اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

قال : لأنه قوله تعالى : «فأت (بِخَيْرٍ مِنْها) يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه ، كما إذا قال الإنسان : ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه ، وجنس القرآن قرآن ، وأيضا المنفرد بالإتيان بذلك الخير ، وهو القرآن الذي هو كلام الله تعالى.

وأيضا فإن [السّنة لا تكون خيرا من القرآن](١).

وروى الدّارقطني عن جابر أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القرآن ينسخ حديثي وحديثي لا ينسخ القرآن».

وأجيب عن قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] وقوله : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وإذا ثبت أن الكل من عند الله ، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [أقصى ما فيه أنّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ ، وغير متلو](٢) وقد نسخت الوصية للأقربين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصيّة لوارث» (٣).

ونسخ حبس الزّاني في البيوت بخبر الرجم.

والجواب : استدل به الشافعي ـ رضي الله عنه ـ من الآية ، وأما الوصية فإنها نسخت بآية المواريث قاله عمر وابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وأشار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى هذا بقوله : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث».

وأما حبس الزاني ، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية ، وهي إلى (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥] فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو وليس بنسخ.

وروي أيضا أن قوله : «الشّيخ والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما ألبتة» (٤) كان قرآنا ، فلعل النسخ إنما وقع به.

__________________

(١) في ب : القرآن لا تكون السنة خيرا منه.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه سعيد بن منصور (٤٢٧) وأبو داود (٣٥٦٥) والترمذي (٢ / ١٦) وابن ماجه (٢٧١٣) والبيهقي (٦ / ٢٦٢٤) والطيالسي (١١٢٧) وأحمد (٥ / ٢٦٧) عن أبي أمامة.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه سعيد بن منصور (٤٢٨) والنسائي (٢ / ١٢٨) والترمذي (٢ / ١٧) والدارمي (٢ / ٤١٩) وابن ماجه (٢٧١٢) والطيالسي (١٢١٧) وأحمد (٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٢٣٨ ، ٢٣٩) وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه (٢٧١٤) والدارقطني (٤٥٤ ـ ٤٥٥) عن أنس بن مالك وأخرجه الدارقطني ص ٤٦٦ والبيهقي (٦ / ٢٦٣) عن ابن عباس بلفظ لا تجوز وصية لوارث.

(٤) أخرجه أحمد في المسند (٥ / ١٨٣) ـ والدارمي في السنن ٢ / ١٧٩. والبيهقي في السنن ٨ / ٢١١ ـ والحاكم في المستدرك ٤ / ٣٦٠. والخطيب في التاريخ ٢ / ٣٨٦ ـ وذكره القرطبي في التفسير ٥ / ٨٩.

وابن حجر في فتح الباري ٩ / ٦٥ ـ والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٨٠. والهيثمي في الزوائد ٦ / ٢٦٨ ـ والعجلوني في كشف الخفا ٢ / ٢٣ وتقدم تخريجه.

٣٨١

فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟

اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ (١)؟

فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر ، لاستحالة الكذب على الله تعالى.

وقيل : إن الخبر إذا تضمّن حكما شرعيّا جاز نسخه ، كقوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) [النحل : ٦٧].

فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟

القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله ، ولو صلى به لم تصح صلاته.

فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن

استدلت المعتزلة بهذه الآية على [خلق القرآن](٢) من وجوه :

أحدها : أن كلام الله ـ تعالى ـ لو كان قديما لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك

__________________

(١) تنوعت آراء الأصوليّين في موضوع النّسخ : فالمذهب الذي عليه أئمّة العلماء ؛ وهو أن النّسخ إنما يكون في المتعبّدات ؛ لأن لله ـ عزوجل ـ أن يتعبد خلقه بما شاء ، إلى أيّ وقت شاء ، ثم يتعبدهم بغير ذلك ، فيكون النّسخ في الأوامر والنواهي ، وما كان في معناهما ؛ مثل قوله تعالى : «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ» [النور : ٣] وقوله تعالى في سورة يوسف ـ عليه‌السلام ـ : «قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» [يوسف : ٤٧].

فالأولى : مثال للخبر الذي بمعنى النّهي ؛ لأن المعنى : لا تنكحوا زانية ولا مشركة.

والثانية : مثال للخبر الذي بمعنى الأمر ، لأنّ المعنى : «ازرعوا».

وهذا المذهب عزي إلى الضّحّاك بن مزاحم.

والثاني : أن النّسخ كما يكون في الأوامر والنّواهي يكون في الأخبار ، وينسب ل «عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، والسّديّ» ؛ حيث قالا : «قد يدخل النّسخ على الأمر والنهي ، وعلى جميع الأخبار» ، ولم يفصّلا ، وتابعهما على هذا القول جماعة.

قال أبو جعفر : «وهذا القول عظيم جدا يؤول إلى الكفر» ؛ لأن قائلا لو قال : «قام فلان» ، ثمّ قال : «لم يقم» ، ثم قال : «نسخته» ـ لكان كاذبا.

والثّالث : منهم من ذهب إلى أنّ أمر النّاسخ والمنسوخ موكول إلى الإمام ، فله أن ينسخ ما شاء ، وهذا القول أعظم ، لأنّ النسخ لم يكن إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا بالوحي من الله ـ تعالى ـ : إمّا بقرآن مثله ؛ على قول قوم ، وإمّا بوحي من غير القرآن ، فلما ارتفع هذا بموت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ارتفع النّسخ.

والرابع : منهم من ذهب إلى أنّ النّسخ يكون في الأوامر والنّواهي ، وأمّا الأخبار فيفصل فيها بين ما فيه حكم ، فيجوز النّسخ فيه ، وبين ما لا حكم فيه ، فلا يجوز.

والخامس : منهم من ذهب إلى أنّ النّسخ يكون في الأوامر والنّواهي خاصة.

وهذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة ، عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة بن عمّار.

(٢) في ب : إن القرآن مخلوق.

٣٨٢

محال ؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرا عن المنسوخ ، والمتأخر يستحيل قدمه ، والمنسوخ يجب زواله وارتفاعه ، وما ثبت زواله استحال قدمه.

وثانيها : أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض ، وما كان كذلك لا يكون قديما.

وثالثها : قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يدل على أنه القادر على نسخ بعضها ، وإتيانه بشيء آخر بدلا من الأول ، وما كان داخلا تحت القدرة ، وكان فعلا كان محدثا.

وأجيب عنه : بأن كونه ناسخا ومنسوخا إنما هو من عوارض الألفاظ ، ولا نزاع في حدوثها ، فلما قلتم : إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها؟

قالت المعتزلة : لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال ، وحدث له تعلق آخر ، فالتعلق الأول محدث ؛ لأنه زال ، والقديم لا يزول ، والتعلق الثاني حادث ، لأنه حصل بعد أن لم يكن ، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات ، وما لا ينفك [عن الحدث](١) محدث.

والجواب : أن قدرة الله ـ تعالى ـ كانت في الأزل متعلّقة بإيجاد العالم ، فعند دخول العالم في الوجود ، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق؟

فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادرا على إيجاد الموجود وهو محال ، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق ، فألزمكم حدوث قدرة الله ـ تعالى ـ على ما ذكرتم ، وكذلك علم الله ـ تعالى ـ كان متعلقا بأن العالم سيوجد ، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جهلا ، وإن لم يبق يلزمكم كون التعلق الأول حادثا ؛ لأنه لو كان قديما لما زال ، وكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حادثا فإذا عالمية الله ـ تعالى ـ لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة ، وما لا ينفك عن المحدث [محدث](٢) فعالمية الله محدثة ، فكل ما تجعلونه جوابا عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام.

قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) هذا استفهام معناه التقرير ، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب «أم» ، و «أم» في قوله : (أَمْ تُرِيدُونَ) منقطعة هذا هو الصحيح في الآية. قال ابن عطية (٣) : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : «أم تريدون» ، وقال قوم : «أم» منقطعة ، فالمعادل محذوف تقديره : أم علمتم ، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه‌السلام.

أما إذا أريد هو به ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي انتهى.

__________________

(١) في ب : هذه التعلقات.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٥.

٣٨٣

وهذا فيه نظر ؛ لما مرّ أن المراد به التقرير ، فهو كقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّا لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك.

وفي قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) التفاتان.

أحدهما : خروج من خطاب جماعة ، وهو (خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

والثاني : خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر ، فلم يقل : ألم تعلموا أننا ، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتّفخيم. و (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «أن» وما في حيّزها ، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور ، أو واحد ، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٠٧)

قال ابن الخطيب : لما حكم بجواز النسخ عقّبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره ، وهذا هو التنبيه على أنه ـ سبحانه وتعالى ـ إنما حسن [منه الأمر والنهي لكونه مالكا للخلق ، وهذا هو مذهب أصحابنا ، وأنه](١) إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل ، أو لعقاب يندفع.

قال القفال رحمه‌الله تعالى : ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة ، فإنه ـ تعالى ـ أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض ، وأن الأمكنة والجهات كلها له ، وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض ، إلّا من حيث يجعلها هو تعالى له ، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستدلال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف ، فلا مانع يمنع من تغييره من جهة إلى جهة.

قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) جزم ب «لم» ، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل ، وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) خطاب للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والمراد أمته ، لقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

وفي قوله : (مُلْكُ) وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره مقدم عليه ، والجملة في محلّ رفع خبر ل «أن».

والثاني : أنه مرفوع بالفاعلية ، رفعه الجار قبله عند الأخفش ، لا يقال : إن الجار هنا قد اعتمد لوقوعه خبرا ل «أن» ، فيرفع الفاعل عند الجميع ؛ لأن الفائدة لم تتم به ، فلا يجعل خبرا.

__________________

(١) سقط في أ.

٣٨٤

والملك بالضم الشيء المملوك ، وكذلك هو بالكسر ، إلا أنّ المضموم لا يستعمل إلا في مواضع السّعة وبسط السلطان.

وتقدم الكلام في حقيقة الملك في قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤].

قوله : (وَما لَكُمْ) يجوز في «ما» وجهان.

أحدهما : أن تكون تميمة ، فلا عمل لها ، فيكون «لكم» خبرا مقدما ، و «من وليّ» مبتدأ مؤخرا زيدت فيه «من» ، فلا تعلّق لها بشيء.

والثاني : أن تكون حجازية ، وذلك عند من يجيز تقديم خبرها ظرفا أو حرف جر ، فيكون «لكم» في محلّ نصب خبرا مقدما ، و «من وليّ» اسمها مؤخرا ، و «من» فيه زائدة أيضا.

و (مِنْ دُونِ اللهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بما تعلق به «لكم» من الاستقرار المقدر ، و «من» لابتداء الغاية.

والثاني : أنه في محلّ نصب على الحال من قوله : «من ولي أو نصير» ؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة ، فلما قدم عليها انتصب حالا قاله أبو البقاء رحمه‌الله تعالى.

فعلى هذا يتعلّق بمحذوف غير الذي تعلّق به «لكم» ، ومعنى (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله ؛ كما قال أمية بن أبي الصلت [البسيط]

٧٢٩ ـ يا نفس ما لك دون الله من واق

[وما على حدثان الدّهر من باق(١)(٢)

والولي : من وليت أمر فلان ، أي قمت به ، ومنه : وليّ العهد أي : المقيم بما عهد إليه من أمر المسلمين.

(وَلا نَصِيرٍ) عطف على لفظ «وليّ» ولو قرىء برفعه على الموضع لكان جائزا ، وأتي بصيغة «فعيل» في «ولي» و «نصير» ؛ لأنها أبلغ من فاعل ، ولأن «وليا» أكثر استعمالا من «وال» ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في سورة «الرعد».

وأيضا لتواخي الفواصل وأواخر الآي.

وفي قوله : (لَكُمْ) التفات من خطاب الواحد لخطاب الجماعة ، وفيه مناسبة ، وهو أن المنفيّ صار نصّا في العموم بزيادة «من» فناسب كون المنفي عنه كذلك فجمع لذلك.

فصل في أن الملك غير القدرة

استدل بعضهم بهذه الآية على أن الملك غير القدرة.

__________________

(١) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٩ ، مجمع البيان : ١ / ٤١١ ، تفسير الطبري : ٢ / ٤٨٩.

(٢) سقط في أ.

٣٨٥

فقال : إنه ـ تعالى ـ قال أولا : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم قال بعده: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريرا من غير فائدة ، والكلام في حقيقة الملك.

قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١٠٨)

ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لما حكم بجواز النسخ في الشرائع ، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم ، فمنعهم الله ـ تعالى ـ عنها ، وبين أنّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة والسلام](١).

وثانيها : لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم : إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه‌السلام ما ليس له أن يسأله. عن أبي مسلم.

وثالثها : لما أمر ونهى قال : أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و «أم» هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [لقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ) وهي مفرقة لما جمعته أي : كما أن «أو» مفرقة لما جمعته تقول : اضرب أيهم شئت زيدا أم عمرا ، فإذا قلت : اضرب أحدهم.

قلت : اضرب زيدا أو عمرا.

أو تكون منقطعة ، فتقدم ب «بل» والهمز ، ولا تكون إلّا بعد كلام تام كقوله : إنما الإبل أم شاء ؛ كأنه قال : بل هي شاء ، ومنه قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) [هود : ٣٥] أي : يقولون.

قال الأخطل : [الكامل]

٧٣٠ ـ كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا (٢)

ويكون إضرابا للالتفات من قصّة إلى قصة](٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ديوانه : ٣٨٥ ، والأزهية : ١٢٩ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٩ و ١٠ و ١٢ و ١٩٥ ، ١١ / ١٢٢ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٦٧ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٤٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٤٣ ، والكتاب : ٣ / ١٧٤ ، ولسان العرب [كذب] ، [غلس] ، ومغني اللبيب : ١ / ٤٥ ، والمقتضب : ٣ / ٢٩٥ ، والأغاني : ٧ / ٧٩ ، والصاحبي في فقه اللغة ١٢٥.

(٣) سقط في ب.

٣٨٦

قال أبو البقاء : أم هنا منقطعة ، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أيّهما ، والهمزة من قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) ليست من «أم» في شيء ، والمعنى : بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام.

وأصل تريدون : «ترودون» ؛ لأنه من راد يرود ، وقد تقدّم ، فنقلت حركة «الواو» على «الراء» ، فسكنت «الواو» بعد كسرة فقلبت ياء.

وقيل : «أم» للاستفهام ، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها.

وقيل : هي بمعنى «بل» وحدها ، وهذان قولان ضعيفان.

قوله تعالى : (أَنْ تَسْئَلُوا) ناصب ومنصوب في محل نصب مفعولا به بقوله : (تُرِيدُونَ) أي : أتريدون سؤال رسولكم.

قوله : (كَما سُئِلَ) متعلق ب «تسألوا» و «الكاف» في محلّ نصب ، وفيها التقديران المشهوران : فتقدير سيبويه رحمه‌الله تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف.

أي : إن تسألوه أي : السؤال حال كونه مشبّها بسؤال قوم موسى له ، وتقدير جمهور النحاة : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إن تسألوا رسولكم سؤالا مشبها كذا. و «ما» مصدرية ، أي : كسؤال موسى. [وأجاز الحوفي كونها بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى](١) و «موسى» مفعول لم يسمّ فاعله ، حذف الفاعل للعلم به ، أي كما سأل قوم موسى.

والمشهور : «سئل» بضم السين وكسر الهمزة ، وقرأ الحسن (٢) : «سيل» بكسر السين وياء بعدها من : سال يسال نحو : خفت أخاف ، وهل هذه الألف في «سال» أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه ، وسيأتي تحقيقه في «سأل» ، وقرىء بتسهيل (٣) الهمزة بين بين و «من قبل» متعلّق ب «سئل» ، و «قبل» مبنية على الضم ؛ لأن المضاف إليه معرفة أي : من قبل سؤالكم ، وهذا توكيد ، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدما على سؤالهم.

قوله : (بِالْإِيمانِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنها ياء العوضية ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

والثاني : أنها للسببية.

قال أبو البقاء (٤) : يجوز أن يكون مفعولا يتبدّل ، وتكون الباء للسبب ، كقولك : اشتريت الثوب بدرهم ، وفي مثاله هذا نظر.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) انظر الشواذ : ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٩٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٥١٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٠.

(٣) وهذه القراءة بضم السين.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٥١٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٠.

(٤) ينظر الإملاء : ١ / ٥٧.

٣٨٧

وقوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) قرىء بإدغام الدّال في الضاد وإظهارها.

و «سواء» قال أبو البقاء (١) : سواء السبيل ظرف بمعنى وسط السبيل وأعدله ، وهذا صحيح فإن «سواء» جاء بمعنى وسط.

قال تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥].

وقال عيسى بن عمر : ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي ؛ وقال حسّان : [الكامل]

٧٣١ ـ يا ويح أصحاب النّبيّ ورهطه

بعد المغيّب في سواء الملحد (٢)

ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير : [الوافر]

٧٣٢ ـ أرونا خطّة لا عيب فيها

يسوّي بيننا فيها السّواء (٣)

والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة ، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان ، فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم ، فالمبدّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه : إنه ضل سواء السبيل.

والسبيل يذكر ويؤنث : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨].

والجملة من قوله : (فَقَدْ ضَلَّ) في محل جزم ؛ لأنها جزاء الشرط ، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطا.

فصل في المخاطب بهذا

في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه :

أحدها : [أنهم المسلمون قاله الأصم ، والجبّائي ، وأبو مسلم ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : أن قوله تعالى](٤) : (أَمْ تُرِيدُونَ) يقتضي معطوفا عليه وهو قوله : (لا تَقُولُوا راعِنا) فكأنه قال : وقولوا : انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟

وثانيها : أن المسلمين كان يسألون محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ـ عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه.

وثالثها : سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر ديوانه : (٦٦) ، مجاز القرآن : ١ / ٥٠ ، اللسان (سوا) ، القرطبي : (٢ / ٤٩) ، تفسير الطبري : ٢ / ٤٩٦ ، البحر المحيط : ١ / ٥١٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٠.

(٣) تقدم برقم ١٥١.

(٤) سقط في ب.

٣٨٨

أنواط ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، ويعلقون عليها المأكول والمشروب ، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.

القول الثاني : أنه خطاب لأهل «مكة» ، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم ؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في رهط من قريش فقال : يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد ، ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابا [من عند الله إلى عبد الله بن أمية أن محمدا رسول الله فاتبعوه. وقال له بقية الرّهط : فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من](١) عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض ، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك ، فنؤمن لك عند ذلك.

فأنزل الله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) محمدا أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)(٢) [البقرة : ٥٥]. وعن مجاهد رحمه‌الله تعالى أنّ قريشا سألت محمدا عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم الصّفا ذهبا وفضّة ، فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا.

القول الثالث : المراد بهم اليهود ، [وهذا القول أصح ، لأن هذه السورة من أول قوله](٣) : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) [البقرة : ٤٧] حكاية ومحاجّة معهم ؛ ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم.

فصل في سؤالهم

[قال ابن الخطيب رحمه‌الله تعالى : ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلا عن كيفيته ، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة.

فإن قيل : إن كان ذلك السؤال طلبا للمعجزة فليس بكفر ؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا ، وإن كان طلبا لوجه الحكمة في نسخ الأحكام ، فهذا أيضا لا يكون كفرا ؛ لأن الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ طلبوا الحكمة في خلق البشر ، ولم يكن ذلك كفرا. والجواب أن يحمل على أنهم طلبوا أن يجعل لهم إله كما لهم آلهة ، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنّت ، أو اللّحاج ، فهذا كفر ، والسبب هذا السؤال ، والله أعلم (٤)].

قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : فأنزل الله هذه الآية.

(٣) في أ : لأن معنى قوله تعالى.

(٤) سقط في ب.

٣٨٩

كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٩)

سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر بعد وقعة «أحد» : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم ، فارجعوا إلى ديننا ، فهو خير لكم وأفضل ، ونحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد ، قال : فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت.

فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ ، وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا ، ثم أتيا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبراه فقال : أصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت هذه الآية (١).

قوله تعالى : (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) الكلام في «لو» كالكلام فيها عند قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) [البقرة : ٩٦] ، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا ، وقال : هي مفعول «يود» أي : ودّ كثير ردّكم.

ومن أبي جعل جوابها محذوفا تقديره : لو يردونكم كفارا لسرّوا أو فرحوا بذلك.

وقال بعضهم : تقديره : لو يردونكم كفارا لودّوا ذلك ، ف «ودّ» دالّة على الجواب ، وليست بجواب ؛ لأن «لو» لا يتقدمها جوابها كالشرط.

وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد ، وذلك أن «لو» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيلزم من تقديره ذلك أن ودادتهم ذلك لم تقع ؛ لأن الموجب لفظا منفي معنى ، والغرض من ودادتهم ذلك واقعة باتفاق ، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح.

و «يرد» هنا فيه قولان.

أحدهما ـ وهو الواضح ـ أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى «صيّر» ، فضمير المخاطبين مفعول أول ، و «كفارا» مفعول ثان ؛ ومن مجيء «ردّ» بمعنى «صيّر» قوله : [الوافر]

٧٣٣ ـ رمى الحدثان نسوة آل حرب

بمقدار سمدن له سمودا

فردّ شعورهنّ السّود بيضا

وردّ وجوههنّ البيض سودا (٢)

__________________

(١) انظر تفسير الفخر الرازي : (٣ / ٢١٣).

(٢) البيتان لعبد الله بن الزبير. ينظر ملحق ديوانه : ص ١٤٣ ـ ١٤٤ ، ونسبا أيضا للكميت بن معروف ينظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٩٤١ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤١٧ ، عيون الأخبار : ٣ / ٧٦ ، معجم الشعراء : ص ٣٠٩ ، ذيل الأمالي : ص ١١٥ ، شرح الأشموني : ١ / ١٥٩ ، شرح ابن عقيل : ص ٢١٧ ، لسان العرب (سمد) ، أمالي القالي : ٣ / ١٢٨ ، الأضداد : (٣٦) ، مجالس ثعلب : ٢ / ٤٣٩ ، الدر المصون : ١ / ٣٤١.

٣٩٠

وجعل أبو البقاء كفارا حالا من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد ، وهو ضعيف ، لأن الحال يستغني عنها غالبا ، وهذا لا بد منه.

و «من بعد» متعلق ب «يردّونكم» و «من» لابتداء الغاية

قوله تعالى : (حَسَداً) نصب على المفعول له ، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه ، والعامل فيه «ود» أي : الحامل على ودادتهم ردّكم كفّارا حسدهم لكم.

وجوزوا فيه وجهين آخرين :

أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال ، وإنما لم يجمع لكونه مصدرا ، أي : حاسدين ، وهذا ضعيف ، لأن مجيء المصدر حالا لا يطّرد.

الثاني : أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسدا [والأول أظهر الثلاثة](١).

قوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) في هذا الجار ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق ب «ود» أي : ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [والميل مع الحق ؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق](٢) و «من» لابتداء الغاية.

الثاني : أنه صفة ل «حسدا» فهو في محلّ نصب ، ويتعلّق بمحذوف أي : حسدا كائنا من قبلهم وشهوتهم ، ومعناه قريب من الأول.

[الثالث : أنه متعلّق ب «يردّونكم» ، و «من» للسببية. أي : يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم](٣).

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما) متعلّق ب «ودّ» ، و «من» للابتداء ، أي : أنّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حين وضوح الحق ، وتبيّنه لهم ، فكفرهم عناد ، و «ما» مصدرية أي : من بعد تبيين الحقّ.

والحسد : تمنّي زوال نعمة الإنسان. والمصدر حسد.

فإن قيل : إنّ النّفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه؟

فالجواب : أن الذي هو في وسعه أمران :

أحدهما : كونه راضيا بتلك النّفرة.

والثاني : إظهار آثار تلك النّفرة من القدح فيه ، والقصد إلى إزالة تلك النعمة عنه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

٣٩١

وجدّ أسباب المحبة إليه ، فهذا هو الداخل تحت التكليف.

والحمد نوعان : مذموم ومحمود ، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم ، سواء تمنيت مع ذلك أتعود إليك أم لا ؛ لأنه فيه تسفيه الحق ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه أنعم على من لا يستحقّ.

والمحمود كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حسد إلّا في اثنتين : رجل آتاه الله تعالى القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق آناء اللّيل وآناء النّهار» (١) .. وهذا الحديث معناه «الغبطة» كذا ترجم عليه البخاري رحمه‌الله تعالى.

والصّفح قريب من العفو ، مأخوذ من الإعراض بصفحة العنق.

وقيل : معناه التجاوز ، من تصفّحت الكتاب أي : جاوزت ورقه ، والصّفوح من أسماء الله ، والصّفوح أيضا : المرأة تستر وجهها إعراضا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٧٣٤ ـ صفوح فما تلقاك إلّا بحيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت (٢)

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : العفو : ترك المؤاخذة بالذّنب.

والصّفح : إزالة أثره من النفس. يقال : صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته ، ومنه قوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥].

فصل في المراد بهذه الآية

[المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلّا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٩ / ٧٣) كتاب فضائل القرآن (٦٦) باب اغتباط صاحب القرآن (٢٠) حديث رقم (٥٠٢٥).

وفي (١٣ / ٥٠٢) كتاب التوحيد (٩٧) باب قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رجل آتاه الله القرآن .. (٤٥) حديث رقم (٧٥٢٩).

ومسلم في الصحيح (١ / ٥٥٨) كتاب صلاة المسافرين (٦) باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (٤٧) حديث رقم (٢٦٦ / ٨١٥) والترمذي في السنن حديث رقم (١٩٣٦).

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٤٠٧) كتاب الزهد باب الحسد حديث رقم (٤٢٠٨ ، ٤٢٠٩) ـ وأحمد في المسند (١ / ٣٨٥ ، ٣٥٣ ، ٤٢٣).

وابن أبي شيبة (١٠ / ٥٥٧ ، ٥٥٨) ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث (٥٩٧٤) والخطيب في التاريخ (٧ / ٨٥) ـ والبيهقي في السنن (٤ / ١٨٨) ، (١٠ / ٨٨) ـ وأبو نعيم في الحلية (٧ / ٣٦٣) ، (٨ / ٤٦) ـ وذكره المنذري في الترغيب ١ / ٩٨ ، ٤٣٨.

والهندي في كنز العمال حديث رقم (١٦٠٥٠) ، (٢٣٣٩) ، (٢٣٤٠) ، (٢٨٩٣٩).

(٢) البيت لكثير. ينظر ديوانه : ١ / ٤٣ ، البحر المحيط : ١ / ٥٠٦ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٢.

٣٩٢

بشبهة يلقيها إليه ، لأنّ المحق لا يعدل عن الحق إلّا بشبهة ، والشبهة ضربان :

أحدهما : ما يتّصل بالدنيا ، وهو أن يقال لهم : قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم ، وضيق الأمر عليكم ، واستمرار المخافة بكم ، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء.

والثاني : في باب الدين : بطرح الشبه في المعجزات ، أو تحريف ما في التوراة.

فصل في المقصود بأمر الله

قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) يحتمل أمرين :

الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب ؛ لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت ، فكأنه ـ تعالى ـ أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود ، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام ، بل علّقه بغاية ، فقال : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

وذكروا فيه وجوها :

أحدها : أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن.

وثانيها : أنه](١) قوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وكثرة أمته.

وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، أنه الأمر بالقتال ؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين :

إما الإسلام ، وإما الخضوع لدفع الجزية ، وتحمل الذل والصّغار ، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩].

وروي أنّه لم يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال حتى نزل جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] وقلّده سيفا فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ب «بطن نخل» ، وبعده غزوة «بدر».

فإن قيل : كيف يكون منسوخا وهو معلق بغاية كقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧]. وإن لم يكن ورود الليل ناسخا ، فكذا هاهنا.

فالجواب : أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ، ويحلّ محل قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه عنكم.

__________________

(١) سقط في أ.

٣٩٣

فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟

فالجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيّجوا شرا وقتالا.

قال القرطبي رحمه‌الله : [قال أبو عبيدة :](١) كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال.

قال ابن عطية : [الحكم](٢) بأن هذه الآية مكّية ضعيف : لأن معاندات اليهود أنما كانت ب «بالمدينة».

قال القرطبي : «وهو الصحيح».

[التفسير الثاني : العفو والصفح](٣) أنه حسن الاستدعاء ، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق ، والتشدّد فيه ، وهذا لا يجوز نسخه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تحذير لهم بالوعيد ، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٠)

لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) تنبيها لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) [المزمل : ٢٠]. الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكوات ، وبيّن تعالى أنهم يجدونه ، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال ؛ لأنها لا تبقى ، ولأن وجدان عين تلك الأشياء ، ولا يرغب فيه ، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه.

قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ).

فيجوز في «ما» أن تكون مفعولا بها ، وأن تكون واقعة موقع المصدر ، ويجوز في «من خير» الأربعة أوجه التي في «من آية» : من كونه مفعولا به ، أو حالا ، أو تمييزا ، أو متعلّقا بمحذوف.

و «من» تبعيضية ، وقد تقدم تحقيقها ، فليراجع ثمّة.

و «لأنفسكم» متعلّق ب «تقدمّوا» ، أي : لحياة أنفسكم ، وحذف ، و «تجدوه» جواب الشرط ، وهي متعدّية لواحد ؛ لأنها بمعنى الإصابة ، ومصدرها الوجدان بكسر

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وحكمه.

(٣) سقط في أ.

٣٩٤

الواو كما تقدم ، ولا بد من حذف مضاف أي : تجدوا ثوابه ، وقد جعل الزمخشري رحمه‌الله تعالى الهاء عائدة على «ما» ، وهو يريد ذلك ؛ لأنّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد ، إنما يوجد ثوابه.

[فصل فيما بعد الموت

جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس : ما خلّف؟ وقالت الملائكة عليهم‌السلام : ما قدّم؟

وجاء عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه مرّ ببقيع «الغرقد» فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، أخبارنا عندنا أنّ نساءكم قد تزوّجن ، ودوركم قد سكنت ، وأموالكم قد قسّمت ، فأجابه هاتف : يا ابن الخطاب ، أخبار ما عندنا أنّ ما قدّمناه وجدناه ، وما أنفقناه فقد ربحناه ، وما خلّفناه فقد خسرناه (١) ؛ ولقد أحسن القائل حيث قال : [الكامل]

٧٣٥ ـ قدّم لنفسك قبل موتك صالحا

واعمل فليس إلى الخلود سبيل (٢)

وقال آخر : [الكامل]

٧٣٦ ـ قدّم لنفسك توبة مرجوّة

قبل الممات وقبل حبس الألسن (٣)

وقال آخر : [السريع]

٧٣٧ ـ وقدّم الخير فكلّ امرىء

على الّذي قدّمه يقدم (٤)](٥)

فصل في إعراب الآية

قوله : (عِنْدَ اللهِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «تجدوه».

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٢ / ٥١.

(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ٥١.

(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٥١.

(٤) وقبله :

سابق إلى الخير وبادر به

فإنما خلفك ما تعلم

ينظر القرطبي : ٢ / ٥١.

وأحسن من هذا قول أبي العتاهية :

إسعد بما لك في حياتك إنما

يبقى وراءك مصلح أو مفسد

وإذا تركت لمفسد لم يبقه

وأخو الصلاح قليله يتزيّد

وإن استطعت فكن لنفسك وارثا

إن المورث نفسه لمسدّد

(٥) سقط في ب.

٣٩٥

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي : تجدوا ثوابه مدّخرا معدّا عند الله تعالى ، والظّرفية هنا مجاز نحو : «لك عند فلان يد».

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي : لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١١٢)

اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود ، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً).

«من» فاعل بقوله : (يَدْخُلَ) وهو استثناء مفرغ ، فإن ما قبل «إلّا» مفتقر لما بعدها ، والتقدير : لن يدخل الجنّة أحد ، وعلى مذهب الفرّاء يجوز في «من» وجهان آخران ، وهما النّصب على الاستثناء والرفع على البدل من «أحد» المحذوف ، فإن الفراء رحمه‌الله تعالى يراعي المحذوف ، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران ، فكذلك جاز مع التقدير عنده ، وقد تقدّم تحقيق المذهبين.

والجملة من قوله تعالى : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ) في محلّ نصب بالقول ، وحمل أولا على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله : (كانَ) ، وعلى معناها ثانيا فجمع في خبرها وهو «هودا» ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف ، أعني أن يكون الخبر غير فعل ، بل وصفا يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث.

فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه ، ومذهب غيرهم منعه ، منهم أبو العبّاس ، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية ، فإن هودا جمع «هائد» على أظهر القولين ، نحو : بازل وبزل ، وعائد وعود ، وحائل وحول ، وبائر وبور.

و «هائد» من الأوصاف ، الفارق بين مذكّرها ومؤنثها «تاء» التأنيث ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٧٣٨ ـ وأيقظ من كان منكم نياما (١)

و «نيام» جمع نائم ، وهو كالأول.

وفي «هود» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه جمع هائد كما تقدم.

__________________

(١) لم نهتد إلى قائله وتتمته ، وينظر معاني القرآن : ١ / ٧٣ ، والبحر : ١ / ٥٢٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٤٣.

٣٩٦

والثاني : أنه مصدر على «فعل» نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو : عدل وصوم.

والثالث : وهو قول الفراء أن أصله «يهود» ، فحذفت الياء من أوله ، وهذا بعيد.

و «أو» هنا للتّفصيل والتنويع ؛ لأنه لما لفّ الضمير في قوله تعالى : (وَقالُوا) : فصّل القائلين ، وذلك لفهم المعنى ، وأمن الإلباس ، والتقدير : [وقال اليهود : لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا.

وقال الأنصاري : لن يدخل إلّا من كان نصارى](١) ؛ لأن من المعلوم أنّ اليهود لا تقول : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وكذلك النصارى لا تقول : [لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا](٢).

ونظيره قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] إذ معلوم أن اليهود لا تقول : كونوا نصارى ، ولا النّصارى تقول : كونوا هودا.

وصدرت الجملة بالنفي ب «لن» ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبال ، ودخول الجنة مستقبل. وقدمت اليهود على النصارى لفظا لتقدمهم زمانا.

وقرأ أبيّ (٣) بن كعب : «إلّا من كان يهوديّا أو نصرانيّا».

قوله تعالى : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) «تلك» مبتدأ ، و «أمانيّهم» خبره ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضا بين قوله : (وَقالُوا) ، وبين قوله تعالى : (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها.

والمشار إليه ب «تلك» فيه ثلاثة احتمالات :

أحدها : أنه المقالة المفهومة من : (قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ، أي : تلك المقالة أمانيهم.

فإن قيل : كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟

فالجواب : أن تلك كناية عن المقالة ، والمقالة في الأصل مصدر ، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد والمثنى والمجموع ، فالمراد ب «تلك» الجمع من حيث المعنى.

وأجاب الزمخشري رحمه‌الله أن «تلك» يشار بها إلى الأماني المذكورة ، وهي أمنيتهم [ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم ، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا أي](٤) ألّا يدخل الجنة غيرهم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٢٠.

(٤) سقط في ب.

٣٩٧

قال أبو حيان رحمه‌الله تعالى : وهذا ليس بظاهر ؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت ، واستقلت بالنزول ، فيبعد أن يشار إليها.

وأجاب الزمخشري أيضا أن يكون على حذف مضاف أي : أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد.

قال أبو حيان : وفيه قلب الوضع ، إذ الأصل أن يكون «تلك» مبتدأ ، و «أمانيّهم» خبر ، فقلب هذا الوضع ، إذ قال : إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه ، وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ ، فلا يتقدم الخبر نحو : زيد زهير ، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك : الأسد زيد شجاعة [قال عليه الصلاة والسلام : «العاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله تعالى» (١) وقال علي رضي الله عنه : «لا تتكل على المنى ، فإنها تضيع المتكل»](٢).

قوله : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) هذه الجملة في محلّ نصب بالقول.

واختلف في «هات» على ثلاثة أقوال :

أصحها : أنه فعل ، [وهذا هو صحيح](٣) لاتّصاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو : هاتوا ، هاتي ، هاتيا ، هاتين.

الثاني : أنه اسم فعل بمعنى أحضر.

الثالث : وبه قال الزمخشري : أنه اسم صوت بمعنى «ها» التي بمعنى أحضر.

وإذا قيل بأنه فعل فاختلف فيه على ثلاثة أقوال أيضا :

أصحها : أن هاءه أصل بنفسها ، وأن أصله هاتى يهاتي مهاتاة مثل : رامى يرامي مراماة ، فوزنه «فاعل» فتقول : هات يا زيد ، وهاتي يا هند ، وهاتوا وهاتين يا هندات ، كما تقول : رام رامي راميا راموا رامين. وزعم ابن عطية ـ رحمه‌الله ـ أن تصريفه مهجور لا يقال فيه إلّا الأمر ، وليس كذلك.

الثاني : أن «الهاء» بدل من الهمزة ، وأن الأصل «آتى» وزنه : أفعل مثل أكرم.

وهذا ليس بجيد لوجهين :

أحدهما : أن «آتى» يتعدى لاثنين ، وهاتي يتعدى لواحد فقط.

[وثانيهما] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [لزوال](٤)

__________________

(١) أخرجه البيهقي (٣ / ٣٦٩) والبغوي (٢ / ٣٠٥) وذكره الزبيدي في «الإتحاف» (٧ / ٤٤) ، (٩ / ١٦٦) ، (١٠ / ٢٢١).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : لجواز.

٣٩٨

موجب قلبها ، وهو الهمزة الأولى ، ولم يسمع ذلك.

الثالث : أن هذه «ها» التي للتنبيه دخلت على «أتى» ولزمتها ، وحذفت همزة أتى لزوما ، وهذا مردود ، فإن معنى «هات» أحضر كذا ، ومعني ائت : احضر أنت ، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة.

فتحصل في «هاتوا» سبعة أقوال :

فعل ، أو اسم فعل ، أو اسم صوت ، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية ، أو بدل من همزة ، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟

وأصل «هاتوا» : «هاتيوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وضم ما قبله لمجانسة «الواو» فصار «هاتوا».

قوله تعالى : (بُرْهانَكُمْ) مفعول به.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : «البرهان : الدّليل الذي يوقع اليقين ، وجمعه براهين ، مثل قربان وقرابين ، وسلطان وسلاطين».

واختلفوا فيه على قولين :

أحدهما : أنه مشتقّ من «البره» وهو القطع ، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي ، ومنه : برهة الزمان أي : القطعة منه ، فوزنه «فعلان».

والثاني : أن نونه أصلية لثبوتها في برهن يبرهن برهنة ، والبرهنة البيان ، فبرهن فعلل لا فعلن ، لأن فعلن غير موجود في أبنيتهم ، فوزنه «فعلال» ؛ [وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صرف «برهان» وعدمه ، إذا سمّي به.

ودلّت الآية على أن الدّليل على المدّعي ، سواء ادّعى نفيا ، أو إثباتا ، ودلّت على بطلان القول بالتقليد ؛ قال الشاعر : [السريع]

٧٣٩ ـ من ادّعى شيئا بلا شاهده

لا بدّ أن تبطل دعواه (١)](٢)

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني : في إيمانكم أي في قولكم : إنكم تدخلون الجنة ، أي : بينوا ما قلتم ببرهان.

قوله تعالى : (بَلى) فيه وجوه :

الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.

الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانا.

الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنّة ، بل إن غيّرتم

__________________

(١) ينظر الرازي : ٤ / ٤.

(٢) سقط في ب.

٣٩٩

طريقتكم ، وأسلمتم وجهكم لله ، وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام ، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا إلى هذه الطريقة.

قوله تعالى : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) هو إسلام النفس لطاعة الله تعالى ، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه :

أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس والفكر والتخيّل [ولذلك يقال: وجه الأمر ، أي معظمه ؛ قال الأعشى : [السريع]

٧٤٠ ـ أؤوّل الحكم على وجهه

ليس قضائي بالهوى الجائر (١)](٢)

فإذا تواضع الأشارف كان غيره أولى.

وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس ، قال الله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠].

وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه ، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر. [ومعنى «أسلم» : خضع قال زيد بن عمرو بن نفيل : [المتقارب]

٧٤١ أ ـ وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا (٣)

٧٤١ ب ـ وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا (٤)

فيكون المراد هنا نفسه ، والأمر بإذلالها ، وأراد به نفس الشيء ، وذلك لا يكون إلّا بانقياد الخضوع ، وبإذلال النّفس في طاعة الله ـ عزوجل ـ وتجنبها عن معاصيه](٥).

ومعنى «لله» أي : خالصا لله لا يشوبه شرك.

قوله تعالى : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) جملة في محلّ نصب على حال [والعامل فيها «أسلم» وهذه الحال حال مؤكدة لأن م ن «أسلم وجهه لله فهو محسن»](٦).

وقال الزمخشري رحمه‌الله تعالى وهو محسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة ؛ لأن من أسلم وجهه قسمان : محسن في عمله وغير محسن انتهى.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٩٣) ، الطبري : ٢ / ٥١١ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) تبع المصنف الرّازي في إدماج البيتين. ينظر الرازي : ٤ / ٤.

(٤) ينظر مشكل القرآن : (٤٨٠) ، الطبري : ٢ / ٢ / ٥١١ ، الدر المصون : ١ / ٣٤٥ ، والمعارف : ص ٢٧ ، ومجمع البيان : ١ / ١ / ١٨٧ ، والرازي : ٤ / ٤ ، والأغاني : ٣ / ١٧ ، وبعده :

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها

سواء وأرسى عليها الجبالا

(٥) سقط في ب.

(٦) سقط في ب.

٤٠٠