اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

والمراد ـ والله أعلم ـ منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، وقال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن ، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه ـ تعالى ـ أطلق لفظ البيت ، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت.

فصل في تحرير معنى الأمن

قوله : (وَأَمْناً) أي : موضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين ، ولا شكّ أن قوله تعالى : (جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) خبر فتارة يتركه على ظاهره ، ويقول : هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره ، ويقول : هو أمر.

أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم ؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه.

وأيضا فالقتل المباح قد يوجد فيه ، قال الله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] فأخبر عن وقوع القتل فيه.

وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى : أن الله ـ تعالى ـ أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع آمنا من الغارة والقتل ، فكان البيت محترما بحكم الله تعالى ، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل «مكة» ، وكانوا يسمون قريشا : أهل الله تعظيما له ، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهمّ بالظّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب ، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح «مكة» : «إنّ هذا البلد حرّمه الله ـ تعالى ـ يوم خلق السّموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله ـ تعالى ـ إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلّا من عرّفها ، ولا يختلى خلاها» فقال العباس رحمه‌الله : يا رسول الله إلا الإذخر. فقال : «إلّا الإذخر» (١).

فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟

قال الشّافعي رحمه‌الله ـ تعالى ـ ورضي عنه : إذا دخل البيت من وجب عليه حدّ فلا تستوف منه ، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في «صحيحه» رقم (٩٨٦) وأحمد (١ / ٣٩٥) والبيهقي (٥ / ١٩٥) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١٠٥).

٤٦١

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه : لا يجوز.

واحتج الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب «مكة» غيلة إن قدر عليه ، وهذا في الوقت الذي كانت «مكة» فيه محرمة ، وذلك يدل أنها لا تمنع أحدا من شيء وجب عليه ، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها.

واحتج أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ بهذه الآية.

والجواب عنه أن قوله : (وَأَمْناً) ليس فيه بيان أنه جعله آمنا في ماذا؟ فيمكن أن يكون آمنا من القحط ، وأن يكون آمنا من نصب الحروب ، وأن يكون آمنا من إقامة الحدود ، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل ، بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى ؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر ، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك ، فكان قول الشّافعي رحمه‌الله أولى.

قول تعالى : (وَاتَّخِذُوا) قرأ نافع وابن عامر : «واتّخذوا» فعلا ماضيا على لفظ الخبر ، والباقون على لفظ الأمر.

فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه معطوف على «جعلنا» المخفوض ب «إذ» تقديرا ، فيكون الكلام جملة واحدة.

الثاني : أنه معطوف على مجموع قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا) فيحتاج إلى تقدير «إذ» أي : وإذ اتّخذوا ، ويكون الكلام جملتين.

الثالث : ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفا على محذوف تقديره : فثابوا واتخذوا.

وأما قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه :

أحدها : أنها عطف على «اذكروا» إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسرائيل ، أي : اذكروا نعمتي واتخذوا.

والثاني : أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله : (مَثابَةً) ، كأنه قال : ثوبوا واتخذوا ، ذكر هذين الوجهين المهدوي.

الثالث : أنه مفعول لقول محذوف ، أي : وقلنا : اتخذوا ، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته ، أو لمحمد عليه الصلاة والسلام وأمته.

الرابع : أن يكون مستأنفا ذكره أبو البقاء.

قوله تعالى : (مِنْ مَقامِ) في «من» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها تبعيضية ، وهذا هو الظاهر.

الثاني : أنها بمعنى «في».

الثالث : أنها زائدة على قول الأخفش ، وليس بشيء.

٤٦٢

والمقام هنا مكان القيام ، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضا. وأصله : «مقوم» فأعل بنقل حركة «الواو» إلى السّاكن قبلها ، وقبلها ألفا ، ويعبر به عن الجماعة مجازا ؛ كما يعبر عنهم بالمجلس ؛ قال زهير : [الطويل]

٧٧٨ ـ وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل (١)

قوله : (مُصَلًّى) مفعول «اتّخذوا» ، وهو هنا اسم مكان أيضا ، وجاء في التفسير بمعنى قبلة.

وقيل : هو مصدر ، فلا بد من حذف مضاف أي : مكان صلاة ، وألفه منقلبة عن واو ، والأصل : «مصلّو» ؛ لأن الصلاة من ذوات «الواو» كما تقدم أول الكتاب.

فصل في المقصود بالمقام

اختلفوا في «المقام» فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة : هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ رجله عليه ، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه ، ثم رفعته من تحته ، وقد غاصت رجله في الحجر ، فوضعته تحت الرجل الأخرى ، فغاصت رجله أيضا فيه ، فجعله الله ـ تعالى ـ من معجزاته (٢) يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيّنا فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أن إبراهيم عليه‌السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٢٧] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه‌السلام ، وقال مجاهد رحمه‌الله وإبراهيم النخعي رضي الله عنه (٣) : «مقام إبراهيم الحرم كله» وقال يمان : المسجد كله مقام إبراهيم عليه الصلام والسلام.

[وقال عطاء : إنه عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : «الحج كله مقام إبراهيم](٤).

واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر ـ رحمة الله عليه ـ أنه عليه الصّلاة والسلام ـ لما فرغ من الطواف أتى المقام ، وتلا قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٥).

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١١٣) ، القرطبي : ٢ / ١١٢ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٨٠ ، اللسان (قوم) ، مجمع البيان : ١ / ٤٥٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٥ ـ ٣٦) عن السدّي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٣٤) عن مجاهد.

(٤) سقط في أ.

(٥) انظر تفسير الطبري : (٣ / ٣٣).

٤٦٣

وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرّ بالمقام ، ومعه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية (١) ، وقال تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

وليس للصلاة تعلق بالحرم ، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع ، فيكون مقام إبراهيم هو هذا ، ولو سأل سائل أهل «مكّة» عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد ، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطّين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله ـ تعالى ـ ومعجزة إبراهيم عليه‌السلام ، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره ، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ، ولم يثبت قيامه على غيره ، فحمل هذا اللفظ ، أعني : مقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على الحجر يكون أولى.

قال القفّال : ومن فسر (٢) «مقام إبراهيم» بالحجر خرج قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على مجاز قول الرجل : اتخذت من فلان صديقا ، وقد أعطاني الله من فلان أخا صالحا ، وإنما تدخل «من» لبيان المتخذ الموصوف ، ويميزه في ذلك المعنى من غيره.

فصل في تحرير معنى المصلّى

اختلفوا في «المصلّى».

فقال مجاهد رحمه‌الله تعالى : «هو الدعاء» ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله : إن الحرم كله مقام إبراهيم.

وقال الحسن رضي الله عنه : أراد به قبلة إبراهيم.

وقال قتادة والسّدي : أمروا أن يصلوا عنده ، وهذا القول أولى ؛ لأن لفظ «الصّلاة» إذا أطلق يعقل منه الصّلاة الشّرعية وقال عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة. وصلّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية. وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضا فعن الشافعي رحمه‌الله قولان :

أحدهما : أنهما فرض ؛ لهذه الآية ، فإن الأمر للوجوب.

والثاني : أنهما سنة ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأعرابي حين سأله هل عليّ غيرها؟ قال لا إلّا أن تطوع ، وإن كان الطواف سنة فهما سنة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري : (٣ / ٣٢).

(٢) في أ : حمل.

٤٦٤

فصل في الكلام على البيت المعمور

روي عن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بجبال الكعبة من فوقها ، حرمته في السّماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون فيه أبدا.

وذكر علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم ، فانهدم فبنته العمالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم ، فبنته جرهم ، ومر عليه الدهر فانهدم ، بنته قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ شابّ ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول من خرج عليهم ، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ، ثم ترفعه جميع القبائل ، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضعه.

وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب.

في الصفح الأول : أنا الله ذو بكّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حفّا ، وباركت لأهلها في اللحم واللبن.

وفي الصفح الثاني : أنا الله ذو بكّة خلقت الرحم ، وشققت لها اسما من اسمي من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته.

وفي الثالث : أنا الله ذو بكّة خلقت الخير والشرّ ، فطوبى لمن كان الخير على يديه ، وويل لمن كان الشر على يديه. وقال صلوات الله وسلامه عليه : «الرّكن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة طمس الله تعالى نورهما ، ولو لا ذلك لأضاء لهما ما بين المشرق والمغرب ، وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلّا شفي» (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا الحجر له عينان يبصر بهما يوم القيامة وإنّه كان أشدّ بياضا من الثّلج حتّى سوّدته خطايا أهل الشّرك» (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هذا الحجر يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما ، ولسان ينطق به ، يشهد على من استلمه بحقّ» (٣).

وعن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنه قبّل الحجر الأسود وقال : «إنّي لأعلم أنك

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٢١٤) والحاكم (١ / ٤٥٦) والترمذي (٨٧٨) والبيهقي (٥ / ٧٥) وابن حبان (١٠٠٤ ـ موارد) وابن خزيمة (٢٧٣١) وقال الترمذي : حديث غريب.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٣٠٧) والخطيب (٧ / ٣٦٢) وذكره الهندي في «كنز العمال» (٤٧٢٤).

(٣) انظر الدر المنثور للسيوطي : (١ / ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠).

٤٦٥

حجر لا تضر ولا تنفع ، وأن الله ربّي ، ولو لا أني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبّلك ما قبّلتك».

قوله تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ) تقدم معنى العهد.

قيل : معناه ـ هاهنا ـ أمرنا وقيل : أوحينا.

قوله : (وَإِسْماعِيلَ) إسماعيل علم أعجميّ ، وفيه لغتان : باللام والنون ؛ وعليه قول الشاعر : [الرجز]

٧٧٩ ـ قال جواري الحيّ لمّا جينا

هذا وربّ البيت إسماعينا (١)

ويجمع على : «سماعلة» و «سماعيل» و «أساميع».

ومن أغرب ما نقل في التسمية أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لما دعا الله أن يرزقه ولدا كان يقول : اسمع إيل اسمع إيل ، وإيل هو الله ـ تعالى ـ فسمى ولده بذلك.

قوله : (أَنْ طَهِّرا) يحوز في «أن» وجهان :

أحدهما : أنها تفسيرية لجملة قوله : (عَهِدْنا) ، فإنه يتضمن معنى القول ؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا ، فهي بمنزلة «أي» التي للتفسير ، وشرط «أن» التفسيرية أن تقع بعدما هو بمعنى القول لا حروفه.

وقال أبو البقاء : والمفسرة تقع بعد القول ، وما كان في معناه.

فقد غلط في ذلك ، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

والثاني : أن تكون مصدرية ، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية ، قالوا : «كتبت إليه بأن قم» وفيها بحث ليس هذا موضعه ، والأصل : بأن طهرا ، ثم حذفت الباء ، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب ، أو خفض.

و «بيتي» مفعول به أضيف إليه ـ تعالى ـ تشريفا وقرأ أهل «المدينة» وحفص «بيتي» بفتح الياء هاهنا ، وفي سورة «الحج» ، وزاد حفص في سورة «نوح» عليه الصلاة والسلام.

و «الطائف» اسم فاعل من : «طاف يطوف» ، ويقال : أطاف رباعيا ، قال : [الطويل]

٧٨٠ ـ أطافت به جيلان عند قطاعه

 .......... (٢)

وهذا من باب «فعل وأفعل» بمعنى.

فصل في معنى تطهير البيت

يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به ، لأنه موضع الصّلاة فيجب

__________________

(١) ينظر البحر : ١ / ٥٤٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٥.

(٢) صدر بيت لامرىء القيس وعجزه :

تردد فيه العين حتى تحيرا

ينظر ديوانه : (٦١) ، الدر المصون : ١ / ٣٦٥.

٤٦٦

تطهيره من الشرك ، ومن كل ما لا يليق به ، وذكر المفسّرون وجوها :

أحدها : أن معنى «طهّرا بيتي» ابنياه وطهّراه من الشرك ، وأسّساه على التقوى.

وثانيهما : عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه ، وزاروه وأقاموا به.

ومجازه : اجعلاه طاهرا عندهم ، كما يقال : فلان يطهر هذا ، وفلان ينجسه.

وثالثها : ابنياه ، ولا تدعا أحدا من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطّائفين فيه ، بل أقرّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال : طهر الله الأرض من فلان ، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك ، وهو كقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) [البقرة : ٢٥] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس ، بل خلقن طاهرات ، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهرا.

ورابعها : معناه : أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ، ليقتدي الناس بكما في ذلك.

وخامسها : قال بعضهم : إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار ، فأمر الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك ، وهذا ضعيف ؛ لأن قبل البناء ما كان البيت موجودا ، فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيرا للبيت ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتا ، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتا لكنه مجاز.

قوله تعالى : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

الطائفين : الدّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين.

والرّكع» ، جمع «راكع».

والعكوف لغة : اللزوم واللبث ؛ قال : [الوافر]

٧٨١ ـ ..........

عليه الطّير ترقبه عكوفا (١)

وقال : [الرجز]

٧٨٢ ـ عكف النّبيط يلعبون الفنزجا (٢)

__________________

(١) عجز بيت للمرار الأسدي وصواب إنشاده :

أنا ابن التارك البكريّ بشر

عليه الطّير ترقبه وقوعا

ينظر الكتاب : ١ / ١٨٢ ، الخزانة : ٢ / ١٩٣ ، شرح المفصل لابن يعيش : ٣ / ٧٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٥ ، وليس ثمة من رواه «عكوفا» كما رواه المؤلف إلا ما ذكره صاحب الدر المصون.

(٢) البيت للعجاج. ينظر ديوانه : ٢ / ٢٤ ، القرطبي : ٢ / ٧٨ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٦٦.

٤٦٧

ويقال : عكف يعكف ويعكف ، بالفتح في الماضي ، والضم والكسر في المضارع ، وقد قرىء (١) بهما.

و «السّجود» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه جمع ساجد نحو : قاعد وقعود ، وراقد ورقود ، وهو مناسب لما قبله.

والثاني : أنه مصدر نحو : الدخول والقعود ، فعلى هذا لا بد من حذف مضاف أي : ذوي السّجود ذكره أبو البقاء.

وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله : «الطائفين والعاكفين» لتباين ما بينهما ، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله : (الرُّكَّعِ السُّجُودِ) ؛ لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخريين جمع تكسير لأجل المقابلة ، وهو نوع من الفصاحة ، وأخر صيغة «فعول» على «فعّل» ؛ لأنها فاصلة.

فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة

في هذه الأوصاف الثلاثة قولان :

أحدهما : أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة ؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف.

فالمراد بالطّائفين : من يقصد البيت حاجّا أو معتمرا ، فيطوف به ، والمراد بالعاكفين : من يقيم هناك ويجاور ، والمراد بالركع السجود : من يصلي هناك.

والثاني : قال عطاء : إنه إذا كان طائفا فهو من الطائفين ، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود. وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ العاكفون هم الذي يصلون عند الكعبة (٢).

خصّ الركوع والسجود بالذكر ؛ لأنها أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى.

فصل فيما تدل عليه الآية

هذه الآية تدل على أمور منها :

أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء ، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ؛ لأنه ـ تعالى ـ كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص.

__________________

(١) ستأتي في الأعراف آية ١٣٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٤٣) عن ابن عباس.

٤٦٨

وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء : أن الطواف لأهل الأنصار أفضل ، والصلاة لأهل «مكة» أفضل.

ومنها جواز الاعتكاف في البيت.

ومنها جواز الصلاة في البيت فرضا أو نفلا إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها ، خلافا لمن منع جواز الصّلاة المفروضة في البيت.

فإن قيل : لا تسلم دلالة الآية على ذلك ؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يقل : والركّع السجود في البيت ، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطّواف في جوف البيت ، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصّلاة إلى البيت متوجّهة إليه ، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت ، سواء كان ذلك في البيت ، أو خارجا عنها ، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوف بالبيت ، ولا يسمى طائفا بالبيت من طاف في جوفه ، والله ـ تعالى ـ إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه ، لقوله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩].

وأيضا المراد لو كان التوجه إليه للصلاة ، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه ، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه.

فإن قيل : احتجّ المخالف بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّها إلى المسجد ، بل إلى جزء من أجزائه.

والجواب : أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجها إلى كلّ المسجد ، بل لا بد وأن يكون متوجها إلى جزء من أجزائه ، ومن كان داخل البيت فهو كذلك ، فوجب أن يكون داخلا تحت الآية.

فصل في تطهير جميع بيوت الله

ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى ، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة ، وإنما خص الكعبة بالذكر ؛ لأنه لم يكن هناك غيرها.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٢٦)

قال القاضي رحمه‌الله تعالى : في هذه الآيات تقديم وتأخير ، لأن قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) لا يمكن إلّا بعد دخول البلد في الوجود ، والذي ذكره من بعد وهو قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) [البقرة : ١٢٧] وإن كان متأخرا في التلاوة ، فهو متقدم في المعنى.

٤٦٩

قوله تعالى : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) والجعل هنا يعني التّصيير ، فيتعدّى لاثنين ف «هذا» مفعول أول و «بلدا» مفعول ثان ، والمعنى : اجعل هذا البلد ، أو هذا المكان ، و «آمنا» صفة أي ذا أمن نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أو آمنا من فيه نحو : ليله نائم. والبلد معروف ، وفي تسميته قولان :

أحدهما : أنه مأخوذ من البلد.

والبلد في الأصل : الصدر يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت ، أي : صدرها ، والبلد صدر القرى ، فسمي بذلك.

والثاني : أن البلد في الأصل الأثر ، ومنه : رجل بليد لتأثير الجهل فيه.

وقيل لبركة البعير : «بلدة» لتأثيرها في الأرض إذا برك ، ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٧٨٣ ـ أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلّا بغامها (١)

إنما قال في هذه السورة «بلدا آمنا» على التنكير.

وقال في سورة إبراهيم : (هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] على التعريف لوجهين :

الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ، ولم يكن المكان قد جعل بلدا ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ؛ لأنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم : ٣٧].

فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلدا ذا أمن وسلامة ، كقولك : جعلت هذا الرجل آمنا.

الثاني : أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدا ، فقوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) تقديره : اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، كقولك : كان اليوم يوما حارّا ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة ؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة ، فقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن ، وأما قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) فليس فيه إلّا طلب الأمن لا طلب المبالغة ، والله أعلم.

فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم

قيل : المراد من الآية دعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمؤمنين من سكّان

__________________

(١) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ١٠٤ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٤١٨ ، ٤٢٠ ، والدرر : ٣ / ١٦٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٤٢ ، والكتاب : ٢ / ٣٣٢ ، ولسان العرب (بلد) ، (بغم) ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢١٨ ، ٣٩٤ ، ٢ / ٧٢٩ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٢ ، والمقتضب : ٤ / ٤٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٦.

٤٧٠

«مكة» بالأمن والتّوسعة بما يجلب إلى «مكة» فلم يصل إليه جبّار إلا قصمه الله ـ عزوجل ـ كما فعل بأصحاب الفيل.

فصل في الرد على بعض الشّبهات

فإن قيل : أليس أن الحجّاج حارب ابن الزبير ، وخرب الكعبة ، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟

فالجواب (١) : لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها ، بل كان مقصوده شيئا آخر.

فإن قيل : ما الفائدة في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، وقد أخبر الله ـ تعالى ـ قبل ذلك بقوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً)

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمنا ، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده أمنا ، فطلب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكون الأمن بجميع البلد.

وثانيها : أن يكون قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) بعد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) فيكون إجابة لدعائه ، وعلى هذا فيكون مقدما في التلاوة مؤخرا في الحكم.

وثالثها : أن يكون المراد من الأمن المذكور في قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً)(٢)

(لِلنَّاسِ وَأَمْناً) هو الأمن من الأعداء والخيف والخسف والمسخ ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القحط ، ولهذا قال : «وارزق أهله من الثّمرات».

فإن قيل : الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا ، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟

فجوابه من وجوه :

أحدها : أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين ، وإذا كان البلد أمنا مخصبا تفرغ أهلها لطاعة الله ـ تعالى ـ وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ جعله مثابة للناس ، والناس إنما يمكنهم الذّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة ، والأقوات هناك رخيصة.

__________________

(١) في أ : قلنا.

٤٧١

وثالثها : أن الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة ، فحينئذ يشاهد المشاعر العظيمة ، والمواقف الكريمة ، فيكون الأمن تتمّة في تلك الطاعة.

فصل في المراد بالأمن

اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل : الأمن من القحط ؛ لأنه أسكن ذرّيته بواد غير ذي زرع ولا ضرع.

وقيل : الأمن من الخسف والمسخ.

وقيل : الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي ، واحتج عليه بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سأله الأمن أولا ، ثم سأله الرّزق ثانيا.

ولو كان المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرّزق بعده تكرار ، وقد يجاب بأنه : لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ ، أو لعله الأمن من القحط ، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية ، وقد يكون بالتّوسعة فيها ، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن ، ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله ـ تعالى ـ جبريل ، فاقتلع «الطائف» من «الشام» فطاف بها حول البيت أسبوعا ، فسميت «الطائف» لذلك ، ثم أنزلها «تهامة» ، وكانت «مكة» وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيها ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها ، وأنبت فيها أنواع الثّمرات.

فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟

اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟

فقالوا : إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّموات والأرض» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ٣ / ٣٨ كتاب جزاء الصيد باب لا ينفر صيد الحرم حديث رقم ١٨٣٣ ، ٣ / ١٢٧ ، كتاب البيوع باب في الصواغ حديث رقم ٢٠٩٠ ، ٥ / ٣٠٩ ، كتاب المغازي باب ٥٤ حديث رقم ٤٣١٣.

وابن ماجه في السنن حديث رقم ٣٠٠٩ ـ وأحمد في المسند ٤ / ٣٢ والبيهقي في السنن ٨ / ٧١ ـ والطبراني في الكبير ١١ / ٣٣٥.

والبخاري في التاريخ : ١ / ٤٥١ ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم ٩١٨٩ ، ٢١٩٢ ـ وذكره ابن عبد البر في التمهيد ٦ / ١٦٠ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٤٦٥٢ ، ٣٤٦٧٧.

٤٧٢

قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم : ٣٧] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك ، ثم إن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكّده بهذا الدعاء.

وقيل : إنها إنما صارت حرما آمنا بدعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقبله كانت كسائر البلد ، والدليل عليه قوله عليه‌السلام : «اللهمّ إنّي حرّمت المدينة كمّا حرّم إبراهيم مكّة» (١).

وقيل : كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة.

قوله : (مَنْ آمَنَ) بدل بعض من كلّ ، [وهو «أهله»] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه ، و «من» في «من الثّمرات» للتبعيض.

وقيل : للبيان ، وليس بشيء ، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها.

فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدّعاء

إنما خصّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجهين :

الأول : أنه لما سأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل الإمامة في ذرّيته ، قال الله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] فصار ذلك [تأديبا](٢) في المسألة ، فلما ميّز الله ـ تعالى ـ المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة ، لا جرم خصّص المؤمنين بهذا الدّعاء دون الكافرين.

الثاني : يحتمل أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار ، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحجّ ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب.

قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) يجوز في «من» ثلاثة أوجه.

أحدها : أن تكون موصولة ، وفي محلّها وجهان :

أحدهما : أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره ، قال الله : وأرزق من كفر ، ويكون «فأمتعه» معطوفا على هذا الفعل المقدر.

والثاني [من الوجهين] : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء ، و «فأمتعه» الخبر ، دخلت الفاء في الخبر تشبيها له بالشرط.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن (٥ / ٢٠١) بلفظه وابن أبي شيبة (١٤ / ٢٠٠).

وذكره المنذري في الترغيب ٢ / ٢٢٥.

والهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٨١٥١).

(٢) في أ : كالتأديب له.

٤٧٣

وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا ، والرد عليه.

الثّاني من الثلاثة الأوجه : أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء ، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع.

الثالث : أن تكون شرطية ، ومحلّها الرفع على الابتداء فقط ، و «فأمتّعه» جواب الشرط.

ولا يجوز في «من» في جميع وجوهها أن تكون منصوبة على الاشتغال.

أما إذا كانت شرطا فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء ، وفعل الشرط هنا غير ناصب لضميرها بل رافعه.

وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو «فأمتعه» شبيه بالجزاء ، ولذلك دخلته الفاء ، فكما أن الجزاء لا يفسر عاملا فما أشبهه أولى بذلك ، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر.

وقال أبو البقاء (١) : لا يجوز أن تكون «من» مبتدأ ، و «فأمتعه» الخبر ؛ لأن «الذي» لا تدخل «الفاء» في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقّا بالصلة نحو : الذي يأتيني فله درهم ، والكفر لا يستحقّ به التمتع.

فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو جعلت الخبر محذوفا ، و «فأمتعه» دليلا عليه جاز تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه.

ويجوز أن تكون «من» شرطية ، والفاء جوابها.

وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن كفر أرزق ، و «من» على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل فعل الشرط انتهى.

أما قوله : «لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع» فليس بمسلّم ، بل التمتّع القليل والمصير إلى النار مستحقّان بالكفر.

وأيضا فإن التمتّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّا بالكفر ، ولكن قد عطف عليه ما هو مستحقّ به ، وهو المصير إلى النار ، فناسب ذلك أن يقعا جميعا خبرا.

وأيضا فقد ناقض كلامه ؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية ، وهل الجزاء إلّا مستحق بالشرط ، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به.

وأما تجويزه زيادة الفاء ، وحذف الخبر ، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها.

__________________

(١) ينظر الإملاء : ١ / ٦٢.

٤٧٤

وقرىء : «أمتعه» مخفّفا من أمتع يمتع ، وهي قراءة (١) ابن عامر رضي الله عنه ، و «فأمتعه» بسكون العين ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه تخفيف كقوله : [السريع]

٧٨٤ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

 .......... (٢)

والثاني : أن «الفاء» زائدة وهو جواب الشرط ؛ فلذلك جزم بالسكون ، وقرأ ابن عباس (٣) رضي الله عنهما ومجاهد «فأمتعه ثمّ اضطرّه» على صيغة الأمر فيهما ، ووجهها أن يكون الضمير في «قال» لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و «من» على هذه القراءة يجوز أن تكون مبتدأ ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية ، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخرا عنها ؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام.

وقال الزمخشري : (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (مَنْ آمَنَ) كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في «جاعلك» قال أبو حيان (٤) : أما عطف (مَنْ كَفَرَ) على (مَنْ آمَنَ) فلا يصح ؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام ؛ لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وارزق من كفر ؛ لأنه لا يكون معطوفا عليه حتى يشركه في العامل.

«من آمن» العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في (وَمَنْ كَفَرَ) ، وإذا قدرته أمرا تنافى مع قوله : (فَأُمَتِّعُهُ ؛) لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع ، وإلجائهم إليه ـ تعالى ـ وأن كلّا من الفعلين تضمّن ضميرا ، وذلك لا يجوز إلّا على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أي : قال إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : وارزق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلا ثم أضطره ، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على «من» كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في «جاعلك».

فقال : فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟

فالجواب : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم ، وأما الرزق فربما يكون استدراجا.

والمعنى : قال : (وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ)» فظاهر قوله «والمعنى قال» أن الضمير في «قال» لله تعالى ، وأن (مَنْ كَفَرَ) منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم.

__________________

(١) انظر السبعة : ١٧٠ ، والكشف : ١ / ٢٦٥ ، وحجة القراءات : ١١٤ ، والحجة : ٢ / ٢٢١ ، وإتحاف : ١ / ٤١٧ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٦٨ ، وشرح شعلة : ٢٧٧.

(٢) تقدم برقم ٤٩٧.

(٣) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٧.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٥٦.

٤٧٥

و «قليلا» نعت لمصدر محذوف أو زمان ، وقد تقدم له نظائر واختيار سيبويه فيه.

وقرأ الجمهور : «أضطرّه» خبرا.

وقرأ يحيى (١) بن وثاب بكسر الهمزة ، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال : إخال.

وقرأ ابن (٢) محيصن «أطّرّه» بإدغام الضاد في الطاء ، [نحو] : اطّجع في اضطجع وهي مرذولة ؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف : ضغم شقر ، نحو : اطجع في اضطجع ، قاله الزمخشري ، وفيه نظر ؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها ، أدغم أبو عمرو الدّاني اللام في (يَغْفِرْ لَكُمْ) [نوح : ٣١] والضاد في الشين : (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) [النور : ٦٢] والشين في السين : (الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢].

وأدغم الكسائي الفاء في الباء : (نَخْسِفْ بِهِمُ) [سبأ : ٩].

وحكى سيبويه رحمه‌الله تعالى أن «مضجعا» أكثر ، فدلّ على أن «مطّجعا» كثير.

وقرأ يزيد بن أبي حبيب (٣) : «أضطرّه» بضم الطاء كأنه للإتباع.

وقرأ أبي (٤) : «فنمتّعه ثمّ نضطرّه» بالنون.

واضطر افتعل من الضّرّ ، وأصله : اضترّ ، فأبدلت التاء طاء ؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدّ ، وعليه جاء التنزيل ؛ وقال : [البسيط]

٧٨٥ ـ إضطرّك الحرز من سلمى إلى أجإ

 .......... (٥)

والاضطرار : الإلجاء والإلزاز (٦) إلى الأمر المكروه.

قوله : «أمتعه» قيل : بالرزق.

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، وفيه أنها لابن عامر ، وانظر البحر المحيط : ١ / ٥٥٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٢) وقرأ بها ابن محيصن.

انظر إتحاف : ١ / ٤١٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٣) يزيد بن سويد الأزدي بالولاء المصري أبو رجاء ولد ٥٣ ه‍.

مفتي أهل مصر في صدر الإسلام ، وأول من أظهر علوم الدين والفقه بها قال الليث : يزيد عالمنا وسيدنا ، وكان حجة حافظا للحديث. توفي في ١٢٨ ه‍.

ينظر تذكرة : ١ / ١٢١ ، تهذيب : ١١ / ٣١٨ ، تاريخ الإسلام للذهبي : ٥ / ١٨٤ ، الأعلام : ٨ / ١٨٣.

(٤) انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢٠٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٥) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٥٤ ، اللسان (أجأ) ، الدر المصون : ١ / ٣٦٨.

(٦) في أ : والإلزام.

٤٧٦

وقيل : بالبقاء في الدنيا.

وقيل : بهما إلى خروج محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن قام على الكفر ، [وقيد المتاع بالقلّة](١) ؛ لأن متاع الدنيا قليل بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد.

وفي الاضطرار قولان :

أحدهما : أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه ، كما قال الله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] و (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] يقال اضطررته إلى الأمر أي : ألجأته [وحملته عليه](٢) وقالوا : إن أصله من الضّر ؛ وهو إدناء الشيء ، ومنه ضرة المرأة لدنوّها.

الثاني : أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختيارا ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [البقرة : ١٧٣] فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة ، إن كان ذلك الأكل فعله ، فيكون المعنى : أن الله ـ تعالى ـ يلجئه إلى أن يختار النار ، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير ؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور ، وبئس المصير ضده.

قوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المصير فاعل ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : النار ومصير : مفعل من صار يصير ، وهو صالح للزمان والمكان.

وأما المصدر فقياسه الفتح ؛ لأن ما كسر عين مضارعه ، فقياس ظرفيه الكسر ومصدره الفتح ، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب.

أحدها : أنه كالصحيح [وقد تقدم](٣).

والثاني : أنه مخير فيه.

والثالث : أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى ، فإن كان «المصير» في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقا ، والتقدير : وبئس المصير النّار كما تقدم ، وإن كان مصدرا على رأي من أجازه فالتقدير : وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النّار.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٢٨)

«إذ» عطف على «إذ» قبلها ، فالكلام فيهما واحد.

و «يرفع» في معنى رفع ماضيا ؛ لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي.

__________________

(١) في أ : وقبل المتاع فأثقله.

(٢) في أ : فألجأته إليه.

(٣) سقط في ب.

٤٧٧

وقال الزمخشري : «هي حكاية حال ماضية» قال أبو حيان : وفيه نظر.

و «القواعد» جمع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوق ، وهي صفة غالبة ، ومعناها الثابتة ، ومنه «قعّدك الله» أي : أسأل الله تثبيتك ، ومعنى رفعها البناء عليها ؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع.

وأما القواعد من النّساء فمفردها «قاعد» من غير تاء ؛ لأن المذكر لا حظّ له فيها إذ هي من : قعدت عن الزوج.

ولم يقل «قواعد البيت» ، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين.

[فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد

الأكثرون على أن البيت كان موجودا قبل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ واختلفوا هل كان إسماعيل شريكا له في رفع القواعد؟

فالأكثرون على أنه كان شريكا له ؛ للعطف عليه.

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر.

فقالا : إلى من تكلنا؟

قال : إلى الله تعالى ، فعطش إسماعيل ولم ير الماء ، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعك ، فضربها بأصبعه ، فنبع زمزم. وهذا ضعيف ؛ وذلك لقوله تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) وهذا يوجب صرفه إلى المذكور السابق : وهو رفع القواعد](١).

فصل في الكلام على رفع القواعد

يروى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء ، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرّد أخضر ، وأنزل الله الحجر ، وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، وأمر الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يحج إليه ، ويطوف به.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من «الهند» إلى «مكة» ماشيا ، وكان ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله ـ تعالى ـ إلى السماء الرابعة ، وبعث جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس ، وكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم أمر الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ما ولد إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ

__________________

(١) سقط في ب.

٤٧٨

ببناء البيت ، فسأل الله ـ تعالى ـ أن يبين له موضعه ، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت ، فتبعها حتى أتيا «مكة» ، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث الله سحابة على قدر الكعبة ، وذهب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في ظلها إلى أن وافت «مكة» فوقعت على موضع البيت ، فنودي منها يا إبراهيم ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص.

[وقيل : أرسل الله جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليدله على موضع البيت قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : بني البيت من خمسة أجبل : طور سيناء ، وطور زيتا ، ولبنان جبال بالشام ، والجودي : جبل بالجزيرة (١) وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة ، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود ، فوضعه مكانه.

وقيل : إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء ، وسمي «صراح» ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة «الحج» إن شاء الله ـ تعالى ـ والله أعلم](٢).

قوله : (مِنَ الْبَيْتِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «يرفع» ومعناها ابتداء الغاية.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من «القواعد» ، فيتعلّق بمحذوف تقديره : كائنة في البيت ، ويكون معنى «من» التبعيض [روى ابن كثير (٣) ـ رحمه‌الله ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ، «أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض ، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ؛ ليخرج بها أحدهما ، فتحركا تحرك الرجل ، فانتفضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس».

وقيل : أبصر القوم برقة ، كادت تخطف بصر الرجل فبرأ الرجل من يده ، فوقع في موضعه ، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم](٤).

قوله : (وَإِسْماعِيلُ) فيه قولان :

أحدهما : وهو الظاهر ـ أنه عطف على «إبراهيم» ، فيكون فاعلا مشاركا له في الرفع ، ويكون قوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) في محلّ نصب بإضمار القول ، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما ، أي : يرفعان يقولان : ربنا تقبل ، ويؤيد هذا قراءة عبد الله

__________________

(١) قال ابن كثير : وهو غريب. ينظر تفسيره : ١ / ١٧٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر تفسير ابن كثير : ١ / ١٨١.

(٤) سقط في ب.

٤٧٩

بإظهار فعل القول ، قرأ : «يقولان : ربّنا تقبّل» أي ؛ قائلين ذلك ، ويجوز ألا يكون هذا القول حالا ، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها ، ويكون هو العامل في «إذ» قبله ، والتقدير : يقولان : ربنا تقبل إذ يرفعان ، أي : وقت رفعهما.

والثّاني : الواو [واو الحال](١) ، و «إسماعيل» مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ) فيكون إبراهيم هو الرّافع ، وإسماعيل هو الدّاعي فقط ، قالوا : لأن إسماعيل كان حينئذ طفلا صغيرا ، ورووه عن علي ـ رضي الله عنه ـ والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول : ربنا تقبّل منّا.

وفي المجيء بلفظ «الرب» جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح.

و «تقبّل» بمعنى «اقبل» ، ف «تفعّل» هنا بمعنى المجرد.

وتقدم الكلام على نحو (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) من كون «أنت» يجوز فيه التأكيد والابتداء والفصل. وتقدمت صفة السّمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ) [آل عمران : ١٠٦] وتأخرت صفة العلم ؛ لأنها فاصلة ، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها.

[فإن قيل : قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يفيد الحصر ، وليس الأمر كذلك ، فإن غيره قد يكون سميعا.

فالجواب أنه تعالى لكماله في هذه الصفة كأنه هو المختص بها دون غيره](٢).

قوله : (مُسْلِمَيْنِ) مفعول ثان للجعل ؛ لأنه بمعنى [التصيير ، والمفعول الأول هو](٣) «نا».

وقرأ (٤) ابن عباس «مسلمين» بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان :

أحدهما : أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع ، وبه استدل من يجعل التثنية جمعا.

والثاني : أنهما أرادا أنفسهما وأهلهما ك «هاجر».

قوله : (لَكَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب «مسلمين» لأنه بمعنى نخلص لك أوجهنا نحو : «أسلمت وجهي لله» فيكون المفعول محذوفا لفهم المعنى.

__________________

(١) في أ : للحال.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : كالقصير ، والقول الأول ثبوتا.

(٤) وقرأ بها عوف الأعرابي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ٢١١ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٥٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٧٠.

٤٨٠