اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصا على تعجيل أفهامهم ، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام.

قوله : «انظرنا» الجملة أيضا في محلّ نصب بالقول ، والجمهور على انظرنا [بالوصل في](١)

(١) الهمزة ، وضم الظاء أمرا من الثلاثي ، وهو نظر من النّظرة ، وهي التأخير ، أي : أخرنا وتأنّ علينا ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٧٢٣ ـ فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر ينفعني لدى أمّ جندب (٢)

وقيل : هو من نظر أي : أبصر ، ثم اتّسع فيه ، فعدّي بنفسه ؛ لأنه في الأصل يتعدى ب «إلى» ؛ ومنه : [الخفيف]

٧٢٤ ـ ظاهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما ينظر الأراك الظّباء (٣)

أي : إلى الأراك.

وقيل : من نظر أي : تفكر ثم اتسع فيه أيضا ، فإن أصله أن يتعدّى ب «في» ، ولا بد من حذف مضاف على هذا أي : انظر في أمرنا ، وقرأ أبيّ والأعمش : (انْظُرْنا) بفتح الهمزة وكسر الظاء أمرا من الرباعي بمعنى : أمهلنا وأخّرنا ؛ قال : [الوافر]

٧٢٥ ـ أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبّرك اليقينا (٤)

أي : أمهل علينا ، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النّظرة بمعنى التأخير ، لا من البصر ، ولا من البصيرة ، وهذه الآية نظير [آية](٥) الحديد (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ) [الحديد : ١٣] فإنها قرئت بالوجهين.

قوله : (وَاسْمَعُوا) حصول السماع عند سلامة الحاسّة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر ، فلا يجوز وقوع الأمر به ، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة :

أحدها : فرغوا أسماعكم لما يقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة.

[وثانيها : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا](٦).

__________________

(١) في ب : يفصل.

(١) في ب : يفصل.

(٢) ينظر ديوانه : (٢٩) ، القرطبي : ٢ / ٤٢ ، البحر : ١ / ٥٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٣) البيت لعبيد الله بن قيس. ينظر ديوانه : (٨٨) ، القرطبي : ٢ / ٤٢ ، البحر : ١ / ٥٠٩ ، روح المعاني : ١ / ٣٤٩ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٤) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته. ينظر شرح المعلقات للتبريزي : (٣٨٠) ، الزوزني : (١٢٧) ، الشنقيطي : (٩٩) ، القرطبي : ٢ / ٤٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٥) في ب : التي في.

(٦) سقط في ب.

٣٦١

وثالثها : اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدا عليهم ، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول.

وتقدم الكلام على معنى «العذاب الأليم».

قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحذر منهم فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين.

قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ :) في «من» قولان :

أحدهما : أنها للتبعيض ، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال ، ويتعلّق بمحذوف أي : ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.

والثاني : أنها لبيان الجنس ، وبه قال الزمخشري ؛ لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا) جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١].

قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على «أهل» المجرور ب «من» و «لا» زائدة للتوكيد ؛ لأن المعنى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) بغير زيادة «لا».

وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار ، وأن الأصل ولا المشركون ، عطفا على الذين ، وإنما خفض للمجاورة ، نحو (بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] في قراءة (١) الجر ، وليس بواضح.

وقال النحاس : ويجوز : ولا المشركون بعطفه على «الذين» وقال أبو البقاء رحمه‌الله : وإن كان قد قرىء : «ولا المشركون» بالرفع فهو عطف على الفاعل ، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفض على الجوار.

قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب «يودّ» أي : ما يود إنزاله من خير ، وبني الفعل للمفعول للعمل بالفاعل ؛ وللتصريح به في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) ، وأتي ب «ما» في النفي دون غيرها ؛ لأنها لنفي الحال ، وهم كانوا متلبّسين بذلك.

__________________

(١) ستأتي في المائدة ٦.

٣٦٢

قال القرطبي : و «أن» في موضع نصب ، أي بأن ينزل.

قوله : (مِنْ خَيْرٍ) هذا هو القائم مقام الفاعل ، و «من» زائدة ، أي : أن ينزل خير من ربكم.

وحسن زيادتها هنا ، وإن كان «ينزل» لم يباشره حرف النفي ؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ؛ لأنه إذا نفيت الودادة انتفى متعلّقها ، وهذا له نظائر في كلامهم نحو : «ما أظن أحدا يقول ذلك إلّا زيد» برفع «زيد» بدلا من فاعل «يقول» وإن لم يباشر النفي ، لكنه في قوة : «ما يقول أحد ذلك إلّا زيد في ظني».

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) [الأحقاف : ٣٣] زيدت «الباء» ؛ لأنه في معنى : أو ليس الله بقادر ، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه.

وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا.

وقيل «من» للتبعيض ، أي : ما يودون أن ينزّل من الخير قليل ولا كثير ، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل : «عليكم» ، والمعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخيور.

والمراد بالخير ـ هنا ـ الوحي.

والمعنى : أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم ، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله : (اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) في «من» أيضا قولان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، فتتعلّق ب «ينزّل».

والثاني : أنها للتبعيض ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف تقديره : من خيور ربّكم ، وتتعلق حينئذ بمحذوف ، لأنها ومجرورها صفة لقوله : (مِنْ خَيْرٍ) أي : من خير كائن من خيور ربكم ، ويكون في محلّها وجهان :

الجر على اللفظ ، والرفع على الموضع ، لأن «من» زائدة في «خير» ، فهو مرفوع تقديرا لقيامه مقام الفاعل كما تقدم.

وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ «من» قولين :

الأولى : قيل : إنها للتبعيض ، وقيل : أو لبيان الجنس.

وفي الثانية قولان : زائدة أو للتبعيض.

وفي الثالثة أيضا قولان : لابتداء الغاية ، أو التبعيض.

قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ ودادتهم ذلك.

٣٦٣

و «يختص» يحتمل أن يكون متعديّا ، وأن يكون لازما ، فإن كان متعديا كان فيه ضمير يعود على الله تعالى ، وتكون «من» مفعولا به أي يختص الله الذي يشاؤه برحمته ، ويكون معنى «افتعل» هنا معنى المجرد نحو : كسب مالا واكتسبه ، وإن كان لازما لم يكن فيه ضمير ، ويكون فاعله «من» أي : والله يختصّ برحمته الشّخص الذي يشاؤه ، ويكون «افتعل» بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو : اضطراب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا [يتبين فساد](١) قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس إلّا.

و «من» يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة ، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد ، أي : يشاء اختصاصه.

ويجوز أن يضمن «يشاء» معنى يختار ، فحينئذ لا حاجة إلى حذف مضاف ، بل تقدره ضميرا فقط أي : يشاؤه ، و «يشاء» على القول الأول لا محلّ له لكونه صلة ، وعلى الثاني محلّه النّصب ، أو الرفع على [حسب](٢) ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلا أو مفعولا.

فصل في تفسير الرحمة في الآية

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «يختصّ برحمته» أي بنبوّته ، خص بها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : الرحمة القرآن.

وقيل : هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا.

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٠٦)

اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ، ثم ينهاهم عنه ، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ، وغدا يرجع عنه ، كما قال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل : ١٠١] فنزلت هذه الآية.

في «ما» قولان :

أحدهما ـ وهو الظاهر ـ أنها مفعول مقدم ل «ننسخ» ، وهي شرطية أيضا جازمة ل «ننسخ» ولكنها واقعة موقع المصدر ، و «من آية» هو المفعول به ، والتقدير : أي شيء ننسخ كقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء ١١٠] ، أو : أيّ نسخ ننسخ من آية ، قاله أبو البقاء وغيره ، وقالوا : مجيء «ما» مصدرا جائز ؛ وأنشدوا : [الكامل]

__________________

(١) في أ : يفسد.

(٢) سقط في ب.

٣٦٤

٧٢٦ ـ نعب الغراب فقلت بين عاجل

ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب (١)

ورد هذا القول بشيئين :

أحدهما : أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، وهو غير جائز ، لما تقدم عند قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧].

والثاني : أن «من» لا تزاد في الموجب ، والشرط موجب ، [وهذا فيه خلاف لبعض](٢) البصريين أجاز زيادتها في الشرط ؛ لأنه يشبه النفي ، ولكنه خلاف ضعيف.

وقرأ ابن عامر (٣) : «ننسخ» بضم النون ، وكسر السين من «أنسخ».

قال أبو حاتم : «هو غلط» وهذه جرأة منه على عادته.

وقال أبو علي : «ليست لغة» ؛ لأنه لا يقال : نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ؛ لأن المعنى يجيء : ما نكتب من آية ، وما ننزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا ، وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخا كما يقال : أحمدته وأبخلته ، أي : وجدته كذلك ، ثم قال : «وليس نجده منسوخا إلّا بأن ننسخه ، فتتفق القراءتان في المعنى ، وإن اختلفتا في اللفظ».

فالهمزة عنده ليست للتعدية. وجعل الزمخشري ، وابن عطية الهمزة للتعدية ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف ، وفي معنى الإنساخ ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه‌السلام ، والإنساخ هو الأمر بنسخها ، أي : الإعلام به.

وجعل ابن عطية المفعول ضمير النبي عليه‌السلام ، والإنساخ إباحة النّسخ لنبيه ، كأنه لما نسخها أباح له تركها ، فسمى تلك الإباحة إنساخا.

وخرج ابن عطية القراءة (٤) على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له.

قال : ويكون المعنى : ما نكتب وننزل من اللّوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ، ونتركه فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا فإنا (٥) نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في «منها» ، و «بمثلها» عائدين على الضمير في «ننسأها».

قال أبو حيان (٦) : وذهل عن القاعدة ، وهي أنه لا بد من ضمير يعود من الجزاء

__________________

(١) ينظر البحر : ١ / ٥١٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٤.

(٢) في أ : بعض.

(٣) انظر السبعة : ١٦٨ ، والكشف : ١ / ٢٥٧ ، وحجة القراءات : ١٠٩ ، والعنوان : ٧١ ، والحجة : ٢ / ١٨٠ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٤ ، ٥٥ ، وشرح شعلة : ٢٧٢ ، وإتحاف : ١ / ٤١١.

(٤) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٩٢.

(٥) في ب : فإنما.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥١٢.

٣٦٥

على اسم الشرط ، و «ما» في قوله : «م ننسخ» شرطية ، وقوله : «أو ننسأها» عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها من حيث اللفظ والمعنى ، بل إنما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطية ، التقدير : أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء ، ولكن يبقى قوله : ما ننسخ من آية مفلتا من الجواب ؛ إذ لا رابط يعود منه إليه ، فبطل هذا المعنى الذي قاله.

والنسخ في اللغة (١) هو الإزالة من غير بدل يعقبه ، يقال : نسخت الرّيح الأثر ، والشمس الظّلّ ، وقال القفّال : «إنه للنقل والتحويل» ، ومنه : نسخت الكتاب : إذا نقلته ، وتناسخ الأرواح ، وتناسخت القرون.

وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلا عن الأول.

دليل الأول أنه إذا نسخ الأثر والظّل ، فهو إعدامه ؛ لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه.

وقال تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) [الحج : ٥٢] أي : فيزيله ويبطله ، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألّا يكون حقيقة في النقل دفعا للاشتراك.

فإن قيل : الريح والشمس ليسا مزيلين للأثر والظل في الحقيقة ، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله ـ تعالى ـ وإذا كان ذلك مجازا امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة

__________________

(١) انظر في النسخ : البرهان لإمام الحرمين : ٢ / ١٢٩٣ ، البحر المحيط للزركشي : ٤ / ٦٣ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ١٥ ، سلاسل الذهب للزركشي : ص ٢٩٠ ، التمهيد للإسنوي : ص ٤٣٥ ، نهاية السول له : ٢ / ٥٤٨ ، زوائد الأصول له : ص ٣٠٨ ، منهاج العقول للبدخشي : ٢ / ٢٢٤ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ٨٧ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ٢ / ٧ ، المنخول للغزالي : ص ٢٨٨ ، المستصفى له : ١ / ١٠٧ ، حاشية البناني : ٢ / ٧٤ ، الإبهاج لابن السبكي : ٢ / ٢٢٦ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٣ / ١٢٩ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ٢ / ١٠٦ ، المعتمد لأبي الحسين : ١ / ٣٦٣ ، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي : ص ٣٨٩ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ٤ / ٤٦٣ ، أعلام الموقعين لابن القيم : ١ / ٢٩ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج : ٣ / ٤٩ ، ميزان الأصول للسمرقندي : ٢ / ٦٢١ ، ٩٨١ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ١٨٥ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ٢ / ٣٤ ، شرح المنار لابن ملك : ص ٩١ ، الموافقات للشاطبي : ٣ / ١٠٢ ، تقريب الوصول لابن جزيّ : ص ١٢٥ ، شرح مختصر المنار للكوراني : ص ٩١ ، نشر البنود للشنقيطي : ٢ / ٢٨٠ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ص ٤٦٢. معيار العقول في علم الأصول لابن المرتضى : ١ / ١٧٢ ، كشف الأسرار : ٣ / ١٥٤ ، حواشي المنار (٧٠٨) ، العدة : ٣ / ٧٧٨ ، الحدود للباجي : ص (٤٩) ، اللمع : ص (٣٠) ، الوصول لابن برهان : ٢ / ٧ ، روضة الناظر : (٣٦) ، الرسالة للشافعي : (١٢٨) ، ١٣٩ ، المغني للخبازي (٢٥٠) ، المسودة (١٩٥) ، شرح تنقيح الفصول : (٣٠١) ، تقريب الوصول : (١٢٥) ، المنتهى لابن الحاجب : (١١٣).

٣٦٦

في مدلوله ، ثم نعارض ما ذكرتموه ، [ويقال](١) : بل النسخ هو النقل والتحويل ، [ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر ، كأنه ينقله إليه ، أو ينقل حكايته](٢) كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقرون والمواريث ، فإنه تحويل من واحد إلى آخر.

وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مجاز في الإبطال دفعا للاشتراك.

[وأجيب](٣) عن الأول من وجهين :

أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله ـ تعالى ـ هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير.

والثاني : أن أهل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح ، فهب أنه كذلك ، لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس.

وعن الثاني : أن النقل أخصّ من الإبطال ، لأنه حيث وجد النقل ، فقد عدمت صفة ، وحصل عقيبها صفة أخرى ، فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى. وقال آخر (٤) :

[والنسخ : الإزالة ، وهو في اللغة على ضربين :

ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحو : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وقامت مقامه.

والثاني : أن يزيله كما تزيل الريح الأثر](٥).

قوله : (مِنْ آيَةٍ) «من» للتبعيض ، فهي متعلقة بمحذوف ؛ لأنها صفة لاسم الشرط ، ويضعف جعلها حالا ، والمعنى : أي شيء ننسخ من الآيات ، ف «آية» مفرد وقع موقع الجمع ، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ، وهذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط ؛ وذلك أن فيه إبهاما من جهة عمومه ، ألا ترى أنك لو قلت : «من يكرم أكرم» (٦) تناول النساء والرجال. فإذا قلت : «من الرجال» بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط.

وأجاز أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ فيها وجهين آخرين :

أحدهما : أنها في موضع نصب على التمييز ، والمميّز «ما» والتقدير : أيّ شيء

__________________

(١) في ب : ونقول.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : والجواب.

(٤) في ب : بعضهم.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : يكون.

٣٦٧

ننسخ ، قال : ولا يحسن أن تقدر : أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين «آية» ، وبين المميز بآية ، لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، يعني أنك لو قدرت ذلك لاستغنيت عن التمييز.

والثاني : أنها زائدة و «آية» حال ، والمعنى : أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا ، وقد جاءت «آية» حالا في قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] أي : «علامة» وهذا فاسد ؛ لأن الحال لا تجر ب «من» ، وقد تقدم أنها مفعول بها ، و «من» زائدة على القول بجعل «ما» واقعة موقع المصدر ، فهذه أربعة أوجه.

قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) «أو» [هنا للتقسيم] ، و «ننسها» مجزوم عطفا على فعل الشرط قبله.

وفيها ثلاث (١) عشرة قراءة : «ننسأها» بفتح حرف المضارعة ، وسكون النون ، وفتح السين مع الهمزة ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير.

الثانية : كذلك إلا أنه بغير همز ، ذكرها أبو عبيد البكري (٢) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

قال ابن عطية : «وأراه وهم».

الثالثة : «تنسها» بفتح التاء التي للخطاب ، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز ، وهي قراءة الحسن ، وتروى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعد بن أبي وقاص : «إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ، ولا على ابن المسيب» وتلا : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ موجودة في كتاب الله ، فهذا مثله.

الرابعة : كذلك إلا أنه بالهمز.

__________________

(١) انظر هذه القراءات في :

السبعة : ١٦٨ ، والكشف : ١ / ٢٥٨ ، والشواذ : ٩ ، والعنوان : ٧١ ، وحجة القراءات : ١٠٩ ، ١١٠ ، والحجة : ٢ / ١٨٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٩٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٥١٣ ، ٥١٤ ، والدر المصون :١ / ٣٣٥ ، ٣٣٧.

(٢) عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي أبو عبيد ، مؤرخ جغرافي ، ثقة. علامة بالأدب له معرفة بالنبات نسبته إلى بكر بن وائل كانت لسلفه إمارة في غربي جزيرة الأندلس وقيل : كان أميرا وتغلب عليه المعتضد ، ولد في شلطيش غربي إشبيلية وانتقل إلى قرطبة ثم صار إلى المرية فاصطفاه صاحبها «محمد بن معن» لصحبته ووسع راتبه وهذا ما حمل بعض المؤرخين على نعته بالوزير ورجع إلى قرطبة بعد غزو المرابطين له كتب جليلة منها : معجم ما استعجم ، شرح أمالي القالي ، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال ، وتوفي بقرطبة عن سن عالية في سنة ٤٨٧ ه‍.

ينظر الأعلام : ٤ / ٩٨ (٦٠٦) ، الصلة لابن بشكوال : ٢٨٢ ، بغية الوعاة : ٢٨٥.

٣٦٨

الخامسة : كذلك إلا أنه بضم التاء ، وهي قراءة أبي حيوة.

السادسة : كذلك إلا أنه بغير همز ، وهي قراءة سعيد بن المسيب.

السابعة : «ننسها» بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز ، وهي قراءة باقي السبعة.

الثامنة : كذلك إلا أنه بالهمزة.

التاسعة : ننسّها بضم حرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [مشددة ، وهي قراءة الضّحاك ، وأبي رجاء (١).

العاشرة : «ننسك» ، بضمّ حرف المضارعة ، وسكون النون ، وكسر السين ، وكاف بعدها للخطاب.

الحادية عشرة :](٢) كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية ، وتشديد السين مكسورة ، وتروى عن الضحاك ، وأبي رجاء أيضا.

الثانية عشرة : كذلك إلّا أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف «ننسّكها» وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه.

الثالثة عشرة : «ما ننسك من آية أو ننسخها فجىء بمثلها» وهي قراءة الأعمش ، وهكذا ثبت في مصحف عبد الله.

فأما قراءة الهمز على اختلاف وجوهها ، فمعناها التأخير من قولهم : نسأ الله ، وأنسأ الله في أجلك أي : أخّره ، وبعته نسيئة أي متأخرا.

وتقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسئا ، وأنسأ الإبل : إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثر ، فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : نؤخر نسخها ، ونزولها ، وهو قول عطاء.

الثاني : نمحها لفظا وحكما ، وهو قول ابن زيد.

الثالث : نمضها فلا ننسخها ، وهو قول أبي عبيد ، [قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) عمران بن تيم ويقال ابن ملحان أبو رجاء العطاردي البصري التابعي الكبير ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة وكان مخضرما أسلم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يره وعرض القرآن على ابن عباس ، وتلقنه من أبي موسى ولقي أبا بكر الصديق وحدث عن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم ، روى القراءة عنه عرضا أبو الأشهب العطاردي وقال كان أبو رجاء يختم القرآن في كل عشر ليال ، وعن أبي رجاء قال : كان أبو موسى يعلمنا القرآن خمس آيات. قال ابن معين : مات سنة خمس ومائة وله مائة وسبع وعشرون سنة وقيل مائة وثلاثون.

ينظر الغاية : ١ / ٦٠٤ (٢٤٦٩).

(٢) سقط في أ.

٣٦٩

٧٢٧ ـ أمون كألواح الإران نسأتها

على لاحب كأنّه ظهر (١)](٢)

وهو ضعيف لقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ؛) لأن ما أمضي وأقرّ لا يقال فيه : فأت بخير منه.

وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضا ففيها احتمالان :

أظهرهما : أنها من النّسيان ، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر ، وفي بعضها الترك.

فإن قيل : وقوع هذا النسيان [يمتنع](٣) عقلا ونقلا.

أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر ، والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع.

وأما النقل فلقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

والجواب عن الأول من وجهين :

الأول : أن النسيان يصح بأن يأمر الله ـ تعالى ـ بطرحه من القرآن ، وإخراجه من جملة ما يتلى ، ويؤتى به في الصّلاة ويحتج به ، فإذا زال حكم التعبّد به قال : العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فيصير لهذا الوجه منسيا من الصدور ، وأيضا روي : أنهم كانوا يقرءون السورة ، فيصبحون وقد نسوها. وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ـ ٧] وبقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤].

والثاني : أن أصله الهمز من النّسيء ، وهو التأخير ، إلا أنه أبدل من الهمزة ألف فحينئذ تتحد القراءتان.

ثم من قرأ من القراء : «ننساها» من الثلاثي فواضح.

وأما من قرأ منهم من «أفعل» ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون ، فمعناه عندهم : «ننسكها» ، أي : نجعلك ناسيا لها ، أو يكون المعنى نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونسيته : تركته ؛ وأنشدوا : [الرجز]

٧٢٨ ـ إنّ عليّ عقبة أقضيها

لست بناسيها ولا منسيها (٤)

أي : لا تاركها ولا آمرا بتركها.

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد. ينظر ديوانه : (٢٢) ، شرح القصائد العشر : (١٤١) ، البحر المحيط : ١ / ٥٠٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٨.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : ممنوع.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥١٤ ، القرطبي : ٢ / ٤٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٧.

٣٧٠

وقال الزجاج : «هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك».

قال الفارسي وغيره : «ذلك متّجه ؛ لأنه بمعنى نجعلك تتركها» ، وضعف الزجاج أيضا أن تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن له ـ عليه‌السلام ـ ولا نسي قرآنا.

[بدليل](١) قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ، أي : لم نفعل شيئا من ذلك.

وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع.

قوله تعالى : (نَأْتِ) هو جواب الشرط ، وجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا التركيب أفصح التراكيب ، أعني : مجيئهما مضارعين.

قوله : (بِخَيْرٍ مِنْها) متعلّق ب «نأت» ، وفي «خير» هنا قولان :

الظاهر منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ ، أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب. وقوله تعالى : (أَوْ مِثْلِها) أي : في التكليف والثواب ، وهذا واضح.

والثاني : أن «خيرا» هنا مصدرا ، وليس من التفضيل في شيء ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥] و «من» لابتداء الغاية ، والجار والمجرور صفة لقوله «خير» أي : خير صادر من جهتها ، والمعنى عند هؤلاء : ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء.

وهذا بعيد جدّا لقوله بعد ذلك : «أو مثلها» فإنه لا يصح عطفه على «بخير» على هذا المعنى ، اللهم إلا أن يقصد بالخير عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء. وأما عطف «مثلها» على الضمير في «منها» ، فلا يجوز إلّا عند الكوفيين لعدم إعادة الخافض. وقوله : (ما نَنْسَخْ) فيه التفات من غيبة إلى تكلم ، ألا ترى أن قبله (وَاللهُ يَخْتَصُّ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ).

فصل في بيان معنى النسخ

قال ابن الخطيب (٢) : الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي.

__________________

(١) في ب : واحتج بقوله.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠٦.

٣٧١

والنسخ جائز عقلا واقع سمعا ، ومن اليهود من أنكره عقلا ، ومنهم من جوّزه عقلا ، ومنع منه سمعا.

ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ.

واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه ؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته لا تصحّ إلا مع القول بنسخ شرع من قبله ، فوجب القطع بالنّسخ.

على اليهود إلزامان :

الأول : جاء في التوراة أن الله ـ تعالى ـ قال لنوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند خروجه من الفلك : «إني جعلت كل دابة مأكلا لك ، ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه».

ثم إنه ـ تعالى ـ حرم على موسى ، وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

الثاني : كان آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ يزوج الأخت من الأخ ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه الصلاة والسلام وعلى غيره.

قال منكرو النّسخ : لا نسلم أن نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا تصح إلّا مع القول بالنسخ ، لأن من الجائز أن يقال : إن موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ [أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم بعد ذلك أمر النّاس باتّباع محمد عليه الصلاة والسلام ، فعند ظهور شرع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ زال التكليف بشرعهما ، وحصل التكليف بشرع محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لكنه](١) لا يكون ذلك نسخا ، بل جاريا مجرى قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف ، وقالوا : قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ قد بشرا في التّوراة والإنجيل بمبعث محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأن عند ظهوره يجب الرّجوع إلى شرعه ، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ.

فصل في حجج منكري النسخ

احتج منكرو النّسخ بأن قالوا : إن الله ـ تعالى ـ لما بيّن شرع عيسى عليه الصلاة والسلام ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة ، إما أن يقال : إنها دالة على دوامها ، أو لا يدل على دوامها ، أو [لم يكن](٢) فيها دلالة على الدوام ، ولا على [عدم الدوام](٣) ، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام ، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذبا ؛ لأنه غير جائز على الشرع ، وأيضا فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : ما كان.

(٣) في ب : اللا دوام.

٣٧٢

في شرع موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مع أنهما لم يدوما ، زال الوثوق عنه في كل الصور.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ذكر اللفظ الدّال على الدوام ، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نصّ على ذلك ، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟

قلت : هذا ضعيف لوجوه :

أحدها : أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين.

وثانيها : على هذا التقدير قد بين الله ـ تعالى ـ أن شرعهما سيصير منسوخا ، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضا ؛ لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضا ، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفّر فيها الدواعي على نقله ، وما كان كذلك وجب اشتهاره ، وبلوغه إلى حدّ التواتر ، وإلا فلعلّ القرآن عورض ، ولم تنقل معارضته ، ولعلّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير هذا الشرع عن هذا الوضع ، ولم ينقل ، [وإذا كان ذلك غير جائز وجب](١) أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر ، فنقول : لو أن الله ـ تعالى ـ نصّ في زمان موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهورا لأهل التواتر ، وكان معلوما لهم بالضرورة ، ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه ، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : [إن الله ـ تعالى ـ نص على شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم](٢).

فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوما بالضرورة لأهل التواتر.

وأيضا فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخا ، بل يكون ذلك انتهاء للغاية.

وأما القسم الثالث : وهو أنه [ـ تعالى ـ نص على شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يبيّن فيه كونه دائما ، أو كونه غير دائم](٣) فنقول : إنه ثبت في أصول الفقة أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار (٤) ، وإنما يفيد المرة الواحدة ، فإذا أتى المكلف بالمرة

__________________

(١) في ب : وإذا ثبت وجوب.

(٢) في أ : أنه نص على عدم الدوام.

(٣) في أ : لم ينص على الدوام ، ولا على عدم الدوام.

(٤) لا نزاع بين الأصوليّين ، والنّظّار ، ومن لفّ لفّهم في أنّ المرّة ضروريّة ؛ من حيث إنّ الماهيّة لا وجود لها في الخارج إلّا ضمن أفرادها ، لا من حيث إنّها مدلولة. ـ

٣٧٣

الواحدة ، فقد خرج عن عهدة الأمر ، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخا للأمر

__________________

ـ ولم يختلفوا أيضا في أنّ الأمر المقيّد بالمرّة ، أو التكرار يحصل على ما قيّد به ، إنّما وقع الخلاف بينهم في دلالة الأمر على ما زاد على القدر الّذي تتحقّق به الماهية ، إذا لم يكن مقيّدا بما يدلّ على التّكرار ، أو المرّة.

وقد تنوّعت مذاهبهم في ذلك إلى أربعة آراء :

أوّلا : وهو مذهب الجمهور من الأصوليّين واختاره أبو المعالي الجويني ، والرازيّ ، والبيضاوي والآمديّ ، وابن الحاجب ؛ حيث يرون أنه يدلّ على طلب تحصيل الماهيّة ، من غير إشعار بمرّة ، أو تكرار.

ثانيا : وهو مذهب أبي إسحاق الإسفراينيّ ، والإمام أحمد ، وعبد القادر البغدادي ؛ حيث يرون أنّ الأمر يوجب التّكرار المستوعب لجميع العمر مع الإمكان ، إذا لم يقترن بما يدلّ على خلاف ذلك.

ثالثا : وهو منقول عن بعض مشايخ الحنفيّة ، ورأي بعض الشّافعيّة ، ومقتضاه : أنّ الأمر المطلق يدلّ على المرّة ، ولا يوجب التّكرار ولا يحتمله ، إلا إذا علّق بشرط ؛ مثل قوله عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

رابعا : وإليه ذهب الواقفيّة حيث يرون التّوقّف : إمّا لأنه مشترك بينهما ، فلا يعمل على أحدهما إلّا بقرينة ؛ أو لأنّه موضوع لأحدهما ، ولا يعرف إلّا بالبيان.

والرّأي الذي نختاره هو رأي الجمهور ، ونستدلّ على ذلك بأدلّة منها :

لو كان الأمر مفيدا لأحدهما ، لكان تقييده بذلك المعنى تكرارا وبغيره نقضا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

دليل بطلان التالي : أن التقييد لا يؤدّي إلى النقض ، ولا إلى التكرار ، ودليل بطلان المقدم : أن بطلان اللازم المساوي أو الأخص يستلزم بطلان ملزومه.

ويرد عليه : بأنه لا يثبت المدعى ؛ لأن عدم التكرار أو النقض قد لا يكون لكونه موضوعا للماهية ؛ من حيث هي ، بل لكونه مشتركا أو لأحدهما ، ولا نعرفه كما قد قيل به ، فيكون التقييد للدلالة على أحدهما.

ولأنه ورد مع التكرار شرعا كالأمر في آية الصلاة ، وعرفا كقول الحاكم للمحكوم التزم بالضبط الحكوميّ.

وتارة المرة شرعا ؛ كالأمر في قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وعرفا ؛ كقولك : ادخل الدار ، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو طلب الإتيان بالمأمور به ؛ دفعا للاشتراك والمجاز اللازمين من جعله موضوعا لكل منهما أو لأحدهما فقط ؛ لكونهما خلاف الأصل ؛ وحينئذ لا يفيد شيئا بهما ولا ينافيه ؛ لعدم استلزام العلم الخاص وعدم منافاته إياه.

ويرد على هذا الوجه : أن الأمر إن كان موضوعا لمطلق الطلب ، ثم استعمل في طلب الخاص ـ فيكون مجازا ، وبأن الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنية فإذا استعمل الأمر فيما تشخص منها في الخارج ، يكون مجازا ؛ لأنه غير ما وضع له فاستعمال الأمر المقيد ، أو المرة مجاز ، فالفرار من مجاز واحد يوقعه في مجوزين.

وللقطع بأن المرّة والتكرار من صفات الفعل ، كالقليل والكثير ، ومن المعلوم أن الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصية شيء منها ، وإذا علم ذلك فمعنى اقرأ طلب لقراءة ما ، فلا يدلّ على صفة القراءة من تكرار أو مرّة.

كما أن الأمر المطلق لو كان للتكرار ، لعم جميع الأوقات ؛ لعدم أولوية وقت دون وقت ، والتعميم باطل لأمرين.

أحدهما : أنه تكليف بما لا يطاق.

والثاني : يلزم أن ينسخه كل تكليف يأتي بعده ، لا يمكن أن يجامعه في الوجود ؛ لأن الاستغراق الثابت بالأول يزول بالاستغراق الثابت بالثاني ، وليس كذلك.

٣٧٤

الأول ، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال.

فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية

قال ابن الخطيب (١) : والاستدلال بهذه الآية على وقوع النّسخ ضعيف ؛ لأن «ما» هاهنا تفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك : «من جاءك فأكرمه» لا يدل على حصول المجيء ، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه ، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩].

فصل في فوائد معرفة النسخ

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : معرفة هذا الباب أكيدة عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة ؛ لما يترتب عليه من الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال : دخل علي ـ رضي الله عنه ـ المسجد ، فإذا رجل يخوف الناس ؛ فقال : ما هذا؟ قالوا : رجل يذكر الناس ؛ فقال : ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول : أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟! فقال : لا ؛ قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكّر فيه.

وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا ؛ قال : قد هلكت وأهلكت!.

ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.

فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله

اعلم أن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، وسمي الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا.

واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه :

أحدها : هذه الآية.

وأجاب عنها أبو مسلم بوجوه :

الأول : أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسّبت ، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله ـ تعالى ـ وتعبّدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون : لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠٧.

٣٧٥

الوجه الثاني : المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ ، [وتحويله عنه](١) إلى سائر الكتب وهو كما يقال : نسخت الكتاب.

الوجه الثالث : أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير.

[ومن الناس من أجاب عن الاعتراض](٢) الأول بأن الآية إذا أطلقت ، فالمراد بها آيات القرآن ؛ لأنه هو المعهود عندنا.

وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختص ببعضه.

ولقائل أن يقول على الأول : لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن ، بل هو عام في جميع الدلائل.

وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن ، بل التقدير ـ والله أعلم ـ : ما ننسخ من اللوح المحفوظ ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.

الحجة الثانية : [للقائلين بوقوع النسخ في القرآن](٣) أن الله ـ تعالى ـ أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا ، وذلك في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) [البقرة : ٢٤٠] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، كما قال (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].

قال أبو مسلم : الاعتداد بالحول ما زال بالكلية ؛ لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا.

والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل ، سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السّنة العدة يكون زائلا بالكلية.

الحجة الثالثة : أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة : ١٢] ، ثم نسخ ذلك.

قال أبو مسلم : إنما زال ذلك لزوال سببه ؛ لأن سبب التعبّد بها أن يمتاز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد.

والجواب : لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقا وهو باطل ؛ لأنه روي أنه لم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : وأجيب عن.

(٣) سقط في ب.

٣٧٦

يتصدق غير علي ـ رضي الله عنه ـ ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣].

الحجة الرابعة : أنه ـ تعالى ـ أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦].

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] ثم أزالهم عنها بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] قال أبو مسلم : «حكم تلك القبلة ما زال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر».

الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين «بيت المقدس» ، وسائر الجهات ، فالخصوصية التي امتاز بها «بيت المقدس» عن سائر الجهات قد زالت بالكلية ، فكان نسخا.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] والتبديل يشتمل على رفع إثبات ، والمرفوع : إما التلاوة ، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ.

واحتجّ أبو مسلم بأن الله ـ تعالى ـ وصف كتابه بأنه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل.

والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضا ما يبطله.

فصل في أنواع النسخ (١)

تارة ينسخ الحكم ، وتارة التلاوة ، وتارة هما معا ، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات.

__________________

(١) وهو ثلاثة أنواع : «النّوع الأوّل» نسخ الحكم والتلاوة معا ؛ وذلك مثل ما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ؛ أنها قالت : «كان فيما أنزل عشر رضعات محرّمات فنسخن بخمس» وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة. وقال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : «إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أوتي قرآنا ثم نسيه ، فلم يبق منه شيء لما رفع الله عن قلبه ذلك» ومثل له أيضا بما روي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه قال : «كنّا نقرأ على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سورة تعدل سورة التوبة ، ما أحفظ منها غير آية واحدة ، وهي : لو أن لابن آدم واديين من ذهب ، لابتغى إليه ثالثا ، ولو أن له ثالثا لابتغى إليه رابعا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب» ونسخ هذا النوع كان بطريق الصرف والنسيان.

أي : يصرفها عن القلوب ، أو يصرف القلوب عنها ، وكان هذا النوع حاصلا في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يدلّنا ـ

٣٧٧

وأما نسخ التلاوة دون الحكم ، فكما يروى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا

__________________

ـ على ذلك الاستثناء المذكور في قوله تعالى : («سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ ؛) إذ لو لم يتصور النسيان ، لخلا ذكر الاستثناء عن الفائدة ، والتالي باطل ، وهذا النوع لم يخالف فيه أحد.

«النّوع الثّاني» : ومعناه : أن يزال الحكم بنقل العباد منه ، ويبقى المنسوخ متلوّا ؛ وذلك مثل نسخ كل من الإيذاء باللّسان للزانيين الثابت بقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) وإمساك الزانيات الثابت بقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بالجلد والرجم فيهما مع بقاء تلاوة النصين الدالين عليهما ، وأمثلة هذا النوع متعددة ؛ لأنه هو الكثير في كتاب الله ـ تعالى ـ.

من ذلك نسخ الاعتداد بالحول ، وقد تقدم ذكره ، ونسخ التخيير في الصوم ، ونسخ المسالمة مع الكفار ، وثبات الواحد للعشرة مع بقاء الآيات الموجبة لها.

وهذا النوع قال به جمهور الفقهاء والمتكلمين ، ولم يخالف في ذلك سوى فرقة شاذة من المعتزلة متمسكين بأن المقصود من النص حكمه المتعلق بمعناه ؛ إذ الابتلاء يحصل به ، والنص وسيلة إلى هذا المقصود ، فلا يبقى النصّ بدون حكمه ؛ لسقوط اعتبار الوسيلة عند فوات المقصد ؛ كوجوب الطهارة لا يبقى بعد سقوط الصلاة بالحيض.

ويجاب عن هذا التمسك : بأن ما يتعلّق بالنص من الأحكام على قسمين : قسم يتعلق بالنظم ؛ مثل جواز الصلاة ، والإعجاز ، وغيرهما ، وقسم يتعلق بالمعنى ؛ وهو ما يترتب عليه من الوجوب ، والحرمة ، ونحوهما ، فيجوز أن يكون أحدهما مصلحة دون الآخر ، فإذا انتسخ ما يتعلق بالمعنى ، جاز أن يبقى ما يتعلّق بالنظم ؛ لكونه مقصودا ؛ والدليل على أن ما يتعلق بالنظم يصلح مقصودا : أن في القرآن ما هو متشابه ، ولم يثبت به من الأحكام إلا ما يتعلّق بالنظم من جواز الصلاة والإعجاز ، فإذا حسن ابتداء إنزال القرآن له ، فالبقاء أولى ، فلصلاح الحكمين المذكورين لكونهما مقصورين ـ استقام بقاء النص ببقائهما ، أو ببقاء أحدهما. واعتراف الخلق برحمة الخالق ؛ حيث جعل لكل زمان من القوانين ما يناسبه ؛ ولكل أمة من الأمم ما يكفل لها سعادتها وراحتها ، لبقاء النص ماثلا بين أعينهم مسلوب الحكم ، بعد أن كان معمولا به ـ لأكبر دليل على أنه تولّى تربية الأمم ، وتدرج بهم إلى الكمال الذي أعده لهم ـ جل شأنه ـ ؛ بتغيير الحكم الذي كان يناسب علّة متأصلة في الأمة ، إلى حكم مناسب للدوام والاستقرار ، وبذلك يزداد شكرنا ، ويقوى امتثالنا للحكم ، واقتناعنا برحمته ، فقد يكون انتقالا إلى أخف ؛ فنشكر نعمة التخفيف ، وقد يكون انتقالا إلى حكم أشد من الأول ، فنشكر نعمة التهذيب لنفوسنا ، والتعويض للزيادة في ثبوتنا. فمن الأول : نسخ عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر بعد أن كانت حولا ؛ إذ لو بقيت الآية الأولى معمولا بها حتى الآن ، لكان ذلك مكرها فضليات النساء على التطوّح وراء المآرب الدنيئة ، لأن النّساء في الزمن الأول كنّ قادرات على الانتظار تلك المدة الطويلة ، فلما عيل صبرهنّ ، اقتضى النظام العادل أن يخفّف ذلك ؛ من الزمن الطويل الشاق إلى هذه المدة القصيرة السهلة ، ونسخ مصابرة الواحد عشرة في القتال بمصابرة اثنين ؛ وذلك لقلّة عدد المسلمين في صدر الإسلام ، فلما تضاعف عددهم ، وقويت شوكتهم ، زال ذلك المانع ، فخفف الله عليهم.

«ومن الثاني» : تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة في صدر الإسلام ، فجاءت الأحكام والآيات تستلها من نفوسهم رويدا رويدا ، حتى استقروا على المنع الباتّ ، وفي ذلك من حسن المعاملة ، وبديع الصنع ، ما لا يخفى على أحد ، سوى من حرم نعمة العقل ، فهذي من هذي.

«النوع الثالث» وهو نسخ التلاوة دون الحكم ومعناه : أن يزال النص الدال على الحكم بصرف الله ـ تعالى ـ القلوب عن حفظه ، مع بقاء العمل بالحكم ، وقد مثل بعضهم لهذا النّوع بقراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في كفارة اليمين : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ولكن التمثيل بهذا ليس من هذا ـ

٣٧٨

نقرأ «الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (١).

وروي : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التّراب ، ويتوب الله على من تاب» (٢).

وأما نسخ الحكم والتلاوة معا ، فكما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات» (٣) ، فالعشر

__________________

ـ النوع في شيء ؛ بدليل أن هذه القراءة كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ، لكن لمّا لم يوجد فيها النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن ، تركت ، فالأولى التمثيل لهذا النوع بما روي عن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ :

«كان فيما أنزل : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله ، والله عزيز حكيم» ، وهذا ثابت بطرق كثيرة ، فلا يبعد أن يدعى فيه التواتر ، فاندفع قول القائل : «لا يتصور نسخ التلاوة مع بقاء الحكم» ؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالنقل المتواتر.

وهذا النوع كسابق من اتفاق الجمهور على جوازه ووقوعه ، ولم يخالف في ذلك سوى شرذمة من المعتزلة ؛ متمسكين بأن التلاوة مع الحكم بمنزلة العلم مع العالمية ، والمفهوم مع المنطوق. وكما لا ينفك العلم عن العالمية ، والمفهوم عن المنطوق ، فكذلك التلاوة والحكم لا ينفكان ، وأيضا يلزم من نسخ التلاوة دون الحكم إيقاع المكلف في الجهل ؛ لأن ارتفاع التلاوة مظنة ارتفاع الحكم. «الجواب». «أما عن الأول» فلا تلازم بين جواز التلاوة وحكم المدلول ؛ فإن جواز التلاوة حكم ، وحكم المدلول حكم آخر ، وليس هذا كالعلم مع العالمية ؛ إذ لا مغايرة بين قيام العلم بالذات وبين العالمية ؛ فإن العالمية هي قيام العلم بالذات ، وإذ لا تغاير ، فلا تلازم ، ولو سلّم عدم الانفكاك بين العلم والعالمية ، فلا نسلم التساوي في الشبه إذ العلم علة العالمية ، بخلاف التلاوة ، فإنها أمارة الحكم فلا يلزم من انتفاء الأمارة انتفاء ما دلت عليه ، ولا من انتفاء مدلولها انتفاؤها.

وتظهر حكمة هذا النوع في كل آية بما يناسبها ، فنرى في آية «الرجم» مثلا حكمة الله تتجلى بأكمل معانيها ، في تنزيه الأسماع عن تكرار سماع هذه الفعلة الفاحشة جد الفحش ، والألسنة عن تكرار التلفظ بهذه الجريمة التي يمجها الذوق السليم ، ويأبى الضمير الحي إلّا أن يطاردها ، فهي ممّا يستحى من تكراره ؛ يدلنا على ذلك : أن الإنسان يستبيح لنفسه أن يتحدث لبنيه وبناته بأخبار سرقات ، وقتل ونهب ، ولا يستبيح لنفسه أن يتحدث لهم عن هتك الأعراض ، وتعرض الرجال للنّساء ، والنساء للرجال ؛ فإن ذلك مدعاة إلى حب الاستطلاع ، ولا يكون إلا بالسقوط في تلك الهوّة.

(١) أخرجه أحمد (٥ / ١٨٢) وابن ماجه (٢ / ٨٥٣) رقم (٢٥٥٣) وأبو داود «كتاب الحدود» باب (١٦).

(٢) أخرجه البخاري (٨٩ / ١١٥) كتاب الرقاق باب ما يتقى من فتنة المال رقم (٦٤٤٠) وأحمد (٥ / ١١٧) وابن حبان (٢٤٨٣ ـ موارد).

وأخرجه مسلم في الزكاة (١٠٤٩) بلفظ : «لو أن لابن آدم ملء واد مالا ، لأحبّ أن له إليه مثله».

وأخرجه الطبراني في الكبير (١ / ٢٠١) رقم (٤٢) مختصرا ، والترمذي (٣٨٩٤) والحاكم (٢ / ٢٢٤) وصححه ووافقه الذهبي.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) أخرجه مسلم «كتاب الرضاع» باب ٢٥ وأبو داود (١ / ٦٢٩) رقم (٢٠٦٢) والترمذي (٤ / ٤٥٦) رقم (١١٥٠) والدارمي (٢ / ١٥٧).

٣٧٩

مرفوع التلاوة والحكم جميعا ، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم.

ويروى أيضا أن سورة «الأحزاب» كانت بمنزلة السبع الطوال ، أو أزيد ، ثم انتقص منها.

[وروى ابن شهاب ، قال : حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن ، فلم يقدر على شيء منها ، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أحدهم : قمت الليل يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء ، فقام الآخر ، فقال : وأنا كذلك يا رسول الله ، فقال الآخر : فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّها ممّا نسخ الله البارحة» (١)

وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة ، فلا ينكره.

فصل في بيان أنه ليس شرطا البدل في النسخ

قال قوم : لا يجوز نسخ الحكم إلّا إلى بدل واحتجوا بهذه الآية.

وأجيبوا بأن نفي الحكم ، وإسقاط التعبّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ، وقد نسخ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل](٢).

فصل في جواز النسخ بالأثقل

قال قوم : لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه ، واحتجوا بأن قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) ينافي كونه أثقل ؛ لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله.

وأجيب : بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابا في الآخرة ، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله ـ سبحانه ـ نسخ في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصّلاة ركعتين عند قوم ، فنسخت بأربع في الحضر.

وأما نسخه إلى الأخف ، فكنسخ العدّة من حول إلى أربعة أشهر وعشرة ، وكنسخ صلاة اللّيل إلى التخيير فيها.

وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القبلة.

فصل : الكتاب لا ينسخ بالسّنّة المتواترة

قال الشافعي رضي الله عنه : الكتاب لا ينسخ بالسّنة المتواترة ، واستدل بهذ الآية

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٢ / ٢٨٨) وفي «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣١٨) ، (٧ / ١٥٤ ، ١٥٦) للهيثمي.

وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك. والأثر ذكره ابن كثير في «التفسير» (١ / ١٠٤).

(٢) سقط في ب.

٣٨٠