اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

٦٩٩ ـ أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تجادع (١)

أي : أذم وجوه قرود ، ومن كسر لامهما ، فيكون بدلا منهما كالقول الأول إلّا إذا فسر الملكان بداود وسليمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ كما ذكره بعض المفسرين ، فلا يكونان بدلا منهما ، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجهين السّابقين في رفع الشياطين ونصبه ، أو يكونان بدلا من «النّاس» كما تقدم.

وقرأ الحسن «هاروت وماروت» برفعهما ، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي : هما هاروت وماروت ، ويجوز أن يكون بدلا من «الشياطين» الأولى وهو قوله : (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، أو الثاني على قراءة من رفعه.

ويجمعان على هواريت ومواريت ، وهوارتة وموارتة ، وليس من زعم اشتقاقهما من الهرت والمرت وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما ، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا.

فصل في توجيه قراءة فتح اللام

أما القراءة بفتح لام «الملكين» ، فقيل : هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت.

وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام.

وقيل غيرهما.

وأما من كسر اللام فقيل : إنهما اسم لقبيلتين من الجن.

وقيل : هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام.

وقيل : هما رجلان صالحان.

وقيل : كانا رجلين ساحرين.

وقيل : كانا علجين أقنعين ب «بابل» يعلمان الناس السحر.

قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) هذه الجملة عطف على ما قبلها ، والجمهور على «يعلّمان» مضعفا.

واختلف فيه على قولين :

أحدهما : أنه على بابه من التعليم.

والثاني : أنه بمعنى يعلمان من «أعلم» ، فالتضعيف والهمزة متعاقبان.

قالوا : لأن الملكين لا يعلمان الناس السحر ، إنما يعلمانهم به ، وينهيانهم عنه ،

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه : ص ٣٤ ، وخزانة الأدب : ٢ / ٤٤٦ ، ٤٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٤٦ ، والكتاب : ٢ / ٧٠ ، ٧١ ، ولسان العرب : ٨ / ٦١ (جدع) ، والدر المصون : ١ / ٣٢١.

٣٤١

وإليه ذهب طحلة بن مصرف ، وكان يقرأ (١) «يعلمان» من الأعلام.

ومن حكى أن تعلّم بمعنى «اعلم» ابن الأعرابي ، وابن الأنباريّ ؛ وأنشدوا قول زهير : [البسيط]

٧٠٠ ـ تعلّمن ها ـ لعمر الله ـ ذا قسما

فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (٢)؟

وقول القطاميّ : [الوافر]

٧٠١ ـ تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا

وأنّ لذلك الغيّ انقشاعا (٣)

وقول كعب بن مالك : [الطويل]

٧٠٢ ـ تعلّم رسول الله أنّك مدركي

وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد (٤)

وقول الآخر : [الوافر]

٧٠٣ ـ تعلّم أنّه لا طير إلّا

على متطيّر وهو الثّبور (٥)

والضمير في «يعلمان» فيه قولان :

أحدهما : أنه يعود على هاروت وماروت.

والثاني : أنه عائد على [الملكين ، ويؤيده قراءة أبيّ بإظهار الفاعل : «وما يعلّم الملكان».

والأول هو الأصح ؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل](٦) دون المبدل منه ، فإنه في حكم المطّرح ، فمراعاته أولى ؛ تقول : «هند حسنها فاتن» ولا تقول : «فاتنة» مراعاة لهند ، إلّا في قليل من الكلام ؛ كقوله : [الكامل]

٧٠٤ ـ إنّ السّيوف غدوّها ورواحها

تركت هوازن مثل قرن الأعضب (٧)

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٢ ، والشواذ : ٨.

(٢) ينظر ديوانه : (٨١) ، وشواهد الكتاب : ٣ / ٥٠٠ ، الخزانة : ٥ / ٤٥١ ، المقتضب : ٢ / ٣٢٢ ، الهمع : ١ / ٧٦ ، الدرر : ١ / ٥٠ ، القرطبي : ٢ / ٣٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٣٥ ، وخزانة الأدب : ٩ / ١٢٩ ، ١٣٠٢ والدرر : ١ / ٢٣٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٢٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ٧٥ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٤) ينظر شرح أشعار الهذليين : ٢ / ٦٢٧ ، شرح الأشموني : ١ / ١٥٨ ، شرح شذور الذهب : ص ٤٦٨ ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٩٤ ، ملحق ديوان كعب بن زهير (٢٥٨) ، أمالي المرتضى : ٢ / ٧٧ ، مجمع البيان : ١ / ٣٨٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٥) ينظر القرطبي : ٢ / ٣٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٢.

(٦) سقط في ب.

(٧) البيت للأخطل ينظر ديوانه : ص ٣٢٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ١٩٩ ، ٢٠١ ، ولسان العرب (عضب) ، وجمهرة اللغة : ص ٣٥٤ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٤١ ، والدر المصون : ١ / ٦٢٢.

٣٤٢

وقول الآخر : [الكامل]

٧٠٥ ـ فكأنّه لهق السّراة كأنّه

ما حاجبيه معيّن بسواد (١)

فراعى المبدل منه في قوله : «تركت» ، وفي قوله : «معيّن» ، ولو راعى البدل ، وهو الكثير ، لقال «تركا» و «معيّنان» ؛ كقول الآخر : [الطويل]

٧٠٦ ـ فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنّه بنيان قوم تهدّما (٢)

ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجثّة.

وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن «رواحها وغدوها» منصوب على الظرف ، وأن قوله : «معيّن» خبر عن «حاجبيه» ، وجاز ذلك ؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر ، يجوز فيهما ذلك ؛ قال : [الهزج]

٧٠٧ ـ ..........

بها العينان تنهل (٣)

وقال : [الكامل]

٧٠٨ ـ لكأنّ في العينين حبّ قرنفل

أو سنبل كحلت به فانهلّت (٤)

ويجوز عكسه ؛ قال : [الطويل]

٧٠٩ ـ إذا ذكرت عيني الزّمان الّذي مضى

بصحراء فلج ظلّتا تكفان (٥)

و «من» زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق ؛ لأن «أحدا» يفيده بخلاف : «ما جاء من رجل» فإنها زائدة للاستغراق.

و «أحد» هنا الظاهر أنه الملازم للنفي ، وأنه الذي همزته أصل بنفسها.

__________________

(١) البيت للأعشى. ينظر شواهد الكتاب : ١ / ١٦١ ، شرح المفصل : ٣ / ٦٧ ، الخزانة : ٢ / ٣٧٠ ، الدرر : ٢ / ٢٢١ ، اللسان (عين) ، الدر : ١ / ٣٢٢.

(٢) البيت لعبدة ينظر ديوانه : ص ٨٨ ، والأغاني : ١ / ٧٨ ، ٢١ / ٢٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٢٠٤ ، وديوان المعاني : ٢ / ١٧٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٧٩٢ ، وشرح المفصل : ٣ / ٦٥ ، والشعر والشعراء : ٢ / ٧٣٢ ، والكتاب : ١ / ١٥٦ ، ولمرداس بن عبدة في الأغاني : ١٤ / ٨٦ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(٣) عجز بيت لامرىء القيس وصدره :

لمن زحلوفة زل

ينظر ديوانه : (١٥٤) ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٢١ ، والمحتسب : ٢ / ١٨٠ ، واللسان (زلل) ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(٤) البيت لسلمى بن ربيعة. ينظر الحماسة : (١ / ٢٨٥) ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٢١ ، حاشية الشيخ يس : ٢ / ٣٨٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٣.

(٥) ينظر تذكرة النحاة : ص ٥٧٣ ، والدرر : ١ / ١٥١ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٥٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ٥٠ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ١٢٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٣.

٣٤٣

وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد ، فتكون همزته بدلا من الواو.

فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة

القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ لا يليق بهم تعليم السحر ، وقالوا : كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [الأنعام : ٨].

وأيضا لو أنزل الملكين ، فإما أن يجعلهما في صورة الرجلين ، أو لا يجعلهما كذلك ، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلا وتلبيسا على الناس وهو لا يجوز ، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين تشاهدهم أنه لا يكون في الحقيقة إنسانا ، بل يكون ملكا من الملائكة؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩].

وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [الملكين](١) لتعليم السحر وعن الثاني : بأن هذه الآية عامة ، [وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وتلك](٢) خاصة والخاص مقدم على العام.

وعن الثالث : أن الله ـ تعالى ـ أنزلهما في صورة رجلين ، وكان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنسانا ، كما أنه في زمان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان الواجب على من شاهد حية الكلبي ألّا يقطع بكونه من البشر ، بل الواجب التوقف فيه.

فصل في فساد رواية الزهرة

رووا قصة الزّهرة وما جرى لها مع الملكين.

ولهم في الزهرة قولان :

أحدهما : أنها الكوكب المعروف.

والثاني : أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب.

وقيل : مسخت بها.

قال ابن الخطيب : وهذه الرواية فاسدة مردودة (٣) ؛ لأنه ليس في كتاب الله ـ تعالى ـ ما يدل عليها ، بل فيه ما يبطلها من وجوه :

الأول : الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عليهم‌السلام من كل المعاصي.

الثاني : أن قولهم : إنهما خيّرا بين عذاب الدنيا ، وبين عذاب الآخرة فاسد ، بل كان

__________________

(١) في ب : الملائكة

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : غير مقبولة.

٣٤٤

الأولى أن يخيّرا بين التوبة والعذاب ؛ لأن الله ـ تعالى ـ خير بينهما من أشرك به طول عمره ، فكيف يبخل عليهما بذلك؟

الثالث : أن من أعجب الأمور قولهم : إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ، ويدعوان إليه ، وهما يعاقبان [ولما ظهر فساد هذا القول فنقول : السبب](١) في إنزالهما وجوه :

أحدها : أن السحرة كثرت في ذلك الزمان ، واستنبطت أبوابا غريبة من السحر ، وكانوا يدّعون النبوة ، ويتحدّون الناس بها ، فبعث الله ـ تعالى ـ هذين الملكين لأجل أن يعلّما الناس أبواب السّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد.

وثانيها : أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة ، وبماهية السحر ، والناس كانوا جاهلين بماهية السّحر ، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة ، فبعث الله ـ تعالى ـ هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.

وثالثها : لا يمتنع أن يقال : السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله ، والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم ، أو مندوبا ، فالله ـ تعالى ـ بعث ملكين لتعليم السّحر لهذا الغرض ، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما ، واستعملوه في الشر ، وإيقاع الفرقة بين أولياء الله ، والألفة بين أعداء الله.

ورابعها : أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ، ولما كان السّحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما ؛ لأن الذي لا يكون متصورا يمتنع النهي عنه.

وخامسها : لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها ، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن.

وسادسها : يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللّذات العاجلة ، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة ، فيستوجب به الثواب الزائد ، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله ـ تعالى ـ إنزال الملكين لتعليم السّحر ، والله أعلم.

فصل في زمن وقوع هذه القصة

قال بعضهم : هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصّلاة والسلام.

__________________

(١) في أ : لكن الحكمة.

٣٤٥

قوله : (حَتَّى يَقُولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ).

«حتى» : حرف غاية ونصب ، وهي هنا بمعنى «إلى» ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ولا يجوز إظهارها ، وعلامة النصب حذف النون ، والتقدير : إلى أن يقولا ، وهي متعلقة بقوله : (وَما يُعَلِّمانِ) ، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية ، وهي قولهم : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

وأجاز أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ أن تكون «حتى» بمعنى «إلا» قال : والمعنى : وما يعلمان من أحد إلّا أن يقولا وهذا الذي أجازه لا يعرف عن أكثر المتقدمين ، وإنما قاله ابن مالك ؛ وأنشد : [الكامل]

٧١٠ ـ ليس العطاء من الفضول سماحة

حتّى تجود وما لديك قليل (١)

قال : تقديره : إلا أن تجود.

و «حتى» تكون حرف جر بمعنى «إلى» كهذه الآية ، وكقوله : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر : ٥] ، وتكون حرف عطف ، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل ؛ كقوله: [الطويل]

٧١١ ـ فما زالت القتلى تمجّ دماءها

بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل (٢)

والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة ، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها : إما في القوة ، أو الضعف ، أو غيرهما ، ولها أحكام أخر ستأتي إن شاء الله تعالى.

و «إنما» مكفوفة ب «ما» الزائدة ، فلذلك وقع بعدها الجملة ، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكذلك : «فلا تكفر».

فصل في المراد بالفتنة

المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي ، كقولهم : فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب ، وقد بيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر.

فالمراد أنهما لا يعلمان أحدا السحر ولا يصفانه لأحد ، ولا يكشفان له وجوه

__________________

(١) البيت للمقنع الكندي في خزانة الأدب ٣ / ٣٧٠ ، والدرر ٤ / ٧٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٧٣٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٧٢ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ٥٥٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٦٠ ، مغني اللبيب ١ / ١٢٥ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤١٢ ، همع الهوامع : ٢ / ٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٤.

(٢) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٣٤٤) ، الخزانة : ٩ / ٤٧٧ ، شرح المفصل : ٨ / ١٨ ، الهمع : ١ / ٢٤٨ ، الدرر : ١ / ٢٠٧ ، الأشموني ٣ / ٣٠٠ ، التهذيب ١ / ٢٢ ، حروف المعاني للزجاجي (٦٥) معاني الحروف للرماني (١٢٠) ، مغني اللبيب : ١ / ١٢٨ ، شرح الألفية لابن الناظم (٦٧٦) ، الدر المصون : ١ / ٣٢٤.

٣٤٦

الاحتيال حتى يبذلا له النّصيحة فيقولا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي : هذا الذي نصفه لك ، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة ، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي ، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه ، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.

قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ) في هذه الجملة سبعة أقوال :

أظهرها : أنها معطوفة على قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ) والضمير في «فيتعلّمون» عائد على «أحد» ، وجمع حملا على المعنى ، كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧].

فإن قيل : المعطوف عليه منفي ، فيلزم أن يكون «فيتعلّمون» منفيا أيضا لعطفه عليه ، وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه ، وهو أن قوله : (ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) ، وإن كان منفيا لفظا فهو موجب معنى ؛ لأن المعنى : يعلمان الناس السحر بعد قولهما : إنما نحن فتنة ، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره.

الثّاني : أنه معطوف على (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) قاله الفراء.

وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في «يعلمون» مع إتيانه بضمير التثنية في «منهما» يعني : فكان حقه أن يقال : «منهم» لأجل «يعلمون» وأجازه [أبو علي](١) وغيره ، وقالوا : لا يمتنع عطف «فيتعلمون» على «يعلّمون» ، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة ، والضمير في «منهما» راجع إليهما ، فإن قوله : «منهما» إنما جاء بعد تقدّم ذكر الملكين.

وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر : وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر ، وذلك أن الضمير في «منهما» عائد على الملكين ، وقد فرضتم أن (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) عطف على «يعلمون» ، [فيكون التقدير : «يعلّمون النّاس السّحر فيتعلّمون منهما»](٢) فيلزم الإضمار في «منهما» قبل ذكر الملكين ، وهو اعتراض واه فإنهما متقدمان لفظا ، وتقدير تأخرهما لا يضرّ ؛ إذ المحذور عود الضمير على غير مذكور في اللفظ.

الثالث : وهو أحد قولي سيبويه أنه عطف على «كفروا» ، فعل في موضع رفع ، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع.

قال سيبويه : [وارتفع](٣) «فيتعلمون» ؛ لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر فيتعلموا ليجعلا كفره سببا لتعلم غيره ، ولكنه على : كفروا فيتعلمون ، وشرح ما قاله هو أنه يريد أن ليس «فيتعلمون» جوابا لقوله : فلا تكفر فينتصب في جواب النهي ، كما انتصب : (فَيُسْحِتَكُمْ) [طه : ٦١] ، بعد قوله : (لا تَفْتَرُوا) لأن كفر من نهياه أن يكفر ليس

__________________

(١) في ب : أبو البقاء.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : وارتفعت.

٣٤٧

سببا لتعلّم من يتعلم. واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر ، وتقدم جوابه.

الرابع : وهو القول الثاني ل «سيبويه» أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : «فهم يتعلمون» ، فعطف جملة اسمية على فعلية.

الخامس : قال الزّجّاج أيضا : والأجود أن يكون معطوفا على «يعلّمان فيتعلّمون» فاستغني عن ذكر «يعلمون» على ما في الكلام من الدليل عليه [واعترض أبو علي قول الزجاج ؛ فقال : «لا وجه لقوله : استغني عن ذكر «يعلمان» ؛ لأنه موجود في النص». وهذا الاعتراض من أبي علي تحامل عليه لسبب وقع بينهما ؛ فإن الزجاج لم يرد أن «فيتعلمون» عطف على «يعلمان» المنفي ب «ما» في قوله : (وَما يُعَلِّمانِ) حتى يكون مذكورا في النص ، وإنما أراد أن ثم فعلا مضمرا يدل عليه قوة الكلام وهو : «يعلمان فيتعلمون»](١).

السّادس : أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام ، والتقدير : فيأتون فيتعلّمون ، ذكره الفراء والزجاج أيضا.

السّابع : قال أبو البقاء : وقيل : هو مستأنف ، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رحمه‌الله وأن يكون مستقلّا بنفسه غير محمول على شيء قبله ، وهو ظاهر كلامه.

قوله : (مِنْهُما) متعلّق ب «يعلمون».

و «من» لابتداء الغاية ، وفي الضمير ثلاثة أقوال : أظهرها : عوده إلى الملكين ، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها.

والثاني : يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين.

والثالث : أنه يعود على الفتنة ، وعلى الكفر المفهوم من قوله : (فَلا تَكْفُرْ) ، وهو قول أبي مسلم.

قوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ) الظّاهر في «ما» أنها موصولة اسمية.

وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة ، وليس بواضح ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير في «به» عليها ، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مرّة.

و «بين المرء» ظرف ل «يفرّقون».

والجمهور على فتح ميم «المرء» مهموزا ، وهي اللغة العالية.

__________________

(١) سقط في ب.

٣٤٨

وقرأ ابن (١) أبي أسحاق : «المرء» بضم الميم مهموزا.

وقرأ الأشهب العقيلي والحسن : «المرء» بكسر الميم مهموزا.

فأما الضم فلغة محكية.

وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقا ، ويحتمل أن يكون ذلك للإتباع ، وذلك أن في «المرء» لغة وهي أن «فاءه» تتبع «لامه» ، فإن ضم ضمت ، وإن فتح فتحت ، وإن كسر كسرت ، تقول : «ما قام المرء» بضم الميم و «رأيت المرء» بفتحها ، و «مررت بالمرء» بكسرها ، وقد يجمع بالواو والنون ، وهو شاذ.

قال الحسن في بعض مواعظه : «أحسنوا ملأكم أيّها المرؤون» أي : أخلاقكم.

وقرأ الحسن ، والزهري «المر» بفتح الميم وكسر الراء خفيفة ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على «الواو» وحذف الهمزة تخفيفا وهو قياس مطّرد.

وقرأ الزهري أيضا : «المرّ» بتشديد الرّاء من غير همز ، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة إلى الرّاء ، ثم رأى الوقف عليها مشدّدا ، كما روي عن عاصم (مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٣] بتشديد الراء ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

فصل في تفسير التفريق

ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين :

الأول : أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق ، فيصير كافرا ، وإذا صار كافرا بانت منه امرأته ، فيحصل تفريق (٢) بينهما.

الثاني : أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل ، والتّضريب وسائر الوجوه المذكورة. وذكره التفريق دون سائر الصّور التي يتعلّمونها تنبيها على الباقي ، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة ، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) فإنه أطلق الضرر ، ولم يقصره على التفريق ، فدلّ على أنه إنما ذكره ؛ لأنه من أعلى مراتبه.

قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) يجوز في «ما» وجهان.

أحدهما : أن تكون الحجازية ، فيكون «هم» اسمها ، و «بضارين» خبرها ، و «الباء» زائدة ، فهو في محل نصب.

والثاني : أن تكون التميمية ، فيكون «هم» مبتدأ ، و «بضارّين» خبره ، و «الباء» زائدة أيضا فهو في محل رفع.

__________________

(١) انظر جميع هذه القراءات في الشواذ : ٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٨٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠٠ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٥.

(٢) في ب : تفرق.

٣٤٩

والضمير فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه عائد على السّحرة العائد عليهم ضمير «فيتعلّمون».

الثاني : يعود على اليهود العائد عليهم ضمير «واتبعوا».

الثالث : يعود على الشياطين والضمير في «به» يعود على «ما» في قوله : «و (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ).

والجمهور على «بضارّين» بإثبات النون و «من أحد» مفعول به ، وقرأ الأعمش (١) : «بضارّي» من غير نون ، وفي توجيه ذلك قولان :

أظهرهما : أنه أسقط النون تخفيفا ، وإن لم يقع اسم الفاعل صلة ل «أل» ؛ مثل قوله : [الطويل]

٧١٢ ـ ولسنا إذا تأبون سلما بمذعني

لكم غير أنّا إن نسالم نسالم (٢)

أي : بمذعنين ونظيره في التّثنية : «قطا قطا بيضك ثنتا ، وبيضي مائتا» يريدون ثنتان ومائتان.

والثاني ـ وبه قال الزّمخشري ، وابن عطية ـ أن النّون حذفت للإضافة إلى «أحد» ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور ، وهو «به» ؛ كما فصل به في قول الآخر : [الطويل]

٧١٣ ـ هما أخوا في الحرب من لا أخا له

إذا خاف يوما نبوة فدعاهما (٣)

وفي قوله : [الوافر]

٧١٤ ـ كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل (٤)

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠١ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٦ ، والمحتسب : ١ / ١٠٣ ، والتخريجات النحوية : ١٩١.

(٢) ينظر تسهيل ابن مالك : (١٣) ، روح المعاني : ١ / ٣٤٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٦.

(٣) البيت لعمرة الخثعمية ينظر في الإنصاف : ٢ / ٤٣٤ ، والدرر : ٥ / ٤٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٠٨٣ ، ولسان العرب (أبى) ، ولها أو لدرنا بنت عبعبة في الدرر : ٥ / ٤٥ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤٧٢ ، ولدرنا بنت عبعبة في شرح المفصل : ٣ / ٢١ ، والكتاب : ١ / ١٨٠ ، ولدرنا بنت عبعبة أو لدرنا بنت سيار في شرح أبيات سيبويه : ١ / ٢١٨ ، ولامرأة من بني سعد في نوادر أبي زيد : ص ١١٥ ، وبلا نسبة في الخصائص : ١ / ٢٩٥ ، ٢ / ٤٠٥ ، وكتاب الصناعتين : ص ١٦٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٦.

(٤) البيت لأبي حية النميري في الإنصاف : ٢ / ٤٣٢ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢١٩ ، والدرر : ٥ / ٤٥ ، وشرح التصريح : ٢ / ٩٥ ، والكتاب : ١ / ١٧٩ ، ولسان العرب [عجم] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٤٧٠ ، وأوضح المسالك : ٣ / ١٨٩ ، والخصائص : ٢ / ٤٠٥ ، ورصف المباني : ٦٥ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٢٨ ، وشرح ابن عقيل : ٤٠٣ ، وشرح عمدة الحافظ : ٤٩٥ ، وشرح المفصل : ١ / ١٠٣ ، والمقتضب : ٤ / ١٧٧ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٥٢ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٦.

٣٥٠

ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال : فإن [قلت](١) كيف يضاف إلى «أحد» وهو مجرور؟ قلت : جعل الجار جزءا من المجرور.

قال أبو حيان : وهذا التخريج ليس يجوز ؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظّرف والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه ؛ لأنه مشغول بعامل جرّ ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة.

وأما جعله حرف الجر جزءا من المجرور فليس بشيء ؛ لأن هذا مؤثر فيه ، وجزء الشيء لا يؤثر فيه.

وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة (٢) ابن عامر ، فبالظرف وشبهه أولى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام. وأما قوله : «لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه.

فإنما ذلك في الجزء الحقيقي ، وهذا إنما قال : ننزله منزلة الجزء ، ويدلّ على ذلك قول [النحاة](٣) الفعل كالجزء من الفاعل ، ولذلك أنّث لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثّر فيه.

و «من» في «من أحد» زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ).

وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء : إن «أحدا» يجوز أن يكون بمعنى واحد ، والمعهود زيادة «من» في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو : ما ضربت من أحد ، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك ؛ لأن المعنى : وما يضرون من أحد ، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عنه باسم الفاعل الدّال على الثبوت ، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد المراد الذي لم تفده الجملة الفعلية (٤).

قوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هذا استثناء مفرّغ من الأحوال ، فهو في محل نصب على الحال ، فيتعلّق بمحذوف ، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه :

أحدها : أنه الفاعل المستكن في «بضارين».

الثاني : أنه المفعول وهو «أحد» وجاءت الحال من النكرة ؛ لاعتمادها على النفي.

والثالث : أن الهاء في «به» أي بالسحر ، والتقدير : وما يضرون أحدا بالسحر إلا

__________________

(١) في أ : قيل.

(٢) يعني في قوله تعالى : «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» الآية ١٣٧ من الأنعام.

قرأ ابن عامر : وكذلك زيّن ، قتل ، أولادهم شركائهم.

وقرأ الباقون كما هو مثبت. انظر حجة القراءات : ٢٧٣.

(٣) في ب : النحويين.

(٤) في أ : الاسمية.

٣٥١

ومعه علم الله ، أو مقرونا بإذن الله ونحو ذلك.

والرابع : أنه المصدر المعروف وهو الضرر ، إلا أنه حذف للدلالة عليه.

فصل في تأويل الإذن

قال ابن الخطيب (١) : الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ، لأنه ـ تعالى ـ أراد عيبهم وذمهم عليه ، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه ، فلا بد من التأويل ، وفيه وجوه :

أحدها : قال الحسن : المراد منه التّخلية يعني الساحر إذا سحر إنسانا ، فإن شاء الله تعالى منعه منه ، وإن شاء خلّى بينه وبين ضرر السحر.

وثانيها : قال الأصم : المراد : «إلّا بعلم الله» ، وإنما سمي الأذان أذانا ، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة ، وسمي الإيذان إيذانا ؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن ، وكذلك قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِ) [التوبة : ٣] أي : إعلام ، وقوله تعالى (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩] معناه : فاعلموا ، وقوله : (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) [الأنبياء : ١٠٩] يعني : أعلمتكم.

وثالثها : أن الضرر الحاصل عند فعل السّحر إنما يحصل بخلق الله ، وإيجاده وإبداعه ، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله ـ تعالى ـ كما قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

ورابعها : أن يكون المراد بالإذن الأمر ، وهذا الوجه لا يليق إلّا بأن يفسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافرا ، والكفر يقتضي التفريق ، فإنّ هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.

قوله : (وَلا يَنْفَعُهُمْ) في هذه الجملة وجهان.

أحدهما : وهو الظاهر أنها عطف على «يضرهم» فتكون صلة ل «ما» أيضا ، فلا محلّ لها من الإعراب.

والثاني ، وأجازه أبو البقاء : أن تكون خبرا لمبتدأ مضمر تقديره : وهو لا ينفعهم ، وعلى هذا فتكون «الواو» للحال ، والجملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال ، وهذه الحال تكون مؤكّدة ؛ لأن قوله : «ما يضرهم» يفهم منه عدم النفع.

قال أبو البقاء : ولا يصح عطفه على «ما» ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم.

وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها ، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠١.

٣٥٢

وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحال والاستقبال ، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال ، والضّرّ والنفع معروفان ، يقال ضرّه يضرّه بضم الضاد ، وهو قياس المضاعف المتعدّي ، والمصدر : الضّر والضّر بالضم والفتح ، والضّرر بالفك أيضا ، ويقال : ضارة يضيره بمعناه ضيرا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٧١٥ ـ تقول أناس لا يضيرك نأيها

بلى كلّ ما شفّ النّفوس يضيرها (١)

وليس حرف العلة مبدلا من التضعيف.

ونقل بعضهم : أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال : منفوع ، والقياس لا يأباه.

قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) تقدم أن هذه اللّام جواب قسم محذوف.

و «علم» يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد ، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام ، فالجملة بعدها في محل نصب ؛ إما سادّة مسدّ مفعولين ، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم ، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها ، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين ، وإلا عطفنا واحدا ، ونظيره في الكلام : علمت لزيد قائم وعمرا ذاهبا ، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو.

والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعطف المنصوب على محلها قول الشاعر : [الطويل]

٧١٦ ـ وما كنت أدري قبل عزّة ما الهوى

ولا موجعات القلب حتّى تولّت (٢)

روي بنصب «موجعات» على أنه عطف على محل «ما الهوى» ، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون «ما» زائدة ، «والهوى» مفعول به ، فعطف «موجعات» عليه ، ويحتمل أن تكون «لا» نافية للجنس و «موجعات» اسمها ، والخبر محذوف كأنه قال : ولا موجعات القلب عندي حتى تولّت.

والضمير في «علموا» فيه خمسة أقوال :

أحدها : ضمير اليهود الذين بحضرة محمد عليه‌السلام ، أو ضمير من بحضرة سليمان ، أو ضمير جميع اليهود ، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع.

قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) في هذه اللام قولان :

أحدهما (٣) : وهو ظاهر (٤) قول النحاة أنها لام الابتداء المعلّقة ل «علم» عن العمل

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٧ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٧.

(٢) البيت لكثير عزة. ينظر ديوانه : ص ٩٥ ، خزانة الأدب : ٩ / ١٤٤ ، شرح التصريح : ١ / ٢٥٧ ، شرح شذور الذهب : ٤٧٥ ، شرح شواهد المغني : ص ٨١٣ ، ٨٢٤ ، أوضح المسالك : ٢ / ٦٤ ، شرح الأشموني : ص ١٦٢ ، العيني : ٢ / ٤٠٨ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٨.

(٣) في ب : أظهرهما.

(٤) سقط في ب.

٣٥٣

كما تقدم ، و «من» موصولة في محلّ رفع بالابتداء ، و «اشتراه» صلتها وعائدها.

و «ما له في الآخرة من خلاق» جملة من مبتدأ وخبر ، و «من» زائدة في المبتدأ ، والتقدير : ما له خلاق في الآخرة.

وهذه الجملة في محل رفع خبر ل «من» الموصولة ، فالجملة من قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) مقسم عليها كما تقدم ، و (لَمَنِ اشْتَراهُ) غير مقسم عليها ، هذا مذهب سيبويه رحمه‌الله تعالى والجمهور.

الثاني : وهو قول الفراء ، وتبعه أبو البقاء : أن تكون هذه اللام هي الموطّئة للقسم ، و «من» شرطية في محل رفع بالابتداء ، و (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) جواب القسم ، ف «اشتراه» على القول الأول صلة ، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط ، ويكون جواب الشرط محذوفا ؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم ، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالبا ، وقد يجاب الشرط مطلقا كقوله : [الطويل]

٧١٧ ـ لئن كان ما حدّثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشّمس باديا (١)

ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض ، وقد يكون مضارعا كقوله : [الطويل]

٧١٨ ـ لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع (٢)

فعلى قول الفرّاء تكون الجملتان من قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ، و (لَمَنِ اشْتَراهُ) مقسما عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال : هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك ، والذي يظهر في منعه ، أن الفعل بعد «من» وهو «اشتراه» ماض لفظا ومعنى ، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل ، فجعله شرطا لا يصح ؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضيا لفظا ، فلا بد أن يكون مستقبلا معنى.

فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء

واستعير لفظ الشراء لوجوه :

أحدها : أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وأقبلوا على التمسّك بما تتلو الشّياطين ، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى.

__________________

(١) البيت لامرأة من عقيل. ينظر خزانة الأدب : ١١ / ٣٢٨ ، ٣٢٩ ، والدرر : ٤ / ٢٣٧ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٥٤ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٢١٩ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٥٩٥ ، ولسان العرب (ختم) ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٣٦ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٤٣ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦١٠ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٤٣٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٨.

(٢) البيت للكميت بن معروف ينظر خزانة الأدب : ١٠ / ٦٨ ، ٧٠ ، ١١ / ٣٣١ ، ٣٥١ ، ٤٢٩ ، شرح الأشموني : ٢ / ٤٩٦ ، ٥٩٥ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٥٤ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٢٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٩.

٣٥٤

وثانيها : أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر ، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.

وثالثها : أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه ، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقابلة التعليم لأجل الاستعمال. والخلاق : النصيب.

قال الزّجاج : أكثر استعماله في الخير.

فأما قول أميّة بن أبي الصلت : [البسيط]

٧١٩ ـ يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم

إلّا سرابيل من قطر وأغلال (١)

فيحتمل ثلاثة أوجه.

أحدها : أنه على سبيل التهكّم بهم ؛ كقوله : [الوافر]

٧٢٠ ـ ..........

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٢)

والثاني : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن لهم السّرابيل من كذا. الثالث : أنه استعمل في الشر على قلة. والخلاق : القدر ؛ قال : [المتقارب]

٧٢١ ـ فما لك بيت لدى الشّامخات

وما لك في غالب من خلاق (٣)

أي : من قدر ورتبة ، وهو قريب من الأول.

قال القفّال رحمه‌الله تعالى : يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ، ومعناه التقدير ، ومنه : خلق الأديم ، ومنه يقال : قدر للرجل كذا درهما رزقا على عمل كذا. والضمير المنصوب في «اشتراه» فيه أربعة أقوال :

يعود على السحر ، أو الكفر ، أو كيلهم الذي باعوا به السحر ، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه. وتقدم الكلام على قوله : (وَلَبِئْسَ ما) وما ذكر الناس فيها ، واللام في «لبئسما» جواب قسم محذوف تقديره : والله لبئسما ، والمخصوص بالذّم محذوف أي : السحر أو الكفر.

قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) جواب «لو» محذوف تقديره : لو كانوا يعلمون ذم ذلك

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٤٧) ، الطبري : ٢ / ٤٥٢ ، البحر : ١ / ٤٨٧ ، الفخر الرازي : ٣ / ٢٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٩.

(٢) عجز بيت لعمرو بن معد يكرب وصدره :

وخيل قد دلفت لها بخيل

ينظر شواهد الكتاب : ٢ / ٣٢٣ ، والنوادر : ١٥٠ ، ابن يعيش : ٢ / ٨٠ ، الخزانة : ٤ / ٥٣ ، والدر المصون : ١ / ٣٢٩.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٧ ، روح المعاني : ١ / ٣٤٥ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٩.

٣٥٥

لما باعوا به أنفسهم ، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء : لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر ؛ لأن المقدر كلما كان متصيّدا من اللفظ كان أولى. والضمير في «به» يعود على السحر ، أو الكفر ، وفي «يعلمون» يعود على اليهود باتفاق.

قال الزمخشري (١) : فإن قلت : كيف أثبت لهم العلم أولا في : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

قلت : معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم ، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه ، وهذا بناء منه على أن الضميرين في «علموا» و «يعلمون» لشيء واحد.

وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العقل ؛ لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته ، فصار وجود العلم كالعدم حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله ـ تعالى ـ الكفا ر «صما وبكما وعميا» إذ لم ينتفعوا [بهذه الحواس](٢) أو يغاير بين متعلّق العلمين أي : علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا.

وأما إذا أعدت الضمير في «علموا» على الشياطين ، أو على من بحضرة سليمان ، أو على الملكين ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا لَوْ) هنا فيها قولان :

أحدهما : أنها على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وسيأتي الكلام في جوابها ، وأجاز الزمخشري رحمه‌الله تعالى أن تكون للتمني أي : ليتهم آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم ، واختيارهم له ، فعلى هذا لا يلزم أن يكون لها جواب ، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ ، وفي كلامه اعتزال.

و (أَنَّهُمْ آمَنُوا) مؤول بمصدر ، وهو في محل رفع ، [وفيه قولان](٣) أحدهما ـ وهو قول سيبويه ـ : أنه في محلّ رفع بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : ولو كان إيمانهم ثابت ، وشذّ وقوع الاسم بعد (لَوْ) ، وإن كانت مختصة بالأفعال ، كما شذ نصب «غدوة» بعد «لدن».

وقيل : لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان لفظ المسند والمسند إليه في صلة «أنّ».

وصحح أبو حيّان هذا في سورة «النساء» وهذا يشبه الخلاف في «أن» الواقعة بعد «ظنّ وأخواتها» ، وتقدم تحقيقه.

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٧٣.

(٢) في أ : بحواسهم.

(٣) في ب : واختلف في ذلك على قولين.

٣٥٦

والثاني : وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية ، رافعه محذوف تقديره : ولو ثبت إيمانهم ؛ لأنها لا يليها إلّا الفعل ظاهرا أو مضمرا ، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسّرا بفعل مثله ، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو. والضمير في (أَنَّهُمْ) فيه قولان :

أحدهما : عائد على اليهود ،

والثاني : على الذين يعلمون [الناس](١) السحر.

قال ابن الخطيب (٢) : إنّ الله ـ تعالى ـ لما قال : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠٢] ثم وصفهم بأنهم (اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، وأنهم تمسّكوا بالسحر قال بعده : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) يعني بما نبذوه من كتاب الله.

فإن حملت ذلك على القرآن جاز ، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز ، وإن حملته على الأمرين جاز ، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات ، وترك المأمورات.

قوله تعالى : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

في هذه اللام قولان :

أحدهما : أنها لام الابتداء ، وأن ما بعدها استئناف إخبار بذلك ، وليس متعلقا بإيمانهم وتقواهم ، ولا مترتبا عليه ، وعلى هذا فجواب «لو» محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني ، أو قيل بأنها للتمني ، ويكون لها جواب تقديره : لأثيبوا.

والثاني : أنها جواب «لو» ، فإن «لو» تجاب بالجملة الاسمية.

قال الزمخشري (٣) رحمه‌الله تعالى : أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب «لو» لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الذاريات : ٢٥] لذلك. [وفي] وقوع جواب «لو» جملة اسمية نظر يحتاج إلى دليل غير محلّ النزاع.

قال أبو حيان (٤) رحمه‌الله تعالى : لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جوابا ل «لو» ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه ، ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل.

والمثوبة فيها قولان :

أحدهما : أن وزنها «فعولة» ، والأصل مثووبة ، فثقلت الضّمة على «الواو» ، فنقلت إلى الساكن قبلها ، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل : مقولة ومجوزة ومصونة ومشوبة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٠٢.

(٣) ينظر الكشاف : ١ / ١٧٤.

(٤) ينظر البحر المحيط : ١ / ٥٠٤.

٣٥٧

وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول ، فهي مصدر ـ نقل ذلك الواحدي.

والثاني : أنها «مفعلة» من الثواب بضم العين ، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء ، ويقال : «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، وكان من حقّها الإعلال فيقال : «مثابة» ك «مقامة» ، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال «مكوزة» ، وبذلك قرأ أبو السمال (١) وقتادة كمشورة. ومعنى «لمثوبة» أي : ثواب وجزاء من الله.

وقيل : لرجعة إلى الله ـ تعالى ـ خير.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) في محلّ رفع صفة «لمثوبة» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : لمثوبة كائنة من عند الله تعالى.

والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره.

قال أبو حيان : وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الابتداء بالنكرة.

قلت : ولا حاجة إلى هذا ؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر ، وهو الاعتماد على لام الابتداء ، حتى لو قيل في الكلام : «لمثوبة خير» من غير وصف لصح.

والتنكير في «لمثوبة» يفيد أن شيئا من الثواب ـ وإن قلّ ـ خير ، فلذلك لا يقال له قليل ، ونظيره : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وقوله : «خير» خبر «لمثوبة» ، وليست هنا بمعنى «أفعل» التفضيل ، بل هي لبيان أنها فاضلة ، كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) [الفرقان : ٢٤] (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) [فصلت : ٤٠] ..

قوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) جوابها محذوف تقديره : لكان تحصيل المثوبة خيرا ، أي : تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى ، وكذلك قدّره بعضهم : لآمنوا.

وفي مفعول «يعلمون» وجهان :

أحدهما : أنه محذوف اقتصارا أي : لو كانوا من ذوي العلم.

والثاني : أنه محذوف اختصارا تقديره : لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك ، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤)

اعلم أن الله ـ تعالى ـ لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد ـ عليه الصلاة

__________________

(١) وقرأ بها ابن بريدة.

انظر الشواذ : ١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٧١٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٣٣١.

٣٥٨

والسلام ـ أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه.

واعلم أنّ الله ـ تعالى ـ خاطب المؤمنين بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن.

قال ابن عباس رضي الله عنه : «وكان يخاطب في التوراة بقوله : يا أيها المساكين» (١).

فصل في لفظ راعنا

روي أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا يا رسول الله من المراعاة ، أي : راعنا سمعك أي فرّغ سمعك لكلامنا (٢) ، يقال : رعى إلى الشيء ورعاه ، أي : أصغى إليه وأسمعه ، وكانت هذه اللفظة شيئا قبيحا بلغة اليهود.

وقيل : معناه عندهم اسمع لا سمعت.

وقيل : هو من الرّعونة ، وإذا أردوا أن يحمقوا إنسانا قالوا : راعنا بمعنى يا أحمق ، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهم : كنا نسبّ محمدا سرّا ، فأعلنوا به الآن ، فكانوا يأتونه ويقولون : راعنا يا محمد ، ويضحكون فيما بينهم ، فسمعها سعد بن معاذ ، ففطن لها ، وكان يعرف لغتهم ، فقال لليهود : لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضرين عنقه قالوا : أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا : راعِنا)(٣) لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وقولوا انظرنا» ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة «النساء» : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) [النساء : ٤٦].

قال قطرب : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى ، إلّا أن أهل «الحجاز» ما كانوا يقولونها إلّا عند الهزل والسخرية ، فلا جرم نهى الله عنها.

وقيل : إن اليهود كانوا يقولون : راعنا أي : أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها.

وقيل : قوله : «راعنا» خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول : راع كلامي فلا تغفل عنه ،

__________________

(١) ذكر هذا الأثر السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩٥) عن خيثمة بلفظ : ما تقرءون في القرآن : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» فإنه في التوراة يا أيها المساكين.

وعزاه لابن أبي شيبة وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٦٠) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩٥ ـ ١٩٦) وعزاه لأبي نعيم في «دلائل النبوة» عن ابن عباس بمعناه.

٣٥٩

ولا تشتغل بغيره ، وليس في قوله : (انْظُرْنا) إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه.

والجمهور على أن «راعنا» أمر من المراعاة ، وهي النظر في مصالح الإنسان ، وتدبر أموره ، و «راعنا» يقتضي المشاركة ؛ لأن معناه : ليكن منك رعاية لنا ، وليكن منا رعاية لك ، فنهوا عن ذلك ؛ لأن فيه مساواتهم به عليه الصلاة والسلام.

وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المخاطبة كما قال تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].

وقرأ الحسن (١) وأبو حيوة : «راعنا» بالتنوين ، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : قولا راعنا ، وهو على طريق النسب ك «لابن» و «تامر» ، والمعنى : لا تقولوا قولا ذا رعونة. والرعونة : الجهل والحمق والهوج ، وأصل الرعونة : التفرّق ، ومنه : «جيش أرعن» أي : متفرّق في كل ناحية ، ورجل أرعن : أي ليس له عقل مجتمع ، وامرأة رعناء.

وقيل للبصرة : الرعناء ؛ قال : [البسيط]

٧٢٢ ـ لو لا ابن عتبة عمرو والرّجاء له

ما كانت البصرة الرّعناء لي وطنا (٢)

قيل : سميت بذلك لأنها أشبهت «رعن الجبل» وهو النّاتىء منه.

وقال ابن فارس : يقال : «رعن الرجل يرعن رعنا».

وقرأ أبيّ (٣) ، وزرّ بن حبيش ، والأعمش ذكرها القرطبي «راعونا» ، وفي مصحف عبد الله كذلك ، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيما ، وفي مصحف عبد الله أيضا «ارعونا» لما تقدم.

والجملة في محل نصب بالقول ، وقدم النهي على الأمر ؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل.

فإن قيل : أفكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجل عليهم حتّى يقولوا هذا؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام ، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه : اسمع أو سمعت.

الثاني : أنهم فسروا قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] أنه ـ عليه‌السلام ـ كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل ـ عليه‌السلام ـ حرصا على تحصيل الوحي ، وأخذ القرآن ، فقيل له : لا تحرّك به لسانك لتعجل به ، فلا يبعد أن يجعل فيما

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٩ ، قال ابن عطية : وهي شاذة ، وانظر البحر المحيط : ١ / ٥٠٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٢) البيت للفرزدق. ينظر القرطبي : ٢ / ٤٢ ، أدب الكاتب : ٣٣٠ ، المجمل : ٢ / ٣٨٣ ، الدر المصون : ١ / ٣٣٢.

(٣) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٥٠٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٣٢.

٣٦٠