اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

الأول : أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبدا لحسدهم وبغيهم.

[والثاني : لا يؤمنون](١) أي : لا يصدقون بكتابهم ، لأنهم في قومهم كالمنافقين مع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ، ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه.

قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فيه قولان :

أحدهما : أنه من باب عطف الجمل ، وتكون «بل» لإضراب الانتقال لا الإبطال ، وقد [علم](٢) أن «بل» لا تسمّى عاطفة حقيقة إلا في المفردات.

الثاني : أنه يكون من عطف المفردات ، ويكون «أكثرهم» معطوفا على «فريق» ، و «لا يؤمنون» جملة في محلّ نصب على الحال من «أكثرهم».

وقال ابن عطيّة : من الضمير في «أكثرهم» ، وهذا الذي قاله جائز ، لا يقال : إنها حال من المضاف إليه ؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه ، وذلك جائز.

وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفا.

والنّبذ : الطرح ومنه النّبيذ والمنبوذ ، وهو حقيقة في الأجرام وإسناده إلى العهد مجاز.

وقال بعضهم : النّبذ والطّرح والإلقاء متقاربة ، إلّا أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطّرح أكثر ما يقال في المبسوط والجاري مجراه ، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين ؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطّرح قوله : [الكامل]

٦٨٩ ـ إنّ الّذين أمرتهم أن يعدلوا

نبذوا كتابك واستحلّوا المحرما (٣)

وقال أبو الأسود : [الطويل]

٦٩٠ ـ وخبّرني من كنت أرسلت أنّما

أخذت كتابي معرضا بشمالكا

نظرت إلى عنوانه فنبذته

كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا (٤)

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١)

قال القرطبي : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) نعت للرّسول ، ويجوز نصبه على الحال.

واعلم أن معنى كون الرسول مصدقا لما معهم هو أنه كان معترفا بنبوّة موسى ـ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : عرفت.

(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٢٩ ، تفسير الطبري : ٢ / ٤٠١ ، معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٥٨ ، مجمع البيان : ١ / ٣٧٩ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.

(٤) ينظر ديوانه : (٤٩) ، القرطبي : ٢ / ٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.

٣٢١

عليه الصّلاة والسّلام ـ وبصحة التوراة ، أو مصدقا لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقا للتوراة.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

والثاني : المراد من يدعي التمسّك بالكتاب ، سواء علمه أم لم يعلمه ، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [القرآن](١) لا يختص بذلك من يعرف علومه ، بل المراد من يؤمن به.

قوله تعالى : (الْكِتابَ كِتابَ اللهِ :) «الكتاب» مفعول ثان ل «أوتوا» ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين ، فأقيم الأول مقام الفاعل ، وهو «الواو» ، وبقي الثاني منصوبا ، [وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول](٢) و «كتاب الله» مفعول نبذ ، و «وراء» منصوب على الظرف وناصبه «نبذ» ، وهذا مثل لإهمالهم التوراة ؛ تقول العرب : «جعل هذا الأمر وراء ظهره ، ودبر أذنه» أي : أهمله ؛ قال الفرزدق : [الطويل]

٦٩١ ـ تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي

بظهر فلا يعيا عليّ جوابها (٣)

والمراد بكتاب الله : القرآن.

وقيل : إنه التوراة لوجهين :

الأول : أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولا ، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال : إنهم نبذوه.

والثاني : أنه قال تعالى : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ولو كان المراد به : القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى ؛ لأنّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن.

فإن قيل : كيف يصحّ نبذهم التوراة ، وهم متمسّكون بها؟

قلنا : إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بنعته ، ووجوب الإيمان به ، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتّوراة.

قال السّدي ـ رحمه‌الله تعالى ـ نبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب «آصف» ، وسحر (هارُوتَ وَمارُوتَ)(٤).

قوله : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جملة في محلّ نصب على الحال ، وصاحبها : فريق ،

__________________

(١) في ب : الكتاب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : (٨٠) ، الأضداد : (٢٥٦) ، القرطبي : ٢ / ٢٩ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٠٤) عن السدي ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٢٤٧).

٣٢٢

وإن كان نكرة لتخصيصه بالوصف ، والعامل فيها «نبذ» ، والتقدير : مشبهين للجهّال ، ومتعلق العلم محذوف تقديره : أنه كتاب الله لا يداخلهم فيه شكّ ، والمعنى : أنهم كفروا عنادا ؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة ؛ لأنه لا يقال ذلك إلّا فيمن يعلم.

قال ابن الخطيب (١) : ودلّت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم ، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المكابرة عليهم.

قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٢)

قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ) إلى آخرها.

وقال أبو البقاء : إنها معطوفة على «أشربوا» أو على «نبذ فريق» ، وهذا ليس بظاهر ؛ لأن عطفها على «نبذ» يقتضي كونها جوابا لقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ).

واتّباعهم لما تتلو الشياطين ليس مترتبا على مجيء الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بل كان اتباعهم لذلك قبله ، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة «لما» كما تقدم ، و «ما» موصولة ، وعائدها محذوف ، والتقدير : تتلوه.

وقيل : «ما» نافية ، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام ، [ذكره] ابن العربي.

و «يتلو» في معنى «تلت» فهو مضارع واقع موقع الماضي ؛ كقوله : [الكامل]

٦٩٢ ـ وإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الهجان وكلّ طرف سابح

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح (٢)

أي : فلقد كان.

وقال الكوفيون : الأصل : وما كانت تتلو الشياطين ، ولا يريدون بذلك أن صلة «ما» محذوفة ، وهي «كانت» و «تتلو» في موضع الخبر ، وإنما قصدوا تفسير المعنى ، وهو

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٤.

(٢) البيتان لزياد الأعجم. ينظر الأمالي للقالي : ٣ / ١١ ، ابن الشجري : ١ / ٣٠٤ ، الخزانة : ٤ / ١٩٢ ، القرطبي : ٢ / ٣٠ ، البيان في غريب القرآن : ١ / ١١٣ ، الدر المصون : ١ / ٣١٨.

٣٢٣

نظير : «كان زيد يقوم» المعنى على الإخبار ، وبقيامه في الزمن الماضي ، وقرأ الحسن (١) والضحاك «الشياطون» إجراء له مجرى جمع السّلامة ، قالوا : وهو غلط. وقال بعضهم : لحن فاحش.

وحكى الأصمعي «بستان فلان حوله بساتون» وهو يقوي قراءة الحسن.

قوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) فيه قولان :

أحدهما : أنه على معنى «في» ، أي : في زمن ملكه ، والملك هنا شرعه.

والثاني : أن يضمن تتلو معنى تتقوّل أي : تتقول على ملك سليمان ، وتقوّل يتعدى بعلى ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ).

وهذا الثاني أولى ، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف ، وهو مذهب البصريين ـ كما تقدم ـ وإنما أحوج إلى هذين التأويلين ؛ لأن تلا إذا تعدّى ب «على» كان المجرور ب «على» شيئا يصحّ أن يتلى عليه نحو : تلوت على زيد القرآن ، والملك ليس كذلك.

قال أبو مسلم : «تتلو» أي : تكذب على ملك سليمان يقال : تلا عليه : إذا كذب وتلا عنه إذا صدق. وإذا أبهم جاز الأمران.

قال ابن الخطيب (٢) : أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف ، والتلاوة : الاتباع أو القراءة وهو قريب منه.

قال أبو العباس المقرىء : و «على» ترد على ثلاثة أوجه :

الأول : بمعنى «في» كهذه الآية.

وبمعنى «اللام» ، قال تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] أي : للذي.

وبمعنى «من» ، قال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) [المططفين : ٢] أي : من الناس يستوفون.

و «سليمان» علم أعجمي ، فلذلك لم ينصرف.

وقال أبو البقاء رحمه‌الله تعالى : «وفيه ثلاثة أسباب : العجمة والتّعريف والألف والنون» ، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه ، والتصريف حتى تعرف زيادتها ، وقد تقدّم أنهما لا يدخلان في الأسماء الأعجميّة ، وكرر قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) بذكره ظاهرا ؛ تفخيما له ، وتعظيما ؛ كقوله : [الخفيف]

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٤ ، والدر المصون : ١ / ٣١٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٠.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٥.

٣٢٤

٦٩٣ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

 .......... (١)

وقد تقدم تحقيق ذلك.

فصل في المراد بقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا)

المراد بقوله : (وَاتَّبَعُوا) هم اليهود.

فقيل : هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

وقيل : هم الذين كانوا في زمن سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السّحرة ؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا ، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر.

وقيل : إنه يتناول الكل وهو أولى.

قال السّدي : لما جاءهم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والفرقان ، فنبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب «آصف» وسحر «هاروت وماروت» فلم يوافق القرآن ، فهذا هو قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السّحر.

واختلفوا في المراد من الشياطين.

فقال المتكلمون من المعتزلة : هم شياطين الإنس ، وهم المتمرّدون في الضلال ؛ كقول جرير: [البسيط]

٦٩٤ ـ أيّام يدعونني الشّيطان من غزلي

وكنّ يهوينني إذ كنت شيطانا (٢)

وقيل : هم شياطين الإنس والجن.

قال السدي : إن الشياطين كانوا يسترقون السّمع ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا : إن الجنّ تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : هذا علم سليمان ، وما تم له ملكه إلّا بهذا العلم ، سخّر الجن والإنس [والطير] والريح التي تجري بأمره (٣).

وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالوا : روي أن سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصّه الله ـ تعالى ـ بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر ديوانه : ١ / ١٦٥ ، القرطبي : ٢ / ٣٠ ، مجمع البيان : ١ / ٣٩٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦) عن السدي ، وذكره ابن كثير في «التفسير» (١ / ٢٤٩).

٣٢٥

إن هلك الظّاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السّحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان ، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلّا بسبب هذه الأشياء.

فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان

إنما أضافوا السّحر إلى سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لوجوه :

أحدها : أضافوه تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمره ، وترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم.

وثانيها : أن اليهود كانوا يقولون : إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما سخر الجن لسليمان ، فكان يخالطهم ، ويستفيد منهم أسرارا عجيبة غلب على الظنون أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ استفاد السحر منهم فقوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تنزيه له ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الكفر ، وذلك يدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر ، فروي عن بعض أحبار اليهود أنهم قالوا : ألا تعجبون من محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يزعم أن سليمان كان نبيّا وما كان إلا ساحرا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية ، وروي أن السّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان ، فبرأه الله ـ تعالى ـ من ذلك ، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره ، وهو قوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ).

هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ما قبلها.

وقرأ ابن عامر (١) ، والكسائي وحمزة بتخفيف «لكن» ورفع ما بعدها ، والباقون بالتشديد ، والنصب وهو واضح.

وأما القراءة الأولى ، فتكون «لكن» مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك ، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونقل جواز ذلك عن يونس [والأخفش. وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها «الواو» ، وكان ما بعدها مفردا وذهب يونس](٢) إلّا أنها لا تكون عاطفة وهو قوي ، فإنه لم يسمع في لسانهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وإن وجد ذلك في كتب النحاة (٣) فمن تمثيلاتهم ، ولذلك لم يمثل بها سيبويه ـ رحمه‌الله ـ إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه.

وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو ، وتارة لا تقترن.

__________________

(١) انظر الكشف : ١ / ٢٥٦ ، والسبعة : ١٦٧ ، وحجة القراءات : ١٠٨ ، والحجة : ٢ / ١٦٩. ١٧٠ ، والعنوان : ٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٣ ، وشرح شعلة : ٢٧١ ، وإتحاف : ١ / ٤١٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : النحويين.

٣٢٦

قال زهير : [البسيط]

٦٩٥ ـ إنّ ابن ورقاء لا تخشى بوادره

لكن وقائعه في الحرب تنتظر (١)

وقال الكسائي والفراء : الاختيار تشديدها إذا كان قبلها «واو» وتخفيفها إذا لم يكن ، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عطف ، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاث كلمات : لا النافية ، وكاف الخطاب ، وإن التي للإثبات ، وإنما حذفت الهمزة تخفيفا.

قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) «الناس» مفعول أول ، و «السّحر» مفعول ثان ، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال :

أحدها : أنها حال من فاعل «كفروا» أي معلّمين.

الثاني : أنها حال من الشياطين ، وردّه أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ بأن «لكن» لا تعمل في الحال ، وليس بشيء فإن «لكن» فيها رائحة الفعل.

الثالث : أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين.

الرابع : أنها بدل من «كفروا» أبدل الفعل من الفعل.

الخامس : أنها استئنافية ، أخبر عنهم بذلك ، هذا إذا أعدنا الضمير من «يعملون» على الشّياطين.

أما إذا أعدناه على «الذين اتّبعوا ما تتلو الشّياطين» فتكون حالا من فاعل «اتبعوا» ، أو استئنافية فقط.

والسّحر : كلّ ما لطف ودقّ سحره ، إذا أبدى له أمرا يدقّ عليه ويخفى.

قال : [الطويل]

٦٩٦ ـ ..........

أداء عراني من حبابك أم سحر (٢)

ويقال : سحره : أي خدعه وعلّله ؛ قال امرؤ القيس : [الوافر]

٦٩٧ ـ أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطّعام وبالشّراب (٣)

__________________

(١) ينظر ديوانه : ٣٠٦ ، والجنى الداني : ص ٥٨٩ ، والدرر : ٦ / ١٤٤ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٤٧ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٧٠٣ ، واللمع : ١٨٠ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٩٢ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١٧٨ ، وأوضح المسالك : ٣ / ٣٨٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٢٧ ، والدر المصون : ١ / ٣١٩.

(٢) عجز بيت لأبي عطاء السندي وصدره :

فو الله ما أدري وإني لصادق

ينظر شواهد البحر : ١ / ٤٨٧ ، اللسان (حبب) ، الدر المصون : ١ / ٣٢٠.

(٣) ينظر ديوانه : (٤٣) ، اللسان (سحر) ، البحر : ١ / ٤٨٧ ، مجمع البيان : ١ / ٣٨٤ ، الدر المصون : ١ / ٣٢٠.

٣٢٧

أي : نعلّل ، وهو في الأصل : مصدر يقال : سحره سحرا ، ولم يجىء مصدر ل «فعل» يفعل على فعل إلا سحرا وفعلا.

والسّحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه ، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحلقوم [ومنه قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحري ونحري](١) وهذا أيضا يرجع إلى معنى الخفاء.

ومنه قول تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب بدليل قولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٥٤] ، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا.

وقال تعالى : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف : ١١٦].

وقال تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه ، ويتخيل على غير حقيقته ، ويجري مجرى التّمويه والخداع ، وهو عند الإطلاق يذم فاعله ، ويستعمل مقيدا فيما يمدح وينفع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ من البيان لسحرا».

فسمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض البيان سحرا ؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ، وبليغ عبارته ، فعلى [هذا] يكون قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ من البيان لسحرا» (٢) خرج مخرج المدح.

وقال جماعة من أهل العلم : خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض» (٣).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (١٠ / ٥٣٧) عن أبي بن كعب بلفظه كتاب الأدب (٧٨) باب ما يجوز من الشعر (٩٠) حديث رقم (٦١٤٥) وأخرجه أبو داود في السنن (٤ / ٣٠٣) كتاب الأدب (٣٥) باب ما جاء في الشعر (٩٥) حديث رقم (٥٠١٢) واللفظ له وأحمد في المسند (١ / ٢٦٩ ، ٢٧٣ ، ٣٠ ، ٣٠٩ ، ٣١٣ ، ٣٢٧) (٥ / ١٢٥) ـ والدارمي في السنن (٢ / ٢٩٧) ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢٠٠٩ ، ٢٠١٧) ـ والبيهقي في السنن (٥ / ٦٨) ، (١٠ / ٢٣٧ ، ٢٤١) ـ والطبراني في الكبير (١٠ / ٢٠٧) ، (١١ / ٨٧) ، (١٢ / ٢٠٠) ، (١٧ / ١٩) ـ وابن أبي شيبة (٨ / ٥٠٤ ، ٥٠٥) ـ وأبو نعيم في الحلية (٨ / ٣٠٩) ـ والخطيب في التاريخ (١٣ / ١٢٢) ـ وابن عساكر (٢ / ٤٤٤) ، (٥ / ٣٢٠) ، (٦ / ٣٦٠٥).

(٣) متفق عليه من رواية أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فقد أخرجه البخاري في الصحيح (١٢ / ٣٣٩) كتاب الحيل (٩٠) باب (١٠) وهو ما قبل باب في النكاح (١١) حديث رقم (٦٩٦٧) واللفظ له.

وأخرجه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٣٧) كتاب الأقضية (٣٠) باب الحكم بالظاهر (٣) حديث رقم (٤ / ١٧١٣). ـ

٣٢٨

وقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ أبغضكم إليّ الثّرثارون المتفيهقون» (١).

[الثرثرة : كثرة الكلام وتردده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار والمتفيهق نحوه](٢) قال ابن دريد : فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّع وتنطّع ، قال : «وأصله الفهق ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه».

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان ، فقالا : أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من البيان لسحرا» ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحقّ [فيسحر] القوم ببيانه ، فيذهب بالحق ، وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى حدّ الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق.

فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سحرا ، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟

فالجواب : إنما سمي السّحر سحرا لوجهين :

الأول : أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب ، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه.

الثاني : أنّ القادر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا ، وتقبيح ما يكون حسنا فأشبه السحر من هذا الوجه.

فصل في ماهية السحر

قال بعض العلماء : إن السّحر تخيّل لا حقيقة له ، لقوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦].

وقيل : إنه حقيقة ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر ، وحلت عقوده ، وكلما انحلت عقدة خفّ عنه عليه‌السلام إلى أن سار كما نشط من عقال.

__________________

ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٣٥٨٣) ـ والموطأ (٧١٩) والبيهقي في السنن (١٠ / ١٤٩) ـ والخطيب في التاريخ (٤ / ١٠٠) ، (٧ / ١٧٩) ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٠٣ وابن حجر في فتح الباري ١٢ / ٣٣٩ ، ١٣ / ١٥٧.

(١) أخرجه الترمذي في السنن ٤ / ٣٢٥ كتاب البر والصلة (٢٨) باب ما جاء في معالي الأخلاق (٧١) حديث رقم ٢٠١٨.

وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٣ عن أبي ثعلبة الخشني ولفظه : (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساوئكم أخلاقا ؛ الثرثارون والمتفيهقون المتشدقون) ، وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ٤٥.

(٢) سقط في ب.

٣٢٩

وذهب ابن عمر إلى «خيبر» ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده ، فأجلاهم عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وجاءت امرأة لعائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت : يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بعيرها ، فقالت عائشة : ليس عليها شيء ، فقالت : إني عقلت زوجي عن النساء ، فقالت عائشة : أخرجوا عني هذه الساحرة.

وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنّ من السحر ما هو تخيّل ، وغير تخيل.

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ قال في حقّه عليه‌السلام : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فكيف أثر فيه السحر؟

فالجواب أن قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية ، فإنه ـ عليه‌السلام ـ قد سحر وكسرت رباعيته ، ورمي عليه الكرش والثرب ، وآذاه جماعة من قريش.

قال ابن الخطيب (١) : السّحر على أقسام :

الأول : سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة ، وهم الذين بعث الله ـ تعالى ـ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبطلا لمقالتهم ورادّا عليهم وهم ثلاث فرق :

الأولى : الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها ، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق ، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد ، وهم الصّابئة الدهرية.

والفريق الثاني : القائلون بإلاهية الأفلاك ، قالوا : إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها ، فعبدوها وعظّموها ، واتخذوا لكل واحد منها هيكلا مخصوصا وصنما معينا ، واشتغلوا بخدمتها ، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان.

والفريق الثالث : الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنّجوم فاعلا مختارا خلقها وأوجدها بعد العدم إلّا أنهم قالوا : إن الله ـ تعالى عزوجل ـ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم ، وفوض تدبير هذا العالم إليها.

النوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام ، والنفوس القوية.

النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح الأرضية.

واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة.

أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية ،

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٩.

٣٣٠

وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ، ومنها شريرة ، فالخيرة هم مؤمنو الجن ، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم.

النوع الرابع : التخيّلات والأخذ بالعيون ، وذلك أن أغلاط البصر كثيرة ، فإن راكب السّفينة ينظر السفينة واقفة والشّط متحركا ، وذلك يدلّ على أن السّاكن متحرك والمتحرك يرى ساكنا ، والقطرة النازلة ترى خطّا مستقيما ، والذّبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة ، والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجّاصة ، والشخص الصغير يرى في الضّباب عظيما.

النوع الخامس : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النّصب الهندسية مثل صورة فارس على فرس في يده بوق ، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يمسه أحد ، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وضحك الخجل ، وضحك الشّامت ، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ، ومن هذا الباب تركيب صندوق السّاعات ، ويندرج في هذا الباب علم جرّ الأثقال وهو أن يجر ثقلا عظيما بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر ؛ لأن لها أسبابا معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها.

النوع السادس : الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة.

النوع السابع : تعليق القلب وهو أن يدعي السّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم ، وأن الجن تطيعه ، وينقادون له ، فإذا كان السامع ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق ، وتعلّق قلبه بذلك ، وحصل في نفسه نوع من الرّعب والخوف ، فحينئذ يمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء.

فصل في مذهب الشافعي في السحر

حكي عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : السحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقّاه الساحر منه بتعليمه إيّاه ، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره.

وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان ، والأصح أن ذلك تخييل.

قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] ، لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطّباع والنفوس ، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [وربما يحمّ منه](١) ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلل التي تؤثر في الأبدان.

__________________

(١) سقط في ب.

٣٣١

فصل في خرق الساحر للعادات

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق ، وزوال عقل وتعويج عضو ، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.

قالوا : ولا يبعد في السّحر أن يستدقّ جسم السّاحر حتى [يلج](١) في الكوّات والانتصاب على رأس قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء ، والمشي على الماء ، وركوب كلب وغير ذلك.

ولا يكون السحر علة لذلك ، ولا موجبا له ، وإنما [يخلق] الله ـ تعالى ـ هذه الأشياء ، ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والرّي عند شرب الماء [روى سفيان عن عمار الدهني أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في است الحمار ، ويخرج من فيه ، فاستل جندب (٢) السيف فقتله.

__________________

(١) في ب : يتولج.

(٢) جندب بن عبد الله ، ويقال : جندب بن كعب ، أبو عبد الله الأزدي ، صاحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

روي عن النبيّ ، وعن عليّ ، وسلمان الفارسي.

حدّث عنه : أبو عثمان النّهديّ ، والحسن البصريّ ، وتميم بن الحارث ، وحارثة بن وهب.

قدم دمشق ، ويقال له : جندب الخير ، وهو الذي قتل المشعوذ.

روى خالد الحذّاء ، عن أبي عثمان النهدي : أنّ ساحرا كان يلعب عند الوليد بن عقبة الأمير ، فكان يأخذ سيفه ، فيذبح نفسه ولا يضرّه ، فقام جندب إلى السيف فأخذه ، فضرب عنقه ، ثم قرأ : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣].

أخرجه الطبراني برقم (١٧٢٥) من طريق محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا خالد الحذّاء ، وهو في «تهذيب ابن عساكر» ٣ / ٤١٣ ، وذكره المؤلف في «تاريخ الإسلام» ٣ / ٣ ، وقال : إسناده صحيح ، وأخرجه الدار قطني ٣ / ١١٤ إلا أنه قال جندب البجلي.

وروى إسماعيل بن مسلم : عن الحسن ، عن جندب الخير ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حدّ السّاحر ضربه بالسيف».

ضعيف لضعف إسماعيل بن مسلم وهو المكي ، وهو في «سنن الترمذي» (١٤٦٠) في الحدود ، و «المستدرك» ٤ / ٤٦٠ ، و «الدار قطني» ٣ / ١١٤. قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، إسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث ، والصحيح عن جندب موقوف ، وضعّفه أيضا الحافظ في «الفتح» وقال المؤلف في «الكبائر» ص ٤٦ : الصحيح أنه من قول جندب. وقد أخرجه الطبراني (١٦٦٦) من طريق جندب البجلي ، فأخطأ.

وروي ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ؛ أن الوليد كان بالعراق ، فلعب بين يديه ساحر ، فكان يضرب رأس الرجل ، ثم يصيح به ، فيقوم خارجا ، فيرتدّ إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله! ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان من الغد ، اشتمل على سيفه ، فذهب ليلعب ، فاخترط الرجل سيفه ، فضرب عنقه ، وقال : إن كان صادقا ، فليحي نفسه ، فسجنه الوليد ، فهرّبه السّجّان ؛ لصلاحه. ـ

٣٣٢

هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال : البجلي وهو الذي قال في حقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون في أمّتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسّيف يفرق فيها بين الحقّ والباطل» (١) فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل السّاحر.

قال علي بن المديني : وروى عنه حارثة بن مضرّب](٢).

فصل في إمكان السحر

واختلف المسلمون في إمكان السحر ، فأما المعتزلة فقد أنكروه ـ أعني : الأقسام الثلاثة الأولى ـ ولعلهم كفّروا من قال بها وبوجودها.

أما أهل السّنة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حمارا ، والحمار إنسانا ؛ إلّا أنهم قالوا : إن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلمات معينة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢].

وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام سحر ، وأن السحر عمل فيه حتى قال : «إنّه ليخيّل إليّ أنّي أقول الشّيء وأفعله ولم أفعله» (٣).

وأن امرأة يهودية سحرته ، وجعلت ذلك السحر تحت راعونة البئر ، فلما استخرج

__________________

ـ وعن أبي مخنف لوط ، عن خاله ، عن رجل ، قال : جاء ساحر من «بابل» ، فأخذ يري الناس الأعاجيب ، يريهم حبلا في المسجد ، وعليه فيل يمشي ، ويري حمارا يشتدّ ؛ حتى يجيء فيدخل في فمه ، ويخرج من دبره ، ويضرب عنق رجل ، فيقع رأسه ، ثم يقول له : قم ، فيعود حيّا ، فرأى جندب ابن كعب ذلك ، فأخذ سيفا ، وأتى والناس مجتمعون على الساحر ، فدنا منه فضربه ، فأذرى رأسه ، وقال : أحي نفسك ، فأراد الوليد بن عقبة قتله ، فلم يستطع ، وحبسه.

وجندب بن عبد الله بن زهير ، وقيل : جندب بن زهير بن الحارث الغامدي الأزدي الكوفي. قيل : له صحبة وما روى شيئا ، شهد «صفّين» مع عليّ أميرا ، كان على الرّجّالة ، فقتل يومئذ.

وقال أبو عبيد : جندب الخير : هو جندب بن عبد الله بن ضبّة ، وجندب بن كعب : هو قاتل الساحر ، وجندب بن عفيف ، وجندب بن زهير قتل ب «صفّين» ، وكان على الرّجّالة ؛ فالأربعة من الأزد.

وجندب بن جندب بن عمرو بن حممة الدوسي الأزدي ، قتل يوم «صفّين» مع معاوية ، نقله ابن عساكر ، وأنّ جدّه من المهاجرين.

ينظر تهذيب التهذيب : ١ / ١١١ ، تاريخ الإسلام : ٣ / ٣ ، الإصابة : ١ / ٢٥٠ ، خلاصة تهذيب الكمال : ٥٥ ، تهذيب ابن عساكر : ٣ / ٤١٣ ، وسير أعلام النبلاء : ٣ / ١٧٥ ـ ١٧٧.

(١) ذكره القرطبي في تفسيره : ٢ / ٤٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٧ / ٢٥٠) كتاب الطب باب السحر وقول الله .... حديث رقم (٥٧٦٣) ، (٨ / ٣٤) كتاب الأدب باب قول الله تعالى : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ....» حديث رقم (٦٠٦٣).

وذكره الفخر الرازي في التفسير ٣ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

٣٣٣

ذلك زال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك العارض ، ونزلت المعوّذتان بسببه.

وروي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها : فقالت لها : إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت عائشة : وما سحرك؟ فقالت : صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب «بابل» أطلب علم السحر ، فقالا لي : يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت ، فقالا لي : اذهبي فبولي على ذلك الرماد ، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت ، فقالا لي ما رأيت لما فعلت؟ فقلت : ما رأيت شيئا فقالا لي : أنت على رأس أمر ، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي : اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت ، فرأيت كأن فارسا مقنّعا بالحديد قد خرج من فرجي ، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا : إيمانك قد خرج عنك ، وقد أحسنت السحر.

فقلت : وما هو؟ قالا : ما تريدين شيئا فتصوّريه في وهمك إلا كان ، فصورت في نفسي حبا من حنطة فإذا أنا بحبّ فقلت : انزرع فانزرع ، فخرج من ساعته سنبلا فقلت : انطحن فانطحن من ساعته ، فقلت : انخبز فانخبز ، وأنا لا أريد شيئا أصوره في نفسي إلا حصل ، فقالت عائشة : ليس لك توبة (١).

فصل في أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم‌السلام ، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي به الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ، ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد ، والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها.

فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور

قال ابن الخطيب : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحا ولا بمحظور ؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضا لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، [وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا] كيف يكون حراما وقبيحا. [ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به في وجوب القصاص](٢).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ١٥٥ ـ ١٥٦) والطبري في «التفسير» (٢ / ٤٤٠ ـ ٤٤١) وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١).

وقال ابن كثير عقبه : فهذا إسناد جيد إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ.

(٢) سقط في ب.

٣٣٤

فصل في أمور لا تكون من السحر ألبتة

قد تقدم عن القرطبي قوله : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [وإنطاق العجماء](١) ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم‌السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي ـ رحمه‌الله تعالى ـ في تفسيره ، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] ، فأخبر عن إقلاب العصيّ والحبال بأنها حيّات.

فصل في أن الساحر كافر أم لا؟

اختلف العلماء في الساحر هل يكفر أو لا؟

اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم ، وهي [الخالقة](٢) لما فيه من الحوادث ، فإنه يكون كافرا مطلقا ، وهو النوع الأول من السحر.

وأما النوع الثاني : وهو أن يعتقد [أن الإنسان تبلغ روحه](٣) في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل ، [فالظاهر](٤) إجماع الأمة أيضا على تكفيره.

وأما النوع الثالث : وهو أن يعتقد السّاحر أنه [بلغ](٥) في التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأودية إلى حيث يخلق الله ـ تعالى ـ عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه.

فإن قيل : إن اليهود لما أضافوا السّحر إلى سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال الله تعالى تنزيها له عنه : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ) [البقرة : ١٠٢] فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر ؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، وتعليم ما لا يكون كفرا لا يوجب الكفر ، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر ، وأيضا قوله : (عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢].

قلنا : حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة ، فيحمل على سحر من يعتقد

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : الجاعلة.

(٣) في ب : أنه قد يبلغ روح الإنسان.

(٤) في ب : فالأظهر.

(٥) في ب : قد يبلغ.

٣٣٥

إلاهية النجوم وأيضا فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، بل المعنى أنهم كفروا ، وهم مع ذلك يعلمون السحر.

فصل في سؤال الساحر حلّ السحر عن المسحور

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟

اختلفوا : فقال سعيد بن المسيّب : يجوز. ذكره «البخاري» ، وإليه مال المزني ، وكرهه الحسن البصري.

وقال الشعبي : لا بأس بالنّشرة.

قال ابن بطّال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر ويدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به ، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيّد للرجل إذ حبس عن أهله.

فصل في أن الساحر هل يقتل أم لا؟

هل يجب قتل الساحر أم لا؟

أما النوعان الأولان فلا شكّ في [قتل](١) معتقدهما.

قال ابن الخطيب (٢) : يكون كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل.

وروي عن مالك وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهما ـ توبته.

لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه الصلاة والسلام : «نحن نحكم بالظّاهر».

وأما النوع الثالث : فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر ؛ لأنه حكم على المحظور بكونه مباحا ، وإن اعتقد حرمته ، فعند الشّافعي ـ رضي الله عنه ـ حكمه حكم الجناية ، إن قال : إني سحرته وسحري يقتل غالبا ، يجب عليه القود.

وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد.

وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدّية مخففة في ماله ؛ لأنه ثبت بإقراره إلّا أن تصدقه العاقلة ، فحينئذ يجب عليهم. هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه.

وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : يقتل السّاحر إذا علم أنه ساحر ، ولا يستتاب ولا يقبل قوله : إني أترك السحر وأتوب منه ، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا

__________________

(١) في أ : كفر.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٩٥.

٣٣٦

يستتاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة ، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ، ولم يقتل.

وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال : سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في السّاحر : يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد ، فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ، ومن كان كذلك إذا قتل قتل. واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر ، فهو فسق ، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفصيل المتقدم.

وأيضا فإن ساحر اليهود لا يقتل ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سحره رجل من اليهود يقال له : لبيد بن أعصم ، وامرأة من يهود «خيبر» يقال لها : زينب فلم يقتلهما ، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».

واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن جارية لحفصة سحرتها ، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد ، فقتلها فبلغ ذلك عثمان ، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك ، لأنها قتلت بغير إذن ، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : «اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر».

والجواب : لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة ، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة ، وأما بقية [أنواع](١) السحر من الشّعوذة ، والآلات العجيبة المبنية على النسب الهندسية ، وأنواع التخويف ، والتقريع والوهم ، فكل ذلك ليس بكفر ، ولا يوجب القتل.

قوله : (وَما أُنْزِلَ) فيه أربعة أقوال :

أظهرها : أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» محلّها النصب عطفا على «السحر» ، والتقدير : يعلّمون الناس السحر ، والمنزل على الملكين.

الثاني : أنها موصولة أيضا ، ومحلها النصب لكن عطفا على (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) ، والتقدير : واتبعوا ما تتلو الشياطين ، وما أنزل على الملكين. وعلى هذا فما بينهما اعتراض ، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا.

الثالث : أن «ما» حرف نفي ، والجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها ، وهي «وما كفر سليمان» والمعنى : وما أنزل على الملكين إباحة السحر.

قال القرطبي : و «ما» نافية (٢) ، والواو للعطف على قوله : [(وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ،

__________________

(١) في ب : الآت.

(٢) في ب : نفى.

٣٣٧

وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل ، وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك.

وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وما كفر سليمان](١) ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السّحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشّياطين في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) قال : وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء ، وخاصة في حالة طمثهن ؛ قال الله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق : ٤].

فإن قيل : كيف يكون اثنان بدلا من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه؟ فالجواب من وجوه ثلاثة :

الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ؛ كما قال تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [النساء : ١١].

الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما كقوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠].

الثالث : إنما خصّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما ، كتخصيصه ـ تعالى ـ النخل [والرمان](٢) في قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) [آل عمران : ٦٨] وإما لطيبه كقوله : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وإما لأكثريته ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» (٣) وإما لتمردهم كهذه الآية.

الرابع : أن محلّها الجر عطفا على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) ، والتقدير : افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم.

وقال أبو البقاء : «تقديره» وعلى عهد الّذي أنزل.

واحتج أبو مسلم : بأن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله تعالى ، وذلك غير

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة :

حديث أبي هريرة ولفظه : (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).

أخرجه مسلم (٢ / ٦٤) وأبو عوانة (١ / ٣٩٥) والترمذي (١ / ٢٩٣) وأحمد (٢ / ٤١٢) وابن ماجه (٥٦٧).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

حديث جابر ولفظه : (أعطيت خمسا .... وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).

أخرجه البخاري (١ / ٩٣) والنسائي (١ / ٧٣) ، (٤ / ١٢٠) والدارمي (١ / ٣٢٢) والبيهقي (١ / ٢١٢).

حديث أبي ذر :

أخرجه الدارمي (٢ / ٢٢٤) وأحمد (٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦١) وأبو داود (٤٨٩).

٣٣٨

جائز ، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السّحر ، كذلك في الملائكة بطريق الأولى.

وأيضا فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

وأيضا فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة ، فكيف يضاف إلى الله ـ تعالى ـ ما ينهى عنه؟ والمعنى : أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه ، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر ، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر ؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين ، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) توكيدا لبعثهم على [قبوله](١) والتمسّك به ، فكانت طائفة تتمسّك ، وأخرى تخالف.

قال ابن الخطيب رحمه‌الله تعالى : والأول أولى ؛ لأن عطف «وما أنزل» على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل ، أما قوله : «لو كان منزلا عليهما لكان منزّله هو الله تعالى».

قلنا : تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود ، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه ؛ قال : [الهزج]

٦٩٨ ـ عرفت الشّرّ لا للشّر

ر لكن لتوقّيه (٢)

وقوله : لا يجوز بعثة الأنبياء [لتعليم السحر ، فكذا الملائكة](٣).

قلنا : الغرض من ذلك التعليم التّنبيه على إبطاله.

وقوله : «تعليم السّحر كفر».

قلنا : إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة.

وقوله : يضاف السحر للكفرة والمردة.

قلنا : فرق بين العمل والتعليم ، فيجوز أن يكون العمل منبها عنه ، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأمورا به.

والجمهور على فتح لام «الملكين» على أنهما من الملائكة.

وقرأ ابن عباس (٤) وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس ، وسيأتي تقريره.

__________________

(١) في ب : القبول.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ٣٠١ ، الفخر الرازي : ٣ / ٢١٨.

(٣) في أ : لتعلمه.

(٤) وبها قرأ ابن أبزى.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٧ ، والدر المصون : ١ / ٣٢١.

٣٣٩

قوله : «ببابل» متعلق ب «أنزل» ، والباء بمعنى «في» أي : في «بابل». ويجوز أن يكون في محلّ نصب على الحال من الملكين ، أو من الضمير في «أنزل» فيتعلق بمحذوف. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رحمه‌الله.

و «بابل» لا ينصرف للعجمة والعلمية ، فإنها اسم أرض ، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل : لتبلبل ألسنة الخلائق بها ، وذلك أن الله ـ تعالى ـ أمر ريحا ، فحشرتهم بهذه الأرض ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة ، والبلبلة التفرقة.

وقيل : لما أهبط نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ نزل فبنى قرية ، وسماها «ثمانين» ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة.

وقيل : لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود.

وهي بابل «العراق».

وقال ابن مسعود : «بابل» أرض «الكوفة».

وقيل : «جبل نهاوند» (١).

قوله : (هارُوتَ وَمارُوتَ) الجمهور على فتح تائها.

واختلف النحاة في إعرابها ، وذلك مبني على القراءتين في «الملكين» ، فمن فتح لام «الملكين» ، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه :

أظهرها : أنها بدل من «الملكين» ، وجرّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية.

الثاني : أنهما عطف بيان لهما.

الثالث : أنهما بدل من «الناس» في قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وهو بدل بعض من كل ، أو لأن أقل الجمع اثنان.

الرابع : أنهما بدل من «الشياطين» في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) في قراءة من نصب ، وتوجيه البدل كما تقدم.

وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن ، فيكون بدل كل من كل ، والفتحة على هذين القولين للنصب.

وأما من قرأ برفع «الشياطين» (٢) ، فلا يكون «هاروت وماروت» بدلا منهم ، بل يكون منصوبا في هذا القول على الذم أي : أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها ؛ كقوله: [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٤٣٦) عن السدّي.

(٢) وقد قرأ بالرفع الحسن ، والزهري.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٨ ، والدر المصون : ١ / ٣٢١.

٣٤٠