اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

والثاني : أنه نعت لمسلمين أي : مسلمين مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.

فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال

استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد ، أو الاستسلام والانقياد ، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة ، وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلّا خلق ذلك فيهما ، فإن [الجعل](١) عبارة عن الخلق.

قال الله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.

فإن قيل : هذه الآية الكريمة متروكة الظاهر ؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السّؤال [كانا](٢) غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلبا لتحصيل الحاصل ، وإنه باطل ، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ؛ ولأن صدور هذا الدّعاء منهما لا يصلح إلّا بعد أن كانا مسلمين ، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد بل له معان أخر سوى الخلق :

أحدها : «جعل» بمعنى «صيّر» ، قال [الله] تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٧].

وثانيها : «جعل» بمعنى «وهب» ، تقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.

وثالثها : [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩].

وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠].

ورابعها : «جعل» كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) [السجدة: ٢٤] يعني أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] فهو الأمر.

وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتبا [وشاعرا](٣) إذا علمته ذلك.

__________________

(١) في ب : الجهل.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : كذلك بالتعليم ؛ كقولك : جعلته كاتبا وفقيها.

٤٨١

وسادسها : البيان والدّلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلا إذا أوردت [من الحجة](١) ما يبين بطلان ذلك. إذا ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام ، والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصّا ، وجعلني فاضلا أديبا إذا وصفه بذلك سلّمنا أن المراد من الجعل الخلق ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام ، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها ، فقد جعله الله مسلما له ، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديبا ، فيجوز أن يقال : صيّرتك أديبا ، وجعلتك أديبا ، وفي خلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصّا محتالا.

سلمنا أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه ـ تعالى ـ خالقا للإسلام ، لكنه على خلاف الدّلائل العقلية ، فوجب ترك القول به.

وإنما قلنا [إنه](٢) على خلاف الدّلائل العقلية ؛ لأنه لو كان فعل العبد خلقا لله ـ تعالى ـ لما استحق العبد به مدحا ولا ذمّا ، ولا ثوابا ولا عقابا ، ولوجب أن يكون الله ـ تعالى ـ هو المسلم المطيع لا العبد.

والجواب : قوله : الآية متروكة الظاهر.

[قلنا](٣) : لا نسلّم وبيانه من وجوه :

الأول : أن الإسلام عرض قائم بالقلب ، وأنه لا يبقى زمانين فقوله : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : اخلق هذا العرض ، فينافي الزمان المستقبل دائما ، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال.

الثاني : أن يكون المراد منه الزّيادة في الإسلام كقوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] ويؤيد هذا قوله تعالى (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق ، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال.

الثالث : أن «الإسلام» إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف «اللام» كقوله : (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرّضا بكل ما قدر [وترك المنازعة في أحكام الله ـ تعالى ـ وأقضيته ، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية ، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال](٤) فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر.

قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة

__________________

(١) في أ : حجة.

(٢) في أ : إن الآية الكريمة.

(٣) في أ : فالجواب.

(٤) سقط في أ.

٤٨٢

له فلا فائدة في الصفة ، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف ، وجب حمله على تحصيل الصفة ، ولا يقال : وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح ، وهو مرغوب له فيه.

قلنا : نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به ، فكان حمله على الأول أولى.

وأيضا أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله ـ تعالى ـ لا يجوز عليه الكذب ، فكان ذلك الوصف حاصلا ، وأي فائدة في طلبه بالدعاء.

وأيضا أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلما جاز أن يقال : جعله مسلما.

أما قوله : يحمل ذلك على فعل الألطاف.

فالجواب : هذا مدفوع من وجوه :

أحدها : أن لفظ الجعل مضاف إلى «الإسلام» ، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر.

وثانيها : أن تلك الألطاف قد فعلها الله ـ تعالى ـ وأوجدها ، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة ، فطلبها يكون طلبا لتحصيل الحاصل ، وإنه غير جائز.

وثالثها : أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا.

فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفا.

وإن كان لها أثر في الترجيح ، فنقول : متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ، وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح ، إما أن يجب الفعل ، أو يمتنع ، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع.

فإن وجب فهو المطلوب.

وإن امتنع فهو مانع لا مرجح ، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع : إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلا ، وقد فرضناه كذلك هذا خلف.

وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال ، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول.

قوله : الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله ـ تعالى ـ وهو فصل المدح والذم.

قلنا : إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم.

٤٨٣

قال القرطبي : سألاه التثبت والدوام و «الإسلام» في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] ، وكفى هذا دليلا لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد ، ويؤيده قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ، ٣٦] والله أعلم.

قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) فيه قولان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أن «من ذرّيتنا» صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول ، و «أمة مسلمة» مفعول ثان تقديره : واجعل فريقا من ذرّيتنا أمة مسلمة.

وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها للتبعيض.

والثاني ـ أجازه الزمخشري ـ أن تكون للتبيين ، قال تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [النور : ٥٥].

الثالث : أن تكون لابتداء غاية الجعل ، قاله أبو البقاء.

والثاني من القولين : أن يكون «أمة» هو المفعول الأول ، و «من ذرّيتنا» حال منها ؛ لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلما قدم عليها انتصب حالا ، و «مسلمة» هو المفعول الثاني ، والأصل : واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة ، ف «الواو» داخلة في الأصل على «أمة» ، وإنما فصل بينهما بقوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) وهو جائز ؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف ، وفي إجازته ذلك نظر ، فإن النحويين كأبي عليّ وغيره منعوا الفصل بالظّرف [بين حرف العطف](١) إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله : [المنسرح]

٧٨٦ ـ يوما تراها كشبه أردية ال

عصب ويوما أديمها نغلا (٢)

ضرورة ، فالفصل في الحال أبعد ، وصار ما أجازه نظير قولك : «ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد» وهذا غير فصيح ، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلق وأوجد ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق «من ذرّيتنا» به ، ويكون «أمة» مفعولا به ، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه «اخلق» إنما معناه «صيّر».

وإن كان من عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوق ، والمنطوق ليس بمعنى الخلق ، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ص ٢٨٣ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ١٢٤ ، ولسان العرب (خمس) ، (نغل) ، (أدم) ، الخصائص : ٢ / ٣٩٥ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٣٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٠.

٤٨٤

وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٤٣] أن يكون التقدير : وملائكته يصلون لاختلاف مدلول الصّلاتين ، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما ، وقوله : «لك» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلمين».

فصل

إنما خص بعضهم ؛ لأنه ـ تعالى ـ أعلمهما [أن](١) في ذريتهما الظالم بقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وقيل : أراد به العرب ؛ لأنهم من ذريتهما.

وقيل : هم أمّة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لقوله تعالى : (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩].

فإن قيل : قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) كما يدلّ على أن في ذريّته من يكون ظالما فكذلك [يوجب فيهم من لا يكون ظالما](٢) ، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوما بتلك الآية ، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟

فالجواب : تلك الدلالة ما كانت قاطعة ، والشفيق بسوء الظن مولع.

فإن قيل : لم خص ذريتهما بالدعاء (٣) أليس أن هذا يجرى مجرى البخل في الدعاء؟

فالجواب : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم.

والأمة هنا : الجماعة ، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠]. وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [كقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي دين وملة](٤). ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢].

وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] أي : بعد حين وزمان.

ويقال هذه أمة زيد ، أي أمّ زيد ، والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمّة ، أي : حسن القامة ؛ قال : [المتقارب]

٧٨٧ ـ وإنّ معاوية الأكرمي

ن حسان الوجوه طوال الأمم (٥)

__________________

(١) في ب : وأما.

(٢) سقط في أ.

(٣) زاد في أ : مرة أخرى.

(٤) سقط في ب.

(٥) البيت للأعشى. ينظر ديوانه : (٩١) ، القرطبي : ٢ / ١٨٧ ، اللسان (أمم).

٤٨٥

وقيل : الأمة الشّجّة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم نقله القرطبي.

قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية ، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها مفعولا ثانيا ، ف «نا» مفعول أول ، و «مناسكنا» مفعول ثان.

وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من «رأى» بمعنى عرف ، فتتعدى أيضا لاثنين كما تقدم ، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية ، والقلبية تقبل [النّقل](١) لاثنين كقول القائل : [الطويل]

٧٨٨ ـ وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة

إذا ما رأته عامر وسلول (٢)

وقال الكميت : [الطويل]

٧٨٩ ـ بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب (٣)

وقال ابن عطية : ويلزم قائله أن يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثة ، وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى ؛ وأنشد قول حطائط بن يعفر : [الطويل]

٧٩٠ ـ أريني جوادا مات هزلا لأننّي

أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا (٤)

يعني : أنه قد تعدت «علم» القلبية إلى اثنين ، سواء كانت مجردة من الهمزة أم لا ، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه «فعل وأفعل» بمعنى وهو غريب ، ولكن جعله بيت حطائط من رؤية القلب ممنوع ، بل معناه من رؤية البصر ، ألا ترى أن قوله : «جوادا مات» من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات تعدي «أعلم» القلبية إلى اثنين إلى دليل.

__________________

(١) في أ : الفعل يتعدى.

(٢) البيت للسموأل. ينظر الحماسة : ١ / ٨٠ ، البحر المحيط : ١ / ٥٦٠ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١ / ١١٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٧١.

(٣) ينظر خزانة الأدب : ٩ / ١٣٧ ، والدرر : ١ / ٢٧٢ ، ٢ / ٢٥٣ ، وشرح التصريح : ١ / ٢٥٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٩٢ ، والمحتسب : ١ / ١٨٣ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٤١٣ ، ٣ / ١١٢ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٦٩ ، وشرح الأشموني : ص ١٦٤ ، وشرح ابن عقيل : ص ٢٢٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٧١.

(٤) البيت قيل لحاتم الطائي أو لحطائط بن يعفر أو لدريد أو لمعن بن أوس. ينظر ديوان حاتم الطائي : ص ٢١٨ ، خزانة الأدب : ١ / ٤٠٦ ، سمط اللآلي : ص ٧١٤ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٧٣٣ ، شرح المفصل : ٨ / ٧٨ ، الشعر والشعراء : ١ / ٢٥٤ ، شرح التصريح : ١ / ١١١ ، المقاصد النحوية : ١ / ٣٦٩ ، لسان العرب (علل) ، (أنن) ، ديوان معن : ص ٣٩ ، أوضح المسالك : ١ / ١١٢ ، تخليص الشواهد : ص ١٠٥ ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٢٣٦ ، الطبري : ٣ / ٧٨ ، مجاز القرآن : ١ / ٥٥ ، عيون الأخبار : ٣ / ١٨١ ، أمالي القالي : ٢ / ٧٩ ، القرطبي : ٢ / ٨٧ ، الحجة : ٢ / ١٧٣ ، مجمع البيان : ١ / ٤٧٤ ، البحر : ١ / ٥٦١ ، الدر المصون : ١ / ٣٧١.

٤٨٦

وقال بعضهم : هي هنا بصرية قلبية معا ؛ لأن الحج لا يتم إلّا بأمور منها ما هو معلوم ومنها ما هو مبصر.

ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو استعمال المشترك في معنييه معا.

وقرأ الجمهور : (أَرِنا) بإشباع كسر «الراء» هنا ، وفي [النساء : ١٥٣] وفي [الأعراف : ١٤٣] (أَرِنِي أَنْظُرْ ،) وفي [فصلت : ٢٩] (أَرِنَا الَّذَيْنِ).

وقرأ ابن كثير (١) بالإسكان في الجميع ، ووافقه في «فصلت» ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، واختلف عن أبي عمرو ، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميع ، وروى عنه الدّوري اختلاس الكسر فيها.

أما الكسر فهو الأصل.

وأما الاختلاس فحسن مشهور.

وأما الإسكان فللتخفيف ، شبهوا المتصل بالمنفصل فسكنوا كسره ، كما قالوا في فخذ : فخذ ، وكتف : كتف.

وقد غلط قوم راوي هذه القراءة.

وقالوا : صار كسر الراء دليلا على الهمزة المحذوفة ، فإن أصله : «أرئنا» ثم نقل.

قال الزمخشري تابعا لغيره : قال الفارسي : التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة ، وأما كسرة الراء فصارت كالأصل ؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال.

وقال أيضا : ألا تراهم أدغموا في (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] ، والأصل : «لكن أنا» نقلوا الحركة ، وحذفوا ، ثم أدغموا ، فذهاب الحركة في «أرنا» ليس بدون ذهابها في الإدغام ، وأيضا فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّا عن العرب ؛ قال القائل : [البسيط]

٧٩١ ـ أرنا إداوة عبد الله نملؤها

من ماء زمزم إنّ القوم قد ظمئوا (٢)

وأصل أرنا : أرئنا ، فنقلت حركة «الهمزة» إلى «الراء» وحذفت هي ، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].

و «المناسك» واحدها : «منسك» بفتح العين وكسرها ، وقد قرىء بهما (٣) والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعه.

__________________

(١) انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٢٣ ، وحجة القراءات : ١١٤ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٩ ـ ٧١ ، وشرح شعلة : ٢٧٧ ، وإتحاف : ١ / ٤١٨.

(٢) ينظر البحر : ١ / ٥٦١ ، القرطبي : ٢ / ٨٧ ، روح المعاني : ١ / ٣٨٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٢.

(٣) ستأتي في الحج ٣٤.

٤٨٧

ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب.

قال الله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) [الحج : ٣٤] قرىء بالفتح والكسر ، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل ، وكذلك قوله عليه‌السلام «خذوا عنّي مناسككم» (١) أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ ، لا أنه أراد : خذوا عنّي مواضع نسككم ، وبعض المفسرين حمل المناسك على الذبيحة فقط.

قال ابن الخطيب : وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكا لدخولها تحت التعبّد ، [لا لكونها مذبوحة](٢) ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك.

قال القرطبي : [قوله تعالى : (مَناسِكَنا) يقال](٣) : إن أصل النّسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله.

وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال : رجل ناسك إذا كان عابدا.

فصل في تسمية عرفات

وقال الحسن : إن جبريل ـ عليه‌السلام ـ أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ «عرفات» ، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من المناسك؟ قال : نعم [فسميت «عرفات»](٤) فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل ـ عليه‌السلام ـ بأن يرميه بسبع حصيات ، ففعل فذهب الشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل ـ عليه‌السلام ـ برمي سبع حصيات (٥)

فبعضهم حمل المناسك هنا على [شعائر](٦) الحج ، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف.

وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج ، مثل «منى» و «عرفات» و «المزدلفة» ونحوها.

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره ٤ / ٥٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : فسمي الوقت : عرفة ، والموضع : عرفات.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٣٦ عن جابر بن عبد الله ولفظه : (ألا فخذوا عني مناسككم) والبيهقي في السنن ٥ / ١٢٥ بلفظه وذكره ابن عبد البر في التمهيد ٢ / ٦٩ ، ٩١ ، ٩٨ ، ٤ / ٣٣٣ ، ٥ / ١١٧ ، ٧ / ٢٧٢. وابن حجر في فتح الباري : ١ / ٢١٧ ، ٤٩٩ ـ والزيلعي في نصب الراية : ٣ / ٥٥ ـ وابن كثير في البداية والنهاية : ٥ / ١٨٤ ، ٢١٥.

(٦) في ب : شرائع.

٤٨٨

وبعضهم حمله على المجموع.

فصل في استلام الأركان

قال ابن إسحاق : وبلغني أن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه‌السلام.

وقال : حج إسحاق وسارة من «الشّام» ، وكان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يحجه كل سنة على البراق ، وحجّه بعد ذلك الأنبياء والأمم.

وروى محمد بن سابط عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «كان النّبيّ من الأنبياء إذا هلكت أمّته لحق مكّة فتعبّد بها هو ومن آمن معه حتّى يموتوا ، فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر» (١).

وذكر ابن وهب أن شعيبا مات ب «مكة» هو ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربيّ «مكة» بين دار الندوة وبين بني سهم.

وقال ابن عباس : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما‌السلام ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.

وقال عبد الله بن ضمرة السلولي : ما بين الرّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين.

قوله : (وَتُبْ عَلَيْنا) احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال : لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، فلو لا تقدم الذنب ، وإلّا لكان طلب التوبة طلبا للمحال.

قالت المعتزلة : الصغيرة تجوز على الأنبياء.

ولقائل أن يقول : إن الصّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها ، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال ؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.

قال ابن الخطيب : وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة ، ولمن لم يجوزها ، وهي من وجوه:

أولها : يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدّدا في الانصراف عن المعصية ؛ لأن من تصور نفسه بصورة النّادم العازم على التحرز الشديد ، كان أقرب إلى ترك المعاصي.

وثانيها : أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفكّ عن التّقصير من بعض الوجوه : إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى ، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.

__________________

(١) ذكره القرطبي في التفسير ٢ / ١٣٠. والسيوطي في الدر المنثور ١ / ١٣٦ ، وعزاه للجندي من طريق عطاء بن السائب عن محمد بن سابط عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ به.

٤٨٩

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما أعلم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أن في ذريته من يكون ظالما عاصيا ، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة ، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة للتوبة فقال : (وَتُبْ عَلَيْنا) أي على المذنبين من ذرّيتنا ، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده ، فاعتذر الوالد عنه ، فقد يقول : أجرمت وعصيت فاقبل عذري ، ويكون مراده : أن ولدي أذنب فاقبل عذره ؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه ، والذي يقوي هذا التأويل وجوه :

الأول : ما حكى الله ـ تعالى ـ في سورة «إبراهيم» أنه قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦].

فيحتمل أن يكون المعنى : ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب ، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.

الثاني : ذكر أن في قراءة عبد الله : «وأرهم مناسكهم وتب عليهم».

الثالث : أنه قال عطفا على هذا : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩].

الرابع : تأولوا قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) [الأعراف : ١١] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه ، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله : (أَرِنا مَناسِكَنا) أي «ذرّيتنا».

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال : إنهما لما قالا (وَتُبْ عَلَيْنا) وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام ؛ لأنهما كان لهما ذنب.

قال القرطبي : وهذا حسن ، وأحسن منه أن يقال : إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس ، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصّل من الذنوب وطلب التوبة.

فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى

دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق لله ـ تعالى ـ لأنه عليه الصلاة والسلام طلب من الله ـ تعالى ـ أن يتوب عليه ، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد ، لكان طلبها من الله ـ تعالى ـ [محالا وجهلا.

قالت المعتزلة : هذا معارض بما أن الله ـ تعالى ـ](١) طلب التوبة منا. [فقال](٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً يا أَيُّهَا) .. (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ولو كانت فعلا لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالا وجهلا ، وإذا ثبت ذلك حمل قوله : (وَتُبْ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : قالت المعتزلة : وقد قال الله.

٤٩٠

عَلَيْنا) على التوفيق ، وفعل الألطاف ، أو على قبول التوبة من العبد.

والجواب : [قال ابن الخطيب](١) متى لم يخلق الله ـ تعالى ـ داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة ، فكانت التوبة من الله ـ تعالى ـ لا من العبد ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة.

فصل في معنى التوبة

اعلم أن التوبة هي الرجوع ، فمعنى توبة الله ـ تعالى ـ أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم ، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المعاصي ، فمتعلّق التوبة مختلف ، وإذا اختلفت التعلّقات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة.

فصل في الدعاء

قال بعضهم : إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه ، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء ، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة ، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه ، وإن كان دعاؤه لشر ، فليدع بالعزيز والمنتقم ، وبما يناسبه. وتقدم الكلام على قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)

في ضمير «فيهم» قولان :

أحدهما : أنه عائد على معنى الأمة ؛ إذ لو عاد على لفظها لقال : «فيها» قاله أبو البقاء.

والثاني : أنه يعود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل : يعود على أهل «مكة» ، ويؤيده : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] ، وفي قراءة أبي : «وابعث فيهم في آخرهم رسولا منهم».

قوله : (مِنْهُمْ) في محلّ نصب ، لأنه صفة ل «رسولا» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : رسولا كائنا منهم (٢).

قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله من قولهم : ناقة مرسال ورسلة ، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النّوق.

ويقال للجماعة المهملة المرسلة : رسل ، وجمعه أرسال. ويقال : جاء القوم أرسالا ، أي بعضهم في أثر بعض ، ومنه يقال للبن : رسل ، لأنه يرسل من الضرع. نقله القرطبي رحمه‌الله تعالى.

قوله : «يتلو» في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه :

__________________

(١) في أ : أنه.

(٢) في أ : كائنا منهم أي : مرسلا ، وهي مفعول الرسالة.

٤٩١

أحدها : أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل «رسولا» ، وجاء هذا على الترتيب الأحسن ، إذ تقدم ما هو شبيه بالمفرد ، وهو المجرور على الجملة.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من «رسولا» ؛ لأنه لما وصف تخصص.

الثالث : أنها حال من الضمير في «منهم» ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به «منهم» لوقوعه صفة.

وتقدم قوله : (الْعَزِيزُ ؛) لأنها صفة ذات ، وتأخر (الْحَكِيمُ ؛) لأنها صفة فعل.

ويقال : عزّ يعزّ ، ويعزّ ، ويعزّ ، ولكن باختلاف معنى ، فالمضموم بمعنى «غلب» ، ومنه : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣].

والمفتوح بمعنى [الشدة ، ومنه : عزّ لحم الناقة ، أي : اشتد ، وعزّ عليّ هذا الأمر ، والمكسور بمعنى](١) النّفاسة وقلّة النظير.

فصل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم

اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين :

أحدهما : أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع.

والثاني : أن يكون المبعوث منهم لا من غيرهم ، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معا من ذريته ، كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها ، وإذا كان منهم ، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه ، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه ، وأمانته ، وكان أحرص الناس على خيرهم ، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم.

أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى» (٢).

وأراد بالدعوة هذه الآية ، وبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكره في سورة «الصف» من قوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦].

وثالثها : أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إنما دعا بهذا الدعاء ب «مكة» لذريته الذين يكونون بها ، وبما حولها ، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب «مكة» وما حولها إلّا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ من بني

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٢٧ ـ ١٢٨). وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (١ / ٦٩). وابن سعد في الطبقات (١ / ١ / ٩٦) ـ وابن عساكر : ١ / ٣٩. والطبري في التفسير (١ / ٤٣٥) ـ وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ١٣١ ـ والسيوطي في الدر المنثور : ١ / ١٣٩ ، ٥ / ٢٠٧ ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣١٨٣٣ ، ٣١٨٣٤ ، ٣١٨٣٥ ، ٣١٨٨٩.

٤٩٢

إسرائيل إلا عشرة : هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) فيه وجهان :

الأول : أنها الفرقان الذي أنزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك ، فوجب حمله عليه.

الثاني : يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدّالة على وجود الصّانع وصفاته سبحانه وتعالى ، ومعنى تلاوته إيّاها عليهم : أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها.

قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي : القرآن يعلمهم ما فيه من الدّلائل والأحكام.

وأما الحكمة فهي : الإصابة في القول والعمل.

وقيل : أصلها من أحكمت الشيء أي رددته ، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل.

اختلف المفسرون [في المراد بالحكمة](١) هاهنا.

قال ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له.

وقال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة سنّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو قول قتادة.

قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه : والدليل عليه أنه ـ تعالى ـ ذكر تلاوة الكتاب أولا ، وتعليمه ثانيا ، ثم عطف عليه الحكمة ، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئا خارجا عن الكتاب ، وليس ذلك إلّا سنّة الرسول عليه‌السلام.

فإن قيل : لم لا يجوز حمله على تعليم الدّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟

فالجواب : لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى.

وقيل : الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل.

وقال مقاتل : هي مواعظ القرآن الكريم ، وما فيه من الأحكام.

وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل به.

وقيل : حكمة تلك الشرائع ، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع.

وقيل : أراد بالكتاب الآيات المحكمة ، وأراد بالحكمة المتشابهات. [وقال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة](٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

٤٩٣

وأما قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ).

قال الحسن : يطهّرهم من شركهم (١).

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : التزكية هي الطاعة والإخلاص (٢).

وقال ابن كيسان : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود.

وقيل : يأخذ زكاة أموالهم. ولما ذكر هذه الدعوات ، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

و «العزيز» : هو القادر الذي لا يغلب ، و «الحكيم» : هو العليم الذي لا يجهل شيئا.

[واعلم أن «العزيز» و «الحكيم» بهذين التفسيرين صفة للذات ، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه ، وأراد بالحكمة : أفعال الحكمة ، لم يكن «العزيز» و «الحكيم» من صفات الذات ، بل من صفات الفعل ، والفرق بين هذين النوعين : أن صفات الذات أزلية ، وصفات الفعل ليست كذلك ، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل ، وصفات الذات ليست كذلك.

فصل](٣)

[و](٤) قال الكلبي : العزيز المنتقم لقوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [آل عمران :٤].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : العزيز الذي لا يوجد مثله.

وقيل : المنيع الذي لا تناله الأيدي ، ولا يصل إليه شيء.

وقيل : القوي.

والعزّة القوة ، لقوله تعالى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤] أي قوينا.

وقيل : الغالب ، لقوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [ص : ٢٣] أي غلبني ، ويقال : من عزيز أي من غلب.

واعلم أن مناسبة قوله : (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر ، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها ، ومن كان عالما قادرا فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٨٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٥٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٨٨) عن ابن عباس.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

٤٩٤

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١٣٠)

«من» اسم استفهام بمعنى الإنكار ، فهو نفي في المعنى ، لذلك جاءت بعده «إلّا» التي للإيجاب ، ومحلّه رفع بالابتداء.

و «يرغب» خبره ، وفيه ضمير يعود عليه.

والرغبة أصلها الطلب ، فإن تعدت ب «في» كانت بمعنى الإيثار له ، والاختيار نحو : رغبت في كذا ، وإن تعدت ب «عن» كانت بمعنى الزّهادة نحو : رغبت عنك.

قوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ) في «من» وجهان.

أحدهما : أنها في محلّ رفع على البدل من الضمير في «يرغب» ، وهو المختار ؛ لأن الكلام غير موجب ، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف.

فإذا قلت : ما قام القوم إلّا زيد ، ف «إلّا» عندهم حرف عطف ، وزيد معطوف على القوم ، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو.

الثاني : أنها في محلّ نصب على الاستثناء ، و «من» يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرة موصوفة ، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الرفع ، أو النصب على الثاني.

قوله : (نَفْسَهُ) في نصبه سبعة أوجه :

أحدها : وهو المختار أن يكون مفعولا به ؛ لأنه حكي أن «سفه» بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى «سفّه» بفتح الفاء والتشديد ، وحكي عن أبي الخطّاب أنها لغة ، وهو اختيار الزّمخشري [فإنه قال](١) : «سفه نفسه : امتهنها ، واستخف بها» ، ثم ذكر أوجها أخرى.

ثم قال والوجه الأول ، وكفى شاهدا له بما جاء في الحديث : «الكبر أن تسفه الحقّ وتغمض النّاس» (٢).

__________________

(١) في أ : فإن قلت.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٩٣ كتاب الإيمان (١) باب تحريم الكبر وبيانه (٣٩) حديث رقم (١٤٧ / ٩١).

وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٤٥٧ كتاب اللباس باب ما جاء في الكبر حديث رقم ٤٠٩٢ عن أبي هريرة.

والترمذي في السنن حديث رقم ١٩٩٩.

والبخاري في الأدب المفرد ٥٥٦ ـ وأحمد في المسند ١ / ٣٩٩ ، ٢ / ١٥٧ ، ٤ / ١٥١ ـ والطبراني في الكبير ١٠ / ٢٧٣.

وذكره ابن كثير في التفسير : ٢ / ٢١ ، ٧ / ٣٥٦. وابن حجر في فتح الباري ١٠ / ٤٩٠. والهيثمي في الزوائد ٥ / ١٣٦. والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١١٥.

٤٩٥

الثاني : أنه مفعول به ولكن على تضمين «سفه» معنى فعل يتعدى ، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى «جهل» ، وقدره أبو عبيدة بمعنى «أهلك».

قال القرطبي : وأما سفه بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد](١).

الثالث : أنه منصوب على إسقاط حرف الجرّ تقديره : سفه في نفسه.

الرابع : توكيد لمؤكد محذوف تقديره : سفه في نفسه ، فحذف المؤكد قياسا على النعت والمنعوت ، حكاه مكّي.

الخامس : أنه تمييز ، وهو قول الكوفيين.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميّز ؛ نحو قوله : [الوافر]

٧٩٢ ـ ..........

ولا بفزارة الشّعر الرّقابا (٢)

[الوافر]

٧٩٣ ـ ..........

أجبّ الظّهر ليس له سنام (٣)

فجعل «الرّقاب» و «الظّهر» تمييزين ، وليس كذلك ، بل هما مشبّهان بالمفعول به ؛ لأنهما معمولا صفة مشبهة ، وهي «الشّعر» جمع أشعر ، و «أجبّ» وهو اسم.

السادس : أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين.

السابع : أنه توكيد لمن سفه ؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين ، وهو تخريج غريب نقله صاحب «العجائب والغرائب» (٤).

والمختار الأول ؛ لأن التضمين لا ينقاس ، وكذلك حرف الجر.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عجز بيت للحارث بن ظالم وصدره :

فما قومي بثعلبة بن سعد

ينظر الأغاني : ١١ / ١١٩ ، الإنصاف : ص ١٣٣ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٢٥٨ ، شرح اختيارات المفضل : ٣ / ١٣٣٥ ، الكتاب : ١ / ٢٠١ ، المقاصد النحوية : ٦٠٩ ، المقتضب : ٤ / ١٦١ ، خزانة الأدب : ٧ / ٤٩٢ ، شرح المفصل : ٦ / ٨٩ ، الحماسة الشجرية : ١ / ٢٤٧ ، الكشاف : ١ / ١٨٩ ، البحر : ١ / ٥٦٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٤.

(٣) عجز بيت للنابغة وصدره :

ونأخذ بعده بذناب عيش

ينظر ديوانه : (١٥٧) ، شواهد الكتاب : ١ / ١٩٦ ، أمالي ابن الشجري : ٢ / ١٤٣ ، ابن يعيش (٦ / ٨٣ ، ٨٥) ، البحر المحيط : ١ / ٥٦٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٤.

(٤) محمود بن حمزة بن نصر ، أبو القاسم برهان الدين الكرماني ، ويعرف بتاج القراء ، عالم بالقراءات ، أثنى عليه ابن الجزري وذكر بعض كتبه ، ومنها : «لباب التفاسير» ، وهو المعروف بكتاب العجائب والغرائب ، ضمنه أقوالا في معاني بعض الآيات ، ومن كتبه «خط المصاحف» و «لباب التأويل» وغيرها من الكتب توفي سنة ٥٠٥ ه‍.

انظر غاية النهاية : ٢ / ٢ / ٢٩١ ، إرشاد الأريب : ٧ / ١٤٦ ، هدية العارفين : ٢ / ٤٠٢ ، الأعلام : ٧ / ١٦٨.

٤٩٦

وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، فالصحيح لا يجوز.

وأما التمييز فلا يقع معرفة ، وما ورد نادر أو متأول.

وأما النصب على التشبيه بالمفعول ، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات

لما ذكر أمر إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وشرائعه التي ابتلاه الله بها ، وبناء بيته ، والحرص على مصالح عباده ، ودعائه [بالخير لهم](١) ، وغير ذلك عجب الناس فقال : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ).

قال النحاس : وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي ، أي وما يرغب والمعنى : يزهد فيها ، وينأى بنفسه عنها ، أي : الملّة وهي الدين والشرع ؛ إلّا من سفه نفسه.

قال قتادة : وكل ذلك توبيخ اليهود ، والنصارى ، ومشركي العرب ؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوصلة إلى إسرائيل وقريش ، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه ، [فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله](٢) ، وسائر العرب ، [وهم العدنانيون](٣) مرجعهم إلى إسماعيل ، وهم يفتخرون على [القحطانيين](٤) بما أعطاه الله ـ تعالى ـ من النبوة ، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه‌السلام ، ولما ثبت أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ هو الذي طلب من الله ـ تعالى ـ بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله ـ تعالى ـ في تحصيل هذا المقصود ، والعجب ممن [أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه‌السلام](٥) ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه.

[فإن قيل : لعل الرسول عليه الصلاة والسلام الذي طلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعثه غير هذا الشخص.

فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية ، والمعتمد في إثبات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهور المعجزة على يده ، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ ، ولفظ «الملة» يتناول الفروع والأصول ؛ فيكون محمدا عليه ـ الصلاة والسلام ـ.

والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثه هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته ، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم](٦).

__________________

(١) في أ : له.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : عرب.

(٤) في أ : غيرهم بإسماعيل.

(٥) في أ : يفتخر بإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وفضيلة الانتساب إليه.

(٦) سقط في ب.

٤٩٧

فصل

روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : إن الله ـ تعالى ـ قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، وأسلم سلمة ، ومهاجر أبى أن يسلم ، فنزلت هذه الآية الكريمة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : «إلّا من سفه نفسه» خسر نفسه.

وقال الكلبي : «ضلّ من قتل نفسه».

وقال أبو البقاء ، وأبو عبيدة : «أهلك نفسه».

وقال ابن كيسان والزجاج : «جهل نفسه» ؛ لأنه لم يعرف الله ـ تعالى ـ خالقها ، وقد جاء «من عرف نفسه عرف ربّه».

وقال ابن بحر : معناه جهل نفسه ، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ، فيعلم به توحيد الله وقدرته.

وهذا معنى قول الزجاج رحمه‌الله تعالى : لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما ، وعينين يبصر بهما ، وأذنين يسمع بهما ، ولسان ينطق به ، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع ، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ، ومعدة أعدّت لطبخ الغذاء ، وكبد يصعد إليها صفوه ، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف ، وأمعاء يرتكز إليها نقل الغذاء ، فيبرز من أسفل البدن ، فيستدل بها على أن له خالقا قادرا عليما حكيما وهذا معنى قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

قوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) اخترناه من سائر الخلق في الدنيا ، وإنّه في الآخرة عظيم المنزلة.

[قال الحسين بن فضيل : فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن : من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب](١).

قوله : (فِي الْآخِرَةِ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف ، وليست موصولة.

الثاني : أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك : بعد سقياه.

الثالث : يتعلق بمحذوف أيضا ، لكن من جنس الملفوظ به أي : وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين.

__________________

(١) سقط في ب.

٤٩٨

الرابع : أن يتعلق بقوله الصالحين ، وإن كانت «أل» موصولة ؛ لأنه يغتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعا ، ونظيره قول الشاعر : [الرجز]

٧٩٤ ـ ربّيته حتّى إذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا (١)

الخامس : أن يتعلّق ب «اصطفيناه».

قال الحسين بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير مجازه : ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة.

وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنبوّ السمع عنه.

والاصطفاه : الاختيار ، «افتعال» من صفوة الشيء ، وهي خياره ، وأصله : اصتفى ، وإنما قلبت تاء الافتعال «طاء» مناسبة للصاد لكونها حرف إطباق ، وتقدم ذلك عند قوله : (أَضْطَرُّهُ) [البقرة : ١٢٦].

وأكد جملة الاصطفاء باللام ، والثانية ب «إن» و «اللام» ؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد ، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مغيّب ، فاحتاج الإخبار به إلى فضل توكيد.

وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه ، ونقله جيل بعد جيل.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١)

في «إذ» خمسة أوجه :

أصحها : أنه منصوب ب «قال أسلمت» ، أي : قال : أسلمت وقت قول الله له أسلم.

الثاني : أنه بدل من قوله : «في الدنيا».

الثالث : أنه منصوب ب «اصطفيناه».

الرابع : أنه منصوب ب «اذكر» مقدرا ، ذكر ذلك أبو البقاء ، والزمخشري ، وعلى تقدير كونه معمولا ل «اصطفيناه» أو ل «اذكر» مقدرا يبقى قوله : (قالَ : أَسْلَمْتُ) غير منتظم مع ما قبله ، إلّا أن يقدر حذف حرف عطف أي : فقال ، أو يجعل جوابا بسؤال مقدر ، أي : ما كان جوابه؟

فقيل : قال أسلمت.

الخامس : أبعد بعضهم ، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال ، والعامل فيه «اصطفيناه».

__________________

(١) ينظر ديوان العجاج : ٢ / ٢٨١ ، شرح المفصل : ٩ / ١٥١ ، المحتسب : ٢ / ٣١٠ ، الخزانة : ٣ / ٥٦٣ ، المخصص : ١٤ / ١٧٥ ، التهذيب (معد) ، المنصف : ١ / ١٢٩ ، التبيان : ١ / ١١٧ ، الهمع : ١ / ٨٨ ، الدرر : ١ / ٦٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٧٤.

٤٩٩

وفي قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ) التفات ، إذ لو جاء على نسقه لقيل : إذ قلنا ؛ لأنه بعد (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) ، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله : [البسيط]

٧٩٥ ـ باتت تشكّى إليّ النّفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا (١)

وقوله : (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فيه من الفخامة ما ليس في قوله «لك» أو «لربي» ، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميع العالمين اعترف بأنه ربه وزيادة ، بخلاف الأول ، فلذلك عدل عن العبارتين.

وفي قوله : (أَسْلِمْ) حذف مفعول تقديره : أسلم لربك.

فصل في تحرير وقت قول الله تعالى لإبراهيم : أسلم

الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطّلاعه على أمارات الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له تعالى : (أَسْلِمْ قالَ : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ؛) لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن يعرف ربه ، ويحتمل أيضا أن يكون قوله : (أَسْلِمْ) كان قبل الاستدلال ، فيكون المراد من هذا القول دلالة الدليل عليه [لا نفس القول] على حسب مذاهب العرب في هذا ، كقول الشاعر : [الرجز]

٧٩٦ ـ إمتلأ الحوض وقال : قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني (٢)

ويدل على ذلك قوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] فجعل دلالة البرهان كلاما.

وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر بعد النبوة ، واختلفوا في المراد منه.

فقال الكلبي والأصمّ : أخلص دينك ، وعبادتك لله تعالى.

وقال عطاء : أسلم نفسك إلى الله ، وفوّض أمورك إليه.

قال : أسلمت ، أي : فوضت.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : وقد تحقّق ذلك حيث لم يأخذ من الملائكة من ألقي في النار.

__________________

(١) البيت للبيد. ينظر ديوانه : ٣٥٢ ، البحر المحيط : ١ / ٥٦٦ ، الطبري : ١ / ٥٢ ، الأضداد (١١٧) ، الدر المصون : ١ / ٣٧٥.

(٢) ينظر إصلاح المنطق : ص ٥٧ ، ٣٤٢ ، الإنصاف : ص ١٣٠ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٣٠٩ ؛ وتخليص الشواهد : ص ١١١ ؛ وجواهر الأدب : ص ١٥١ ؛ والخصائص : ١ / ٢٣ ؛ ورصف المباني : ص ٣٦٢ ، وسمط اللآلي : ص ٤٧٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ٥٧ ؛ وشرح المفصّل : ١ / ٨٢ ، ٢ / ١٣١ ، ٣ / ١٢٥ ؛ وكتاب اللامات : ص ١٤٠ ، ولسان العرب (قطط) ، (قطن) ؛ ومجالس ثعلب : ص ١٨٩ ؛ والمقاصد النحويّة : ١ / ٣٦١ ، الرازي : ٤ / ٧١ ، القرطبي : ٢ / ٢٣.

٥٠٠