اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

قال القرطبي : والإسلام هنا على أتم وجوهه ، فالإسلام في كلام العرب الخضوع والانقياد للمستسلم والله أعلم.

قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(١٣٢)

قرىء (١) : «وصّى» ، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصّى ، وأوصى رباعيا ، وهي قراءة نافع ، وابن عامر ، وكذلك هي في مصاحف «المدينة» و «الشام».

وقيل : أوصى ووصى بمعنى.

والضمير في «بها» فيه ستّة أقوال :

أحدها : أنه يعود على الملّة في قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٣٠].

قال أبو حيان (٢) : «وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره».

والزمخشري ـ رحمه‌الله ـ لم يذكر هذا ، وإنما ذكر عوده على قوله «أسلمت» لتأويله بالكلمة.

قال الزمخشري : والضمير في «بها» لقوله : «أسلمت لرب العالمين» على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) [الزخرف : ٢٨] إلى قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف : ٢٦ ـ ٢٧] وقوله : «كلمة باقية» دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة. انتهى.

الثاني : أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله : (أَسْلَمْتُ) كما تقدم تقريره عن الزمخشري.

قال ابن عطية (٣) : «وهو أصوب لأنه أقرب مذكور».

الثالث : أنه يعود على متأخر ، وهو الكلمة المفهومة من قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

الرابع : أنه يعود على كلمة الإخلاص ، وإن لم يبد لها ذكر قاله الكلبي ومقاتل.

الخامس : أنه يعود على الطّاعة للعلم بها أيضا.

السادس : أنه يعود على الوصيّة المدلول عليها بقوله : «ووصّى» ، و «بها» يتعلّق ب «وصّى» و «بنيه» مفعول به.

__________________

(١) قرأ نافع وابن عامر : «وأوصى» على «أفعل» ، وقرأ الباقون : «ووصّى» على «فعّل».

انظر السبعة : ١٧١ ، والكشف : ١ / ٢٦٥ ، وحجة القراءات : ١١٥ ، والحجة : ٢ / ٢٢٧ ، وشرح شعلة : ٢٧٧ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٧١ ، ٧٢ ، والعنوان : ٧١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٨.

(٢) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٧٠.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١٣.

٥٠١

روي أنهم ثمانية : إسماعيل ، واسم أمه هاجر القبطية ، وإسحاق ، واسم أمه سارة وستة ، واسم أمهم قنطورا بنت قطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران وتشيق وشيوخ ، ثم توفي عليه الصلاة والسلام.

وكان بين وفاته وبين مولد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود ينقصون ذلك نحوا من أربعمائة سنة.

قوله : (وَيَعْقُوبُ) الجمهور على رفعه وفيه قولان :

أظهرهما : أنه عطف على (إِبْراهِيمُ) ، ويكون مفعوله محذوفا ، أي : ووصى يعقوب بنيه أيضا.

والثاني : أن يكون مرفوعا بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : ويعقوب قال : يا بني إن الله اصطفى.

وقرأ أسماعيل بن عبد الله (١) ، وعمرو بن فائد (٢) بنصبه عطفا على «بنيه» ، أي : ووصّى إبراهيم يعقوب أيضا.

[ولم ينقل أنّ يعقوب جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإنما ولد بعد موته قاله الزمخشري ، وعاش يعقوب مائة وسبعة وأربعين سنة ، ومات بمصر ، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند ابنه إسحاق ، فحمله يوسف ، ودفنه عنده](٣).

قوله : «يا بني» فيه وجهان :

أحدهما : أنه من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم ، أو على قراءته منصوبا.

والثّاني : أنه من مقول يعقوب إن قلنا رفعه بالابتداء ، ويكون قد حذف مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للدلالة عليه تقديره : «ووصّى إبراهيم بنيه يا بني».

__________________

(١) أبو إسحاق إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين المخزومي ، مولاهم المكي ، المعروف ب «القسط» مقرىء مكة. ولد سنة ١٠٠ ه‍ ، وقرأ على ابن كثير وعلى صاحبيه : شبل بن عباد ، ومعروف بن مشكان ، وأقرأ الناس زمانا ، وكان ثقة ضابطا قرأ عليه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومحمد بن سبعون ، وعكرمة بن سليمان ، وروى عنه القراءة أحمد بن موسى اللؤلؤي ، وفي سند البزي عن ابن كثير نفسه ، وفي سند قنبل عن شبل ومعروف عن ابن كثير ـ قال الذهبي : والقولان صحيحان ، ثم جمع بينهما. توفي سنة ١٧٠ ه‍.

ينظر غاية النهاية : ١ / ١٦٦.

(٢) عمرو بن فائد أبو علي الأسواري البصري ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، روى عنه الحروف حسان بن محمد الضرير وبكر بن نصر العطار ، ومما روى عنه : إياك نعبد وإياك بتخفيف الياء.

ينظر الغاية : ١ / ٦٠٢ (٢٤٦٢).

(٣) سقط في ب.

٥٠٢

وعلى كل تقدير فالجملة من قوله : «يا بني» وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين ، أي : فقال يا بني ، وبفعل الوصية ؛ لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين ، [قال النحاس : يا بني نداء مضاف ، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها ؛ لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان ، وبمعناه (بِمُصْرِخِيَ) [إبراهيم : ٢٢] ونحوه](١). وقال الراجز : [الرجز]

٧٩٧ ـ رجلان من ضبّة أخبرانا

إنّا رأينا رجلا عريانا (٢)

بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو لإجراء الخبر مجرى القول ، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن (٣) مسعود : «أن يا بني» ب «أن» المفسرة ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما ينسبك منه مصدر.

قال الفراء : ألغيت «أن» لأن التوصية كالقول ، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول «أن» وجاز إلغائها ، وقال النحويون : إنما أراد «أن» وألغيت ليس بشيء. ومن أبى جعلها مفسرة ـ وهم الكوفيون ـ يجعلونها زائدة.

و «يعقوب» علم أعجمي ولذلك لا ينصرف ، ومن زعم أنه سمّي يعقوب ؛ لأنه ولد عقب العيص أخيه ، وكانا توأمين ، أو لأنه كثر عقبه ونسله فقد وهم ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، لأنه عربي مشتق.

ويعقوب أيضا ذكر الحجل ، إذا سمي به المذكر انصرف ، والجمع يعاقبة ويعاقيب ، و «اصطفى» ألفه عن ياء تلك الياء منقلبة عن «واو» ؛ لأنها من الصّفوة ، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعدا ، قلبت ياء ، ثم انقلبت ألفا.

اصطفى : اختار.

قال الراجز : [الرجز]

٧٩٨ ـ يا ابن ملوك ورّثوا الأملاكا

خلافة الله الّتي أعطاكا

لك اصطفاها ولها اصطفاكا (٤)

والدين : الإسلام.

و «لكم» أي لأجلكم ، والألف واللام في «الدين» للعهد ؛ لأنهم كانوا عرفوه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر المحتسب : ١ / ١٠٩ ، الخصائص : ٢ / ٣٣٨ ، البحر المحيط : ١ / ٥٧١ ، الكشاف : ١ / ٣١٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٦.

(٣) وبها قرأ أبي والضحاك. انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٧١ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٦.

(٤) ينظر القرطبي : ٢ / ٩٣.

٥٠٣

قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا) هذا في الصورة عن الموت ، وهو في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك : «لا تصلّ إلا وأنت خاشع» ، فنهيك له ليس عن الصلاة ، إنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنّكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة ، وهي غير منهي عنها هي إظهار أنّ الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ، كأنه قال : أنهاك عنها إذا لم تصلّها على هذه الحالة ، وكذلك المعنى في الآية الكريمة إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن حقّ هذا الموت ألا يجعل فيهم. [وعن الفضيل بن عياض أنه قال : (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، أي : مسلمون الظن ، أي محسنون الظن بربكم ، وروي عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : «لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»](١). وأصل تموتن : تموتوننّ : النون الأولى علامة الرفع ، والثانية المشددة للتوكيد ، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع ؛ لأن نون التوكيد أولى بالبقاء لدلالتها على معنى مستقلّ ، فالتقى ساكنان : الواو والنون الأولى المدغمة ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وبقيت الضمة تدلّ عليها ، وهكذا كل ما جاء في نظائره.

قوله : (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة ، و (أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، كأنه قال تعالى : «لا تموتن على كل حال إلا على هذه الحال» ، والعامل فيها ما قبل إلا.

قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٣)

«أم» في أم هذه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور ـ : أنها منقطعة والمنقطعة تقدر ب «بل» ، وهمزة الاستفهام.

وبعضهم يقدرها ب «بل» وحدها ، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال.

ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي ، أي : بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا.

الثاني : أنها بمعنى همزة الاستفهام ، وهو قول ابن عطية والطبري ، إلا أنهما اختلفا في محلها.

فإن ابن عطية قال : و «أم» تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام ، لغة يمانية.

__________________

(١) سقط في ب.

٥٠٤

وقال الطبري : إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره.

قال أبو حيان في قول ابن عطية : «ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال».

وقال في قول الطبري : وهذا أيضا قول غريب.

الثالث : أنها متصلة ، وهو قول الزمخشري.

قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة ، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك : وقيل : الخطاب لليهود ؛ لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليهودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، وسمعوا ما قاله لبنيه ، وما قالوه لظهر لهم حرصه على ملّة الإسلام ، ولما ادّعوا عليه اليهودية ، فالآية الكريمة منافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : أم كنتم شهداء؟

ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء ، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملّة (١) الإسلام ، فما لكم تدّعون على الأنبياء (٢) ما هم منه براء؟

قال أبو حيان (٣) : ولا أعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة ، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره ، لو قلت «أم زيد» تريد : «أقام عمرو أم زيد» لم يجز ، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك : «بلى وعمرا» لمن قال : لم يضرب زيدا ، وقوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي فضرب فانفجرت ، وندر حذفه مع «أو» ؛ كقوله : [الطويل]

٧٩٩ ـ فهل لك أو من والد لك قبلنا

 .......... (٤)

أي : من أخ أو والد ، ومع حتى كقوله : [الطويل]

٨٠٠ ـ فواعجبا حتّى كليب تسبّني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (٥)

أي : يسبني الناس حتى كليب ، على نظر فيه ، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله : [الطويل]

__________________

(١) زاد في أ : إبراهيم أي.

(٢) زاد في أ : اليهودية.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٧٢.

(٤) صدر بيت لأمية الهذلي. وعجزه :

يرشح أولاد العشار ويفضل

ينظر شرح أشعار الهذليين : ٢ / ٥٣٧ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٦٧٠ ، المقاصد النحوية : ٤ / ١٨٢ ، وللهذلي في همع الهوامع : ٢ / ٢ / ١٤٠ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٣٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٨.

(٥) البيت للفرزدق. ينظر ديوانه : ١ / ٤١٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٤١٤ ، ٩ / ٤٧٥ ، ٤٧٦ ، ٤٧٨ ، والدرر : ٤ / ١١٢ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٢ ، ٣٧٨ ، وشرح المفصل : ٨ / ١٨ ، والكتاب : ٣ / ١٨ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٢٩ ، وشرح المفصل : ٨ / ٦٢ ، والمقتضب : ٢ / ٤١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٢٤ ، ورصف المباني : ص ١٨١ ، والدر : ١ / ٣٧٨.

٥٠٥

٨٠١ ـ دعاني إليها القلب إنّي لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها (١)

أي : أم غيّ ، وإنما جاز ذلك ؛ لأن المستفهم على الإثبات يتضمّن نقيضه ، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى ، ألا ترى إلى قوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] كيف حذف و «البرد» انتهى.

و «شهداء» خبر كان ، وهو جمع شاهد أو شهيد ، وقد تقدم أول السورة.

قوله : (إِذْ حَضَرَ) إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي : شهداء وقت حضور الموت إياه ، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه ومقدماته ؛ قال الشّاعر : [البسيط]

٨٠٢ ـ وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا

قولا يبرّئكم إنّي أنا الموت (٢)

أي : أنا سببه ، والمشهور نصب «يعقوب» ، ورفع «الموت» ، قدم المفعول اهتماما وقرأ بعضهم بالعكس.

وقرىء (٣) : «حضر» بكسر الضاد ، قالوا : والمضارع يحضر بالضم شاذ ، وكأنه من التداخل وقد تقدم.

قوله : (إِذْ قالَ) ، «إذ» هذه فيها قولان :

أحدهما : بدل من الأولى ، والعامل فيها ، إما العامل في «إذ» الأولى إن قلنا : إن البدل لا على نية تكرار العامل ، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك.

الثاني : أنها ظرف ل «حضر».

قوله : (ما تَعْبُدُونَ) ، ما اسم استفهام في محلّ نصب ؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون ، وهو واجب التقديم ؛ لأن له صدر الكلام ، وأتى ب «ما» دون «من» لأحد أربعة معان.

أحدها : أن «ما» للمبهم أمره ، فإذا علم فرّق ب «ما» و «من».

[قال الزمخشري : وكفاك دليلا قول العلماء : «من» لما يعقل.

الثاني : أنها سؤال عن صفة المعبود](٤).

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ينظر تخليص الشواهد : ص ١٤٠ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٥١ ، والدرر : ٦ / ١٠٢ ، وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٤٣ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٥٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢٦ ، ١٤٢ ، ٢ / ٦٧٢ ، ومغني اللبيب : ص ١٣ ، وشرح الأشموني : ٤ / ٣٧١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٢ والدر : ١ / ٣٧٨.

(٢) البيت لرويشد بن كثير. ينظر الحماسة : ١ / ١٠٢ ، القرطبي : ٢ / ٢٥٨ ، البحر المحيط : ١ / ٥٧٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٩.

(٣) قرأ بها أبو السمال.

انظر الشواذ : ٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٧٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٩.

(٤) سقط في أ.

٥٠٦

قال الزمخشري : كما تقول : ما زيد؟ تريد : أفقيه أم طبيب ، أم غير ذلك من الصفات؟

الثالث : أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء ، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر ، فاستفهم ب «ما» التي لغير العاقل ، فعرف بنوه ما أراد ، فأجابوه عنه بالحق.

الرابع : أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم ب «ما» دون «من» ، لئلا يطرق لهم الاهتداء ، فيكون كالتلقين لهم ، ومقصوده الاختبار.

وأجاب ابن الخطيب بوجهين :

الأول : أن «ما» عام في كل شيء ، والمعنى : أي شيء تعبدون.

والثاني : قوله : (ما تَعْبُدُونَ) كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟

وقوله : (مِنْ بَعْدِي) أي : بعد موتي.

قوله : (قالُوا : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ).

تمسّك المقلّدة بهذه الآية الكريمة قالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره عليهم.

والجواب : أن هذا ليس تقليدا ، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصّانع كقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] فهاهنا المراد من قوله : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) أي : نعبد الإله الذي دلّ عليه وجودك ، ووجود آبائك.

فصل في نزول هذه الآية

قال القفّال : وفي بعض التفاسير أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لما دخل «مصر» رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان ، فخاف على بنيه بعد وفاته ، فقال لهم هذا القول تحريضا لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى.

وحكى القاضي عن ابن عباس : أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ جمعهم إليه عند الوفاة ، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران ، فقال : يا بني ما تعبدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك (١).

ثم قال القاضي : هذا بعيد لوجهين :

الأول : أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب ، وأنهم كانوا قوما صالحين ، وذلك لا يليق بحالهم.

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ٦٩.

٥٠٧

[وقال عطاء : إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الموت والحياة ، فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ؛ ففعل ذلك به ، فجمع ولده وولد ولده ، وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ، والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما ، وسيأتي الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى](١).

وقال القفّال : وقيل : إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق ؛ لأن إسماعيل [كان أسنّ من إسحاق](٢).

قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ) أعاد ذكر الإله ، لئلا يعطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار ، والجمهور على «آبائك».

وقرأ الحسن (٣) ويحيى وأبو رجاء : «أبيك».

وقرأ أبّي : «وإله إبراهيم» فأسقط «آبائك».

فأما قراءة الجمهور فواضحة.

وفي «إبراهيم» وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه بدل.

والثاني : أنه عطف بيان ، ومعنى البدلية فيه التفصيل.

الثالث : أنه منصوب بإضمار «أعني» فالفتحة على هذا علامة للنصب ، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصّرف ، وفيه دليل على تسمية الجدّ والعم أبا ، فإن إبراهيم جده وإسماعيل عمه ، كما يطلق على الخالة أمّ ، ومنه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) [يوسف : ١٠٠] في أحد القولين.

قال بعضهم : وهذا من باب التّغليب ، يعني : أنه غلب الأب على غيره ، وفيه نظر ، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع ، فيغلب فيهما.

وأما قراءة «أبيك» فتحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مفردا غير جمع ، وحينئذ فإما أن يكون واقعا موقع الجمع أو لا ، فإن كان واقعا موقع الجمع ، فالكلام في «إبراهيم» وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة. وإن لم يكن واقعا موقعه ، بل أريد به الإفراد لفظا ومعنى ، فيكون «إبراهيم» وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة ، ويكون إسماعيل وما بعده عطفا على «أبيك» ، أي : وإله إسماعيل.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : أسن منه.

(٣) انظر الشواذ : ١٧ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢١٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٦٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٩.

٥٠٨

الثاني : يكون جمع سلامة بالياء والنون ، وإنما حذفت النون للإضافة ، وقد جاء جمع أب على «أبون» رفعا ، و «أبين» جرا ونصبا ، حكاها سيبويه ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٨٠٣ ـ فلمّا تبيّنّ أصواتنا

بكين وفدّيننا بالأبينا (١)

ومثله : [الوافر]

٨٠٤ ـ فقلنا أسلموا إنّا أخوكم

 .......... (٢)

والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير. وإسحاق : علم أعجميّ ، ويكون مصدر أسحق ، فلو سمّي به مذكر لانصرف ، والجمع : أساحقة وأساحيق.

قال القرطبي : ولم ينصرف إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ؛ لأنّها أعجمية.

قال الكسائيّ : وإن شئت صرفت «إسحاق» ، وجعلته من السّحق ، وصرفت «يعقوب» وجعلته من الطّير.

وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أبا ، وبدأ بذكر الجد ، ثم إسماعيل العم ؛ لأنّه أكبر من إسحاق.

فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أبا

ذهب أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إلى أن الجد أب ، وأسقط به الإخوة ، والأخوات ، وهو قول أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وابن عباس وعائشة ، وجماعة من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ومن التابعين ، والحسن ، وطاوس وعطاء.

وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وعلي ـ رضي الله عنهم ـ وهو قول مالك ، وأبي يوسف ومحمد.

__________________

(١) البيت لزياد بن واصل السلمي. ينظر خزانة الأدب : ٤ / ٤٧٤ ، ٤٧٧ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٢٨٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب : ٤ / ١٠٨ ، ٤٦٧ ، ولسان العرب (أبي) ، والمحتسب : ١ / ١١٢ ، والمقتضب : ٢ / ١٧٤ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ٢٨٦ ، والكتاب : ٣ / ٤٠٦ ، وشرح المفصل : ٣ / ٣٧ ، والخصائص : ١ / ٣٤٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٠.

(٢) البيت للعباس بن مرداس السلمي ، ورواية البيت :

فقلنا أسلموا إنّا أخوكم

وقد برئت من الإحن الصّدور

ينظر الديوان : ص ٥٢ ، السيرة النبوية : ٢ / ٤٥١ ، مجاز القرآن لأبي عبيدة : ١ / ٧٩ ، ١ / ١٣١ ، الجمهرة : ٣ / ٤٨٤ ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٢٥٨ ، اللسان (أخو) ، القرطبي : ٢ / ١٣٩ ، إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس : (١ / ٢٦٥) ، تأويل مشكل القرآن : (٢١٩) ، تفسير الطبري : ٣ / ٢٣ ، خزانة الأدب : ٤ / ٤٧٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٠.

٥٠٩

واحتج أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بأدلة منها هذه الآية الكريمة ، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد.

فإن قيل : قد أطلقه على العمّ ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقا.

فالجواب : الأصل في الاستعمال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به ، فيبقى في الثاني حجة.

والثاني منها قوله ـ تبارك وتعالى ـ مخبرا عن يوسف : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) [يوسف : ٣٨].

ومنها : ما روى عطاء عن ابن عباس أنّه قال : من شاء لاعنته عند الحجر الأسود أنّ الجدّ أب.

وقال أيضا : ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أب الأب أبا.

واحتجّ الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ بأدلّة :

منها : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة : ١٣٢] فلم يدخل يعقوب في بنيه ، بل ميّزه عنهم ، فلو كان الصاعد في الأبوّة أبا لكان النازل في البنوّة ابنا في الحقيقة ، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدّ ليس بأب [ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد ، فعلمنا أنه حقيقة في الأب مجاز في الجد](١). ولو كان الجد أبا على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجدّه حيّ أن ينفي أنّ له أبا ، كما لا يصح في الأب القريب ، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة.

فإن قيل : اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنّ رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد ، فلذلك صح فيه النفي.

فالجواب : لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعا لم يكن الترتيب في الوجود سببا لنفي اسم الأب عنه.

ومنها : لو كان الجد أبا على الحقيقة لصحّ القول بأنّه مات ، وخلف أمّا وآباء كثيرين ، وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء ، وأرباب اللغة ، والتفسير.

ومنها : [لو كان الجدّ أبا ـ ولا شكّ](٢) أنّ الصحابة عارفون باللغة ـ لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ، ولو كان الجد أبا لكانت الجدة أمّا ، ولو كان كذلك لما وقعت الشّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى السؤال عنه ، [فهذه الدلائل دلت على أنّ الجدّ ليس بأب](٢).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٥١٠

ومنها : قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] فلو كان الجدّ أبا لكان ابن الابن ابنا لا محالة ، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب.

وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين :

الأول : أنه قرأ أبيّ (١) : «وإله إبراهيم» بطرح «آبائك» إلّا أنّ هذا لا يقدح في الغرض ؛ لأن القراءة الشاذّة لا تدفع القراءة المتواترة.

بل الجواب أن يقال : إنّه أطلق لفظ الأب على الجدّ وعلى العمّ.

وقال عليه الصلاة والسلام في العبّاس : «هذا بقيّة آبائي».

وقال : «ردّوا عليّ أبي ، فإنّي أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» ، فدلنا ذلك على أنّه ذكره على سبيل المجاز ، ولو كان حقيقة لما كان كذلك.

وأمّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظرا إلى الحكم الشرعي ، لا إلى الاسم اللغوي ؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللّسان.

قوله : (إِلهاً واحِداً) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه بدل من «إلهك» بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ١٥ ـ ١٦].

والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله : [الوافر]

٨٠٥ ـ فلا وأبيك خير منك إنّي

ليؤذيني التّحمحم والصّهيل (٢)

ف «خير» بدل من «أبيك» ، وهو نكرة غير موصوفة.

والثاني : أنّه حال من «إلهك» والعامل فيه «نعبد» ، وفائدة البدل والحال التنصيص على أنّ معبودهم فرد إذ إضافة الشيء إلى كثير توهم تعداد المضاف ، فنصّ بها على نفي ذلك الإبهام. وهذه الحال تسمى «حالا موطّئة» ، وهي أن تذكرها ذاتا موصوفة ، نحو : جاء زيد رجلا صالحا.

الثالث ، وإليه نحا الزّمخشريّ : أن يكون منصوبا على الاختصاص ، أي : نريد بإلهك إلها واحدا.

قال أبو حيّان رحمه‌الله : وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما.

__________________

(١) ينظر القراءة السابقة.

(٢) ينظر خزانة الأدب : ٥ / ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ولسان العرب (أذن) ، ونوادر أبي زيد : ص ١٢٤ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٥٨١ ؛ والمقرب : ١ / ٢٤٥. والدر المصون ١ / ٣٨٠.

٥١١

قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها معطوفة على قوله : (نَعْبُدُ) يعني : أنها تتمّة جوابهم له ، فأجابوه بزيادة.

والثاني : أنّها حال من فاعل «نعبد» ، والعامل «نعبد».

والثالث ، وإليه نحا الزّمخشري : ألّا يكون لها محل ، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنّا له مخلصون.

قال أبو حيّان : ونصّ النحويون على أنّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقوية في الحكم ، إمّا بين جزئي صلة وموصول ؛ كقوله : [البسيط]

٨٠٦ ـ ماذا ـ ولا عتب في المقدور ـ رمت أما

يكفيك بالنّجح أم خسر وتضليل (١)

وقوله (٢) : [الكامل]

٨٠٧ ـ ذاك الّذي ـ وأبيك ـ يعرف مالكا

والحقّ يدفع ترّهات الباطل (٣)

أو من مسند ومسند إليه كقوله : [الطويل]

٨٠٨ ـ وقد أدركتني ـ والحوادث جمّة ـ

أسنّة قوم ضعاف ولا عزل (٤)

أو بين شرط وجزاء ، أو قسم وجوابه ، مما بينهما تلازم.

وهذه الجملة قبلها كلام مستقل عمّا بعدها ، لا يقال : إنّ بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازما ؛ لأنّ ما قبلها من مقول بني يعقوب ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر بها عنهم ، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه. انتهى ملخصا.

وقال ابن عطية (٥) : «ونحن له مسلمون» ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ، ونحن نكون.

قال أبو حيان (٦) : يظهر منه أنّه جعل هذه الجملة عطفا على جملة محذوفة ، ولا حاجة إليه.

__________________

(١) ينظر الدرر : ١ / ٢٨٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٨ ، والدر : ١ / ٣٨١.

(٢) في أ : وفي قول القائل.

(٣) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٥٨٠ ، والدرر : ١ / ٢٨٧ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨١٧ ، والخصائص : ١ / ٣٣٦ ، ولسان العرب (تره) ، ومغني اللبيب : ٢ / ٣٩١ ، والمقرب : ١ / ٦٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٨ ، ٢٤٧ ، والدرر : ١ / ٣٨١.

(٤) البيت لجويرية بن زيد. ينظر في الدرر : ٤ / ٢٥ ، ولرجل من بني عبد الدار ينظر في شرح شواهد المغني : ٢ / ٨٠٧ ، والخصائص : ١ / ٣٣١ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ١٤٠ ، ولسان العرب (هيم) ، ومغني اللبيب : ٤ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٨ ، والدر : ١ / ٣٨١.

(٥) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١٤.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٧٥.

٥١٢

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٤)

«تلك» مبتدأ ، و «أمّة» خبره ، ويجوز أن تكون «أمّة» بدلا من «تلك» ، و «قد خلت» خبر للمبتدأ.

وأصل «تلك» : «تي» ، فلمّا جاء باللّام للبعد حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، فإن قيل : لم لم تكسر اللام حتى لا تحذف الياء؟

فالجواب : أنّه يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين.

وزعم الكوفيون أنّ التاء وحدها هي الاسم ، وليس ثمّ شيء محذوف.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ) جملة فعلية في محل رفع صفة ل «أمّة» إن قيل إنها خبر «تلك» أو خبر «تلك» إن قيل : إن «أمة» بدل من «تلك» كما تقدم ، و «خلت» أي صارت إلى الخلاء ، وهي الأرض التي لا أنيس بها ، والمراد به ماتت ، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم.

والأمة : الجماعة ، وقيل : الصنف.

قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون صفة ل «أمة» أيضا ، فيكون محلها رفعا.

والثاني : أن تكون حالا من الضمير في «خلت» فمحلها نصب ، أي : خلت ثابتا لها كسبها.

والثالث : أن تكون استئنافا فلا محلّ لها.

وفي «ما» من قوله : (ما كَسَبَتْ) ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها بمعنى الذي.

والثاني : أنها نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف أي : كسبته ، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول.

والثالث : أن تكون مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور ، ويكون المصدر واقعا موقع المفعول أي : لها مكسوبها أو يكون ثمّ مضاف ، أي : لها جزاء كسبها.

قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) إن قيل : إن قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) مستأنف كانت هذه الجملة عطفا عليه.

وإن قيل : إنه صفة أو حال فلا.

أما الصفة فلعدم الرابط فيها.

وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها ، وزمان استقرار كسب المخاطبين ،

٥١٣

وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان ، و «ما» من قوله : (ما كَسَبْتُمْ) ك «ما» المتقدمة.

فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد

دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب ، وإن كان الله ـ تعالى ـ أقدره على ذلك ، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرّا فبعدله ، فالعبد مكتسب لأفعاله ، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرّعشة مثلا ، وذلك التمكن هو مناط التكليف ، وهذا مذهب أهل السّنة.

وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح.

وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين ، وأن العبد يخلق أفعاله ، نقله القرطبي.

قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ) هذه الجملة استئناف ليس إلّا ، ومعناها التوكيد لما قبلها ؛ لأنه لما تقدم أن أحدا لا ينفعه كسب أحد ، بل هو مختص به إن خيرا وإن شرّا ، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره ، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا بذلك.

و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة ، وفي الكلام حذف ، أي : ولا يسألون عما كنتم تعملون.

قال أبو البقاء : ودلّ عليه : لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم انتهى.

ولو جعل الدالّ ـ قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) كان أولى ؛ لأنه مقابلة.

قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٣٥)

والكلام في «أو» [كالكلام فيها عند](١) قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١].

و «تهتدوا» جزم على جواب الأمر ، وقد عرف ما فيه من الخلاف : أعني هل جزمه بالجملة قبله ، أو ب «إن» مقدرة (٢).

قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) قرأ الجمهور : «ملّة» نصبا ، وفيها أربعة أوجه :

أحدها : أنه مفعول فعل مضمر ، أي : بل نتبع ملة ؛ [فحذف المضاف وأقيم

__________________

(١) في أ : قد تقدم في.

(٢) ثبت في أ : أو ب «إن» مقدرة ، واعلم أن كل فرقة ذهبت إلى ما هي عليه ، فردّ الله عليهم بقوله تعالى : «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» أي : قل يا محمد : بل تتبع ملة إبراهيم.

٥١٤

المضاف إليه مقامه](١) لأن معنى كونوا هودا : اتبعوا اليهودية أو النصرانية.

الثاني : أنه منصوب على خبر «كان» ، أي : بل نكون ملّة أي : أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم : «إني من دين» أي من أهل دين ، وهو قول الزّجّاج (٢) ، وتبعه الزمخشري.

الثالث : أنه منصوب على الإغراء ، أي : الزموا ملّة ، وهو قول أبي عبيدة ، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به ، وإن اختلف العامل.

الرابع : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، والأصل : نقتدي بملّة إبراهيم ، فلما حذف الحرف انتصب.

وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيكون تقدير الفعل : بل نكون ، أو نتبع ، أو نقتدي كما تقدم ، وأن يكون خطابا للكفار ، فيكون التقدير : كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا.

وقرأ (٣) ابن هرمز ، وابن أبي عبلة «ملّة» رفعا وفيها وجهان :

أحدهما : أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : بل ملتنا ملّة إبراهيم ، أو نحن ملة ، أي : أهل ملة.

الثاني : أنها مبتدأ حذف خبره ، تقديره : ملة إبراهيم ملتنا.

قوله : (حَنِيفاً) في نصبه أربعة أقوال :

أحدها : أنه حال من «إبراهيم» ؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياسا في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم (٤).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٩٤.

(٣) انظر الشواذ : ١٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢١٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٧٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٣.

(٤) حقّ صاحب الحال أن يكون مجرورا بالإضافة ، كما لا يكون صاحب الخبر ؛ لأن المضاف إليه مكمّل للمضاف ، وواقع منه موقع التنوين ، فإن كان المضاف بمعنى الفعل ، حسن جعل المضاف إليه صاحب حال ؛ لأنه في المعنى فاعل أو مفعول ، نحو : «إليه مرجعكم جميعا» وعرفت قيام زيد مسرعا.

وجوّز البصريون وصاحب «البسيط» مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا ، وهذا مذهب سيبويه ، وخرّجوا عليه «إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين».

وجوّزه الأخفش وابن مالك إن كان المضاف جزء ما أضيف إليه ، أو مثل جزئه ، نحو : «ما في صدورهم من غلّ إخوانا» ، ونحو : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ورد هذا المصنّف ، وجعل «إخوانا» منصوبا على المدح على ما سيأتي ، «وحنيفا» حال من «ملة» بمعنى : دين ، والسر في هذا الخلاف ؛ أنهم اختلفوا في : هل يجب أن يكون العامل في الحال هو نفس العامل في صاحبها ، أم لا يجب ذلك؟.

فذهب سيبويه : إلى أنه لا يجب أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، بل يجوز أن يكون العامل فيهما واحدا ، وأن يكون مختلفا ، وعلى ذلك ؛ أجاز أن يجيء الحال من المضاف إليه مطلقا.

وذهب غيره : إلى أنه لا بد من أن يكون العامل في الحال هو نفس العامل في صاحبها ، وترتّب على ذلك ألا يجوّزوا أن يجيء الحال من المضاف ، إلا إذا توفر له واحد مما ذكر ؛ وذلك لأن المضاف إن ـ

٥١٥

أحدها : أن يكون المضاف عاملا عمل الفعل.

الثاني : أن يكون جزءا نحو : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧].

الثالث : أن يكون كالجزء كهذه الآية ؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء.

والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه ، ولو كان المضاف جزءا ، قالوا : لأن الحال لا بد لها من عامل ، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها ، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل ، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام ، أو معنى الإضافة ، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل.

ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك : «رأيت وجه هند قائمة» ، وهو قول الزجاج.

الثاني : نصبه بإضمار فعل ، أي : نتبع حنيفا وقدره أبو البقاء ب «أعني» ، وهو قول الأخفش الصغير ، وجعل الحال خطأ.

الثالث : أنه منصوب على القطع ، وهو رأي الكوفيين ، وكان الأصل عندهم : إبراهيم الحنيف ، فلما نكره لم يمكن إتباعه ، وقد تقدم تحرير ذلك.

الرابع ، وهو المختار : أن يكون حالا من «ملّة» فالعامل فيه ما قدّرناه عاملا فيها ، وتكون حالا لازمة ؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف ، وكذلك على القول بجعلها حالا من «إبراهيم» ؛ لأنه لم ينتقل عنها.

فإن قيل : صاحب الحال مؤنث ، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث ، فيقال : حنيفة.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن «فعيلا» يستوي فيه المذكر والمؤنث.

والثاني : أن الملّة بمعنى الدين ، ولذلك أبدلت منه في قوله : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [الأنعام : ١٦١] ذكر ذلك ابن الشّجريّ في «أماليه».

و «الحنف» : الميل ، ومنه سمي الأحنف ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى ؛ قالت أمّه : [الرجز]

__________________

ـ كان عاملا في المضاف إليه بسبب شبهة للفعل ؛ لكونه مصدرا أو اسم فاعل ، كان كذلك عاملا في الحال ، فيتّحد العامل في الحال والعامل في صاحبه الذي هو المضاف إليه ، وإن كان المضاف جزء المضاف إليه ، أو مثل جزئه ، كان المضاف والمضاف إليه جميعا كالشيء الواحد ، فيصير في هاتين الحالتين كأن صاحب الحال هو نفس المضاف ، فالعامل فيه هو العامل في الحال. انظر همع الهوامع : (١ / ٢٤٠) ، منهج السالك : (١٩٣) ، التصريح على التوضيح : (١ / ٣٨٠) ، شرح ابن عقيل : (١ / ٦٤٤).

٥١٦

٨٠٩ ـ والله لو لا حنف برجله

ما كان في فتيانكم من مثله (١)

ويقال : رجل أحنف ، وامرأة حنفاء.

وقيل : هو الاستقامة ، وسمي المائل الرّجل بذلك تفاؤلا ؛ كقولهم للّديغ «سليم» وللمهلكة : «مفازة» قاله ابن قتيبة [وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ](٢).

وقيل : الحنيف لقب لمن تديّن بالإسلام ؛ قال عمرو : [الوافر]

٨١٠ ـ حمدت الله حين هدى فؤادي

إلى الإسلام والدّين الحنيف (٣)

[قاله القفال. وقيل : الحنيف : المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه](٤).

قاله الزجاج ؛ وأنشد : [الوافر]

٨١١ ـ ولكنّا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كلّ دين (٥)

وأما عبارات المفسرين ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين : الحنيفية حج البيت (٦).

وعن مجاهد أيضا : اتباع الحق.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.

وقيل : اتباع شرائع الإسلام.

وقيل : إخلاص الدين قاله الأصم.

وقال سعيد بن جبير : هي الحج الحسن ، وقال قتادة : الحنيفية الختان ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات ، وإقامة المناسك.

قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا ؛ لأن بعض اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله وذلك شرك.

وأيضا إن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومعلوم أنه ـ عليه‌السلام ـ أتى بشرائع مخصوصة ، من حجّ البيت والختان وغيرهما ، فمن دان بذلك فهو

__________________

(١) ينظر اللسان (حنف) ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٩٤ ، مجمع البيان : ١ / ٤٨٦ ، الفخر الرازي : ٤ / ٨٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر سيرة ابن هشام : ١ / ٢٩٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٤.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر الكشاف : ١ / ٣١٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٨٤.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ١٠٤ ـ ١٠٥) عن الحسن ومجاهد وابن عباس وأخرجه أيضا ابن أبي حاتم عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٧).

٥١٧

حنيف ، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء ، ثم كانت تشرك ، فقيل من أجل هذا «حنيفا ، وما كان من المشركين» ونظيره قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ٦].

فصل في الكلام على هذه الآية

اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وتقديره : إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفا ؛ لأن هؤلاء المختلفين قد «اتفقوا» على صحّة دين إبراهيم ، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، فكأنه سبحانه وتعالى قال : إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر ، فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان المقول على التقليد ، فالرجوع إلى دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وترك اليهودية والنصرانية أولى.

فإن قيل : اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك ، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة ، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو كانوا مقرين به ، لكنهم أنكروا كونه منكرا للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقا عليه ، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه ، فكان الأخذ به أولى.

فالجواب : أنه كان معلوما بالتواتر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أثبت الولد لله ـ تعالى ـ فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فإن قيل : أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟

فالجواب أن إبراهيم كان قائلا بالتوحيد ، وثبت أن النصارى يقولون بالتّثليث ، واليهود يقولون بالتشبيه ، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم.

فصل

[اعلم أن قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ليس المراد منه التخيير ، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوّز اختيار النصرانية على اليهودية ، بل تزعم أنه كفر ، وكذلك أيضا حال النصارى ، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية ، والنصارى إلى النصرانية ، فكل فريق يدعو إلى دينه ، ويزعم أنه على الهدى](١).

__________________

(١) سقط في ب.

٥١٨

قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(١٣٦)

(قُولُوا :) في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه للمؤمنين ، والمراد بالمنزل إليهم القرآن على هذا.

والثاني : أنه يعود على القائلين كانوا هودا أو نصارى.

والمراد بالمنزل إليهم : إما القرآن ، وإما التوراة والإنجيل.

[قال الحسن رحمه‌الله تعالى : لما حكى الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم قالوا : كونوا هودا أو نصارى ذكر في مقابلته للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قل : بل «ملة» إبراهيم ، قال : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ)](١).

وجملة «آمنّا» في محلّ نصب ب «قولوا» ، وكرر الموصول في قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) لاختلاف المنزل إلينا ، والمنزل إليه ، فلو لم يكرر لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إليهم ، ولم يكرر في «عيسى» ؛ لأنه لم يخالف شريعة موسى إلّا في نزر يسير ، فالذي أوتيه عيسى هو عين ما أوتيه موسى إلا يسيرا ، وقدم المنزل إلينا في الذكر ، وإن كان متأخرا في الإنزال تشريفا له.

والأسباط جمع «سبط» وهم في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل والشّعوب في العجم.

وقيل : هم بنو يعقوب لصلبه.

وقال الزمخشري : «السبط هو الحافد».

واشتقاقهم من السبط وهو التتابع ، سموا بذلك ؛ لأنهم أمة متتابعون.

وقيل : من «السّبط» بالتحريك جمع «سبطة» وهو الشجر الملتف.

وقيل ل «الحسنين» : سبطا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لانتشار ذرّيتهم.

ثم قيل لكل ابن بنت : «سبط».

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : جمع إبراهيم براهم ، وإسماعيل سماعيل ، قاله الخليل وسيبويه والكوفيون ، وحكوا : براهمة وسماعلة ، وحكوا براهم وسماعل.

قال محمد بن يزيد : هذا غلط ؛ لأنه الهمزة ليس هذا موضع زيادتها ، ولكن أقول : أباره وأسامع ، ويجوز أباريه وأساميع.

وأجاز أحمد بن يحيى «براه» ، كما يقال في التصغير «بريه».

__________________

(١) سقط في ب.

٥١٩

قوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى) يجوز في «ما» وجهان :

أحدهما : أن تكون في محل جر عطفا على المؤمن به ، وهو الظاهر.

والثاني : أنها في محل رفع بالابتداء ، ويكون (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) عطفا عليها. وفي الخبر وجهان :

أحدهما : أن يكون (مِنْ رَبِّهِمْ).

والثاني : أن يكون (لا نُفَرِّقُ) هكذا ذكر أبو حيان ، إلا أن في جعله (لا نُفَرِّقُ) خبرا عن «ما» نظر لا يخفى من حيث عدم عود الضمير عليها.

ويجوز أن تكون «ما» الأولى عطفا على المجرور ، و «ما» الثانية مبتدأة ، وفي خبرها الوجهان ، وللشيخ أن يجيب عن عدم عود الضمير بأنه محذوف تقديره : لا نفرق فيه ، وحذف العائد المجرور ب «في» مطّرد كما ذكر بعضهم ، وأنشد : [المتقارب]

٨١٢ ـ فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر (١)

أي : نساء فيه ونسرّ فيه.

قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها ـ وهو الظاهر ـ أنه في محل نصب ، و «من» لابتداء الغاية ، ويتعلّق ب «أوتي» الثانية إن أعدنا الضمير على النبيين فقط دون موسى وعيسى ، أو ب «أوتي» الأولى ، وتكون الثانية تكرارا لسقوطها في «آل عمران» إن أعدنا الضمير على موسى وعيسى عليهما‌السلام والنبيين.

الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من العائد على الموصول فيتعلّق بمحذوف تقديره : وما أوتيه كائنا من ربهم.

الثالث : أنه في محل رفع لوقوعه خبرا إذا جعلنا «ما» مبتدأ.

قوله : (بَيْنَ أَحَدٍ) متعلق ب «لا نفرق» ، وفي «أحد» قولان :

أظهرهما : أنه الملازم للنفي الذي همزته أصلية ، فهو للعموم وتحته أفراد ، فلذلك صحّ دخول «بين» عليه من غير تقدير معطوف نحو : «المال بين الناس».

والثاني : أنه الذي همزته بدل من «واو» بمعنى واحد ، وعلى هذا فلا بد من تقدير معطوف ليصح دخول «بين» على متعدد ، ولكنه حذف لفهم المعنى ، والتقدير : بين أحد منهم ؛ ونظيره ومثله قول النابغة : [الطويل]

__________________

(١) البيت للنمر بن تولب. ينظر ديوانه : ص ٣٤٧ ، تخليص الشواهد : ص ١٩٣ ، حماسة البحتري : ١ / ٥٦٥ ، وأمالي ابن الحاجب : ٢ / ٧٤٩ ، همع الهوامع : ١ / ١٠١ ، ٢ / ٢٨ ، والدرر : ١ / ٧٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٨٥.

٥٢٠