اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

للكافر ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرى مسلم

__________________

ـ قرائن دالة على أنه ليس من جنس كلام البشر ؛ كعدم الترتيب ، والاستماع من جهة واحدة ، فينتهوا عن طلب الرؤية تعليل سقيم ؛ لأنهم سمعوا التكليم بالأمر والنهي حينما دخلوا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ الغمام ، وخروا سجدا ، وأيقنوا أنه من عند الله ـ تعالى ـ ، فما بالهم قد رجعوا بعد هذا ، وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فدل كل هذا على أنه إنما سألها لنفسه ، فتكون جائزة.

الاعتراض الرابع :

وهو بمنع الملازمة مع منع دليلها ، وحاصله أنهم قالوا : لا نسلم لزوم العبث في سؤالها عند العلم بالامتناع ، لجواز أن يكون ذلك لفائدة هي زيادة الطمأنينة ؛ وذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه رؤية ذاته لنفسه ، وهو عالم بامتناعها علما عقليا ؛ لتأكد الدليل العقلي بالسمعي ، فيزداد علمه ويقوى يقينه بتعاضد الأدلة ، وغير خاف أن تكرار الأدلة لو كانت من جنس واحد ـ تفيد زيادة الاطمئنان ، فكيف إذا كانت من جنسين : سمعي وعقلي ، وقد أجيب عن هذا الاعتراض : بأنه لو كان المراد كما تقول المعتزلة ؛ من طلب موسى ـ عليه‌السلام ـ الدليل السمعي الدال على امتناعها ، واستحالتها لزيادة العلم لخوطب بما يدل على الامتناع ، لا على نفي الواقع الدال على الإمكان ، والقول بأن هذا مثل ما وقع للخليل ـ عليه‌السلام ـ مردود ؛ لأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الخليل ـ عليه‌السلام ـ إنما طلب أن يرى إحياء الموتى ؛ ليطمئن قلبه ، وليس في هذا ما يوهم بجهله بما لا يليق في حقه ـ تعالى ـ ، على أنه قيل : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن عالما من قبل الطلب ، حتى يكون تأكيدا ؛ وذلك أنه أوحي إليه من ربه : إني اصطفيتك إنسانا خليلا ، وعلامته : أني أحيي الموتى بدعائه ، فظن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه ذلك الإنسان ، فطلب الإحياء ، ليطمئن قلبه ، وما قيل في الجواب أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان يخاطب جبريل ـ عليه‌السلام ـ عند نزوله بالوحي ؛ ليعلم أنه من عند الله ، فضعيف ؛ لأن الخطاب صريح في أنه كان يخاطب الرب ـ سبحانه تعالى ـ ، وجبريل ليس برب ؛ فإن الرب وإن أطلق على غير الله ـ تعالى ـ بمعنى المربي ؛ كقوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) لكن إضافته إلى نفسه مما لا يليق بشأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وكيف يكون الخطاب لجبريل وهو يطلب إحياء الموتى ، وهذا ليس بمقدور لجبريل عليه‌السلام ـ ، فيكون منه عبثا.

الاعتراض الخامس :

هو موجه على دليل الملازمة أيضا ، أعني : منافاة النبوة ، وحاصله : تسليم أنه غير عالم بامتناعها ، ومنع أن هذا مناف للنبوة ، وإنما الذي ينافيها هو الجهل بالوحدانية ، وما أمر بتبليغه من الأوامر والنواهي ؛ لجواز أن يكون امتناعها وجوازها من الأمور التي مرجعها طريق السمع ، على أنه يجوز ألا تكون الرؤية من شريعة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وحينئذ لا يضر الجهل بامتناعها والسؤال عنها ، والحالة هذه صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء.

أجيب : أولا :

أن هذا يقتضي أن موسى ـ عليه‌السلام ـ دون آحاد المعتزلة ، بل ودون من حصل طرفا من علم الكلام.

ثانيا : أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا ، أو في حكم المقابل ، وحينئذ لا يخلو الحال : إما أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ حصل له هذا العلم ، أولم يحصل ، فإن كان الأول ، كان موسى ـ عليه‌السلام ـ مجوزا كونه تعالى حاصلا في جهة وحيز ، وهو محال ، وإن كان الثاني ، لم يكن عالما بجميع العلوم الضرورية ، وهو نقص في حقه ـ عليه‌السلام ـ ، فثبت أن القول بأن موسى غير عالم بامتناعها باطل فاسد ؛ لما يترتب عليه من الفساد. وقولهم : إن ـ

٤١

__________________

ـ السؤال عن الرؤية مع العلم بامتناعها صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء ـ قول فاسد لا يسيغه طبع سليم ، كيف وأنهم ما حكموا باستحالتها إلا لأنها تقتضي التجسيم ، وعلى ذلك لا يكون طلبها صغيرة والحالة هذه ، بل كبيرة يجب تنزيه الأنبياء عنها ، ولو سلم أنها صغيرة ، فالأنبياء معصومون من الصغائر بعد النبوة كما هو التحقيق.

إلى هنا تم الكلام عن الوجهة الأولى ، بالاستدلال بالآية الكريمة ، ودفع ما ورد عليها من الاعتراضات ، ولنتكلم بعد هذا على الوجه الثاني من وجه الاستدلال بالآية الكريمة لأهل السنة ، فنقول : إن الآية الكريمة تصرح بتعليق رؤية الذات الأقدس على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، فكذلك ما علق عليه يكون ممكنا ، بيان الدليل أن يقال : الرؤية علقت على ممكن ، وكل ما علق على ممكن ، فهو ممكن ؛ فالرؤية ممكنة ، أما دليل الصغرى ، فقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فهذا الجواب صريح في أن الله ـ تعالى ـ علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل من حيث هو أمر ممكن في نفسه ؛ وعلى ذلك تكون الرؤية قد علقت على أمر ممكن.

وأما دليل الكبرى وهي «وكل ما علق على الممكن فهو ممكن» : فالتعليق إذ معناه الإخبار بوقوع المعلق على تقدير وقوع المعلق عليه ، وهذا يقتضي أن يكون المعلق ممكنا ؛ إذ المحال لا يقع على شيء من التقادير أصلا ، فتكون الرؤية ممكنة ، وإلا لزم الخلف في خبر الله ـ تعالى ـ ، وأيضا لو صح أن يكون المعلق على الممكن مستحيلا ، لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم ، وليس بصحيح ، وإلا انعدمت قضية التلازم ، وقد ناقشت المعتزلة هذا الوجه ، كما ناقشت الأول ، فنظرت كلتا مقدمتيه ، وذكرت على الصغرى القائلة : «الرؤية علقت على ممكن» :

أننا لوعددنا الفروض التي يكون عليها المعلق عليه ، وهو استقرار الجبل ، لوجدنا أنها مستحيلة ، فيكون المعلق مستحيلا.

وبيان ذلك : أن استقرار الجبل إما حال السكون ، أو مطلقا غير مقيد ، وإما حال الحركة ، وبطلان الأول ظاهر ؛ لما يلزم عليه من وجود الرؤية ؛ لوجود الاستقرار الذي هو شرط بمقتضى التعليق.

كذلك الثاني ؛ فإن استقرار الجبل من حيث هو واقع في الدنيا ، فيلزم وقوع الرؤية المعلقة عليه فيها.

ولم يبق إلا الاستقرار حال الحركة ، وهو ممتنع ، وقد علقت الرؤية عليه ، فتكون ممتنعة ، يساعد على أن الرؤية علقت على الاستقرار حال التحرك : أن لفظة (إن) المذكورة في الآية إن دخلت على الماضي ، صار بمعنى المستقبل ، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) ، أي : لو صار مستقرّا في المستقبل فسوف تراني ، ولم يحصل الاستقرار في الزمان المستقبل ، وإلا لوجب حصول الرؤية ؛ لوجوب حصول المشروط عند حصول الشرط الذي تتم به علّيه العلّة ، ولم يتحقق حصول الرؤية بالاتفاق ، فلم يستقر الجبل ، فيكون متحرّكا بالضرورة ، فالجبل حال ما علق الله الرؤية باستقراره كان متحركا ، واستقرار الجبل من حيث هو متحرك محال ، فالتعليق عليه لا يدلّ على إمكان الرؤية.

وقد أجاب أهل السنة باختيار الشقّ الثاني من الترديد ؛ وهو أن المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو ، ولا يلزم وقوع الرؤية كما زعمتم ؛ لأن الاستقرار ـ وإن لم يقيد بالحركة أو السكون ـ لكن لوحظ أن يكون في المستقبل ، وعقيب النظر ؛ بدليل «الفاء» و «إن».

وهو غير واقع فلا يلزم وقوع الرؤية.

وقد وجّه اختيار الشق الثاني أيضا : بأن اعتبار حال الجبل من حيث هو ـ مغاير لاعتبار حاله من حيث هو متحرك أو ساكن ، فهو مأخوذ لا بشرط شيء ، وهو يدل على الإمكان. ـ

٤٢

__________________

ـ ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا ، كان واجب الوجود ، ولو أخذته بشرط كونه معدوما ، كان واجب العدم ، ولو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو معدوما ـ كان ممكن الوجود ؛ فكذا هنا قد جعل الشرط هو استقرار الجبل ، كما يفيده منطوق الآية ، وهذا القدر ممكن الوجود.

وإذا تقرر ما ذكر ، تكون الرؤية جائزة الحصول ؛ بحكم التعليق على الممكن.

وأيضا لأهل السنة أن تختار الشق الثالث ـ وهو الاستقرار حال الحركة ـ بعد بيان المراد من الاستقرار حال الحركة ، فهو محال ؛ إذ حاصله الجمع بينهما ، ولا نسلّم أنه معلّق عليه ؛ إذ فيه زيادة بالإضمار ، وإن أرادوا الاستقرار حال الحركة ، أي : بدل الحركة ، فهو ممكن ، فحصول الحركة بدل السكون أمر ممكن ؛ ولهذا ذكر الله اندكاكه ، فقال (جعله دكّا) ولا يقال : جعله كذا إلا فيما يمكن أن يكون إلا كذا ، فثبت أنها علقت على ممكن.

نظير ذلك : قيام زيد حال قعوده ، وبالعكس ؛ فإنه ممكن بأن يقع أحدهما بدل الآخر ، لا بأن يجتمعا ، فإنه مسلم الاستحالة.

ولا يقال : إن مراد المعتزلة من الاستقرار حال الحركة ـ الغرض منه الاستحالة بالغير ، لا لذاته.

بيان ذلك : أن الاستقرار بعد النظر بدليل «الفاء» ، وحين تعلقت إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم استقراره عقيب النظر ، استحال استقراره ، وقد دفعه «السالكوني» فقال : إن استقرار الجبل حين تعلقت إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم استقراره أيضا ممكن ؛ بأن يقع بدله الاستقرار ، إنما المحال استقراره مع تعلق إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم الاستقرار.

كذلك نظرت المعتزلة كبرى الدليل القائلة : والمعلق على الممكن ممكن ، وقالت : إن المعلق على الممكن يجوز أن يكون ممتنعا ؛ واستشهدت لهذا بأنه يصحّ أن يقال : إن انعدم المعلول ، انعدمت العلة ، مع أن العلّة قد تكون ممتنعة العدم بالذات ، مع إمكان عدم المعلول في نفسه ؛ كما في ذات الواجب بالنسبة إلى الصفات عند بعض المتكلمين ، فإنّ انعدام الصفات علة لانعدام الذات ، وهو ممتنع كما لا يخفى ؛ فثبت أن الممكن قد يستلزم المحال.

وأما قولهم : إن الممكن لا يستلزم المحال ، فالمراد منه :

أنه لا يستلزمه من حيث كونه ممكنا ، وإن استلزمه من حيث كونه ممتنعا بالغير ، فظهر أنه لا مانع من تعليق الرؤية الممتنعة على استقرار الجبل الممكن.

وأجابت أهل السنة ببيان المراد من كبرى الدليل (والمعلق على الممكن ممكن) : أن الممكن المعلق عليه الممكن الصّرف الخالي عن الامتناع مطلقا ، سواء أكان بالذات أم بالغير ، واستقرار الجبل من قبيل الممكن الصرف ، بخلاف إمكان عدم المعلول المعلّق عليه ، مع امتناع عدم علته ، فالتعليق بينهما بحسب الامتناع بالغير ، فإنّ استلزام عدم الصفات عدم الواجب ؛ من حيث إن وجوده واجب ، وعدمه ممتنع بوجود الواجب ؛ لذا كان التعليق هنا غير مفيد إمكان المعلق ، لأنه تعليق على ممتنع ، أما في موضوعنا : فلما كان المعلق عليه ممكنا صرفا ، لا يشوبه امتناع بوجه من الوجوه ، أفاد إمكان المعلق وإلا فلا فائدة في التعليق ؛ إذ عند وقوع المعلّق عليه الذي هو ممكن في نفسه ، أما أن يقع المعلّق والحالة هذه ، كان ممكنا ، وإن لم يقع ، فلا داعي للتعليق وإيراد شرط ومشروط ، فالمعلق منتف في حالتي وجود الشرط وعدمه ، وإن قيل : إن فائدة التعليق ربط العدم بالعدم ، مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود ـ كان الرد هينا ، وهو خلاف المتبادر من اللغة ، لأنك إذا قلت : إن ضربتني ، ضربتك ، كان المراد منك الربط في جانبي الوجود والعدم معا ، لا في جانب العدم فقط. ـ

٤٣

لقي الله وهو عليه غضبان» (١) وليس المراد رؤية الله ؛ لأن ذلك وصف لأهل النار ، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. وفي العرف قول المسلمين : من مات لقي الله ، ولا يعنون أنه رأى الله ، وأيضا فاللقاء يراد به القرب ، فإن الأمير إذا أذن للشّخص في الدخول عليه يقول : لقيته ، وإن كان ضريرا ، وإذا منعه من الدّخول يقول : ما لقيته ، وإن كان قد رآه ، ويقا : لقي فلان جهدا ، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرّؤية ، وقال تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسم ، ولا يصح في [حق](٢) الله تعالى.

قال ابن الخطيب (٣) : أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللّغة : عبارة عن وصول أحد

__________________

ـ ومن معتمد أهل السنة في الجواز أيضا ـ قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ) الصابرين» ، وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) ، وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ،) وقال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فترى أهل السنة أن اللقاء في هذه الآيات بمعنى الرؤية.

وبيان ذلك : أن اللقاء مشترك بين الوصول المكاني والوصول بالرؤية ؛ فيقال في الضرير : لقي الأمير ؛ إذا أذن له ، ويقال للبصير : لقيه ، بمعنى : رآه ، وما لقيه ، أي : ما وصل إليه ، والوصول المكاني محال على الله ـ تعالى ـ ، فيكون الوصول بمعنى الرؤية وهو المطلوب.

قالت المعتزلة : ما ذكرتموه يتنافى وقول الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) وبديهي أن المنافق لا يرى ربه ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ، وقوله تعالى في معرض التهديد : «وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» وهذا التهديد يتناول المؤمن والكافر ، والكافر لا يرى ربه.

كذلك يتنافى وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (من حلف على يمين ليقتطع به مال امرىء مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان) ولا يعقل أن المراد يرى ربه ؛ لأن ذلك وصف أهل النار.

أجابت أهل السنة : بأن اللقاء لغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يمسّه بسطحه ، يقال : لقي هذا ذاك ، إذا ماسّه واتصل به ، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المدركين سببا لحصول الإدراك ، وحيث امتنع إجراء اللفظ على المماسّة ، وجب حمله على الإدراك المسبب عن اللقاء الذي هو سبب له ، وإطلاق السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز.

وما ادّعيتموه من الآيات والحديث لم يحمل على الإدراك ، وإنما يحمل على إضمار لفظ الحساب ، أو الجزاء للضرورة ؛ بخلاف ما ذكرناه ، فلا ضرورة لصرفه عن ظاهره ، ولا لإضمار هذه الزيادة ، فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وإلى هنا تمّ الكلام على الدليل النقلي ، ودفع ما ورد عليه من قبل المعتزلة.

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٢٢٢) كتاب المساقاة باب الخصومة .. حديث (٢٣٥٦) ، (٢٣٥٧) وأخرجه مسلم في الصحيح (١ / ١٢٢ ـ ١٢٣) كتاب الإيمان (١) باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (٦١) حديث رقم (٢٢٠ / ١٣٨ ، ٢٢٢ / ١٣٨) ..

وابن ماجه في السنن (٢ / ٧٧٨) كتاب الأحكام باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا ـ وأحمد في المسند (١ / ٤٤٢).

والبيهقي في السنن (١٠ / ١٧٨ ، ٢٥٤٣) ـ والطبراني في الكبير (١٠ / ١٣٢) وذكره الهيثمي في الزوائد (٤ / ١٨٣) ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٤٦٣٥٤.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤٨.

٤٤

الجسمين إلى الآخر بحيث يماسّه بمسطحه ، يقال : لقي هذا ذاك إذا ماسّه ، واتصل به ، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المدركين سببا لحصول الإدراك بحيث لا يمتنع إجراء اللفظ عليه ، وجب حمله على الإدراك ؛ لأن إطلاق لفظ السبب على معنى المسبّب من أقوى وجوه المجاز ، فثبت أنه يجب حمل لفظ اللّقاء على الإدراك [أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصّور بدليل يخصه ، فوجب إجراؤه على الإدراك](١) في البواقي.

وعلى هذا التقرير زالت السّؤالات.

وأما قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) [التوبة : ٧٧] الآية.

قلنا : لأجل الضرورة ؛ لأن المراد : إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه ، والإضمار على خلاف الدليل ، فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة.

وأما قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فلا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره ، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه ، فالمؤمن من يلقى الله ، وهو عنه راض ، فيثيبه ، وينعم عليه بأنواع النعم. والكافر والحالف الكاذب يلقى الله ، وهو عليه غضبان ، فيعذبه بأنواع العقاب ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير ، وهو راض عنهم ، فيعطيهم وينعم عليهم ، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم ، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا ، وشتّان بين اللقاءين.

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)(٤٧)

أعاد الكلام توكيدا للحجّة عليهم ، وتحذيرا من ترك اتباع محمد عليه الصلاة والسلام.

قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) «أن» وما في حيّزها في محلّ نصب لعطفها على المنصوب في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أي : اذكروا نعمتي وتفضيلي إيّاكم ، والجار متعلّق به ، وهذا من باب عطف الخاصّ على العام ؛ لأن النعمة تشمل التّفضيل.

والفضل : الزيادة في الخير ، واستعماله في الأصل التعدّي ب «على» ، وقد يتعدّى ب «عن» إمّا على التضمين ، وإما على التجوّز في الحذف ؛ كقوله : [البسيط]

٤٦٠ ـ لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني (٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البيت لذي الإصبع العدواني ينظر أدب الكاتب : ص ٥١٣ ، والأزهية : ص ٢٧٩ ، وخزانة الأدب : ٧ / ١٧٣ ، ١٧٧ ، ١٨٤ ، ١٨٦ ، والدرر ٤ / ١٤٣ ، ولسان العرب (فضل) ، (دين) ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٨٦ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٤٧ ، وسمط اللآلي : ص ٢٨٩ ، والأغاني : ٣ / ١٠٨ ، وإصلاح المنطق : ص ٣٧٣ ، وأمالي المرتضى : ١ / ٢٥٢ ، وجمهرة اللغة : ص ٥٩٦ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٣٠ ، والمؤتلف والمختلف : ص ١١٨ ، ولكعب الغنوي في الأزهية : ص ٩٧ ، والأشباه والنظائر : ١ / ٢٦٣ ، ٢ / ١٢١ ، ٣٠٣ ، والإنصاف : ١ / ٣٩٤ ، الدر المصون : ١ / ٢١٣.

٤٥

وقد يتعدّى بنفسه ؛ كقوله : [الوافر]

٤٦١ ـ وجدنا نهشلا فضلت فقيما

كفضل ابن المخاض على الفصيل (١)

فعدّاه بنفسه ، وب «عن» ، وفعله «فضل» بالفتح ـ «يفضل» ـ بالضم ـ ك : «قتل ـ يقتل».

وأما الذي معناه «الفضلة» من الشيء ، وهي : البقيّة ففعله أيضا كما تقدم.

ويقال فيه أيضا : «فضل» بالكسر «يفضل» بالفتح ك : «علم ـ يعلم» ، ومنهم من يكسرها في الماضي ، ويضمّها في المضارع ، وهو من التّداخل بين اللغتين.

فإن قيل : قوله : (أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) يلزم منه أن يكونوا أفضل من محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وذلك باطل.

والجواب من وجوه :

أحدها : قال قوم : العالم عبارة عن الجمع الكثير من النّاس كقولك : رأيت عالما من النّاس ، والمراد منه الكثرة ، [وهذا](٢) ضعيف ؛ لأن لفظ العالم مشتقّ من العلم وهو الدليل ، فكل ما كان دليلا على الله ـ تعالى ـ فإنه عالم ، وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم كلّ موجود سوى الله.

وثانيها : المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، فإن الشّخص الذي لم يوجد بعد ليس من جملة العالمين ، ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان موجودا في ذلك الوقت ، فما كان ذلك الوقت من العالمين ، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد ، وهذا هو الجواب أيضا عن قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] ، وقال : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] ، أراد به عالمي ذلك الزمان.

وثالثها : قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) عام في العالمين ، لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة ، فالآية تدلّ على أن بني إسرائيل فضّلوا على كل العالمين في أمر ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كلّ العالمين في كل الأمور ، بل لعلهم ، وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد ، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر ، وعند ذلك يظهر أنه لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة.

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٩٦ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥١٣ ، والكتاب : ٢ / ٩٨ ، وله أو لجرير في لسان العرب [مخض] ، شرح المفصل : ١ / ٣٥ ، والمقتضب : ٤ / ٤٦ ، وابن يعيش : ١ / ٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٢١٤.

(٢) سقط في ب.

٤٦

تنبيه

قال «ابن زيد» : أراد به المؤمن منهم ؛ لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير. وقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [المائدة : ٧٨].

فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب

جميع ما خوطب به بنو إسرائيل تنبيه للعرب ، وكذلك أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١] ، وقال تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨].

وروى قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يقول : قد مضى والله بنو إسرائيل وما يغني ما تسمعون [عن] غيركم.

فإن قيل : لما [خصهم](١) بالنعم العظيمة في الدنيا ، فهذا يناسب أن يخصهم أيضا بالنعم العظيمة في الآخرة ، كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه ، فلم أردف ذلك التخويف الشديد في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ٤٨].

والجواب : [أن](٢) المعصية مع عظيم النّعمة تكون أقبح وأفحش ، فلهذا حذرهم عنها.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٤٨)

(يَوْماً) مفعول به ، [ولا بد من حذف](٣) مضاف أي : عذاب يوم أو هول يوم ، وأجيز أن يكون منصوبا على الظرف ، والمفعول محذوف تقديره : واتقوا العذاب في يوم صفته كيت وكيت.

ومنع «أبو البقاء» كونه ظرفا ، قال : «لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة».

والجواب عما قاله : أن الأمر بالحذر من الأسباب المؤدّية إلى العقاب في يوم القيامة.

وأصل (اتَّقُوا :) «اوتقوا» ، ففعل به ما تقدم في (تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١].

قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ).

التنكير في (نَفْسٌ) و (شَيْئاً) معناه أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئا من الأشياء ، وكذلك في (شَفاعَةٌ) و (عَدْلٌ).

__________________

(١) في أ : خصصهم.

(٢) في ب : لأن.

(٣) في ب : فلا بد من مفعول.

٤٧

قال الزمخشري (١) : و (شَيْئاً) مفعول به على أن تجزي بمعنى «تقضي» ، أي : لا تقضي نفس عن غيرها شيئا من الحقوق ، ويجوز أن يكون في موضع مصدر ، أي : قليلا من الجزاء كقوله : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) [مريم : ٦٠] ، أي : شيئا من الجزاء ؛ لأن الجزاء شيء ، فوضع العام موضع الخاص.

واجتزأت بالشّيء اجتزاء : اكتفيت ، قال الشاعر : [الوافر]

٤٦٢ ـ بأنّ الغدر في الأقوام عار

وأنّ الحرّ يجزأ بالكراع (٢)

أي : يجتزىء به.

والجملة في محلّ نصب صفة ل «يوما» ، والعائد محذوف ، والتقدير : لا تجزي فيه ، ثم حذف الجار والمجرور ، لأن الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها ، وهذا مذهب «سيبويه».

وقيل : بل حذف بعد حذف حرف الجرّ ، ووصول الفعل إليه فصار : لا تجزيه ؛ كقوله : [الطويل]

٤٦٣ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٣)

ويعزى للأخفش ، إلّا أن «المهدوي» نقل أن أن الوجهين المتقدّمين جائزان عند الأخفش وسيبويه والزجاج ؛ ويدلّ على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوبا قوله : [الوافر]

٤٦٤ ـ فما أدري أغيّرهم قناء

وطول الدّهر أم مال أصابوا؟ (٤)

أي : أصابوه ، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير : يوما يوم لا تجزي نفس ، فيصير كقوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) [الانفطار : ١٩] ، ويكون «اليوم» الثاني بدلا من يوما الأول ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائد ؛ لأن الظرف متى أضيف إلى الجملة

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٣٥.

(٢) البيت لأبي حنبل بن مر الطائي ينظر شرح شواهد الإيضاح : ص ٤١٢ ، والشعر والشعراء : ١ / ١٢٤ ، لسان العرب (جزأ) ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

(٣) البيت لرجل من بني عامر في الدرر ٣ / ٩٦ ، وشرح المفصل ٢ / ٤٦ ، ولسان العرب [جزي] ، والأشباه والنظائر ١ / ٣٨ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٨١ و ٨ / ٢٠٢ و ١٠ / ١٧٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٨٨ ، مغني اللبيب ٢ / ٥٠٣ ، والمقتضب ٣ / ١٠٥ ، والمقرب ١ / ١٤٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٣ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٦ ، الكامل ٢١ والدر المصون ١ / ٢١٤.

(٤) البيت للحارث بن كلدة ينظر الأزهية : ص ١٣٧ ، والكتاب : ١ / ٨٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٣٦٥ ، ولجرير في المقاصد النحوية : ٤ / ٦٠ ، وليس في ديوانه ، والرد على النحاة : ص ١٢١ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤٧٦ ، وشرح المفصل : ٦ / ٨٩ ، والكتاب : ١ / ١٣٠ ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

٤٨

بعده لم يؤت له فيها بضمير ، إلّا في ضرورة شعر ؛ كقوله : [الوافر]

٤٦٥ ـ مضت مائة لعام ولدت فيه

وسبع بعد ذاك وحجّتان (١)

و «عن نفس» متعلّق ب «تجزي» ، فهو في محلّ نصب به.

قال «أبو البقاء» : يجوز أن يكون نصبا على الحال.

و «الجزاء» : القضاء والمكافأة ؛ قال : [الرجز]

٤٦٦ ـ يجزيه ربّ العرش عنّي إذ جزى

جنّات عدن في العلاليّ العلا (٢)

و «الإجزاء» : الإغناء والكفاية ، أجزأني كذا : كفاني ، قال : [الطويل]

٤٦٧ ـ وأجزأت أمر العالمين ولم يكن

ليجزأ إلّا كامل وابن كامل (٣)

وأجزأت وجزأت متقاربان.

وقيل : إن الإجزاء والجزاء بمعنى ، تقول فيه : جزيته وأجزيته.

وقد قرىء (٤) : «تجزىء» بضم حرف المضارعة من «أجزأ».

قوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) هذه الجملة عطف على ما قبلها ، فهو صفة أيضا ل «يوما» والعائد (مِنْها) عليه محذوف كما تقدم ، ولا يقبل منها فيه شفاعة.

و (شَفاعَةٌ) مفعول لم يسمّ فاعله ، فلذلك رفعت.

وقرىء (٥) : (يُقْبَلُ) بالتذكير والتأنيث ، فالتأنيث للفظ ، والتذكير لأنه مؤنّث مجازي ، وحسنه الفصل.

وقرىء (٦) : (وَلا يُقْبَلُ) مبنيا للفاعل وهو «الله» تعالى. و (شَفاعَةٌ) نصبا مفعولا به.

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) صفة أيضا ، والكلام فيه واضح.

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه : ١٦١ ، والأغاني : ٥ / ٦ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١٦٨ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦١٤ ، ٩٢٠ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٠٠ ، وللنمر بن تولب في الدرر : ٣ / ١٥١ ، وليس في ديوانه ، ومغني اللبيب : ٢ / ٥٩٢ ، والمقرب : ١ / ٢١٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢١٩ ، الدر المصون: ١ / ٢١٤.

(٢) البيت لأبي النجم ينظر الأضداد : (١١٩) ، البحر : ١ / ٣٤٤ ، الطبري : ١ / ٢٣٥ ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٢٥٧ ، الدر المصون : ١ / ٢١٥.

(٤) وهي قراءة أبي السمّال العدوي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٤٧ ، والقرطبي : ١ / ٢٥٧.

(٥) قراءة التأنيث عن ابن كثير وأبي عمرو ، والتذكير عن نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ، واختلف عن عاصم.

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٤٢ ، وحجة القراءات : ٩٥ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٢٣ ، وشرح شعلة : ٢٦١ ، والعنوان في القراءات السبع : ٦٩ ، وإتحاف فضلاء النشر : ١ / ٣٩٠.

(٦) قرأ بها سفيان. انظر البحر المحيط : ١ / ٣٤٨.

٤٩

و (مِنْها) متعلّق ب (يُقْبَلُ) و «يؤخذ».

وأجاز أبو البقاء : أن يكون نصبا على الحال ؛ لأنه في الأصل صف ل «شفاعة» و «عدل» ، فلما قدم عليهما نصب على الحال ، ويتعلّق حينئذ بمحذوف ، وهذا غير واضح ، فإنّ المعنى منصب على تعلقه بالفعل ، والضمير في «منها» يعود على «نفس» الثانية ؛ لأنها أقرب مذكور ، ويجوز أن يعود الضّمير الأول على الأولى ، وهي النفس الجازية ، والثاني يعود على الثّانية ، وهي المجزيّ عنها ، وهذا مناسب.

و «الشّفاعة» مشتقة من الشّفع ، وهو الزوج ، ومنه «الشّفعة» ؛ لأنها ضمّ ملك إلى غيره ، والشافع والمشفوع له ؛ لأن كلّا منهما يزوج نفسه بالآخر ، وناقة شفوع يجمع بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شافع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها.

والعدل ـ بالفتح ـ الفداء ، وبالكسر : المثل ، يقال : عدل وعديل.

وقيل : عدل ـ بالفتح ـ المساوي للشيء قيمة وقدرا ، وإن لم يكن من جنسه ، وبالكسر : المساوي له في جنسه وجرمه.

وحكى الطبري : «أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفداء ، وأما عدل ـ واحدالأعدال ـ فهو بالكسر لا غير». وعدل ـ واحد الشهود ـ [فبالفتح لا غير ، وأما قوله عليه‌السلام : «لم يقبل الله منه صرفا وعدلا»](١) فهو بالفتح أيضا. وقيل : المراد ب «الصّرف» : النّافلة ، وب «العدل» : الفريضة.

وقيل : الصّرف : التوبة ، والعدل : الفدية.

قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على ما قبلها ، وإنما أتى هنا بالجملة مصدّرة بالمبتدأ مخبرا عنه بالمضارع تنبيها على المبالغة والتأكيد في عدم النصرة. والضمير في قوله (وَلا هُمْ) يعود على «النّفس» ؛ لأن المراد بها جنس الأنفس ، وإنما عاد الضمير مذكرا ، وإن كانت النفس مؤنثة ؛ لأنّ المراد بها العباد والأناسيّ.

قال الزمخشري : «كما تقول : ثلاثة أنفس». يعني : إذا قصد به الذّكور ؛ كقوله : [الوافر]

٤٦٨ ـ ثلاثة أنفس وثلاث ذود

 .......... (٢)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) صدر بيت للحطيئة وعجزه :

لقد جار الزمان على عيالي

ينظر ديوانه : ص ٢٧ ، وينسب أيضا لأعرابي من أهل البادية ينظر الكتاب : ٣ / ٥٦٥ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٣٦٧ ، و ٣٦٨ ، ٣٦٩ ، ٣٩٤ ، والخصائص : ٢ / ٤١٢ واللسان (ذود) والمقاصد النحوية : ٤ / ٤٨٥ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٢٤٦ والدرر : ٦ / ١٩٥ وشرح الأشموني : ٢ / ٦٢ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٧٠ ، ومجالس ثعلب : ١ / ٣٠٤ ، والهمع : ١ / ٢٥٣ ، ٢ / ١٧٠ ، الدر المصون : ١ / ٢١٦.

٥٠

ولكن النّحاة نصّوا على أنه ضرورة ، فالأولى أن يعود على الكفار الذين اختصتهم (١) الآية ؛ كما قال «ابن عطية».

و «النّصر» : العون ، والأنصار : الأعوان ، ومنه (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران: ٥٢] والنّصر ـ أيضا ـ الانتقام ، انتصر زيد : انتقم ، والنصر : الإتيان ـ نصرت أرض بني فلان : أتيتها ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٦٩ ـ إذا دخل الشّهر الحرام فودّعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر (٢)

والنّصر : المطر ، يقال : نصرت الأرض : مطرت.

قال «القفّال» : تقول العرب : أرض منصورة أي ممطورة ، والغيث ينصر البلاد : إذا أنبتها ، فكأنه أغاث أهلها.

وقيل في قوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) [الحج : ١٥] أي : لن يرزقه الله ، كما يرزق الغيث البلاد.

والنّصر : العطاء ؛ قال : [الرجز]

٤٧٠ ـ إنّي وأسطار سطرن سطرا

لقائل : يا نصر نصر نصرا (٣)

ويتعدّى ب «على» قال تعالى : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦] وأما قوله : (وَ (٤) نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) [الأنبياء : ٧٧] فيحتمل التعدّي ب «من» ويحتمل أن يكون من التضمين. أي : نصرناه بالانتقام له منهم.

فإن قيل : قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) تفيد ما أفاده (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فما المقصود من هذا التكرار؟

فالجواب : أن قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) أي : لا تتحمّل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء.

وأما النّصرة فهو أن يحاول تخليصه من حكم المعاقب ، فإن قيل : قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية ، وفي الآية التي قبل قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٢٤] قدم قبول الفدية على ذكر الشّفاعة فما [الحكم؟ قال ابن الخطيب :](٤) فالجواب : أن من كان ميله إلى حبّ المال أشدّ من ميله إلى علوّ النفس فإنه يقدّم [التمسّك](٥) بالشافعين على إعطاء الفدية ، ومن كان بالعكس يقدّم الفدية على الشفاعة ،

__________________

(١) في ب : اقتضتهم.

(٢) البيت للراعي ينظر القرطبي : ١ / ٢٥٩ ، واللسان (نصر) ، الدر المصون : ١ / ٢١٦.

(٣) البيت لرؤبة ينظر ملحق ديوانه : (١٧٤) والمغني : (٤٣٤) والخصائص : ١ / ٣٤٠ ، وشواهد المغني : (٢٧٤) والهمع : ٢ / ١٢١ والدرر : ٢ / ١٥٣ والدر المصون : ١ / ٢١٦ ، والقرطبي : ١ / ٢٥٩.

(٤) في ب : الحكمة فيه.

(٥) سقط في أ.

٥١

ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين.

فصل في سبب نزول الآية

ذكروا أن سبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وأبناء أنبيائه ، وسيشفع لنا آباؤنا ، فأعلمهم الله ـ تعالى ـ عن يوم القيامة أنه لا تقبل فيه الشفاعات ، ولا يؤخذ فيه فدية.

وإنما خصّ الشّفاعة والفدية والنصر بالذّكر ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا ، فإنّ الواقع في الشّدّة لا يتخلّص إلا بأن يشفع له ، أو يفتدى ، أو ينصر.

فصل في الشفاعة

أجمعت الأمّة على أنّ الشفاعة في الآخرة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم [اختلفوا في](١) أن شفاعته ـ عليه الصلاة والسلام ـ [لمن](٢) تكون أي للمؤمنين المستحقّين للثواب أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟

فذهب المعتزلة إلى أنها للمستحقّين للثواب ، وتأثير الشفاعة زيادة المنافع على ما استحقّوه.

وقال أصحابنا : تأثيرها في إسقاط العقاب عن المستحقّين العقاب بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار ، فإن دخلوا النار ، فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة ..

واتفقوا على أنها ليست للكفار.

قوله تعالى : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(٤٩)

«إذ» في موضع نصب عطفا على «نعمتي» ، وكذلك الظّروف التي بعده نحو : (وَإِذْ واعَدْنا) [البقرة : ٥١] ، (وَإِذْ قُلْتُمْ) [البقرة : ٥٥]. وقرىء (٣) : [أنجيتكم](٤) على التوحيد.

وهذا الخطاب للموجودين في زمن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا بدّ من حذف مضاف ، أي : أنجينا آباءكم ، نحو : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] ؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء ، وأصل الإنجاء والنّجاة : الإلقاء على نجوة من الأرض ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) قرأ بها النخعي. انظر البحر المحيط ١ / ٣٥٠ ، والشواذ : ٥.

(٤) في ب : نجيتكم.

٥٢

وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات ، ثم أطلق الإنجاء على كل فائز وخارج من ضيق إلى سعة ، وإن لم يلق على نجوة.

و «من آل» متعلّق به ، و «من» لابتداء الغاية.

و «آل» اختلف فيه على ثلاثة أقوال : فقال «سيبويه» [وأتباعه](١) : إن أصله «أهل» فأبدلت الهاء همزة لقربها منها [ـ كما قالوا : ماء ، وأصله ماه ـ](٢) ، ثم أبدلت الهمزة ألفا ، لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو : «آمن وآدم» ولذلك إذا صغّر رجع إلى أصله [فتقول : «أهيل».

قال أبو البقاء : وقال بعضهم : «أويل» ، فأبدلت الألف واوا](٣).

ولم يرده إلى أصله ، كما لم يردوا «عييدا» إلى أصله في التصغير يعني فلم يقولوا : «عويدا» لأنه من «عاد ـ يعود» ، قالوا : لئلا يلتبس بعود الخشب. وفي هذا نظر ؛ لأن النحاة قالوا : من اعتقد كونه من «أهل» صغره على «أهيل» ، ومن اعتقد كونه من «آل ـ يئول» أي : رجع صغّره على «أويل».

وذهب «النحاس» إلى أن أصله «أهل» أيضا ، إلا أنه قلب الهاء ألفا من غير أن يقلبها أولا همزة ، وتصغيره عنده على «أهيل».

وقال الكسائيّ : «أويل» وقد تقدّم ما فيه.

ومنهم من قال أصله : «أول» مشتق من «آل ـ يئول» ، أي : رجع ؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله ، فتحركت الواو ، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ، وتصغيره على «أويل» نحو : «مال» و «مويل» و «باب» و «بويب» ويعزى هذا للكسائيّ.

وجمعه : «آلون» و «آلين» وهذا شاذّ ك «أهلين» ؛ لأنه ليس بصفة ولا علم.

قال ابن كيسان : إذا جمعت «آلا» قلت : «آلون» ، فإن جمعت «آلا» الذي هو [السّراب](٤) قلت : «آوال» ليس إلّا ؛ مثل : «مال وأموال».

واختلف فيه فقيل : «آل» الرجل قرابته كأهله.

وقيل : من كان من شيعته ، وإن لم يكن قريبا منه ؛ قال : [الطويل]

٤٧١ ـ فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه

عليّ وعبّاس وآل أبي بكر (٥)

ولهذا قيل : آل النبي من آمن به إلى آخر الدّهر ، ومن لم يؤمن به فليس بآله ، وإن كان نسيبا له ، كأبي لهب وأبي طالب ، ونقل بعضهم أن «الرّاغب» ذكر في «المفردات» أن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : الثواب.

(٥) البيت للحطيئة ينظر ديوانه : (٢٢٣) ، ومجمع البيان : ١ / ١٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٢١٧.

٥٣

«الآل» يطلق على الرّجل نفسه.

واختلف فيه النّحاة : هل يضاف إلى الضمير أم لا؟

فذهب الكسائي ، وأبو بكر الزبيدي (١) ، والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز ، فلا يجوز اللهم صلّ على محمّد وآله ، بل وعلى آل محمد ، وذهب جماعة ، منهم ابن السّيد (٢) إلى جوازه ؛ واستدلّوا بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما سئل فقيل : يا رسول الله من آلك؟ فقال : «آلي كلّ تقيّ إلى يوم القيامة» (٣) ؛ وأنشدوا قول [عبد المطلب](٤) : [الكامل]

٤٧٢ ـ لاهمّ إنّ العبد يم

نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصّلي

ب وعابديه اليوم آلك (٥)

[وقول ندبة (٦) : [الطويل]

٤٧٣ ـ أنا الفارس الحامي حقيقة والدي

وآلي كما تحمي حقيقة آلكا (٧)](٨)

واختلفوا أيضا فيه : هل يضاف إلى غير العقلاء فيقال : آل «المدينة» وآل «مكة»؟

__________________

(١) محمد بن الحسن بن عبيد الله بن مذحج الزبيدي الأندلسي الإشبيلي أبو بكر ، عالم باللغة والأدب شاعر أصل سلفه من حمص (في الشام) ولد في ٣١٦ ه‍ نشأ واشتهر في إشبيلية وطلبه الحكم المستنصر بالله إلى قرطبة فأدب فيها ولي عهده هشاما «المؤيد بالله» ، ولي قضاء إشبيلية فاستقر وتوفي بها سنة ٣٧٩ ه‍ من تصانيفه الواضح في النحو وطبقات النحويين واللغويين ، ولحن العامة ومختصر العين في اللغة والاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية.

ينظر الأعلام : ٦ / ٨٢ (٤٣١) ، بغية الملتمس : ٥٦ ، وحلى المغرب : ١ / ٢٥٠ ، بغية الوعاة : ٣٤ ، الوفيات : ١ / ٥١٤.

(٢) عبد الله بن محمد بن السيّد ، أبو محمد : من العلماء باللغة والأدب. ولد ونشأ في بطليوس في الأندلس ، وانتقل إلى بلنسية فسكنها ، من كتبه «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لابن قتيبة» ، «المسائل والأجوبة» ، و «الحدائق» في أصول الدين ، وله كتب كثيرة.

ولد سنة ٤٤٤ ه‍ ، وتوفي سنة ٥٢١ ه‍.

انظر بغية الملتمس : ٣٢٤ ، ابن خلكان : ١ / ٢٦٥ ، البداية والنهاية : ١٢ / ١٨٩ ، الأعلام : ٣ / ١٢٣.

(٣) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ١٧) وقال : قال السيوطي : لا أعرفه. والحديث رواه الديلمي كما في «كشف الخفاء» ولفظه آل محمد كل تقي وقرأ «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ».

ورواه الطبراني في «الأوسط» كما في «كنز العمال» (٥٦٢٤) عن أنس بن مالك ولفظه : آل محمد كل تقي.

(٤) في أ : أبي طالب.

(٥) ينظر الأشباه والنظائر : ١ / ٢٠٧ ، والدرر : ٥ / ٣١ ، وشرح الأشموني : ١ / ٥ ، الممتع في التصريف : ١ / ٣٤٩ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٠ ، واللسان (حلل) والدر المصون : ١ / ٢١٨ ، القرطبي : ١ / ٢٦٠.

(٦) هو خفاف بن ندبة شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام.

(٧) ينظر ديوانه قصيدة : رقم ٩ ص ٦٧ ، الخزانة ٢ / ٤٧٠ ، ونصه :

أنا الفارس الحامي الحقيقة والدي

به تدرك الأوتار قدما كذلك

(٨) سقط في ب.

٥٤

فمنعه الجمهور ، وقال «الأخفش» : قد سمعناه في البلدان ، قالوا : أهل «المدينة» وآل «المدينة» ولا يضاف إلّا إلى من له قدر وخطر ، فلا يقال : آل الإسكاف ولا آل الحجّام ، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنى ولفظا ، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو «أهل» هذا كلّه في «آل» مرادا به الأهل ، أما «آل» الذي هو السّراب فليس مما نحن فيه في شيء ، وتصغيره «أويل» نحو : «مال ومويل» وتقدم جمعه.

قوله : (فِرْعَوْنَ) خفض بالإضافة ، ولكنه لا ينصرف للعجمة والتعريف.

واختلف فيه : هل هو علم شخص ، أو علم جنس ؛ فإنه يقال لكلّ [من](١) ملك القبط و «مصر» : فرعون ، مثل كسرى لكل من ملك الفرس ، وقيصر [وهرقل] لكل من ملك الروم ، ويقال لكل من ملك «الهند» : نهمز (٢) ، وقيل : يعفور ، ويقال لمن ملك الصّابئة : نمروذ ، ولمن ملك البربر : جالوت ، [ولمن ملك اليهود فيطون ، والمعروف شالخ ولمن ملك فرغانة الإخشيد](٣) ، ولمن ملك العرب من قبل العجم النّعمان ؛ ولمن ملك «الصين» يعفو ، وهرقل لكل من ملك الروم ، والقيل لكل من ملك «حمير» ، والنّجاشي لكل من ملك «الحبشة» ، وبطليموس لكل من ملك «اليونان» وتبّع لمن ملك «اليمن» ، وخاقان لمن ملك التّرك.

وقال «الزمخشري» : وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر للروم ، ولعتوّ الفراعنة اشتقوا منه تفرعن فلان ، إذا عتا وتجبّر ؛ وفي ملح بعضهم : [الكامل]

٤٧٤ ـ قد جاءه الموسى [الكلوم] (٤) فزاد في

أقصى تفرعنه وفرط عرامه (٥)

وقال «المسعودي» (٦) : «لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية».

وظاهر كلام «الجوهري» أنه مشتق من معنى العتو ، فإنه قال : «والعتاة : الفراعنة ، وقد تفرعن ، وهو ذو فرعنة ، أي دهاء ومكر».

وفي الحديث : «أخذنا فرعون هذه الأمّة» إلا أن [يريد](٧) معنى ما قاله الزمخشري المتقدم.

__________________

(١) في أ : كافر.

(٢) في أ : نهمش.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : الكليم.

(٥) ينظر البيت في شواهد الكشاف : ١ / ٢٧٩ ، الدر المصون : ١ / ٢١٨.

(٦) علي بن الحسين بن علي أبو الحسن المسعودي من ذرية عبد الله بن مسعود : مؤرخ ، رحالة ، بحاثة ، من أهل بغداد أقام بمصر وتوفي فيها. قال الذهبي «عداده في أهل بغداد ، نزل مصر مدة ، وكان معتزليا» من تصانيفه «مروج الذهب» و «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان» و «الاستذكار بما مر في سالف الأعصار» وأخبار الأمم من العرب والعجم وخزائن الملوك وسر العالمين.

ينظر الأعلام : ٤ / ٢٧٧ (٢١٣٦) ، فوات الوفيات : ٢ / ٤٥ ، لسان الميزان : ٤ / ٢٢٤ ، النجوم الزاهرة : ٣ / ٣١٥.

(٧) في أ : يقال.

٥٥

واسم فرعون موسى : قابوس في قول أهل الكتاب ، نقله وهب بن منبه وقال ابن إسحاق ووهب : «اسمه الوليد بن مصعب بن الريان (١) ، ويكنى أبا مرّة». وحكى ابن جريج «أن» اسمه مصعب بن ريّان ، وهو من بني عمليق بن ولاد بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام.

وذكر ابن الخطيب أن [ابن](٢) وهب قال : إن فرعون يوسف ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ هو فرعون موسى ، لقول موسى عليه الصّلاة والسلام. (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٣٤] وقال : هذا غير صحيح ، إذ كان بين دخول يوسف «مصر» ، وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة.

وذكر النووي أن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة ، فمشى قول ابن وهب.

وقال محمد بن إسحاق : «هو غير فرعون يوسف وإن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد».

قوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) هذه الجملة في محل نصب على الحال من «آل» أي : حال كونهم سائمين ، ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك ، وتكون حكاية حال ماضية ، قال ـ بمعناه ـ ابن عطية ، وليس بظاهر.

وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم يسومونكم ، ولا حاجة إليه أيضا.

و «كم» مفعول أول ، و «سوء» مفعول ثان ؛ لأن «سام» يتعدّى لاثنين ك «أعطى» ، ومعناه أولاه كذا ، وألزمه إياه ؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم : [الوافر]

٤٧٥ ـ إذا ما الملك سام النّاس خسفا

أبينا أن نقرّ الخسف فينا (٣)

قال الزمخشري (٤) : «وأصله من سام السّلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ، ويزيدونكم عليه».

وقيل أصل السّوم : الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. والمعنى : يديمون تعذيبكم.

وسوء العذاب : أشدّه وأقطعه ، وإن كان كله سيّئا ، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره.

والسوء : كل ما يعم الإنسان من أمر دنيوي وأخروي ، وهو في الأصل مصدر ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٨) وفي تاريخه (١ / ١٩٩) وعن ابن إسحاق : أن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان.

(٢) سقط في ب.

(٣) البيت من معلقته المشهورة ينظر شرح المعلقات للتبريزي : (٣٩٥) ، والشنقيطي (١٠٨) ، والدر المصون : ١ / ٢١٨ ، القرطبي : ١ / ٢٦١.

(٤) ينظر الكشاف : ١ / ١٣٨.

٥٦

ويؤنث بالألف ، قال تعالى : (أَساؤُا السُّواى) [الروم : ١٠].

[وأجاز بعضهم أن يكون «سوء» نعتا لمصدر محذوف تقديره : يسومونكم سوما سيئا ، كذا قدره.

وقال أيضا :](١) «ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب» ، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر نحو : «قعد جلوسا» ؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم.

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «السّوء» على خمسة عشر وجها :

الأول : بمعنى «الشدة» كهذه الآية ، أي : شدة العذاب.

الثاني : بمعنى «العقر» قال تعالى : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [هود : ٦٤].

الثالث : «الزّنا» قال تعالى : (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف : ٥١].

الرابع : «المرض» قال تعالى : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [طه : ٢٢].

الخامس : «اللّعنة» قال تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) [النحل : ٢٧].

السادس : «العذاب» قال تعالى : (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) [الزمر : ٦١].

السابع : «الشّرك» قال تعالى : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [النحل : ٢٨].

الثامن : «العصيان» قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [النحل: ١١٩].

التاسع : «الشّتم» قال تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢] أي : بالشّتم ، ومثله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٤٨] أي : الشّتم.

العاشر : «الجنون» قال تعالى : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] أي بجنون.

الحادي عشر : «اليأس» قال تعالى : (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] أي : يأس الدار.

الثاني عشر : «المرض» قال تعالى : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل : ٦٢] يعني : المرض.

الثالث عشر : «الفقر» قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف : ١٨٨] أي : الفقر.

الرابع عشر : «الهزيمة» قال تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] أي : هزيمة.

الخامس عشر : «السوء» : الصيد ، قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) [الأعراف : ١٦٥] أي : الصيد.

__________________

(١) سقط في أ.

٥٧

فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل

قال «محمد بن إسحاق» : جعلهم خولا وخدما له ، وصنفهم في [أعماله](١) فصنف يبنون ، وصنف يحرثون ، وصنف يزرعون ، وصنف يخدمونه ، ومن لم يكن في فرع من أعماله ، فإنه يضع عليه جزية يؤديها.

وقال «السّدي» : جعلهم في الأعمال الصّعبة الشديدة مثل : كنس المبرز ، وعمل الطّين ، ونحت الجبال.

قوله : (يُذَبِّحُونَ) هذه الجملة يحتمل أن تكون مفسّرة للجملة قبلها ، وتفسيرها لها على وجهين :

أحدهما : أن تكون مستأنفة ، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب ، كأنه قيل : كيف كان سومهم العذاب؟ فقيل : يذبحون.

الثاني : أن تكون بدلا منها ؛ كقوله : [الطويل]

٤٧٦ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

 ..........(٢)

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان : ٦٨] ، ولذلك ترك العاطف ، ويحتمل أن تكون حالا ثانية ، لا على أنها بدل من الأولى.

وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال وقد منع «أبو البقاء» هذا الوجه محتجا بأن الحال تشبه المفعول به ، ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف ، وهذا بناء منه على أحد القولين ، ويحتمل أن تكون حالا من فاعل «يسومونكم».

وقرىء (٣) : «يذبحون» بالتخفيف ، والأولى قراءة الجماعة ؛ لأن الذبح متكرر.

فإن قيل : لم لم يؤت هنا بواو العطف كما أتي بها في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟

فالجواب : أنه أريد هنا التّفسير كما تقدّم ، وفي سورة إبراهيم معناه : يعذّبونكم بالذّبح وبغير الذّبح.

وقيل : يجوز أن تكون «الواو» زائدة ، فتكون كآية «البقرة» ؛ واستدلّ هذا القائل على زيادة الواو بقوله : [الطويل]

٤٧٧ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

 ..........(٤)

__________________

(١) في ب : الأعمال.

(٢) تقدم برقم (١٨٣).

(٣) قرأ بها الزهري وابن محيصن.

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٥١ ، والدر المصون : ١ / ٢١٩ ، والقرطبي : ١ / ٢٦٢ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٠.

(٤) صدر بيت لامرىء القيس من معلقته المشهورة وعجزه :

بنا بطن حقف ذي قفاف عقنقل

٥٨

يريد : انتحى. ووله : [المتقارب]

٤٧٨ ـ إلى الملك القزم وابن الهمام

 .......... (١)

والجواب الأول أصح.

قال ابن الخطيب : المقصود من ذكر حرف العطف في سورة «إبراهيم» عليه الصلاة والسلام أنه تعالى قال قبل هذه الآية : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَالظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا [بتعداد](٢) النعم ، فوجب أن يكون المراد من قوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) نوعا من العذاب ، والمراد من قوله : (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) نوعا آخر ، فتحصل منهما نوعان من النعمة ، فلهذا وجب ذكر حرف العطف ، وأما هذه الآية لم يرد الأمر إلّا بتذكر جنس النعمة ، وهي قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ،) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذّبح أو غيره ، فإنّ التذكر لجنس النعمة حاصل.

«والذّبح» أصله الشّقّ ، ومنه المذابح لأخاديد السّيول في الأرض.

والذّبح : المذبوح «والذّباح» : تشقق في [أصول](٣) الأصابع. والمذابح ـ أيضا : المحاريب.

وأما «أبناء» جمع «ابن» ، رجع به إلى أصله ، فردّت لامه ، إما الواو أو الياء حسبما تقدم.

والأصل : «أبناو» أو «أبناي» ، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة ، والمراد بهم : الأطفال عند أكثر المفسرين.

وقيل : الرجال ، وعبر عنهم بالأبناء باعتبار ما كانوا ؛ لأنه ذكرهم في مقابلة النساء.

و «النّساء» : اسم للبالغات ، فكذا المراد من الأبناء الرّجال البالغون.

قالوا : إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخافون منهم الخروج عليهم والتجمّع لإفساد أمره.

والأول أولى لحمل لفظ الأبناء على ظاهره ، ولأنه كان متعذّر قتل جميع الرّجال على كثرتهم ، وأيضا فكانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الأعمال الشّاقة ، ولو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في التّابوت حال صغره معنى.

__________________

ـ ينظر ديوانه : ص ١٥ ، وأدب الكاتب : ص ٣٥٣ والأزهية : ص ٢٣٤ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ولسان العرب «جوز» والمنصف : ٣ / ٤١ ، ورصف المباني : ص ٤٢٥ ، والدر المصون : ١ / ٢١٩.

(١) تقدم برقم (١٢٨).

(٢) في ب : بتعديد.

(٣) في ب : بطون.

٥٩

وأما قولهم : لأنه ذكرهم في مقابلة النساء ففيه جوابان :

الأول : أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولة لم يصيروا رجالا ، فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم.

أما البنات لما لم يقتلن ، بل وصلن إلى حدّ النساء جاز الإطلاق اسم النساء عليهن اعتبارا بالمآل.

الثاني : قال بعضهم : المراد بقوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يفتّشون حياء المرأة أي : فرجها هل بها حمل أم لا؟

فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء

ذكروا في سبب قتل الأبناء وجوها :

أحدها : قال ابن عباس : وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد به إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا فخافوا ذلك ، واتفقت كلمتهم على إعداد رجال يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه فلما رأوا أكابرهم يموتون ، وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فلا يجدون من يباشر الأعمال الشّاقة ، فصاروا يقتلون عاما دون عام (١).

وثانيها : قال السّدي : إن فرعون رأى نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت «مصر» ، فأحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة ، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يديه.

وثالثها : أن المنجّمين أخبروا فرعون بذلك.

قال ابن الخطيب (٢) : والأقرب هو الأول ؛ لأن الذي يستفاد من علم التعبير ، وعلم النجوم لا يكون أمرا مفصلا ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزا ، بل يكون أمرا مجملا ، والظاهر من حال العاقل ألّا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه.

فإن قيل : إنّ فرعون كان كافرا بالله فبأن يكون كافرا بالرسل أولى ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه الصّلاة والسلام عنه؟

فالجواب : لعلّ فرعون كان عارفا بالله ، وبصدق الأنبياء إلّا أنه كان كافرا كفر عناد أو يقال : إنه كان شاكّا متحيرا في دينه ، وكان يجوّز صدق إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فأقدم على ذلك الفعل احتياطا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٢) وفي تاريخه (١ / ٢٠٢) مع اختلاف يسير في اللفظ عن ابن عباس موقوفا.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٦٥.

٦٠