اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

وهذه «اللام» جواب قسم محذوف ، والنون للتوكيد تقديره : والله لتجدنّهم.

و «وجد» هنا متعدية لمفعولين أولهما الضمير ، والثاني «أحرص» ، وإذا تعدّت لاثنين كانت ك «علم» في المعنى ، نحو : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٠٢].

ويجوز أن تكون متعدية لواحد ، ومعناها معنى «لقي وأصاب» ، وينتصب «أحرص» على الحال ، إما على رأي من لا يشترط التنكير في الحال ، وإما على رأي من يرى أنّ إضافة «أفعل» إلى معرفة غير محضة ، و «أحرص» أفعل تفضيل ، ف «من» مرادة معها ، وقد أضيفت لمعرفة ، فجاءت على أحد الجائزين ، أعني عدم المطابقة ، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحو : «الزّيدان أفضلا الرجال» ، و «الزيدون أفاضل الرجال» ، و «هند فضلى» و «الهنود فضليات النّساء» ومن قوله تعالى : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] وعدمها ، نحو : «الزيدون أفضل الرجال» ، وعليه هذه الآية ، وكلا الوجهين فصيح خلافا لابن السّراج. وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها ، ولذلك منع النحويون «يوسف أحسن إخوته» على معنى التفضيل ، وتأولوا ما يوهم غيره نحو : «النّاقص والأشجّ أعدلا بني مروان» بمعنى العادلان فيهم ؛ وأما قوله : [الرجز]

٦٧٣ ـ يا ربّ موسى أظلمي وأظلمه

فاصبب عليه ملكا لا يرحمه (١)

فشاذّ ، وسوغ ذلك كون «أظلم» الثاني مقتحما كأنه قال : «أظلمنا».

وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله : (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١].

قوله تعالى : (عَلى حَياةٍ) متعلّق ب «أحرص» ؛ لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب «على» تقول : حرصت عليه.

والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، ولذلك كانت القراءة بها أوقع (٢) من قراءة أبيّ «على الحياة» بالتعريف.

وقيل : إن ذلك على حذف مضاف تقديره : على طول حياة ، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف ، بل يكون المعنى : أنهم أحرص النّاس على مطلق الحياة.

وإن قلت : فكيف وإن كثرت ، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك ، وأصل حياة : «حيية» تحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا.

قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يجوز أن يكون متصلا داخلا تحت «أفعل» التفضيل ويجوز أن يكون منقطعا عنه ، وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال :

__________________

(١) ينظر الخزانة : ٤ / ٣٦٩ ، الهمع : ١ / ١١٠ ، التصريح : ١ / ٢٩٩ ، الدرر : ١ / ٨٠ ، المقرب : ١ / ٢١٢ ، الدر المصون : ١ / ٣٠٨.

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٨١ ، والدر المصون : ١ / ٣٠٨.

٣٠١

أحدها : أنه حمل على المعنى ، فإن معنى أحرص الناس : أحرص من الناس ، فكأنه قيل : أحرص من النّاس ، ومن الذين أشركوا.

الثاني : أن يكون حذف من الثّاني لدلالة الأول عليه ، والتقدير : وأحرص من الذين أشركوا ، وعلى ما تقرر من كون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) متّصلا ب «أفعل» التفضيل ، فلا بد من ذكر «من» ؛ لأن «أحرص» جرى على اليهود ، فلو عطف بغير «من» لكان معطوفا على النّاس ، فيكون المعنى : ولتجدنّهم أحرص الذي أشركوا ، فيلزم إضافة «أفعل» إلى غير من درج تحته ؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين ؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم : إنهم المجوس ، أو عرب يعبدون الأصنام ، اللهم إلا أن يقال : إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، فحينئذ لو لم يؤت ب «من» لكان جائزا.

الثالث : أن في الكلام حذفا وتقديما وتأخيرا ، والتقدير : ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس ، فيكون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) صفة لمحذوف ، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في «لتجدنّهم» وهذا وإن كان صحيحا من حيث المعنى ، ولكنه ينبو عنه التركيب لا سيّما على قول من يخصّ التقديم والتأخير بالضرورة.

وعلى القول بانقطاعه من «أفعل» يكون (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) خبرا مقدما ، و «يودّ أحدهم» صفة لمبتدأ محذوف تقديره : ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم ، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله :

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] ، وقوله : «منا ظعن ومنا أقام».

والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزّمخشري أن يكون من اليهود ؛ لأنهم قالوا : عزير ابن الله ، فيكون إخبارا بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة ، ويكون من وقوع الظّاهر المشعر بالغلبة موقع المضمر ، إذ التقدير : ومنهم قوم يودّ أحدهم.

وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) تحت «أفعل» ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع.

فصل في المراد بالذين أشركوا

قيل : المراد بالذين أشركوا المجوس ، لأنهم كانوا يقولون لملكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان ، قاله أبو العالية والربيع : وسموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة ، وهذه تحية المجوس فيما بينهم : عش ألف سنة ، ولك ألف نيروز ومهرجان.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هو قول الأعاجم : زه هزار سال.

وقيل : المراد مشركو العرب.

وقيل : كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لما تقدم ؛ لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن

٣٠٢

يكون أكثر ، وليس المراد ذكر ألف سنة قول الأعاجم [عش ألف سنة] بل [خرج مخرج](١) التكثير ، وهو معروف في كلام العرب.

قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) هذا مبني على ما تقدّم ، فإن قيل بأن (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) داخل تحت «أفعل» كان في «يود» خمسة أوجه :

أحدها : أنه حال من الضمير في «لتجدنّهم» أي : لتجدنهم وادّا أحدهم.

الثاني : أنه حال من الذين أشركوا ، فيكون العامل فيه «أحرص» المحذوف.

الثالث : أنه حال من فاعل «أشركوا».

الرابع : أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.

الخامس ، وهو قول الكوفيين : أنه صلة لموصول محذوف ، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا ، والتقدير : ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم.

وإن قيل بالانقطاع ، فيكون في محلّ رفع ؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : أصل «يودّ» «يودد» ، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو ، ليدل ذلك على أنه يفعل.

وحكى الكسائي : وددت ، فيجوز على هذا يودّ بكسر الواو و «أحد» هنا بمعنى واحد ، وهمزته بدل من واو ، وليس هو «أحد» المستعمل في النفي ، فإن ذاك همزته أصل بنفسها ، ولا يستعمل في الإيجاب المحض. و «يود» مضارع وددت بكسر العين في الماضي ، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع ؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة ، بخلاف «يعد» وبابه.

وحكى الكسائي فيه «وددت» بالفتح.

قال بعضهم : فعلى هذا يقال : «يودّ» بكسر الواو.

و «الوداد» : التمني.

قوله : (لَوْ يُعَمَّرُ) في «لو» هذه ثلاثة أقوال :

أحدها ـ وهو الجاري على قواعد نحاة «البصرة» ـ أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف لدلالة «يودّ» عليه ، وحذف مفعول «يودّ» لدلالة «لو يعمّر» عليه والتقدير : يود أحدهم طول العمر ، لو يعمر ألف سنة لسرّ بذلك ، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر ، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب.

__________________

(١) في ب : المراد به.

٣٠٣

والثاني : وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء ، أنها مصدرية بمنزلة «أن» الناصبة ، فلا يكون لها جواب ، [وينسبك] منها وما بعدها مصدر يكون مفعولا ل «يودّ» ، والتقدير : يود أحدهم تعميره ألف سنة.

واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي ، وهذه يلزمها المستقبل ك «أن» وبأنّ «يودّ» يتعدى لمفعول ، وليس مما يعلق ، وبأن «أن» قد وقعت يعد «يود» في قوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) [البقرة : ٢٦٦] وهو كثير ، [وجوابه في غير هذا الكتاب](١).

الثالث : وإليه نحا الزمخشري : أن يكون معناها التمني ، فلا تحتاج إلى جواب ؛ لأنها في قوة : «يا ليتني أعمّر» ، وتكون الجملة من «لو» وما في حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب «يود» ، إجراء له مجرى القول.

قال الزمخشري (٢) رحمه‌الله تعالى : فإن قلت : كيف اتّصل (لَوْ يُعَمَّرُ) ب (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ)؟

قلت : هي حكاية لودادتهم و «لو» في معنى التمنّي ، وكان القياس : «لو أعمّر» إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ، كقولك : «حلف بالله ـ تعالى ـ ليفعلن» انتهى وقد تقدّم شرحه ، إلّا قوله وكان القياس لو أعمر ، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسندا للمتكلم وحده ، وإنما أجرى «يود» مجرى القول ؛ لأن «يود» فعل قلبي ، والقول ينشأ عن الأمور القلبية.

و «ألف سنة» منصوب على الظرف ب «يعمر» ، وهو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل ، وفي «سنة» قولان :

أحدهما : أن أصلها : سنوة لقولهم : سنوات وسنيّة وسانيت.

والثاني : أنها من «سنهة» لقولهم : سنهات وسنيهة وسانهت ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك.

قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) في هذا الضمير خمسة أقوال :

أحدها : أنه عائد على «أحد» وفيه حينئذ وجهان :

أحدهما : أنه اسم «ما» الحجازية ، و (بِمُزَحْزِحِهِ) خبر «ما» ، فهو محل نصب والباء زائدة.

و «أن يعمر» فاعل بقوله : «بمزحرحه» والتقدير : وما أحدهم مزحزحه تعميره.

الثاني من الوجهين في (هُوَ :) أن يكون مبتدأ ، و (بِمُزَحْزِحِهِ) خبره ، و «أن يعمر»

__________________

(١) في ب : موضع الرد عليه.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٦٨.

٣٠٤

فاعل به كما تقدم ، وهذا على كون «ما» تميمية ، والوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز ، وظهور النصب في قوله : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] ، (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة : ٢].

الثاني من الأقوال : أن يعود على المصدر المفهوم من «يعمّر» ، أي : وما تعميره ، ويكون قوله : «أن يعمر» بدلا منه ، ويكون ارتفاع «هو» على الوجهين المتقدمين أي قوله : اسم «ما» أو مبتدأ.

الثالث : أن يكون كناية عن التعمير ، ولا يعود على شيء قبله ، ويكون «أن يعمّر» بدلا منه مفسرا له ، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل ، وهذا مفسّر بالبدل بعده ، وقد تقدم أن في ذلك خلافا ، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله : ويجوز أن يكون «هو» مبهما ، و «أن يعمر» موضحه.

الرابع : أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في «الحلبيّات» موافقة للكوفيين ، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة ، إذا انتظم من ذلك إسناد معنوي ، نحو : ظننته قائما الزيدان ، وما هو بقائم زيد ؛ لأنه في قوة : ظننته يقوم الزيدان ، وما هو يقوم زيد ، والبصريون يأبون تفسيره إلّا بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر ، وقد تقدم تحقيق القولين.

الخامس : أنه عماد ، نعني به الفصل عند البصريين ، نقله ابن عطيّة عن الطّبري عن طائفة ، وهذا يحتاج إلى إيضاح ، وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العماد مع الخبر المقدم ، يقولون في زيد هو القائم : هو القائم زيد ، وكذلك هنا ، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون «بمزحزحه» خبرا مقدما و «أن يعمر» مبتدأ مؤخرا ، و «هو» عماد ، والتقدير : وما تعميره وهو بمزحزحه ، فلما قدم الخبر قدم معه العماد.

والبصريون لا يجيزون شيئا من ذلك.

و «من العذاب» متعلّق بقوله : (بِمُزَحْزِحِهِ) و «من» لابتداء الغاية والزحزحة : التّنحية ، تقول : زحزحته فزحزح ، فيكون قاصرا ومتعديا فمن مجيئه متعديا قوله : [البسيط]

٦٧٤ ـ يا قابض الرّوح من نفسي إذا احتضرت

وغافر الذّنب زحزحني عن النّار (١)

وأنشده ذو الرّمّة : [البسيط]

٦٧٥ ـ يا قابض الرّوح من جسم عصى زمنا

 .......... (٢)

ومن مجيئه قاصرا قول الآخر : [الطويل]

__________________

(١) البيت لذي الرمة. ينظر ملحقات ديوانه : (١٨٧٥) ، القرطبي : ٢ / ٢٥ ، والدر المصون : ١ / ٣١١.

(٢) تقدم قريبا.

٣٠٥

٦٧٦ ـ خليليّ ما بال الدّجى لا يزحزح

وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح (١)

قوله : (أَنْ يُعَمَّرَ) : إما أن يكون فاعلا أو بدلا من «هو» ، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في «هو».

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) مبتدأ وخبر ، و «بما» يتعلّق ببصير.

و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف أي : يعملونه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : بعملهم.

والجمهور «يعملون» بالياء ، نسقا على ما تقدم ، والحسن وغيره «تعملون» بالتاء ، وللخطاب على الالتفات ، وأتى بصيغة المضارع ، وإن كان علمه محيطا بأعمالهم السّالفة مراعاة لرءوس الآي ، وختم الفواصل.

قال ابن الخطيب : «والبصير قد يراد به العليم ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصحّان عليه ـ سبحانه ـ إلّا أن من قال : إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة» [قال العلماء رحمهم‌الله تعالى : وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيّات الأمور ، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به.

ومنه قولهم : فلان خبير بالطب ، وبصير بالفقه ، وبصير بملاقاة الرجال.

وقيل : وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي: مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة](٢).

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٩٨)

هذا نوع آخر من قبائح اليهود ، ومنكرات أقوالهم ، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره ـ تعالى ـ بمخاطبتهم بذلك ؛ لأنه يجري مجرى المحاجّة ، والمفسرون ذكروا أمورا :

أحدها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قدم «المدينة» أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد : كيف نومك ، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (٣) قال : صدقت يا محمد ، فأخبرني عن

__________________

(١) ينظر القرطبي : ١ / ٢٦ ، الدر المصون : ١ / ٣١١.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري ٣ / ٤٠ ، في التهجد : باب قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان وغيره (١١٤٧) ، وطرفه في ـ

٣٠٦

الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال : «أمّا العظام والعصب والعروق فمن الرّجل ، وأمّا اللّحم والدّم والظّفر والشّعر فمن المرأة» فقال : صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال : «أيّهما غلب ماؤه صاحبه كان الشّبه له» ، قال : صدقت فقال : أخبرني أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه ، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «أنشدكم بالله الّذي أنزل التّوراة على موسى هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمنّ على نفسه أحبّ الطّعام والشّراب وهو لحمان الإبل وألبانها» فقالوا : اللهم نعم.

فقال له : بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عزوجل؟ قال : «جبريل عليه‌السلام».

قال : إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة ، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه : وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله ـ تعالى ـ أنزل على نبينا أن «بيت المقدس» سيخرب في زمان رجل يقال له : بخت نصرّ ووصفه لنا [وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه ، فلما كان وقته بعثنا رجلا من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله ، فانطلق حتى لقي ب «بابل» غلاما مسكينا فأخذه ليقتله](١). [فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالا](٢) فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله ـ تعالى ـ على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب «بيت المقدس» فلا فائدة في قتله ، ثم إنه كبر وقوي وملك ، وغزانا وخرّب «بيت المقدس» ، فلذلك نتّخذه عدوّا [فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله ابن عباس ـ رضي الله تعالى ـ عنهما ، وفي هذا القول نظر ؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية : إن رسولهم ميكائيل ، وهو الذي يأتي بالبشر والرخاء ، وأنهم يحبونه ، ثم إنه ـ تعالى ـ أثبت عدواتهم لميكائيل أيضا في الآية التي تليها فقال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا](٣).

وثانيها : قال قتادة وعكرمة والسّدي : كان لعمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ أرض بأعلى «المدينة» وممرها على مدراس اليهود ، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم ، وسمع

__________________

ـ (٢٠١٣) ، (٣٥٦٩) ، ومسلم ١ / ٥٠٩ ، في كتاب صلاة المسافرين : باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ١٢٥ / ٧٣٨ ، وفي الحديث خاصة من خصائص سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) سقط في : ب.

(٢) سقط في : أ.

(٣) بدل ما بين المعكوفين في ب : وأما ميكائيل فإنه عدوّ جبريل ، فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدوّا لجبريل ، فهو عدوّ لميكائيل ، وهما عدوّان لمن عاداهما ، فأنكر ذلك على عمر ، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين.

٣٠٧

منهم ، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك ، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا ، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رضي الله عنه : والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني ، وإني أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأرى آثاره في كتابكم فقالوا : من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال : جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا ، وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدّة ، وإن ميكائيل يأتي بالخصب والسّلامة ، فقال لهم عمر رضي الله عنه : تعرفون جبريل ، وتنكرون محمدا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فقالوا : نعم قال : فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله ـ عزوجل ـ قالوا : جبريل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل ، قال : فإن كان كما تقولون فما هما بعدوين ، ولأنتم أكفر [من الحمير ، وإني أشهد أنّ من كان عدوّا لجبريل فهو عدو لميكائيل ، ومن كان عدوا لميكائيل فهو عدو لجبريل ، ومن كان عدوا لهما فإن الله ـ تعالى ـ عدوّ له ، ثم رجع عمر فوجد جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد سبقه بالوحي ، فقرأ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذه الآيات وقال : لقد وافقك ربك يا عمر ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله ـ تعالى ـ أصلب من الحجر](١).

وثالثها : قال مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ عدوّنا ، أمر أن يجعل النبوة فينا ، فجعلها في غيرنا فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات.

قال ابن الخطيب : والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧] مشعر بأن هذا التنزيل [لا ينبغي أن يكون سببا للعداوة ؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله ، فلا ينبغي أن يكون سببا للعداوة ، وتقرير هذا من وجوه :

أولها : أن الذي نزله جبريل من](٢) القرآن [الذي نزل به فيه](٣) بشارة المطيعين بالثواب ، وإنذار العصاة بالعقاب ، والأمر بالمحاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره ، بل بأمر الله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ، ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله ـ تعالى ـ وعداوة الله ـ تعالى ـ كفر ، فيلزم أن معاداة من هذا سبيله كفر.

ثانيها : أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب ، فإما أن يقال : إنه كان [يتمرد أو يأبى] عن قبول أمر الله ، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين ، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله ، فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل ـ عليهما‌السلام ـ فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟

وثالثها : أن إنزال القرآن على محمد ـ عليه‌السلام ـ كما شق على اليهود ، فإنزال

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

٣٠٨

التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ شق على قوم آخرين ، فإن اقتضت نفرة هؤلاء لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نفرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ قبحه ، ومعلوم أن كل ذلك باطل ، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه.

فإن قيل : إنا نرى اليهود في زماننا مطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن أحدا من سلفهم لم يقل بذلك.

فالجواب : أن هذا باطل ، لأن كلام الله أصدق ، ولأن جهلهم كان شديدا ، وهم الذين قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ) «من» شرطية في محلّ رفع بالابتداء ، و «كان» خبره على ما هو الصحيح كما تقدم ، وجوابه محذوف تقديره : من كان عدوّا لجبريل فلا وجه لعداوته ، أو فليمت غيظا ونحوه.

ولا جائز أن يكون «فإنّه نزّله» جوابا للشرط لوجهين :

أحدهما : من جهة المعنى.

والثاني : من جهة الصناعة.

أما الأول : فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي ؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلا.

ولقائل أن يقول : هذا محمول على التّبيين ، والمعنى : فقد تبين أنه نزله ، كما قالوا في قوله : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ) ونحوه.

وأما الثاني : فلأنه لا بد في جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز : من يقم فزيد منطلق ، ولا ضمير في قوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) يعود على «من» فلا يكون جوابا للشرط ، وقد جاءت مواضع كثيرة من ذلك ، ولكنهم أوّلوها على حذف العائد ، فمن ذلك قوله : [الوافر]

٦٧٧ ـ فمن تكن الحضارة أعجبته

فأيّ رجال بادية ترانا (١)

وقوله : [الطويل]

٦٧٨ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٢)

وينبغي أن يبنى ذلك على الخلاف في خبر اسم الشّرط.

فإن قيل : إنّ الخبر هو الجزاء وحده ـ أو هو الشّرط ـ فلا بدّ من الضمير ، وإن قيل بإنه فعل الشّرط ، فلا حاجة إلى الضمير ، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند

__________________

(١) البيت للقطامي ينظر ديوانه : (٥٨) ، المغني : ٢ / ٥٠٧ ، اللسان (حضر) ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١ / ٣٤٧ ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٠٧ ، معجم مقاييس اللغة (بدو) ، الدر المصون : (١ / ٣١٢)

(٢) البيت لضابىء البرجمي وهو من شواهد الكتاب : ١ / ٧٥ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ٨ / ٦٨ ، الهمع : ٢ / ١٤٤ ، والدر : ٢ / ٢٠٠ ، والدر : ١ / ٣١٢.

٣٠٩

قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) ، وقد صرّح الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ بأنه جواب الشّرط ، وفيه النّظر المذكور ، وجوابه ما تقدم. و «عدوّا» خبر «كان» ، ويستوي فيه الواحد وغيره ، قال : «هم العدوّ» ـ والعداوة : التجاوز قال الرّاغب : فبالقلب يقال : العداوة وبالمشي يقال : العدو ، وبالإخلال في العدل يقال : العدوان وبالمكان أو النسب يقال : قوم عدى أي غرباء.

و «لجبريل» يجوز أن يكون صفة ل «عدوّا» فيتعلّق بمحذوف ، وأن تكون اللام مقوية لتعدية «عدوّا» إليه.

و «جبريل» اسم ملك وهو أعجمي ، فلذلك لم ينصرف ، وقول من قال : «إنّه مشتقّ من جبروت الله» بعيد ؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية ، وكذا قول من قال : إنه مركّب تركيب الإضافة ، وأن «جبر» معناه : عبد ، و «إيل» اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فهو بمنزلة عبد الله ؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرف الثاني [وهذا القول مرويّ عن ابن عبّاس ، وجماعة من أهل العلم ، فقال أبو علي السّنوي : وهذا لا يصحّ لوجهين :

أحدهما : أنه لا يعرف من أسماء الله «إيل».

والثاني : أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجرورا](١). وقال المهدوي : إنه مركّب تركيب مزج نحو : حضرموت وهذا بعيد أيضا ؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلّا.

وردّ عليه أبو حيّان بأنه لو كان مركبا تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المتضايفين ، أو يبنى على الفتح كأحد عشر ، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [يجوز فيه هذه الأوجه ، وكونه لم يسمع فيه البناء ، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج](٢) وهذا الرد لا يحسن ردّا ؛ لأنه جاء على أحد الجائزين ، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك.

قال القرطبي رحمه‌الله تعالى : والصّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بلسان عربي مبين.

قال النحاس : ويجمع جبريل على التكسير جباريل ، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الأسماء الأعجمية ، فجاءت فيه بثلاث عشرة لغة.

أشهرها وأفصحها : «جبريل» بزنة قنديل ، وهي قراءة أبي عمرو (٣) ، ونافع وابن

__________________

(١) سقط في : ب.

(٢) سقط في : أ.

(٣) انظر العنوان في القراءات السبع : ٧١ ، وحجة القراءات : ١٠٧ ، والحجة : ٢ / ١٦٣ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٨ ، ٤٠٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٠ ، وشرح شعلة : ٢٧٠.

٣١٠

عامر وحفص عن عاصم ، وهي لغة «الحجاز» ؛ قال ورقة بن نوفل : [الطويل]

٦٧٩ ـ وجبريل يأتيه وميكال معهما

من الله وحي يشرح الصّدر منزل (١)

وقال حسّان : [الوافر]

٦٨٠ ـ وجبريل رسول الله فينا

وروح القدس ليس له كفاء (٢)

وقال عمران بن حطّان : [البسيط]

٦٨١ ـ والرّوح جبريل منهم لا كفاء له

وكان جبريل عند الله ماأمونا (٣)

الثانية : كذلك إلا أنه بفتح الجيم ، وهي قراءة (٤) ابن كثير والحسن ، وقال الفرّاء : «لا أحبها ؛ لأنه ليس في كلامهم فعليل» وما قاله ليس بشيء ؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم ك «لجام» ، وقسم يلحقوه ك «إبريسم» ، على أنه قيل : إنه نظير شمويل اسم طائر.

وعن ابن كثير أنه رأى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يقرأ «جبريل وميكائيل» ، قال : فلا أزال أقرؤهما كذلك.

الثالثة : جبرئيل كعنتريس ، وهي لغة قيس وتميم (٥) ، وبها قرأ حمزة والكسائيّ ؛ وقال حسّان : [الطويل]

٦٨٢ ـ شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة

يد الدّهر إلّا جبرئيل أمامها (٦)

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٥ ، زاد المسير : ١ / ١١٨ ، الدر المصون : ١ / ٣١٣.

(٢) تقدم برقم ٦٥٠.

(٣) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٥ ، والدر المصون : ١ / ٣١٣.

(٤) ينظر القراءة السابقة.

(٥) في أ : قريش.

(٦) ينظر ديوانه : (٢٧١) ، ونسبه ابن منظور في اللسان (جبر) لكعب بن مالك. وينظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج : ١ / ١٥٦ ، وخزانة الأدب : ١ / ٤١٤ ، والأزمنة والأمكنة للمرزوقي : ١ / ٣٠٩ ، روح المعاني : ١ / ٣٣٢ ، إعراب القرآن المنسوب للزجاج : ٢ / ٤٥٠ ، الدر المصون : ١ / ٣١٣.

ظرف المكان إذا كان خبرا عن اسم عين ، سواء كان اسم مكان أو لا ، فإن كان غير متصرف ، نحو : زيد عندك ، فلا كلام في امتناع رفعه ، وإن كان متصرّفا وهو نكرة ، فالرّفع راجح ، نحو : أنت مني مكان قريب ، وأدراك من يمين أو شمال ، وهو باق على الظرفيّة عند البصريين ، والمضاف محذوف : إما من المبتدأ ، أي : مكانك من مكان قريب ، أو من الخبر ، أي : أنت مني ذو مكان قريب ؛ ومثله عند الكوفيين بمعنى اسم الفاعل ، فيجب رفعه ؛ وليس بظرف ، وإن كان معرفة ، والرفع مرجوح ، نحو : زيد خلفك ، وداري أمامك ؛ وذلك لأن أصل الخبر التنكير ، ومع ذلك فرفع المعرفة لا يختصّ بالشعر ؛ كما في قوله : إلا جبرئيل أمامها ، على أن «جبرئيل» مبتدأ و «أمامها» بالرفع خبره ، والجملة صفة لكتيبة ، خلافا للجرمي والكوفيين ، وإن لم يتصرف كالفوق والتحت ، لزم نصبه إجماعا ، وإن كان خبرا عن المكان ، نحو : داري خلفك ، ومنزلي أمامك ـ جوّزوا رفعه في السّعة.

٣١١

وقال جرير : [الكامل]

٦٨٣ ـ عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد

وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا (١)

الرابعة : كذلك إلّا أنه لا ياء بعد الهمزة ، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر.

الخامسة : كذلك إلّا أن اللام مشددة ، وتروى أيضا (٢) عن عاصم ويحيى بن يعمر أيضا قالوا : و «إلّ» بالتشديد اسم الله تعالى.

وفي بعض التفاسير : «لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمّة» قيل : معناه : الله ، وروي عن أبي بكر لما سمع بسجع مسيلمة : هذا كلام لم يخرج من إلّ.

السادسة : جبرائل بألف بعد الرّاء ، وهمزة مكسورة بعد الألف ، وبها قرأ عكرمة.

السابعة : مثلها إلا أنها بياء بعد الهمزة.

الثامنة : جبراييل بياءين بعد الألف من غير همزة ، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضا.

التاسعة : جبرال.

العاشرة : جبرايل بالياء والقصر ، وهي قراءة طلحة بن مصرّف.

الحادية عشرة : جبرين بفتح الجيم والنون.

والثانية عشرة : كذلك إلا أنها بكسر الجيم.

والثالثة عشرة : جبرايين.

والجملة من قوله : (مَنْ كانَ) في محلّ نصب بالقول ، والضمير في قوله «فإنّه» يعود على جبريل وفي قوله : «نزله» يعود على القرآن ، وهذا موافق لقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) في قراءة (٣) من رفع «الروح» ولقوله : «مصدقا».

وقيل : الأول يعود على الله ، والثاني يعود على جبريل ، وهو موافق لقراءة من قرأ (٤) «نزّل به الرّوح» بالتشديد والنصب ، وأتى ب «على» التي تقتضي الاستعلاء دون «إلى» التي تقتضي الانتهاء ، وخصّ القلب بالذكر ؛ لأنه خزانة الحفظ ، وبيت الربّ عزوجل [وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه ، لا على قلبه ، إلّا أنه خصّ القلب بالذكر ؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أدّاه إلى أمّته ، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٣٣٩) ، البحر المحيط : ١ / ٢٨٦ ، القرطبي : ٢ / ٢٨ ، زاد المسير : ١ / ١١٨ ، معالم التنزيل : ١ / ٩٧ ، الدر المصون : ١ / ٣١٣.

(٢) انظر تفصيل هذه اللغات ، وما يوافقها من قراءات في : المحرر الوجيز : ١ / ١٨٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٨٥ ، وما بعدها ، والدر المصون : ١ / ٣١٢ وما بعدها.

(٣) ستأتي في «الشعراء ١٩٣».

(٤) ستأتي في «الشعراء ١٩٣».

٣١٢

ثبات حفظه في قلبه جاز أن يقال : نزله على قلبك ، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه ، ولأنه أشرف الأعضاء.

قال عليه الصّلاة والسّلام : «ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه ، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب» (١)](٢) وأضافه إلى ضمير المخاطب دون ياء المتكلم ، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون «على قلبي» لأحد أمرين :

إما مراعاة لحال الأمر بالقول فتسرد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك : قل لقومك : لا يهينوك ، ولو قلت : لا تهينوني لجاز ، ومنه قول الفرزدق : [الطويل]

٦٨٤ ـ ألم تر أنّي يوم جوّ سويقة

دعوت فنادتني هنيدة : ما ليا (٣)

فأحرز المعنى ونكّب عن نداء هنيدة «ما لك»؟ ، وإما لأن ثمّ قولا آخر مضمرا بعد «قل» والتقدير ، قل يا محمد : قال الله «من كان عدوّا لجبريل فإنه نزله على قلبك» ، [وإليه نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله ، قل : ما تكلمات به من قولي : من كان عدوّا لجبريل ، فإنه نزله على قلبك](٤) فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر ، والقول المضمر معمول للفظ «قل» ، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ «قل» بالتأويل المذكور أولا ، ولا ينافيه قول الزمخشري ، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في «أنه» يحتمل معنيين :

الأول : فإن الله نزل جبريل على قلبك.

الثاني : فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك ، ودلت الآية على شرف جبريل ـ عليه‌السلام ـ وذمّ معاديه قاله القرطبي رحمه‌الله تعالى.

قوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل : «نزله» إن قيل : إنه ضمير جبريل ، أو من مفعوله إن قيل : إن الضمير المرفوع في «نزل» يعود على الله ، والتقدير : فإنه نزل مأذونا له أو معه إذن الله ، والإذن في الأصل العلم بالشّيء ، والإيذان ، كالإعلام ، آذن به : علم به ، وآذنته بكذا : أعلمته به ، ثم يطلق على التمكين ، أذن في

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ١٥٣) كتاب الإيمان : باب فضل من استبرأ لدينه (٥٢) ومسلم (٣ / ١٢١٩ ـ ١٢٢٠) كتاب المساقاة : باب أخذ الحلال وترك الشبهات حديث (١٠٧ ـ ١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : ٦٥٣ ، الأغاني : ٢١ / ٢٧٥ ، الحماسة البصرية : ١ / ٢٥٦ ، والبحر : ١ / ٤٨٩ ، والدر المصون : ١ / ٣١٤ ، شواهد المغني : ٢ / ٨٣٣ ، والمنصف : ٣ / ١١٧ ، وجمهرة اللغة : ص ٨٥٣ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤١٤.

(٤) سقط في أ.

٣١٣

كذا : أمكنني منه ، وعلى الاختيار ، فعلته بإذنك : أي باختيارك ، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك.

قال ابن الخطيب (١) : تفسير الإذن هنا بالأمر أي بأمر الله ، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :

أولها : أنّ الإذن حقيقة في الأمر ، ومجاز في العلم ، واللّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن.

وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات ، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم.

وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً) حال من الهاء في «نزّله» إن كان يعود الضمير على القرآن ، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، والتقدير : فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقا.

الثاني : أن يكون من جبريل بمعنى مصدقا لما بين يديه من الرسل ، وهي حال مؤكدة ، والهاء في «بين يديه» يجوز أن تعود على «القرآن» أو على «جبريل».

وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ لا يخصّ كتابا دون كتاب ، ومنهم من خصّه بالتوراة ، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب فلم صار مصدقا لها؟

فالجواب : أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد وأصول الدين.

قوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى) حالان معطوفان على الحال قبلهما ، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل ، أو على المبالغة أو على حذف مضاف أي : ذا هدى و «بشرى» ألفها للتأنيث ، وجاء هذا التّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقا للترتيب الوجودي ، وذلك أنه نزل مصدّقا للكتب ؛ لأنها من ينبوع واحد ، وحصلت به الهداية بعد نزوله ، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية ، وخصّ المؤمنين ، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله : بشرى للمتقين ، أو لأن البشرى لا تكون إلّا للمؤمنين ؛ لأن البشرى هي الخبر الدّال على الخير العظيم ، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا :) الكلام في «من» كما تقدم ، إلّا أن الجواب هنا يجوز أن يكون (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

فإن قيل : وأين الرّابط؟ فالجواب من وجهين :

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٧٩.

٣١٤

أحدهما : أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر ، وكان الأصل : فإن الله عدوّ لهم ، فأتى بالظّاهر تنبيها على العلة.

والثاني : أن يراد بالكافرين العموم ، والعموم من الرّوابط ، لاندراج الأول تحته ، ويجوز أن يكون محذوفا تقديره : من كان عدوّا لله فقد كفر ونحوه.

وقال بعضهم : الواو في قوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) بمعنى «أو» ، قال : لأن من عادى واحدا من هؤلاء المذكورين ، فالحكم فيه كذلك.

وقال بعضهم : هي للتفصيل ، ولا حاجة إلى ذلك ، فإن هذا الحكم معلوم ، وذكر جبريل وميكال بعد اندراجهما أولا تنبيه على فضلهما على غيرهما من الملائكة ، وهكذا كلّ ما ذكر خاص بعد عام ، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما ؛ لأن الذي جرى بين الرّسول وبين اليهود هو ذكرهما ، والآية إنما نزلت بسببهما ، فلا جرم نصّ على اسميهما ، واعلم أنّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة ، وبعضهم يسمي هذا النوع بالتجريد ، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصا له بمزية ، وهذا الحكم ـ أعني ذكر الخاصّ بعد العام ـ مختصّ بالواو ولا يجوز في غيرها من حروف العطف.

وجعل بعضهم مثل هذه الآية ـ أعني : في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفا له ـ قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] وهذا فيه نظر ، فإن «فاكهة» من باب المطلق ؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات ، وليست من العموم في شيء ، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صدق اللّفظ على ما يحتمله ، ثم نص عليه فصحيح ، وأتى باسم الله ظاهرا في قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ ؛) لأنه لو أضمر فقيل : «فإنه» لأوهم عوده على اسم الشرط ، فينعكس المعنى ، أو عوده على ميكال ؛ لأنه أقرب مذكور.

وميكائيل اسم أعجمي ، والكلام فيه كالكلام في «جبريل» من كونه مشتقّا من ملكوت الله عزوجل ، أو أن «ميك» بمعنى عبد ، و «إيل» اسم الله ، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج ، وقد عرف الصحيح من ذلك.

وفيه سبع لغات : «ميكال» بزنة «مفعال» وهي لغة «الحجاز» ، وبها قرأ أبو عمر (١) وحفص عن عاصم ، وأهل «البصرة» ؛ قالوا : [البسيط]

__________________

(١) انظر في قراءات «ميكائيل» واللغات الواردة فيها :

الشواذ : ٨ ، والسبعة : ١٦٥ ، وحجة القراءات : ١٠٧ ، ١٠٨ ، والعنوان : ٧١ ، والحجة : ٢ / ١٦٣ ، ١٦٤ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٥٢ ، ٥٣ ، وشرح شعلة : ٢٧١ ، والدر المصون : ١ / ٣١٥ ، ٣١٦.

٣١٥

٦٨٥ ـ ويوم بدر لقيناكم لنا عدد

فيه مع النّصر ميكال وجبريل (١)

وقال جرير : [الكامل]

٦٨٦ ـ عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد

وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا (٢)

الثانية : كذلك ، إلّا أن بعد الألف همزة ، وبها قرأ نافع وأهل «المدينة» بهمزة واختلاس ميكائيل.

الثالثة : كذلك ، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن «ميكائيل» ، وهي قراءة الباقين.

الرابعة : ميكئيل مثل ميكعيل ، وبها قرأ ابن محيصن.

الخامسة : كذلك ، إلّا أنه لا ياء بعد الهمزة ، فهو مثل : ميكعل ، وقرىء بها.

السادسة : ميكاييل بياءين بعد الألف ، وبها قرأ الأعمش.

السابعة : ميكاءل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال : «إسراءل» ، وحكى الماورديّ عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن «جبر» بمعنى عبد بالتكبير ، و «ميكا» بمعنى عبيد بالتصغير ، فمعنى جبريل : عبد الله ، ومعنى ميكائيل : عبيد الله قال : ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف.

وقال القرطبي رحمه‌الله تعالى : وزاد بعض المفسّرين : وإسرافيل عبد الرحمن.

قال النحاس : ومن قال : «جبر» عبد ، و «إل» الله وجب عليه أن يقول : هذا جبرئل ، ورأيت جبرئل ، ومررت بجبرئل ، وهذا لا يقال ، فوجب أن يكون مسمى بهذا.

وقال غيره : ولو كان كما قالوا لكان مصروفا ، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.

قال ابن الخطيب (٣) : يجب أن يكون جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أفضل من ميكائيل لوجوه :

أحدها : أنه قدمه في الذّكر ، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا.

وثانيها : أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم ، وهو مادة بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار ، وهي مادة بقاء الأبدان ، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل.

__________________

(١) ينظر البحر المحيط : ١ / ٤٨٦ ، الحجة لأبي زرعة : (١٠٨) ، القرطبي : ٢ / ٣٨ ، معالم التنزيل : ١ / ٩٧ ، الدر المصون : ١ / ٣١٦.

(٢) ينظر ديوانه : (٣٣٩) ، البحر المحيط : ١ / ٤٨٦ ، القرطبي : (٢ / ٢٨) ، إعراب القرآن للزجاج : ٨٦٨ ، الطبري : ١ / ٣٤٦ ، مجمع البيان : ١ / ٣٧٤ ، والدر المصون : ٢ / ٣١٣.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٠.

٣١٦

وثالثها : قوله ـ تعالى ـ في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام : (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢١] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فوجب أن يكون أفضل منه.

فإن قيل : حقّ العداوة الإضرار بالعدو ، وذلك محال على الله تعالى ، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟

فالجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلّا فينا ؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المضارّ به ، وذلك محال على الله ـ تعالى ـ بل المراد أحد وجهين : إما أن يعادوا أولياء الله ، فيكون ذلك عداوة لله ، كقوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] ، وكقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذيّة عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته ، وبعدهم عن الطريقة ، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ) (٩٩)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل مبعثه ، فلما بعث من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ، ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفون لنا صفته.

فقال ابن صوريا : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الآيات ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات (١) ، والمرادة بالآيات البينات : آيات القرآن مع سائر الدّلائل من المباهلة ، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو : إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل [ونبع](٢) الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر.

وقال بعضهم : الأولى تخصيص ذلك بالقرآن ، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن.

فإن قيل : الإنزال عبارة عن تحريك الشّيء من أعلى إلى أسفل ، وذلك محقّق في الأجسام ، ومحال في الكلام.

فجوابه : أن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٨١) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٦).

(٢) في ب : ونبوع.

٣١٧

قوله تعالى : (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) هذا استثناء مفرّغ ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب.

والكفر بها من وجهين :

الأول : جحودها مع العلم بصحتها.

والثاني : جحودها مع الجهل ، وترك النظر فيها ، والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظّاهر تخصيص ، فيدخل الكل فيه.

قال ابن الخطيب (١) : والفسق في اللّغة : خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠].

وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها : فسقت النواة ، وقد يقرب من معناه الفجور ؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد ، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السّد حتى صار إلى حيث يفسد.

فإن قيل : أليس صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ، ولا يوصف بالفسق والفجور؟

قلنا : إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا ؛ لأن من فتح من النهر نقبا يسيرا لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر ، وكذلك الفسق إنما يقال إذا عظم التعدّي ، إذا ثبت هذا فنقول : في قوله : (إِلَّا الْفاسِقُونَ) وجهان :

أحدهما : أن كل كافر فاسق ، ولا ينعكس ، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره ، فكان أولى.

الثاني : أن يكون المراد ما يكفر بها إلّا الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره ، والمعنى : أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلّا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى ، والأحسن في الجواب أن يقال : إنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَما يَكْفُرُ بِها) أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال.

قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠٠)

الجمهور على تحريك واو «أوكلما» ، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال : فقال الأخفش : إن الهمزة للاستفهام ، والواو زائدة ، وهذا على رأيه في جواز زيادتها.

وقال الكسائي هي «أو» العاطفة التي بمعنى «بل» ، وإنما حركت الواو.

ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة.

وقال البصريون : هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٨٢.

٣١٨

قال القرطبي : كما دخلت همزة الاستفهام على «الفاء» في قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) [المائدة : ٥٠] ، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) [يونس : ٤٢] ، (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ) [الكهف : ٥٠].

وعلى «ثم» كقوله : (أَثُمَّ إِذا ما).

وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئا يعطف عليه ما بعده ، لذلك قدره هنا : أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا.

وقرأ أبو السّمال العدوي (١) : «أو كلما» ساكنة الواو ، وفيها ثلاثة أقوال : فقال الزمخشري : إنها عاطفة على «الفاسقين» ، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا ، يعني به : أنه عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه في تأويله كقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ١٨] أي : الذين اصّدّقوا وأقرضوا.

وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى.

وقال المهدوي : «أو» لانقطاع الكلام بمنزلة «أم» المنقطعة ، يعني أنها بمعنى «بل» ، وهذا رأى الكوفيين ، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله : [الطويل]

٦٨٧ ـ ..........

 ... أو أنت في العين أملح(٢)

في أول السورة.

وقال بعضهم : هي بمعنى «الواو» فتتفق القراءتان ، وقد وردت «أو» بمنزلة «الواو» كقوله : [الكامل]

٦٨٨ ـ ..........

ما بين ملجم مهره أو سافع (٣)

(خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [النساء : ١١٢] (آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] فلتكن [هنا](٤) كذلك ، وهذا أيضا رأي الكوفيين.

والناصب ل «كلّما» بعده ، وقد تقدم تحقيق القول فيها ، وانتصاب «عهدا» على أحد وجهين : إما على المصدر الجاري على غير الصدر وكان الأصل : «معاهدة» أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى «أعطوا» ويكون المفعول الأول محذوفا ، والتقدير : عاهدوا الله عهدا.

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٢ ، والدر المصون : ١ / ٣١٦

(٢) تقدم برقم ٢٢٧.

(٣) عجز بيت لحميد بن ثور صدره :

قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم

ينظر شواهد المغني : ١ / ٦٣ ، العيني : ٤ / ١٤٦ ، اللسان (سفع) ، شرح التصريح : ٢ / ١٤٦ ، شرح الأشموني : ٣ / ١٠٧ ، الدر المصون : ١ / ٣١٧.

(٤) في ب : هذه القراءة.

٣١٩

وقرىء (١) : «عاهدوا» فيكون «عهدا» مصدرا جاريا على صدره.

وقرىء أيضا (٢) : «عوهدوا» مبنيا للمفعول.

قال ابن الخطيب : المقصود من هذا الاستفهام ، الإنكار ، وإعظام ما يقدمون عليه ، ودلّ قوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه ، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم ، فكأنه ـ تعالى ـ أراد تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم ، بل هو سجيّتهم وعادتهم ، وعادة سلفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نقضهم العهود والمواثيق حالا بعد حال ؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة ، فلا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك. وفي العهد وجوه :

أحدها : أن الله ـ تعالى ـ لما أظهر الدّلائل الدّالة على نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه ـ سبحانه وتعالى ـ وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله ـ سبحانه وتعالى ـ.

وثانيها : قولهم قبل مبعثه : لئن خرج النبي لنؤمنن به ، ولنخرجن المشركين من ديارهم [قال ابن عباس : لما ذكرهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما أخذ الله ـ تعالى ـ عليهم ، وعهد إليهم في محمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف : والله ما عهد إلينا في محمد عهد فنزلت هذه.

قال القرطبي (٣) : ويقال فيه : «ابن الصّيف» ويقال : «ابن الضّيف»](٤).

وثالثها : أنهم كانوا يعاهدون الله كثيرا وينقضونه.

ورابعها : قال عطاء : إن اليهود كانوا قد عاهدوه على ألّا يعينوا عليه أحدا من الكافرين ، فنقضوا ذلك ، وأعانوا عليه قريشا يوم «الخندق» [ودليله قوله تعالى : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ)](٥) إنما قال : «نبذه فريق منهم» لأن في جملة من عاهد من آمن ، أو يجوز أن يؤمن ، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وفيه قولان :

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٣١٧.

(٢) قرأ بها الحسن وأبو رجاء.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٨٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٩٢ ، والدر المصون : ١ / ٣١٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤١٠.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ٢٨.

(٤) سقط في ب.

(٥) سقط في ب.

٣٢٠