ [بدل] ، ومغني اللبيب : ٣ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٤.

١٠٠