اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ) عطف على ما قبله ، وأصله : «يستحييون» ، فأعلّ بحذف الياء بعد حذف حركتها ، وقد تقدم بيانه فوزنه : «يستفعون».

والمراد بالنّساء : الأطفال ، وإنما عبر عنهم بالنساء ، لمآلهن إلى ذلك.

وقيل : المراد غير الأطفال كما قيل في الأبناء. ولام «النساء» الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهو : نسوان ونسوة.

وهل «نساء» جمع «نسوة» أو جمع «امرأة» من حيث المعنى؟ قولان ، ويحتمل أن تكون ياء اشتقاقا من النّسيان.

قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الجار والمجرور خبر مقدم ، و «بلاء» مبتدأ. ولامه واو لظهورها في الفعل نحو : بلوته ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) [البقرة : ١٥٥] ، فأبدلت همزة. والبلاء يكون في الخير والشر ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ؛ لأن الابتلاء امتحان ، فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا ، وبالشر ليصبروا.

وقال ابن كيسان : «أبلاه (١) وبلاه في الخير والشر» ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٧٩ ـ جزى الله بالخيرات ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو (٢)

فجمع بين اللغتين.

وقيل : الأكثر في الخير أبليته ، وفي الشر بلوته ، وفي الاختبار ابتليته وبلوته.

قال النحاس : فاسم الإشارة من قوله : (وَفِي ذلِكُمْ) يجوز أن يكون إشارة إلى الإنجاء وهو خير محبوب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذّبح ، وهو شر مكروه.

وقال الزمخشري : والبلاء : المحنة إن أشير ب «ذلكم» إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وهو حسن.

وقال ابن عطية : «ذلكم» إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خير فهو كفرد حاضر ، كأنه يريد أن يشير به إلى مجموع الأمرين من الإنجاء ، والذبح ، ولهذا قال بعده : «ويكون البلاء في الخير والشر» ، وهذا غير بعيد ؛ ومثله : [الرمل]

٤٨٠ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

 .......... (٣)

__________________

(١) في أ : ابتلاه.

(٢) البيت لزهير. ينظر ديوانه : (١٠٩) ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٠٢ ، الطبري : ٢ / ٤٩ ، الكشاف : ٤ / ٤٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٠.

(٣) صدر بيت لعبد الله بن الزبعرى من قصيدة قالها يوم أحد وعجزه :

وكلا ذلك وجه وقبل

ينظر أوضح المسالك : ١ / ٣٩٣ ، الأشموني : ٢ / ٢٦٠ ، شرح ابن عقيل : ٢ / ٦٢ ، الدرر : ٢ / ٦٠ ، الهمع : ٢ / ٥ ، التصريح : ٢ / ٤٣ ، المغني : ١ / ٢٠٣ ، شرح المفصل : ٣ / ٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٠.

٦١

وكل ذلك وجه.

وقيل : و (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلّق ب (بَلاءٌ ،) و (مِنْ) لابتداء الغاية مجازا.

وقال أبو البقاء : هو في موضع رفع صفة ل «بلاء» ، فيتعلّق بمحذوف. وفي هذا نظر ، من حيث إنه إذا اجتمع صفتان ، إحداهما صريحة ، والأخرى مؤولة ، قدّمت الصريحة ، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورة ، و «عظيم» صفة ل «بلاء» وقد تقدم معناه مستوفى [في أول السورة](١).

قوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٠)

«إذ» في موضع نصب ، و «الفرق» [والفلق](٢) واحد ، وهو الفصل والتمييز ، ومنه: (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] أي : فصّلناه وميّزناه بالقرآن والبيان.

والقرآن فرقان لتمييزه بين الحق والباطل.

وقرأ الزّهري (٣) : «فرّقنا» بتشديد الراء. أي : جعلناه فرقا.

قوله : «بكم» الظاهر أن الباء على بابها من كونها داخلة على الآلة ، فكأنه فرق بهم كما يفرق بين الشّيئين بما توسّط بينهما.

وقال أبو البقاء : ويجوز أن تكون المعدية كقولك : «ذهبت بزيد» ، فيكون التقدير : أفرقناكم البحر ، ويكون بمعنى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) [الأعراف : ١٣٨]. وهذا أقرب من الأول.

ويجوز أن تكون الباء للسببية أي : بسببكم ، ويجوز أن تكون للحال من «البحر» أي : فرقناه ملتبسا بكم ، ونظره الزمخشري بقوله : : [الوافر]

٤٨١ ـ ..........

تدوس بنا [الجماجم](٤) والتّريبا (٥)

أي : تدوسها ونحن راكبوها.

قال أبو البقاء : أي : فرقنا البحر وأنتم به ، فيكون إما حالا مقدرة أو مقارنة ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأنه لم يكن مفروقا إلا بهم حال كونهم سالكين فيه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : والفالق.

(٣) انظر البحر المحيط : ١ / ٣٥٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٤١ ، والقرطبي : ١ / ٢٦٤.

(٤) في أ : الجماعة.

(٥) عجز بيت للمتنبي وصدره :

فمرت غير نافرة عليهم

ينظر ديوانه : ١ / ٢٦٥ ، البحر المحيط : ١ / ٣٥٥ ، حاشية القطب على الكشاف : ٢ / ١٠٧١ ، الكشاف : ٤ / ٣٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢١

٦٢

وقال أيضا : و «بكم» في موضع نصب مفعول ثان ل «فرقنا» ، و «البحر» مفعول أول ، والباء هنا في معنى اللام.

وفيه نظر ؛ لأنه على تقدير تسليم كون الباء بمعنى اللام ، فتكون لام العلّة ، والمجرور بلام العلة لا يقال : إنه مفعول ثان ، لو قلت : ضربت زيدا لأجلك ، لا يقول النحوي : «ضرب» يتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه ، وللآخر بحرف الجر.

و «البحر» أصله : الشّق الواسع ، ومنه «البحيرة» لشقّ أذنها ، وفيه الخلاف المتقدّم في «النهر» في كونه حقيقة في الماء ، أو في الأخدود؟

ويقال : فرس بحر أي : واسع الجري ، ويقال : أبحر الماء : ملح ؛ قال نصيب : [الطويل]

٤٨٢ ـ وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني

إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب (١)

والبحر يكنى إياه ، وقد يطلق على العذب بحرا ، وهو مختص بالماء الملح ، وفيه خلاف. و «البحر» : البلدة ، يقال : هذه بحرتنا ، أي : بلدتنا.

و «البحر» : السّلال يصيب الإنسان. ويقولون : لقيته صحرة بحرة ، أي : بارزا مكشوفا.

قوله : (فَأَنْجَيْناكُمْ) أي : أخرجناكم منه ، يقال : نجوت من كذا نجاء ، ممدودا ، ونجاة ، مقصورا ، والصدق منجاة ، وأنجيت غيري ونجّيته ، وقرىء بهما : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) [البقرة : ٤٩] «فأنجيناكم».

قوله : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ).

«الغرق» : الرسوب في الماء ، يقال : غرق في الماء غرقا ، فهو غرق وغارق أيضا ، وأغرق غيره وغرّقه ، فهو مغرّق وغريق ؛ قال أبو النّجم : [الرجز]

٤٨٣ ـ من بين مقتول وطاف غارق (٢)

ويطلق على القتل بأي نوع كان ؛ قال الأعشى : [الطويل]

٤٨٤ ـ ..........

ألا ليت قيسا غرّقته القوابل (٣)

وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في دم السّلى عام القحط ، ذكرا كان أو أنثى

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٦٦ ، ولسان العرب (خرف) (بحر) ، الأشباه والنظائر : ٥ / ١١٠ ، القرطبي : ١ / ٣٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢١.

(٢) ينظر القرطبي : ١ / ٣٨٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٢١.

(٣) عجز بيت وصدره :

أطورين في عام غزاة ورحلة

ينظر ديوانه : (١٨٣) ، القرطبي : ١ / ٣٨٨ ، الدر المصون : ١ / ٢٢١.

٦٣

حتى يموت ، فهذا الأصل ، ثم جعل كل قتل تغريقا ، ومنه قول ذي الرمة : [الطويل]

٤٨٥ ـ إذا غرّقت أرباضها ثني بكرة

بتيهاء لم تصبح رءوما سلوبها (١)

والأرباض : الحبال. والبكرة : النّاقة. وثنيها : بطنها الثّاني ، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من (آلَ فِرْعَوْنَ) أي : وأنتم تنظرون إغراقكم ، والعامل «أغرقنا» ، ويجوز أن يكون حالا من مفعول «أنجيناكم».

والنّظر يحتمل أن يكون بالبصر ؛ لأنهم كانوا يبصرون بعضهم بعضا لقربهم ؛ وقيل : إن آل فرعون طغوا على الماء ، فنظروا إليهم. وأن يكون بالبصيرة والاعتبار.

وقيل المعنى : وأنتم بحال من ينظر لو نظرتم ، ولذلك لم يذكر له مفعول.

فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه

قال بعض المفسرين : والبحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه هو «نيل مصر» ، وقيل : بحر «قلزم» طرف من بحر «فارس».

وقال قتادة : بحر من وراء «مصر» يقال له : «إسافة» واختلفوا هل تفرق البحر عرضا أو طولا؟

فقيل : إنه [تفرق](٢) عرضا وأن بني إسرائيل خرجوا إلى البرّ الذي كانوا فيه أولا. وهذا هو الظاهر وفيه جمع بين القولين ، فإنهم دخلوا فيه أولا عرضا ، ثم مشوا فيه طولا ، وخرجوا من برّ الطول ، وتبعهم فرعون فالتطم عليه البحر ، فغرق هو وجنوده ، وصار بنو إسرائيل في برّ الطول ، وإلا فأي من يقابل بر «القلزم» خرجوا إليه حتى ذهبوا إلى «الطّور».

ومن قال : إن البحر هو النيل فلا إشكال ؛ لأنهم كانوا في «مصر القديمة» ، وجاءوا إلى شاطىء النيل ، فانفرق لهم ، وخرجوا إلى برّ الشرق ، وذهبوا إلى «برية الطور».

فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة

اعلم أن هذه الواقعة تضمّنت نعما كثيرة في الدنيا والدين في حقّ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبني إسرائيل.

أما نعم الدنيا فهي أنهم لما وقعوا إلى ذلك المضيق ، ومن ورائهم فرعون وجنوده ،

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١ / ٧٠١) ، إصلاح المنطق : (٧٢) ، القرطبي : ١ / ٣٨٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٢.

(٢) في أ : الفرق المقابل لهم ، وقيل : لأنهم مشوا فيه ، وعلى هذا فيكون قد تفرّق ...

٦٤

وقدّامهم البحر ، فإن توقّفوا أدركهم فرعون وأهلكهم ، وإن ساروا أغرقوا ، فلا خوف أعظم من ذلك ، ثم إن الله ـ تعالى ـ نجّاهم بغرق البحر ، فلا نعمة أعظم من ذلك ، وأيضا فإنهم شاهدوا هلاك أعدائهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وخلّصهم من أيديهم ، ولو أنه ـ تعالى ـ خلّص موسى وقومه من تلك الحالة ، وما أهلك فرعون لكان الخوف باقيا ؛ لأنهم ربّما اجتمعوا واحتالوا على من أذاهم بحيلة ، ولكن الله ـ تعالى ـ حسم عنهم مادة الخوف.

وأما نعم الدّين فهي أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشّكوك والشّبهات ، فإنّ دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصّانع الحكيم ، وعلى صدق موسى تقرّب من العلم الضروري ، فكأنه ـ تعالى ـ رفع عنهم تحمّل النظر الدقيق ، والاستدلال ، وأيضا لما عاينوا ذلك صار داعيا لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى ، والإقدام على تكذيب فرعون ، وأيضا أنهم عرفوا أنّ الأمور بيد الله ، وأنه لم يكن في الدنيا أكمل ما كان لفرعون ، ولا شدّة أكثر مما كانت لبني إسرائيل ، ثم إنّ الله ـ تعالى ـ في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا ، والذليل عزيزا ، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدّنيا ، والإقبال بالكليّة على خدمة الخالق ، والتوكّل عليه في كل الأمور.

فإن قيل : إن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلا فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل قادر عالم مخالف لسائر القادرين ، فكيف بقي على الكفر؟

والجواب : لعلّه اعتقد أن ذلك أيضا السحر ، كما قال حين ألقى موسى عصاه ، وأخرج يده.

يروى أن فرعون كان راكبا حصانا ، فلما أراد العبور في البحر خلف بني إسرائيل جفل الحصان ، فجاء جبريل على فرس أنثى فتقدّمهم فتبعه الحصان ، فلمّا اقتحموا البحر ، وميكائيل خلفهم يسوقهم حتى لم يبق منهم أحد ، وخرج جبريل وهم أولهم بالخروج أمر الله البحر فالتطم عليهم.

واعلم أن هنا لطائف :

أولها : أن كل نبي لأمّته نصيب مما أعطي نبيهم ، فموسى عليه الصّلاة والسلام لما نجّي من الغرق حين ألقي في اليمّ ، كذلك [نجّيت] أمته من الغرق.

ثانيها : أن فرعون ادّعى العلو والربوبية ، فأغرق ونزل إلى الدّرك الأسفل.

ثالثها : أنه لما ذبح أبناءهم ، والذبح هو إنهار الدم ، أغرقه الله في النّهر.

فصل في فضل يوم عاشوراء

روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم «المدينة» ، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا اليوم الذي تصومونه» فقالوا : هذا يوم

٦٥

عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنحن أحقّ وأولى بموسى منكم» ، فصامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «أنتم أحقّ بموسى منهم فصوموا» (١).

فظاهر هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما صامه اقتداء بموسى ـ عليه‌السلام ـ على ما أخبره اليهود ، وليس كذلك ، لما روته عائشة قالت : «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم «المدينة» صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه». متّفق عليه.

فإن قيل : يحتمل أن تكون قريش إنما صامته ؛ لأن اليهود أخبروهم ، وكانوا عندهم أصحاب علم ، فصامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك في الجاهلية ، أي ب «مكة» ، فلما قدم «المدينة» ، ووجد اليهود يصومونه قال : «نحن أحقّ وأولى بموسى منكم» ، فصامه اتّباعا لموسى.

فالجواب : أن هذا مبني على أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان متعبدا بشريعة (٢) موسى عليه الصلاة والسلام ، وليس كذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٩٦) كتاب الصوم باب صيام يوم عاشوراء حديث رقم (٢٠٠٤). ومسلم في الصحيح (٢ / ٧٩٦) كتاب الصيام (١٣) باب صوم يوم عاشوراء (١٩) حديث رقم (١٢٨ / ١١٣٠).

وأحمد في المسند (١ / ٢٩١ ، ٣١٠) ـ والبيهقي في السنن (٤ / ٢٨٦) وذكره الزيلعي في نصب الراية ٢ / ٤٥٤ ـ وابن كثير في التفسير ١ / ٢٩ والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٦٩ ، ٦ / ٣٤٤.

(٢) وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب :

أحدها : أنه كان متعبّدا بشرع قطعا ، ثم اختلفوا : فقيل : كان على شريعة آدم ـ عليه‌السلام ـ ؛ لأنه أول الشرائع. وقيل : نوح ؛ لقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [سورة الشورى : ١٣] وقيل : إبراهيم ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [سورة آل عمران : ٦٨] ، وحكاه الرافعي في «كتاب السير» عن صاحب «البيان» ، وأقرّه. وقال الواحدي : إنه الصحيح قال ابن القشيري في «المرشد» وعزي للشّافعي وقال الأستاذ أبو منصور : وبه نقول. وحكاه صاحب «المصادر» عن أكثر أصحاب أبي حنيفة ، وإليه أشار أبو علي الجبّائي. وقيل : على شريعة موسى. وقيل : عيسى ؛ لأنه أقرب الأنبياء إليه ؛ ولأنه الناسخ المتأخر ، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فيما حكاه الواحدي عنه. لكن قال ابن القشيري في «المرشد» : ميل الأستاذ أبي إسحاق إلى أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على شرع من الشرائع ، ولا يقال : كان من أمة ذاك النبي ؛ كما يقال : كان على شرعه. (انتهى). وقيل : كان متعبدا بشريعة كل من قبله ، إلا ما نسخ واندرس ، حكاه صاحب «الملخّص». وقيل : يتعبد لا ملتزما دين واحد من المذكورين ، حكاه النووي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في زوائد «الروضة». وقيل : كان متعبدا بشرع ، ولكنّا لا ندري بشرع من تعبّد ، حكاه ابن القشيري.

والمذهب الثاني : أنه لم يكن قبل البعثة متعبّدا بشيء منها قطعا ، وحكاه في «المنخول» عن إجماع المعتزلة. وقال القاضي في «مختصر التقريب» ، وابن القشيري : هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين. ثم اختلفوا : فقالت المعتزلة بإحالة ذلك عقلا ؛ إذ لو تعبد باتباع أحد ، لكان عصى من مبعثه ، بل كان ـ

٦٦

قوله تعالى : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٢)

قرأ أبو عمرو (١) ويعقوب : «وعدنا» هنا ، وما كان مثله ثلاثيا ، وقرأ الباقون : «واعدنا» بالألف ، واختار أبو عبيد قراءة أبي عمرو ، ورجّحها بأن المواعدة إنما تكون من البشر ، وأما الله عزوجل فهو المنفرد بالوعد والوعيد ، على هذا وجدنا القرآن نحو : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ،وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) [إبراهيم : ٢٢] ، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) [الأنفال : ٧].

ورجحه مكّي فقال : وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه «وعد» من الله تعالى لموسى ، وليس فيه «وعد» من موسى ، فوجب حمله على الواحد ، بظاهر النص.

ثم ذكر جماعة جلّة من القراء عليها كالحسن ، وأبي رجاء ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وعيسى بن عمر ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق ، ورجّحه أبو حاتم أيضا بأن قراءة العامة عندنا «وعدنا» بغير ألف ؛ لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين.

وقد أجاب الناس عن قول أبي عبيد ، وأبي حاتم ، ومكي بأن «المفاعلة» ـ هنا ـ صحيحة ، بمعنى أن موسى نزل قبوله لالتزام الوفاء بمنزلة الوعد منه ، أو أنه وعد أن يفي بما كلفه ربه.

وقال القفال : «ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ـ تعالى ـ ويكون معناه يعاهد الله

__________________

ـ على شريعة العقل. قال ابن القشيري : وهذا باطل ؛ إذ ليس للعقل شريعة ، وذهبت عصبة أهل الحق إلى أنه لم يقع ، ولكنه ممتنع عقلا. قال القاضي : وهذا نرتضيه وننصره ؛ لأنه لو كان على دين لنقل ، ولذكره ـ عليه‌السلام ـ ؛ إذ لا يظن به الكتمان ، وعارض ذلك إمام الحرمين وقال : لو لم يكن على دين أصلا لنقل ؛ فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي (قال) : فقد تعارض الأمران ، والوجه أن يقال : كانت العادة انخرقت في أمور الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، منها : انصراف همّ الناس عن أمر دينه ، والبحث عنه.

والمذهب الثالث : التوقف. وبه قال إمام الحرمين ، وابن القشيري ، والكيا ، والآمدي ، والشريف المرتضى في «الذريعة» ، واختاره النووي في «الروضة» ؛ إذ ليس فيه دلالة عقل ، ولا ثبت فيه نص ولا إجماع. وقال ابن القشيري في «المرشد» : كل هذه أقوال متعارضة ، وليس فيها دلالة قاطعة ، والعقل يجوّز ذلك ، لكن أين السمع فيه؟! ثم الواقفية انقسموا : فقيل : نعلم أنه كان متعبدا ونتوقف في عين ما كان متعبدا به ، ومنهم من توقف في الأصل ؛ فجوز أن يكون وألا يكون.

ينظر البحر المحيط للزركشي : ٦ / ٣٩ ، التمهيد للأسنوي : ٤٤١ ، المنخول للغزالي : ٢٣١ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني : ٣٦٩ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ٥ / ١٤٩ ، إرشاد الفحول للشوكاني : ٢٣٩.

(١) وبها قرأ أبو جعفر ، ووافقه اليزيدي وابن محيصن.

انظر شرح الطيبة : ٤ / ٢٣ ـ ٢٤ ، وحجة القراءات : ٩٦ ، والعنوان : ٦٩ ، والحجة للقراء السبعة : ١ / ٥٦ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩١ ، وشرح شعلة : ٢٦١.

٦٧

تعالى» ، ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) [التوبة : ٧٥] إلى أن قال : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) [التوبة : ٧٧].

وقال مكّي : المواعدة أصلا من اثنين ، وقد تأتي بمعنى «فعل» نحو : «طارقت النّعل» فجعل القراءتين بمعنى واحد.

وقال الكسائي : ليس قول الله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [النور : ٥٥] من هذا الباب في شيء ؛ لأن (واعَدْنا مُوسى) إنما هو من باب الموافاة ، وليس من الوعد في شيء ، وإنما هو من قولك : «موعدك يوم كذا» ، و «موضع كذا».

والفصيح في هذا أن يقال : «واعدته» ، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [طه : ٥٩].

وقال الزجاج (١) : «واعدنا» بالألف جيّد ؛ لأن الطّاعة في القبول بمنزلة المواعد ، فمن الله وعد ، ومن موسى قبول واتباع ، فجرى مجرى المواعدة.

وقال مكّي أيضا : «والاختيار «واعدنا» بالألف ؛ لأنه بمعنى «وعدنا» في أحد معنييه ؛ ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصحّ المفاعلة».

قال ابن الخطيب (٢) : الأقوى أن الله ـ تعالى ـ وعده الوحي ، وهو وعد الله المجيء للميقات.

قال الجوهري : «الميعاد : المواعدة والوقت والموضع».

ووعد يتعدّى لاثنين ، ف «موسى» مفعول أول ، و «أربعين» مفعول ثان ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : تمام أربعين ، ولا يجوز أن ينتصب على الظّرف ، لفساد المعنى ، وعلامة نصبه الياء ؛ لأنه جار مجرى جمع المذكر السّالم ، وهو في الأصل مفرد اسم جمع ، سمي به هذا العقد من العدد ، ولذلك أعربه بعضهم بالحركات ؛ ومنه في أحد القولين : [الوافر]

٤٨٦ ـ وماذا يبتغي الشّعراء منّي

وقد جاوزت حدّ الأربعين (٣)

بكسر النون.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن ١ / ١٠٤.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣ / ٦٩.

(٣) البيت لسحيم بن وثيل ينظر إصلاح المنطق : ص ١٥٦ ، وتخليص الشواهد : ص ٧٤ ، وتذكرة النحاة : ص ٤٨٠ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٦١ ، ٦٢ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ٦٨ ، وحماسة البحتري : ص ١٣ ، والدرر : ١ / ١٤٠ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٦٢٧ ، وشرح التصريح : ١ / ٧٧ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٤١ ، وشرح المفصل : ٥ / ١١ ، ولسان العرب (نجذ) (ربع) ، والمقاصد النحوية : ١ / ١٩١ ، والأشباه والنظائر : ٧ / ٢٤٨ ، وأوضح المسالك : ١ / ٦١ ، وجواهر الأدب : ص ١٥٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ٣٨ ، ٣٩ ، والمقتضب : ٣ / ٣٣٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٤٩ ، والأصمعيات : (١٩) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٢.

٦٨

و «ليلة» نصب على التّمييز ، والعقود التي هي من عشرين إلى تسعين ، وأحد عشر إلى تسعة عشر كلها تميز بواحد منصوب.

و «موسى» هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، اسم أعجمي غير منصرف ، وهو في الأصل على ما يقال مركّب والأصل : موشى ـ بالشين ـ لأن «ماء» بلغتهم يقال له : «مو» والشّجر يقال له : «شا» فعربته العرب فقالوا : موسى.

قالوا : إنما سمي به ؛ لأن أمه جعلته في التّابوت حين خافت عليه من فرعون ، وألقته في البحر ، فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون ، فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغسلن فوجدن التّابوت ، فأخذنه فسمي عليه الصلاة والسلام باسم المكان الّذي أصيب فيه وهو الماء والشجر ، وليس لموسى اسم النّبيّ عليه الصلاة والسلام اشتقاق ؛ لأنه أعجمي ؛ لأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب.

ومنهم من قال : إنه مشتق ، واختلفوا في اشتقاقه ، فقيل : هو «مفعل» (١) من أوسيت رأسه : إذا حلقته فهو موسى ، ك «أعطيته فهو معطى» ، فمن جعل اسمه عليه مشتقا قال : إنما سمي بذلك لصلعه.

وقيل : مشتق من «ماس ـ يميس» أي : يتبختر في مشيته ويتحرك ، فهو «فعلى» وكان عليه الصلاة والسلام كذلك ، فقلبت الياء واوا لانضمام ما قبلها ك «موقن» من «اليقين».

والصحيح الأول ، وهذا الاشتقاق إنما هو في موسى آلة الحلق.

فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه

ذكر المفسرون أن موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال لبني إسرائيل : إن خرجنا من البحر سالمين آتيكم بكتاب من عند الله يبيّن لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والتّرك ، فلما جاوز البحر ، وأغرق الله فرعون قالوا : يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود ، فخرج إلى الطّور في سبعين من [أخيار](٢) بني إسرائيل ، وصعدوا الجبل ، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة ، فعدوا فيما ذكر المفسرون عشرين يوما وعشرين ليلة ، وقالوا : قد [أخلفنا](٣) موعده. فاتّخذوا العجل.

وقال أبو العالية : «بلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور».

فإن قيل : لم خصّ الليالي بالذّكر دون الأيّام؟

قيل : لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة وقع بها التاريخ ، فاللّيالي أول

__________________

(١) في أ : مشتق.

(٢) في ب : خيار.

(٣) في أ : خلفنا.

٦٩

الشهور ، والأيام تبع لها ، وأيضا فليس المراد انقضاء أي أربعين كان ، بل أربعين معينا وقيل : لأن الظلمة سابقة على النّور ، فهي الأصل يؤيده قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧].

فصل في معنى أربعين ليلة

قوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) معناه : واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم : «اليوم أربعون يوما منذ خرج فلان» أي : تمام الأربعين ، والحاصل أنه حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وأيضا فليس المراد انقضاء أي أربعين كان ، بل أربعين معينا ، وهو الثلاثون من ذي القعدة ، والعشر الأول من ذي الحجّة ؛ لأن موسى عليه‌السلام كان عالما بأن المراد هو هذه الأربعون ، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر.

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل بعد انقضاء هذه الأربعين.

قال : وهذا الاحتمال هو المؤيّد بالأخبار. فإن قيل : قوله ـ هاهنا ـ : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين.

وقوله في الأعراف : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين ، فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحسن البصري فقال : ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ، ثم بعد ذلك وعده بعشر ، لكنه وعده أربعين ليلة جميعا ، وهو كقوله : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦].

قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) «اتّخذ» يتعدّى لاثنين ، والمفعول الثاني محذوف أي : اتخذتم العجل إلها ، وقد يتعدّى لمفعول واحد إذا كان معناه «عمل» و «جعل» نحو : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦].

وقال بعضهم : «تخذ» و «اتّخذ» يتعدّيان لاثنين ما لم يفهما كسبا ، فيتعديان لواحد ، واختلف في «اتّخذ» فقيل : هو «افتعل» من الأخذ ، والأصل : «ائتخذ» الأولى همزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة بعد أخرى ، فوجب قلبها ياء ك «إيمان» فوقعت الياء فاء قبل تاء الافتعال ، فأبدلت تاء ، وأدغمت في تاء الافتعال ك «اتّسر» من «اليسر» ، إلا أن هذا قليل في باب الهمز ؛ نحو : «اتّكل» من «الأكل» ، و «اتّزر» من «الإزار» ؛ وقال أبو عليّ : هو «افتعل» من تخذ يتخذ ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٨٧ ـ وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها

نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق (١)

__________________

(١) البيت للممزق العبدي ينظر لسان العرب (مخص) ، (نسف) ، (طرق) ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٥٩٠ ، ـ

٧٠

وقال تعالى : (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(١) [الكهف : ٧٧] وهذا أسهل القولين.

والقرّاء على إدغام الذّال في التاء لقرب مخرجهما ، وابن كثير ، وعاصم (٢) في رواية حفص بالإظهار ، وهذا الخلاف جار في المفرد نحو : «اتّخذت» ، والجمع نحو : «اتّخذتم» ، وأتى في هذه الجملة ب «ثم» دلالة على أن الاتّخاذ كان بعد المواعدة بمهلة.

وقال ابن الخطيب : لما أنعم عليهم بهذه النّعمة ، وأتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التعجّب ، فهو كمن يقول : إني أحسنت إليك ، وفعلت كذا وكذا ، ثم إنك تقصدني بالسّوء والإيذاء ، ومثله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [الأنعام : ٢] ؛ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤] ، (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) [الجاثية : ٨] ، (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥].

قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) متعلّق ب «اتّخذتم» ، و «من» لابتداء الغاية والضمير يعود على موسى ، ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : من بعد انطلاقه أو مضيّه.

وقال ابن عطية : «يعود على موسى».

وقيل : «على انطلاقه للمتكلّم».

وقيل : «على الوعد ، وفي كلامه بعض مناقشة ، فإن قوله : «وقيل يعود على انطلاقه» يقتضي عوده على موسى من غير تقدير مضاف ، وذلك غير متصوّر.

قوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) جملة حالية من فاعل «اتّخذتم».

و «العجل» ولد البقرة ، والعجول مثله ، والجمع عجاجيل ، والأنثى «عجلة» ، عن أبي الحسن ، وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته ، ذكره القرطبي ، وفيه نظر ؛ لأن العجل ولد البقرة كان موجودا قبل أن يتخذ بنو إسرائيل العجل.

فصل

قال أهل التّفسير : لما ذهب موسى إلى الطّور ، وقال لأخيه هارون : اخلفني في قومي ، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحليّ الذي استعاروه من القبط قال لهم

__________________

ـ والأشباه والنظائر ١ / ٢٦٠ ، وتذكرة النحاة : ص ١٤٦ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٤٠٢ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٨٠ ، والأصمعيات : ص ١٦٥ ، والحيوان : ٢ / ٢٩٨ ، وللمثقب العبدي في لسان العرب (حدب) ، وجمهرة اللغة : ص ٣٨٨ ، ٥٤١ ، ٧٥٧ ، ٨٤٨ ، ١١٩٢ ، والخصائص : ٢ / ٢٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(١) وذلك في قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، انظر السبعة : ٣٩٦.

(٢) وكذا أظهرها رويس ، وأدغمها أبو بكر بن عياش عن عاصم مع الباقين.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٦٨ ، والسبعة : ١٥٤ ، وإتحاف : ١ / ٣٩١.

٧١

هارون : إن هذه الثياب والحليّ لا تحلّ لكم ، وكان السّامريّ من مسيره مع موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى البحر ينظر إلى حافر دابّة جبريل حين تقدم على فرعون في دخول البحر.

قال بعض المفسرين : كان كلما نقل حافره يخضرّ مكانه نبتا ، فلهذا سمي فرس الحياة ، ولا يصيب شيئا إلا حيي ، فقال السّامريّ : «إن لهذا النبت نبأ ، فقبض منه قبضة ، وقيل : قبض من تراب حافره ، فذلك قوله : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [طه : ٩٦] ، ثم إن السّامري أخذ ما كان معهم من الذّهب ، فصوّر منه عجلا وألقى فيه تلك القبضة ، فخرج له صوت كالخوار ، فقال القوم : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)

قال ابن عبّاس : «لأنه كان منافقا يظهر الإسلام ، وكان يعبد البقر ، وكان اسمه موسى

بن ظفر» (١).

وقيل : متّى.

وقيل : هارون ، وإنهم عبدوا العجل بعد مجاوزة النّهر لقوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

فإن قيل : كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم الذي لا يتحرّك ، ولا يحسّ ، ولا يعقل مستحيل أن يكون إله السموات والأرض ، وهب أنه ظهر من خوار ، ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلها ، وأيضا فإن القوم قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات الظاهرة التي تكون قريبة من حدّ الإلجاء من الدلالة على الصانع وصدق موسى ـ عليه‌السلام ـ فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حدّ الضرورة ، لا يكون صدور الخوار من ذلك العجل يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلها.

قال ابن الخطيب (٢) : والجواب أنّ هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلّا على وجه واحد ، وهو أن السّامري ألقى إلى القوم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ إنما قدر على ما أتى به ؛ لأنه كان يتّخذ طلسمات على قوى ملكية ، وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات فقال السّامري للقوم : «وأنا أتخذ لكم طلسمات مثل طلسمته ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى ـ عليه‌السلام ـ في الإتيان بالخوارق ، أو لعلّ القوم كانوا مجسّمة وحلولية ، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام ، فلذلك وقعوا في تلك الشبهة.

فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل

في هذه القصة فوائد :

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٦٦ / ٦٧) وفي تاريخه : (١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠) عن ابن عباس.

(٢) ينظر تفسير الرازي : ٣ / ٧١.

٧٢

أحدها : أنها تدلّ على أن أمّة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خير الأمم ؛ لأن أولئك اليهود مع مشاهدتهم تلك البراهين الباهرة اغترّوا بهذه الشبهة الرّكيكة ، وأمّا أمة محمد ـ عليه‌السلام ـ فإنهم مع أنهم محتاجون في ثبوت كون القرآن معجزا إلى الدّلائل الدقيقة لم يغترّوا بالشّبهات العظيمة ، وذلك يدلّ على أنهم أكمل عقلا ، وأدعى خاطرا من اليهود.

وثانيها : فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل ، فإن هؤلاء الأقوام لو عرفوا الله بالدّليل معرفة تامّة لما وقعوا في شبهة السامري.

وثالثها : تسلية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عما كان شاهد من مشركي العرب ، واليهود ، والنّصارى من الخلاف ، فكأنه تعالى أمره بالصّبر على ذلك كما صبر موسى ـ عليه‌السلام ـ في هذه الواقعة المنكرة ، فإنهم بعد أن خلّصهم الله ـ تعالى ـ من فرعون ، وأراهم المعجزات العجيبة من أوّل ظهور موسى إلى ذلك الوقت ، اغترّوا بتلك الشبهة الرّكيكة ، وأن موسى ـ عليه‌السلام ـ صبر على ذلك ، فلأن يصبر محمد ـ عليه‌السلام ـ على أذيّة قومه أولى.

ورابعها : أن أشدّ الناس مجادلة وعداوة مع الرسول هم اليهود ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : إن هؤلاء يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة ، والجهالة ، والغباوة إلى هذا الحد بحيث إن أشدّ الأشياء بلادة ، وجهالة ، وغباوة ، هم البقر ، فجعلوه إلها ، فكيف هؤلاء الأخلاف.

فصل

في تفسير الظّلم وجهان :

الأول : قال فيه أبو مسلم : الظّلم في أصل اللغة من النقص قال تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣].

والمعنى : أنهم تركوا عبادة الخلّاق المحيي المميت ، واشتغلوا بعبادة العجل ، فقد صاروا ناقصين في خيرين : الدين والدنيا.

والثّاني : أن الظلم في العرف عبارة عن الضرر الخالي عن نفع يزيد عليه ، ودفع مضرّة أعظم منه ، والاستحقاق غير العرفي علمه أو ظنّه ، فإذا كان بهذه الصفة كان فاعلا ظلما ، ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤدّيه إلى العقاب والنار ، قيل : «إنه ظالم لنفسه» ، وإن كان في الحال نفعا ولذّة كما قال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

وقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر : ٣٢] ولمّا كانت عبادتهم لغير الله ظلما ومؤدّيا إلى عذاب النار سمّي ظلما.

فصل في ردّ شبهة للمعتزلة

استدلّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ المعاصي ليست بخلق الله من وجوه :

٧٣

أحدها : أنه ـ تعالى ـ ذمّهم عليها ، ولو كانت مخلوقة له لكانوا مطيعين بفعلها ؛ لأن الطّاعة عبارة عن فعل المراد.

وثانيها : لو كان العصيان مخلوق لله ـ تعالى ـ لكان الذّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود ، وأبيض ، وطويلا.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا تمسّك بفعل المدح والذم ، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ، وقد تقدّم.

قوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

و «العفو» المحو ، ومنه : «عفا الله عنكم» أي : محا ذنوبكم ، والعافية : لأنها تمحو السّقم ، وعفت الريح الأثر ؛ قال : [الطويل]

٤٨٨ ـ فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل (٢)

وقيل : عفا كذا أي : كثر ، ومنه «وأعفوا اللّحى» فيكون من الأضداد.

وقال ابن عطية : «العفو تغطية الأثر ، وإذهاب الحال الأوّل من الذّنب أو غيره ، ولا يستعمل العفو بمعنى الصّفح إلا في الذنب». وهذا الذي قاله قريب من تفسير الغفران ؛ لأن الغفر التغطية والسّتر ، ومنه : المغفر ، ولكن قد فرّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة ، فيجتمع معها ، وأمّا الغفران فلا يكون مع عقوبة.

وقال الرّاغب (٣) : «العفو» : القصد لتناول الشّيء ، يقال : عفاه واعتفاه أي : قصده متناولا ما عنده ، وعفت الريح التّراب قصدتها متناولة آثارها ، وعفت الديار كأنها قصدت نحو البلى وعفا النّبت والشّعر قصد تناول الزّيادة ، وعفوت عنك كأنه قصد إزالة ذنبه صارفا عنه ، وأعفيت كذا ، أي : تركته يعفو ويكثر ، ومنه «أعفوا اللّحى» فجعل القصد قدرا مشتركا في العفو ، وهذا ينفي كونه من الأضداد ، وهو كلام حسن ؛ وقال الشاعر [الطويل]

٤٨٩ ـ ..........

إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها (٤)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٧٢.

(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ٨ ، والأضداد : ٩٣ ، خزانة الأدب : ١١ / ٦ ، والدرر : ١ / ٢٨٥ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٤٦٣ ، مغني اللبيب : ١ / ٣٣١ ، والمنصف : ٣ / ٢٥ ، همع الهوامع : ١ / ٨٨ ، شرح المعلقات للتبريزي : (١٣) ، الشنقيطي : (٥٨) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٤.

(٣) ينظر المفردات : ٣٥١.

(٤) عجز بيت للأعشى وصدره :

فلا تصر ميني واسألي ما خليقتي

ينظر ديوانه : (٣٧١) ، الكشاف : ٤ / ٣٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

٧٤

معناه : أن العافي هنا ما يبقى في القدر من المرق ونحوه ، فإذا أراد أحد أن يستعير القدر يعلّل صاحبها بالعافي الذي فيها ، فالعافي فاعل ، ومن يستعيرها مفعول ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الرّاد في الحقيقة صاحب القدر بسبب العافي.

فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية

قالت المعتزلة : «المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتّوبة ، وهي قتل بعضكم بعضا».

قالت ابن الخطيب (١) : وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أن قبول التوبة واجب عقلا ، ولو كان المراد ذلك لما جاز عدّه في معرض الإنعام ، لأن أداء الواجب لا يعدّ من باب الإنعام ، والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله ـ تعالى ـ عليهم.

الثاني : أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحقّ ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه ، وذلك لا يسمّى عفوا ، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم ، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفوا ، فكذلك هاهنا.

إذا ثبت هذا فنقول : لا شكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وإذا كان كذلك دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلا ، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضا أنه ـ تعالى ـ أسقط عقوبة من يجوز عقابه عقلا ، وشرعا ، وذلك أيضا خلاف قول المعتزلة ، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى ، فلأن يعفو عن فسّاق أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع أنهم خير أمة أخرجت للنّاس كان أولى.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(تَشْكُرُونَ) في محل رفع خبر «لعلّ» ، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد.

وقال الراغب (٢) : هو تصور النعمة وإظهارها.

وقيل : هو مقلوب عن الكشر أي : الكشف ، وهو ضدّ الكفر ، فإنه تغطية النعمة وقيل: أصله من «عين شكرى» أي : ممتلئة ، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه.

و «شكر» من الأفعال المتعدّية بنفسها تارة ، وبحرف الجرّ أخرى ، وليس أحدهما أصلا للآخر على الصحيح ، فمن المتعدّي بنفسه قول عمرو بن لحيّ (٣) : [الطويل]

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٧٢.

(٢) ينظر المفردات : ٢٧٢.

(٣) عمرو بن يحيى بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي من قحطان. أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان كنيته أبو ثمامة وفي نسبه خلاف شديد ، وفي العلماء من يجزم بأنه مصري من عدنان لحديث انفرد به أبو هريرة. وهو جد «خزاعة» عند كثير من النسابين ورئيسها عند بعضهم ، ومعظمهم يسميه عمرو بن عامر بن يحيى ، ويقولون إنه نسب إلى جده وفيهم من يسميه عمرو بن ربيعة ويجعل لحيا لقبا لربيعة. ـ

٧٥

٤٩٠ ـ هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم

فهلّا شكرت القوم إذ لم تقاتل (١)

ومن المتعدّي بحرف الجر قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢] ، وسيأتي هناك تحقيقه.

فصل في الرد على المعتزلة

قالت المعتزلة : إنه ـ تعالى ـ بيّن أنه عفا عنهم ، ولم يؤاخذهم لكي يشكروا ، وذلك يدلّ على أنه ـ تعالى ـ لم يرد منهم إلا الشكر.

والجواب : لو أراد الله ـ تعالى ـ منهم الشكر لأراد ذلك ، إنما شرط أن يحصل للشّاكر داعية للشكر أولا بهذا الشرط ، والأول باطل ؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشّرط ، فإن كان هذا الشرط من العمد لزم افتقار الدّاعية إلى داعية أخرى ، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدّاعي حصل الشكر لا محالة ، وحيث لم يخلق الدّاعي استحال حصول الشكر ، وذلك ضد قول المعتزلة ، وإن أراد حصول الشّكر منه من غير هذه الداعية ، فقد أراد منه المحال ؛ لأن الفعل بدون الدواعي محال. فثبت أن الإشكال وارد عليهم.

قوله تعالى : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥٣)

«الكتاب» و «الفرقان» مفعول ثان ل «آتينا».

وهل المراد بالكتاب والفرقان شيء واحد ، وهو التوراة؟

كأنه قيل : الجامع بين كونه كتابا منزّلا ، وفرقانا يفرّق بين الحقّ والباطل ، نحو : رأيت الغيث واللّيث ، وهو من باب قوله : [المتقارب]

٤٩١ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

 .......... (٢)

أو لأنهم لمّا اختلف اللفظ ، جاز ذلك ؛ كقوله : [الوافر]

٤٩٢ ـ فقدّمت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا (٣)

__________________

ـ ينظر الأعلام : ٥ / ٨٤ (٥٥١) ، الأصنام لابن الكلبي : ٨ واللباب : ١ / ٣٦٠ ، البداية والنهاية : ٣ / ١٨٧ ـ ١٨٩ ، السيرة لابن هشام : ١ / ٢٧.

(١) ينظر البيت في معاني القرآن للفراء : ١ / ٩٢ ، الطبري : ٣ / ٢١٢ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.

(٢) تقدم برقم (١٢٨).

(٣) البيت لعدي بن زيد ينظر ذيل ديوانه : ص ١٨٣ ، والأشباه والنظائر : ٣ / ٢١٣ ، وجمهرة اللغة : ص ٩٩٣ ، والدرر : ٦ / ٧٣ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٧٦ ، ولسان العرب (مين) ، والشعر والشعراء : ١ / ٢٣٣ ، ومعاهد التنصيص : ١ / ٣١٠ ، وبلا نسبة في مغني اللبيب : ١ / ٣٥٧ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٥ ، وصوابه :

فقدّدت الأديم لراهشيه

انظر الشعر والشعراء : ١ / ٣٣.

٧٦

وقوله : [الطويل]

٤٩٣ ـ ..........

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (١)

وقوله عنترة (٢) : [الكامل]

٤٩٤ ـ ..........

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (٣)

قال النحاس (٤) : «هذا إنما يجوز في الشّعر ، فالأحسن أن يراد بالفرقان ما علّمه الله موسى من الفرق بين الحقّ والباطل».

وقيل : «الواو زائدة» ، و «الفرقان» نعت للكتاب أو «الكتاب» التوراة ، و «الفرقان» ما فرّق به بين الكفر والإيمان ، كالآيات من نحو : العصا واليد أو ما فرّق به بين الحلال والحرام من الشرائع.

و «الفرقان» في الأصل مصدر مثل الغفران.

وقد تقدّم معناه في (فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠].

وقيل : «الفرقان» هنا اسم للقرآن ، قالوا : والتقدير : ولقد آتينا موسى الكتاب ، ومحمّدا الفرقان.

قال النحاس (٥) : هذا خطأ في الإعراب والمعنى ، أمّا الإعراب فلأن المعطوف على الشيء مثله ، وهذا يخالفه ، وأمّا المعنى فلقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ)

__________________

(١) عجز بيت للحطيئة وصده :

ألا حبذا هند وأرض بها هند

ينظر ديوانه : (٣٩) ، شرح المفصل : ١ / ١٠ ، أمالي ابن الشجري : ٢ / ٣٦ ، الدرر : ٢ / ١١٥ ، شرح القصائد للتبريزي : (٣٢١) ، روضة الفصاحة : (٦١) ، الهمع : ٢ / ٨٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٥.

(٢) عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي : أشهر فرسان العرب في الجاهلية ، ومن شعراء الطبقة الأولى من أهل نجد ، أمه حبشية اسمها زبيبة سرى إليه السواد منها ، وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا ، يوصف بالحلم على شدة بطشه ، وفي شعره رقة وعذوبة وكان مغرما بابنة عمه «عبلة» فقل أن تخلو له قصيدة من ذكرها ، اجتمع في شبابه بامرىء القيس الشاعر وشهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا ، وقتله الأسد الرهيص أو جبار بن عمرو الطائي في سنة ٢٢ ق ه. ينسب إليه «ديوان شعر» أكثر ما فيه مصنوع و «قصة عنترة» خيالية يعدها الإفرنج من بدائع آداب العرب.

ينظر الأعلام : ٥ / ٩١ (٦٦٣) ، الأغاني : ٨ / ٢٣٧ ، وخزانة الأدب للبغدادي : ١ / ٦٢ ، الشعر والشعراء : ٧٥.

(٣) عجز بيت من معلقة عنترة وصدره :

حييت من طلل تقادم عهده

ينظر ديوانه : (١٨٥) ، شرح القصائد للتبريزي : (٣٢٠) ، والشنقيطي : (١١١) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٥.

(٤) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٧٥.

(٥) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٧٥.

٧٧

[الأنبياء : ٤٨]. وقال قطرب وزيد : «الفرقان انفراق البحر له».

فإن قلت : هذا مذكور في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) وأيضا قوله بعد ذلك : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لا يليق إلّا بالكتاب ؛ لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى ، فالجواب عن الأول أنه تعالى لم يبين في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أن ذلك كان لأجل موسى ـ عليه‌السلام ـ وفي هذه الآية بيّن ذلك بالتنصيص.

وعن الثاني : أن فرق البحر كان من الدّلائل فلعلّ المراد : آتينا موسى الكتاب ليستدلّوا بذلك على وجود الصانع ، وصدق موسى عليه‌السلام ، وذلك هو الهداية ، وأيضا فالهدى قد يراد به الفوز والنّجاة ولم يرد به الدلالة ، فكأنه ـ تعالى ـ بيّن أنه أتاهم الكتاب نعمة من الدين والفرقان الذي جعل به نجاتهم من الخصم نعمة عاجلة.

وقيل : الفرقان : الفرج من الكرب ؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ، (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] أي : فرجا ومخرجا وقيل : الحجّة والبيان ، قاله ابن بحر.

وقيل : الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء ، وغرق أولئك ، ونظيره يوم الفرقان ، فقيل يعني به يوم بدر.

فصل في الرد على المعتزلة

استدلت المعتزلة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) على أن الله أراد الاهتداء من الكلّ ، وذلك يبطل قول من يقول : أراد الكفر من الكافر. وأيضا إذا كان هداهم أنه ـ تعالى ـ لم يخلق الاهتداء ممن يهتدي ، والضلال ممن يضل ، فما الفائدة في إنزال الكتاب والفرقان ، ولقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه ، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو كان الاهتداء [ولا كتاب لحصل](١) الاهتداء ، ولو أنزل الكتاب ، ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء ، فكيف يجوز أن يقول : أنزلت [الكتاب](٢) لكي تهتدوا؟ وقد تقدّم مثل [هذا](٣) الكلام.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

«يا قوم» اعلم أن في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ستّ لغات.

أفصحها : حذفها مجتزئا عنها بالكسرة ، وهي لغة القرآن.

__________________

(١) في أ : والكتاب يحصل.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : ذلك.

٧٨

والثانية : ثبوت الياء ساكنة.

الثالثة : ثبوتها مفتوحة.

الرابعة : قلبها ألفا.

الخامسة : حذف هذه الألف ، والاجتزاء عنها بالفتحة ؛ كقوله : [الوافر]

٤٩٥ ـ ولست براجع ما فات منّي

بلهف ولا بليت ولا لو انّي (١)

أي يقول : يا لهفا.

السّادسة : بناء المضاف إليها على الضّمّ تشبيها بالمفرد ، نحو قراءة من قرأ (٢) : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢].

قال بعضهم : لأن «يا قوم» في تقدير : يا أيها القوم والقوم : اسم جمع ؛ لأنه دالّ على أكثر من اثنين ، وليس له واحد من لفظه ، ولا هو على صيغة مختصّة بالتكسير ، ومفرده «رجل» ، واشتقاقه من «قام بالأمر يقوم به» ، قال تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء : ٣٣] والأصل في إطلاقه على الرجال ؛ ولذلك قوبل بالنّساء في قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ).

وقول زهير : [الوافر]

٤٩٦ ـ وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء (٣)

وأما قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] و (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) [الشعراء : ١٦٠] والمكذبون رجال ونساء فإنما ذلك من باب التّغليب ، ولا يجوز أن يطلق على النّساء وحدهن ألبتة ، وإن كانت عبادة بعضهم توهم ذلك.

فصل في نظم الآية

في قوله : (يا قَوْمِ) لطيفة ، وهي أنه أضاف القوم إلى نفسه ، وأضاف نفسه إليهم إضافة اختلاط ، وامتزاج ، فكأنه منهم [وهم](٤) منه فصارا كالجسد الواحد فهو مقيد لهم ما يريد لنفسه ، وإنما يضرهم ما يضره وما ينفعهم ينفعه كقول القائل لغيره إذا نصحه : ما أحبّ لك إلا ما أحبّ لنفسي وذلك إشارة إلى استمالة قلوبهم إلى قبول دعواه ، وطاعتهم له فيما أمرهم به ، ونهاهم عنه.

__________________

(١) ينظر البيت في أمالي ابن الشجري : ٢ / ٧٤ ، الممتع : (٦٢٢) ، المحتسب : ١ / ٣٢٣ ، العيني : ٤ / ٢٤٨ ، الخزانة : ١ / ٦٣ ، رصف المباني : ٢٨٨ ، الإنصاف : ٣٩٠ ، الدرر : ٢ / ٦٩ ، اللسان «ركب» ، روح المعاني : ١٢ / ٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٦.

(٢) ستأتي في «الأنبياء» آية (١١٢).

(٣) ينظر ديوانه : (٧٣) ، الهمع : ١ / ١٥٣ ، والدرر : ١ / ١٣٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٢٦.

(٤) في ب : وهو.

٧٩

قوله تعالى : (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) الباء للسببية ، متعلّقة ب «ظلمتم» ، وقد تقدم الخلاف في مثل هذه المادة.

و «العجل» مفعول أوّل ، والثّاني محذوف أي : إلها كما تقدم ، والمصدر ـ هنا ـ مضاف للفاعل ، وهو أحسن الوجهين ، فإن المصدر إذا اجتمع فاعله ومفعوله فالأولى إضافته إلى الفاعل ؛ لأنه رتبته التقديم ، وهذا من الصور التي يجب فيها تقديم الفاعل.

وأما (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] فسيأتي إن شاء الله تعالى. وتقدّم الكلام في «العجل».

قوله : (إِلى بارِئِكُمْ) متعلّق ب «توبوا» ، والمشهور كسر الهمزة ؛ لأنها حركة إعراب. وروي عن أبي عمرو ثلاثة أوجه أخر :

الاختلاس : وهو الإتيان بحركة خفية ، والسكون المحض ، وهذه قد طعن فيها جماعة من النحاة ، ونسبوا راويها إلى الغلط على أبي عمرو.

وقال سيبويه : «إنما اختلس أبو عمرو فظنّه الراوي سكّن ولم يضبط».

وقال المبرّد : «لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر ، وقراءة أبي عمرو (١) لحن».

وهذه جرأة من المبرد ، وجهل بأشعار العرب ، فإن السّكون في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيرا ؛ منه قول امرىء القيس : [السريع]

٤٩٧ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٢)

فسكّن «أشرب» ، وقال جرير : [البسيط]

٤٩٨ ـ ..........

ونهر تيرى فلا تعرفكم العرب (٣)

__________________

(١) يعني : قراءة الاختلاس ، ووافقه فيها ابن محيصن.

وانظر فيها العنوان في القراءات السبع : ٦٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٢٥ ، وحجة القراءات : ٩٧ ، والحجة للقراء السبعة : ٢ / ٧٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩١ ، ٣٩٢ ، ٣٩٣ ، وشرح شعلة : ٢٦٢.

(٢) ينظر ديوانه : ١٢٢ ، وإصلاح المنطق : ٢٤٥ ، والأصمعيات : ١٣٠ ، جمهرة اللغة : ٩٦٢ ، وحماسة البحتري : ٣٦ ، خزانة الأدب : ٤ / ١٠٦ و ٨ / ٣٥٠ و ٣٥٤ و ٣٥٥ ، والدرر : / ١٧٥ ، ورصف المباني : ٣٢٧ ، شرح التصريح : ١ / ٨٨ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ٦١٢ و ١١٧٦ ، شرح شذور الذهب : ٢٧٦ ، شرح شواهد الإيضاح : ٢٥٦ ، شرح المفصل : ١ / ٤٨ ، الشعر والشعراء : ١ / ١٢٢ ، والكتاب : ٤ / ٢٠٤ ، ولسان العرب [حقب] ، [دلك] ، المحتسب : ١ / ١٥ و ١١٠ ، الأشباه والنظائر : ١ / ٦٦ ، والاشتقاق : ٣٣٧ ، والخصائص : ١ / ٧٤ و ٢ / ٣١٧ ، والمقرب : ٢ / ٢٠٥ ، همع الهوامع : ١ / ٥٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٢٧.

(٣) عجز بيت وصدره :

سيروا بني العم فالأهواز منزلكم

ينظر ديوانه : (٤٨) ، الخصائص : ١ / ٧٤ ، السمط : ٥٢٧ ، اللسان «عبد» والدر المصون : ١ / ٢٢٧.

٨٠