اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

وقال العجّاج : [الرجز]

٤٣٧ ـ [لمّا لبسن الحقّ بالتّجنّي

غنين واستبدلن زيدا منّي (١)](٢)

ومنه أيضا : [البسيط]

٤٣٨ ـ وقد لبست لهذا الأمر أعصره

حتّى تجلّل رأسي الشّيب فاشتعلا (٣)

وفي فلان ملبس ، أي مستمتع ؛ قال : [الطويل]

٤٣٩ ـ ألا إنّ بعد العدم للمرء قنوة

وبعد المشيب طول عمر وملبسا (٤)

وقول الفرّاء وغيره : [الكامل]

٤٤٠ ـ وكتيبة لبّستها بكتيبة

حتّى إذا التبست نفضت لها يدي (٥)

يحتمل أن يكون منه ، وأن يكون من «اللّباس» ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين ، أي : لا تغطّوا الحق بالباطل.

ولبس الهودج والكعبة : ما عليهما من «لباس» ـ بكسر اللام ـ ولباس الرجل زوجته ، وزوجها لباسها. قال تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] وقال النابغة: [المتقارب]

٤٤١ ـ إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تثنّت عليه فكانت لباسا (٦)

و «اللّبوس» : كل ما يلبس من ثياب ودرع ؛ قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] ولابست فلانا حتى عرفت باطنه.

و «الباطل» : ضد الحق ، وهو الزائل ؛ كقول لبيد : [الطويل]

٤٤٢ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (٧)

ويقال : بطل الشيء يبطل بطولا وبطلا وبطلانا.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١ / ٢٦٥) ، القرطبي : (١ / ٢٣١) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٨).

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : (٢٦٥) ، القرطبي : (١ / ٢٣٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٨).

(٤) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ٨٧ ، القرطبي : (١ / ٢٣٣) والشطر الثاني في مفردات الراغب : (٤٤٧) ، اللسان : (ليس) ، الدر المصون : ١ / ٢٠٨.

(٥) ينظر الحماسة (١ / ٦٠) ، حماسة البحتري : (٥٢) ، والحيوان للجاحظ : (٥ / ١٨٥) ، نهاية الأرب : (٣ / ٣٥٢) ونصّ البيت هكذا :

وفوارس لبستها بفوارس

حتى إذا التبست ملأت بها يدي

القرطبي (١ / ٣٤١) ، الوجيز (١ / ٢٥٥) ، البحر (١ / ٣٢٧) ، الدر المصون (١ / ٢٠٨).

(٦) ينظر القرطبي : (١ / ٢٣٢) ، مجمع البيان : (٢ / ١٢٨) ، اللسان : «لبس».

(٧) تقدم برقم (٤١٠).

٢١

و «البطل» : الشّجاع ، سمي بذلك ؛ لأنه يبطل شجاعة غيره.

وقيل : لأنه يبطل دمه فهو «فعل» بمعنى «مفعول».

وقيل : لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى «فاعل». وقد بطل ـ بالضّم ـ يبطل بطولا وبطالة ، أي : صار شجاعا ؛ قال النابغة : [البسيط]

٤٤٣ ـ لهم لواء بكفّي ماجد بطل

لا يقطع الخرق إلّا طرفه سامي (١)

وبطل الأجير ـ بالفتح ـ بطالة ـ بالكسر : إذا تعطّل ، فهو بطّال ، وذهب دمه بطلا ـ بالضم ـ أي : هدرا.

فصل في المراد من قوله تعالى : (الْحَقَّ بِالْباطِلِ)

اختلفوا في المراد من قوله : (الْحَقَّ بِالْباطِلِ) فروي عن «ابن عباس» وغيره : لا تخلطوا ما عندكم من الحقّ في الكتاب بالباطل (٢) ، وهو التغيير والتبديل.

وقال «أبو العالية» : قالت اليهود : محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا ، فإقرارهم ببعثته حق ، وجحدهم أنه بعث إليهم باطل.

وقال «مجاهد» : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام (٣).

قوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) فيه وجهان :

أحدهما ، وهو الأظهر : أنه مجزوم بالعطف على الفعل قبله ، نهاهم عن كل فعل على حدته ، أي : لا تفعلوا هذا ولا هذا.

والثاني : أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي بعد «الواو» التي تقتضي المعية ، أي : لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمانه ، ومنه : [الكامل]

٤٤٤ ـ لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (٤)

و «أن» مع ما في حيّزها في تأويل مصدر ، فلا بد من تأويل الفعل الذي قبلها

__________________

(١) ينظر ديوانه : ص ٨٤ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٤٥٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٩.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٥٦٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٢٥).

(٣) أخرجه الطبري (١ / ٥٦٨) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر» (١ / ١٢٥) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ١٥٢) عن قتادة أيضا.

(٤) البيت للأخطل كذا نسبه له سيبويه واشتهر أنه لأبي الأسود الدؤلي انظر ملحقات ديوانه : (١٣٠) ، ونسب البيت للطرماح وللمتوكل الليثي انظر الكتاب : (١ / ٤٢٤) ، والمقتضب (٢ / ٢٥) ، وشرح المفصل لابن يعيش : (٧ / ٢٤) ، العيني : (٤ / ٣٩٣) ، والشذور : (٢٣٨) ، حماسة البحتري : (١٧٤) ، الخزانة : (٨ / ٥٦٤) ، الدرر : (٢ / ٩) ، معاني الفراء : (١ / ١١٥) ، الصاحبي : (١٥٦) ، الأشموني : (٣ / ٣٠٧).

٢٢

بمصدر أيضا ليصبح عطف [الاسم] على مثله ، والتقدير : لا يكن منكم لبس الحق بالباطل وكتمانه ، وكذا سائر نظائره.

وقال «الكوفيون» : منصوب ب «واو» الصرف ، وقد تقدم معناه ، والوجه الأول أحسن ؛ لأنه نهي عن كل فعل على حدته ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع ، ولا يلزم من النّهي عن الجمع بين الشّيئين النهي عن كل واحد على حدته إلا بدليل خارجي.

فصل في المراد بالكتمان

قال «ابن عبّاس» : يعني كتمانهم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يعرفونه (١).

وقال «محمد بن سيرين» : نزل عصابة من ولد هارون ب «يثرب» لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدوّ عليهم ، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ ، فأقاموا ب «يثرب» يرجون أن يخرج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ظهرانيهم ، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته ، فمضى أولئك الآباء ، وهم مؤمنون ، وخلف الأبناء وأبناء الأبناء ، فأدركوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا به وهم يعرفون ، وهو معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، وعاملها : إما «تلبسوا» أو «تكتموا» إلّا أن عمل «تكتموا» أولى لوجهين :

أحدهما : أنه أقرب.

والثاني : أن كتمان الحقّ مع العلم به أبلغ ذمّا ، وفيه نوع مقابلة.

ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال ؛ لأنه يستدعي الإضمار ، ولا يجوز إضمار الحال ؛ لأنه لا يكون إلا نكرة ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب «الذي».

فإن قيل : تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار ، حتى لا يلزم المحظور المذكور ، والتقدير : ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون ، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.

فالجواب : أن هذا لا يقال : فيه إعمال ، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل ، ثم يحذف.

وأجاز «ابن عطيّة» (٢) ألا تكون هذه الجملة حالا ، فإنه قال : «ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه الصلاة والسلام ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ، فعلى هذا لا تكون الجملة في موقع الحال». وفيما قاله نظر.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ٥٧١) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٢٥).

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٦.

٢٣

وقرىء (١) شاذا : «وتكتمون» بالرفع ، وخرجوها على أنها حال ، وهذا غير صحيح ؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو ، وما ورد من ذلك ، فهو مؤول بإضمار مبتدأ قبله ، نحو : «قمت وأصكّ عينه» ، وقول الآخر : [المتقارب]

٤٤٥ ـ فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنهم مالكا (٢)

أي : «وأنا أصكّ» ، و «أنا أرهنهم» ، وكذا «وأنتم تكتمون» ، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر ، وهو أنهم منهيّون عن اللّبس مطلقا ، والحال قيد في الجملة السابقة ، فيكون قد نهوا بقيد ، وليس ذلك مرادا إلّا أن [يقال : إنها حال لازمة ، وقد قيّده «الزمخشري» ب «كاتمين» ، فجعله حالا ، وفيه الإشكال المتقدّم ، إلّا أنه](٣) يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، قال «ابن الخطيب» (٤) : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل ، وما لا يعرف كونه حقّا وباطلا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ، ولا بالإثبات ، بل يجب التوقّف فيه. وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضّار مع العلم بكونه ضارّا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارّا ، فلما كانوا عالمين [بما](٥) في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.

ويجوز أن تكون جملة خبرية عطفت على جملة طلبية ، كأنه ـ تعالى ـ نعى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق.

[ومفعول](٦) العلم غير مراد ؛ لأن المعنى : وأنتم من ذوي العلم.

وقيل : حذف للعلم به ، والتقدير : تعلمون الحقّ من الباطل.

وقدره «الزمخشري» : «وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون» ، فجعل المفعول اللّبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين. وهو حسن.

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

أمرهم بالإيمان ، ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل ، وكتمان دلائل النّبوة ، ثم ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشّرائع ، وذكر من جملته ما هو كالأصل فيها ، وهو الصّلاة التي هي أعظم العبادات البدنية ، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية.

__________________

(١) قرأ بها عبد الله.

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٠٩.

(٢) البيت لعبد الله بن همام السلولي ينظر إصلاح المنطق : ص ٢٣١ ، ٢٤٩ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٣٦ ، والدرر : ٤ / ١٥ ، والشعر والشعراء : ٢ / ٦٥٥ ، والجنى الداني : ص ١٦٤ ، ورصف المباني : ص ٤٢٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٥٦ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٤٠ ، والمقرب : ١ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٩.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤١.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : ومفهوم.

٢٤

قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) هذه الجملة وما بعدها عطف على الجملة قبلها عطف أمر على نهي.

وأصل «أقيموا» : «أقوموا» ، ففعل به ما فعل ب (وَيُقِيمُونَ) [البقرة : ٣] وقد تقدم الكلام عليها وعلى «الصّلاة» ، وأصل «آتوا» «ائتيوا» بهمزتين مثل «أكرموا» ، فقلبت الثانية ألفا لسكونها بعد همزة مفتوحة ، واستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان «الياء والواو» ، فحذفت الياء ؛ لأنها أول وحركت التاء بحركتها.

وقيل : بل ضمت تبعا للواو ، كما ضم آخر «اضربوا» ونحوه ، ووزنه : «افعوا» بحذف اللام.

وألف «الزكاة» منقلبة عن واو ، لقولهم : زكوات ، وزكا ـ يزكو ، وهي النحو.

وقيل : الطهارة.

وقيل : أصلها الثّناء الجميل ، ومنه : زكى القاضي الشّهود ، والزّكا : الزوج صار زوجا بزيادة فرد آخر عليه ، والخسا : الفرد ، قال : [البسيط]

٤٤٦ ـ كانوا خسا أو زكا من دون أربعة

لم يخلقوا وجدود النّاس تعتلج (١)

قوله : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) منصوب ب «اركعوا».

و «الركوع» : الطّمأنينة والانحناء ، ومنه قوله : [الطويل]

٤٤٧ ـ أخبّر أخبار القرون الّتي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع (٢)

وقيل : الخضوع والذّلّة ؛ ومنه : [المنسرح]

٤٤٨ ـ ولا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه (٣)

__________________

(١) ينظر البيت في لسان العرب «خسا» ، الطبري : (١ / ٥٧٣) ، القرطبي : (١ / ٣٤٣) ، الدر المصون : (١ / ٢١٠).

(٢) ينظر ديوان لبيد : (١٧١) ، مجاز القرآن : (١ / ٥٤) ، تهذيب اللغة : (١ / ٣١١) مجمع مقاييس اللغة : (٢ / ٤٣٥) ، مفردات الراغب : (٢٠٢) ، والشطر الثاني في اللسان : «ركع» ، الدر المصون : (١ / ٢١٠) ، والبحر المحيط : ١ / ٣٢٧.

(٣) البيت للأضبط بن قريع ينظر خزانة الأدب : ١١ / ٤٥٠ ، ٤٥٢ ، والدرر : ٢ / ١٦٤ ، ٥ / ١٧٣ ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٠٨ ، والحماسة الشجرية : ١ / ٤٧٤ ، الأغاني : ١٨ / ٦٨ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١١٥١ ، وشرح شواهد الشافية : ص ١٦٠ ، وشرح شواهد المغني : ص ٤٥٣ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٩٠ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٣٣٤ ، الإنصاف : ١ / ٢٢١ ، أوضح المسالك : ٤ / ١١١ ، جواهر الأدب : ص ٥٧ ، ١٤٦ ، رصف المباني : ص ٢٤٩ ، ٣٧٣ ، ٣٧٤ ، شرح الأشموني : ٢ / ٥٠٤ ، شرح شافية ابن الحاجب : ١ / ٣٢ ، شرح ابن عقيل : ص ٥٥٠ ، شرح المفصل : ٩ / ٤٣ ، ٤٤ ، لسان العرب (هون) مغني اللبيب : ١ / ١٥٥ ، المقرب : ١ / ١٨ ، همع الهوامع : ١ / ١٣٤ ، ٢ / ٧٩ ، الدر المصون : ١ / ٢١٠.

٢٥

فصل في عدم تأخير البيان عن الحاجة

قال ابن الخطيب (١) : القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب (٢) ، قالوا : إنما جاء في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بعد أن كان النّبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وصف لهم أركان الصّلاة وشرائطها ، فكأنه تعالى قال : وأقيموا الصلاة التي عرفتموها ، والقائلون بجواز التأخير قالوا : يجوز أن يراد الأمر بالصّلاة ، وإن كانوا لا يعرفون أن الصّلاة ما هي؟ ويكون المقصود أن يوطن السّامع نفسه على الامتثال ، وإن كان لا يعلم أن المأمور به ، ما هو؟ كما يقول السيد لعبده : إني آمرك غدا بشيء فلا بد وأن تفعله ، ويكون غرضه مه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني.

فصل في أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع

قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) خطاب مع اليهود ، وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.

فإن قيل : قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمر بالصّلاة ، وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمر بالصّلاة أيضا ، فيكون تكرارا.

فالجواب : أن قوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي : صلّوا مع المصلّين ، ففي الأوّل أمر بإقامة الصّلاة ، وفي الثاني أمر بفعلها في الجماعة فلا تكرار.

وقيل : إن اليهود لا ركوع في صلواتهم ، فخصّ الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين.

وقيل : الركوع : الخضوع ، فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم.

قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٤٤)

الهمزة في «أتأمرون» للإنكار والتّوبيخ ، أو للتعجّب من حالهم.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤١.

(٢) ينظر البحر المحيط : ٣ / ٤٩٣ ، البرهان لإمام الحرمين : ١ / ١٦٦ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ٢٨ ، نهاية السول : ٢ / ٥٤٠ ن ، زوائد الأصول للإسنوي : ص / ٣٠٤ ، منهاج العقول : ٢ / ٢٢٠ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص / ٨٦ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ٤٢٩ ، المنخول للغزالي : ص / ٦٨ ، المستصفى له : ١ / ٣٦٨ ، حاشية البناني : ٢ / ٦٩ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٣ / ١٢١ ، حاشية العطار لجمع الجوامع : ٢ / ١٠٢ ، المعتمد لأبي الحسين : ١ / ٣١٤ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ١ / ٨١ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ١٦٤ ، وينظر كشف الأسرار : ٣ / ١٠٨ ، المسودة : (١٨١) ، شرح العضد : ٢ / ١٦٤.

٢٦

و «أمر» يتعدى لاثنين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، وقد يحذف ، وقد جمع الشاعر بين الأمرين في قوله : [البسيط]

٤٤٩ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١)

و «الناس» مفعول أول ، و «بالبر» مفعول ثان ، و «البر» : سعة الخير من الصّلة والطاعة ، ومنه : «البرّ» و «البريّة» لسعتهما ، والفعل منه : «برّ ـ يبرّ» ، على وزن «فعل ـ يفعل» ك «علم ـ يعلم» ؛ قال : [الرجز]

٤٥٠ ـ لاهمّ ربّ إنّ بكرا دونكا

يبرّك النّاس ويفجرونكا (٢)

أي : يطيعونك.

و «البرّ» أيضا : ولد الثّعلب ، وسوق الغنم ، ومنه قولهم : «لا يعرف الهرّ من البرّ» ، أي لا يعرف دعاءها من سوقها.

و «البرّ» أيضا : الفؤاد ، قال : [الطويل]

٤٥١ ـ أكون مكان البرّ منه ودونه

وأجعل ما لي دونه وأوامره (٣)

و «البرّ» ـ بالفتح ـ الإجلال والتعظيم ، ومنه : ولد برّ بوالديه ، أي يعظمهما ، والله تعالى برّ لسعة خيره على خلقه ، وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال : برّ في يمينه أي : صدق ولم يحنث ويقال : صدقت وبررت.

قوله : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) داخل في حيّز الإنكار ، وأصل «تنسون» : «تنسيون» فأعلّ بحذف الياء بعد سكونها ، وقد تقدّم في (اشْتَرَوُا) [البقرة : ١٦] فوزنه «تفعون» والنسيان : ضد الذّكر ، وهو السّهو الحاصل بعد حصول العلم ، وقد يطلق على التّرك ، ومنه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ، وقد يدخله التعليق حملا على نقيضه ، قال : [الطويل]

٤٥٢ ـ ومن أنتم إنّا نسينا من انتم

وريحكم من أيّ ريح الأعاصر (٤)

ويقال : رجل «نسيان» ـ [بفتح النون ـ كثير النّسيان ـ ونسيت الشيء نسيانا ، ولا يقال : «نسيانا»] ـ بالتحريك ـ لأن النّسيان تثنية نسا العرق.

و «الأنفس» : جمع نفس.

فإن قيل : النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم ، والنّاسي غير مكلّف

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر القرطبي : (١ / ٢٥٠) ، البحر : (١ / ٣٣٧) ، اللسان : برر ، الدر المصون : (١ / ٢١٠).

(٣) ينظر القرطبي : (١ / ٢٥٠) ، اللسان : برر ، الدر المصون : (١ / ٢١١).

(٤) البيت لزياد الأعجم ينظر ديوانه : ص ٧٣ ، تذكرة النحاة : ص ٦٢٠ ، الدرر : ٢ / ٢٦٥ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٢٤٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر : ٢ / ١٢١ ، تخليص الشواهد : ص ٤٥٤ ، حاشية يس : ١ / ٢٥٣ ، المحتسب ١ / ١٦٨ ، همع الهوامع : ١ / ١٥٥ ، الدر المصون : ١ / ٢١١.

٢٧

ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمّه الله ـ تعالى ـ على ما صدر منه ، فالمراد بقوله : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أنكم تغفلون عن حق أنفسكم ، وتعدلون عما لها فيه من النّفع.

قوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال ، العامل فيها «تنسون».

و «التّلاوة» : التتابع ، ومنه تلاوة القرآن ؛ لأن القارىء يتبع كلماته بعضها ببعض ، ومنه : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ٢] وأصل «تتلون» : «تتلوون» بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفت ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى فوزنه «تفعون».

ويقال : تلوته إذا تبعته تلوا ، وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتّليّة والتّلاوة (١) : البقية ، يقال : تليت (٢) لي من حقّي تلاوة وتلية أي بقيت.

وأتليت : أبقيت.

وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه.

قال «أبو زيد» : «تلي الرجل إذا كان بآخر رمق».

قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة للإنكار أيضا ، وهي في نية التأخير عن الفاء ؛ لأنها حرف عطف ، وكذا تتقدّم أيضا على «الواو» و «ثم» نحو : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٧] (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) [يونس : ٥١] والنّيّة بها التأخير ، وما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه ، تقول : «ما قام زيد بل أقعد؟» هذا مذهب الجمهور.

وزعم «الزّمخشري» أن الهمزة في موضعها غير منويّ بها التأخير ، ويقدر قبل «الفاء» و «الواو» و «ثم» فعلا محذوفا ، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا : أتغفلون فلا تعقلون ، وكذا (أَفَلَمْ يَرَوْا) [سبأ : ٩] أي : أعموا فلم يروا؟

وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى.

ومفعول «تعقلون» غير مراد ؛ لأن المعنى : أفلا يكون منكم عقل ، وقيل تقديره : أفلا تعقلون قبح ما ارتكبتم من ذلك.

والعقل : الإدراك المانع من الخطأ ، وأصله المنع ، ومنه العقال ، لأنه يمنع البعير عن الحركة ، وعقل الدّية ، لأنه يمنع من قتل الجاني ، والعقل ـ أيضا ـ ثوب موشّى ؛ قال علقمة : [البسيط]

٤٥٣ ـ عقلا ورقما يظلّ الطّير يتبعه

كأنّه من دم الأجواف مذموم (٣)

__________________

(١) زاد في أ : يضمان.

(٢) في أ : بقيت.

(٣) ينظر الديوان : (٥١) ، المفضليات : (٣٩٧) ، اللسان : عقل ، الدر المصون : (١ / ٢١١).

٢٨

قال ابن فارس : «والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا ، وما كان نقشه مستديرا فهو الرّقم». ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها.

فصل في المراد بالبر في الآية

اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه :

أحدها : قال «السّدّي» إنهم كانوا يأمرون النّاس بطاعة الله ، وينهونهم عن معصية الله ، وهم يتركون الطّاعة ، ويقدمون على المعصية (١).

وثانيها : قال «ابن جريج» : إنهم كانوا يأمرون النّاس بالصّلاة والزكاة ، وهم يتركونهما(٢).

وثالثها : كان إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : هو صادق فيما يقول ، وأمره حقّ فاتبعوه ، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم.

ورابعها : أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول عليه الصّلاة والسّلام يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر فيكم ، ويدعو إلى الحقّ وكانوا يرغبونهم في اتباعه ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدوه وكفروا به ، فبكّتهم الله ـ تعالى ـ بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره ، فلما ظهر تركوه ، وأعرضوا عن دينه ، وهذا اختيار «أبي مسلم».

وخامسها : قال «الزّجّاج» : «إنهم كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة ، وكانوا يشحّون بها ، لأن الله ـ تعالى ـ وصفهم بقساوة القلوب ، وأكل الربا والسّحت».

فصل في سبب هذا التعجب

سبب هذا التعجّب وجوه :

الأوّل : أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة ، وتحذيره عما يوقعه في المفسدة ، والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير.

الثاني : أنّ من وعظ النّاس ، وأظهر علمه للخلق ، ثم لم يتّعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية ؛ لأن الناس يقولون : إنه مع هذا العلم لولا أنه مطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات ، وإلّا لما أقدم على المعصية ، وإذا كان الواعظ زاجرا عن المعصية ، ويأتي بفعل يوجب الجراءة على المعصية ، فكأنه جمع بين المتناقضين ، وذلك لا يليق بالعاقل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٨).

٢٩

والثالث : أنّ من وعظ ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب ، والإقدام على المعصية مما ينفّر القلوب عن القبول.

فصل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف

قال «القرطبي» : «احتجّت المبتدعة بقوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ،) وقوله تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٣] على أنه يشترط فيمن يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر أن يكون عدلا.

قال : وهذا استدلال ساقط ؛ لأن الذم ـ هاهنا ـ إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر ، ولا شك أن النهي عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه ، وأيضا فإن العدالة محصورة في القليل من الناس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.

وذكر عن «ابن عبد البر» أنه قال : أجمع المسلمون على أنه لا يجب على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذا لم يحصل له بتغييره إلا اللّوم الذي لا يصل إلى الأذى.

فصل في ماهية العقل

قال بعض الفلاسفة : العقل جوهر لطيف في البدن ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السّراج في البيت ، يفصل بين حقائق المعلومات.

ومنهم من قال : إنه جوهر بسيط ، ثم اختلفوا في محلّه.

فقالت طائفة منهم : محلّه الدّماغ ؛ لأن الدماغ محل الحسّ.

ومنهم من قال : محله القلب ؛ لأن القلب معدن الحياة ، ومادّة الحواس.

وقالت طائفة : محله القلب وله أشعة إلى الدماغ.

وقال «أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني» وغيرهما : العقل هو العلم.

وقال «القاضي أبو بكر» : العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات ، وجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات.

واختار «أبو المعالي» في «البرهان» أنه صفة يتأتى بها درك العلوم.

وقال «الشافعي» : العقل غريزة.

وقال «أبو العبّاس القلانسي» : العقل قوة التّمييز.

وحكي عن «المحاسبي» أنه قال : العقل أنوار وبصائر.

فصل في خلق أفعال العباد

احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله ـ تعالى ـ فقالوا قوله

٣٠

تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إنما يصحّ ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم ، فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار ، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود : لم لا تبيض؟

والجواب : أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق ، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه ، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه ، وإن حصل من الله ـ تعالى ـ فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا ، والآخر مرجوحا ، والمرجوح ممتنع الوقوع ؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع ، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر ، فيعود عليهم ما أوردوه ، ثم الجواب الحقيقي عن الكل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣].

قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ)(٤٥)

قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر ، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل.

وأصل «استعينوا» : «استعونوا» ففعل فيه ما فعل في «نستعين» وقد تقدم تحقيقه ومعناه.

و «بالصبر» متعلّق به ، والباء للاستعانة أو للسّببية ، والمستعان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليها ، واستعان يتعدّى بنفسه نحو : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ، ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي : ملتبسين بالصبر.

والظّاهر أنه يتعدّي بنفسه وبالباء ، تقول : استعنت الله واستعنت بالله ، وقد تقدم أن السّين للطلب.

والصّبر : الحبس على المكروه ؛ ومنه : «قتل فلان صبرا» ؛ قال : [الوافر]

٤٥٤ ـ فصبرا في مجال الموت صبرا

فما نيل الخلود بمستطاع (١)

و «المصبورة» التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت ، وهي المجثمة. والصبر المأمور به هو الصّبر على الطّاعة ، وعن المخالفة ، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطّاعة.

قال النحاسي : «ولا يقال لمن صبر على المصيبة : صابر إنما يقال : صابر على كذا». ويرده قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ثم قال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) [البقرة : ١٥٦] الآية.

__________________

(١) البيت لقطري بن الفجاءة ينظر في تخليص الشواهد : ص ٢٩٨ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥١ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢٢٠ ، وشرح الأشموني : ٤ / ١٢ ، الدر المصون : ١ / ٢١٢.

٣١

فصل في فضل الصلاة

خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها.

وكان عليه الصلاة والسّلام «إذا حزبه أمر فزع إلى الصّلاة» (١).

ومنه ما روي عن عبد الله بن عبّاس أنه نعي إليه أخوه قثم ـ وقيل بنت له ـ وهو في سفر فاسترجع وقال : عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله ، ثم تنحّى عن الطريق وصلّى ، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(٢).

فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.

وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللّغة ، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ) [الأنفال : ٤٥] ؛ لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء.

وقال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصّوم ، ومنه قيل لرمضان : شهر الصّبر ، فجاء الصّوم والصّلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصّيام يمنع من الشّهوات ، ويزهد في الدنيا ، والصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتخشع ، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة.

وإنما قدم الصّبر على الصلاة ؛ لأن تأثير الصّبر في إزالة ما لا ينبغي ، وتأثير الصّلاة في حصول ما ينبغي.

وقد وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بالصّبر كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله ـ تعالى ـ إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم» (٣). أخرجه البخاري.

قال العلماء : وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ، ومعنى وصفه ـ تعالى ـ بالحلم هو تأخير العقوبة عن مستحقّيها ، ووصفه ـ تعالى ـ بالصّبر لم يرد في التنزيل ، وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السّنة على الحلم ، قاله «ابن فورك» وغيره.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن (١ / ٤٢٠ ـ ٤٢١) كتاب الصلاة باب وقت قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل حديث رقم (١٣١٩) وأحمد في المسند (٥ / ٣٨٨) ـ والخطيب في التاريخ (٦ / ٢٧٤) والطبري في التفسير (١ / ٢٠٥) ـ وذكره ابن كثير في التفسير (١ / ١٢٤ ، ٢٨٣) ـ والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٨٥ والتبريزي في مشكاة المصابيح حديث رقم ١٣٢٥ والهندي في كنز العمال حديث رقم ١٨٠٠١.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٣١) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (٨ / ٤٧) كتاب الأدب باب الصبر على الأذى حديث رقم (٦٠٩٩) ـ وذكره القرطبي في التفسير ١ / ٣٧٣ والهندي في كنز العمال حديث رقم (٥٨١٤).

٣٢

وجاء في أسمائه «الصبور» للمبالغة في الحلم عمن عصاه.

قوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) إن واسمها وخبرها ، والضّمير في «إنها» قيل: يعود على «الصلاة» ، وإن تقدم شيئان ؛ لأنها أغلب منه وأهم ، وهو نظير قوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] أعاد الضمير على التّجارة ؛ لأنها أهم وأغلب ، كذا قيل ، وفيه نظر ؛ لأن العطف ب «أو» فيجب الإفراد ، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشّيئين ، فهو نظيرها من هذه الجهة.

وقيل : يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

وقيل : على العبادة المدلول عليها بالصّبر والصلاة ، وقيل : هو عائد على الصبر والصّلاة ، وإن كان بلفظ المفرد ، وهذا ليس بشيء.

وقيل : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ؛ وتقديره : وإنه لكبير ؛ نحو قوله : [الخفيف]

٤٥٥ ـ إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأس

ود ما لم يعاص كان جنونا (١)

ولم يقل : «يعاصيا» ردّ إلى الشباب ؛ لأن الشعر داخل فيه ، وكذا الصّبر لما كان داخلا في الصلاة عاد عليها كما قال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] ، ولم يقل : يرضوهما ؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عزوجل.

وقيل : ردّ الكتابة إلى كل واحد منهما ، لكن حذف اختصارا ، كقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥] ، ولم يقل : آيتين ، وقال الشاعر : [الطويل]

٤٥٦ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٢)

أراد : «لغريبان».

وقيل : على إجابة محمد عليه الصّلاة والسّلام ، لأنّ الصبر والصّلاة مما كان يدعو

__________________

(١) ينظر ديوان حسان : (٢٣٦) ، ابن الشجري : (١ / ٣٠٩) ، المخصص : (١ / ٣٨) ، جمهرة اللغة : (٢ / ٢٧) ، مجاز القرآن : (١ / ٢٥٨) ، المقرب : (٢٥٧) ، الصاحبي : (٣٦٢) ، اللسان : «شرخ» ، الدر المصون : (١ / ٢١٢).

(٢) البيت لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، والإنصاف : ص ٩٤ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، ١٠ / ١٢ ، ٣١٣ ، ٣٢٠ ، والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ، وشرح التصريح ١ / ٢٢٨ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٦٧ ، وشرح المفصل ٨ / ٨٦ ، والشعر والشعراء ص ٣٥٨ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولسان العرب (قير) ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٨٦ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٨ ، ونوادر أبي زيد ص ٢٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٣ ، وأوضح المسالك ١ / ٣٥٨ ، ورصف المباني ص ٢٦٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٧٢ ، وشرح الأشموني ١ / ١٤٤ ، ومجالس ثعلب ص ٣١٦ ، ٥٩٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٤ ، الدر المصون ١ / ٣١٢.

٣٣

إليه ، وقيل : على الكعبة ؛ لأن الأمر بالصّلاة إنما هو إليها.

قوله : «لكبيرة» : لشاقّة ثقيلة من قولك : كبر هذا عليّ ؛ قال تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣].

و «إلّا على الخاشعين» استثناء مفرّع ، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتا ، لأنه في قوة النفي ، أي : لا تسهل ولا تخفّ إلا على هؤلاء.

و «على الخاشعين» متعلّق ب «كبيرة» نحو : «كبر عليّ هذا» أي : عظم وشق.

فإن قيل : إن كانت ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين ، فوجب أن يكون ثوابهم أكثر ، وثواب الخاشعين أقلّ ، وهذا باطل.

فالجواب : ليس المراد أن الذي يلحقهم من التّعب أكثر مما يلحق الخاشع ، وكيف يكون ذلك ، والخاشع يستعمل عند صلاته جوارحه وقلبه وسمعه وبصره ، ولا يغفل عن تدبّر ما يأتي من الذّكر ، والتذلّل والخضوع ، وإذا تذكّر الوعيد لم يخل من حسرة وغمّ ، وإذا ذكر الوعد فكمثل ذلك ، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثّقل عليه بفعل صلاته أعظم ، وإنما المراد بقوله ـ هاهنا ـ لثقيلة على من لم يخشع من حيث لا يعتقد في فعلها ثوابا ، ولا في تركها عقابا ، فيصعب عليه فعلها ؛ لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطّبع.

و «الخشوع» : الخضوع ، وأصله : اللّين والسّهولة ، ومنه «الخشعة» للرّملة ، وقيل : قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث : «كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد» أي : كانت الأرض ليّنة.

وقال النابغة : [الطويل]

٤٥٧ ـ رماد ككحل العين لأيا أبيّنه

ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (١)

أي : عليه أثر الذّل.

وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع ، فقال : الخضوع في البدن خاصّة ، والخشوع في البدن والصّوت والبصر ، فهو أعم منه.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)

(الَّذِينَ) يحتمل موضعه الحركات الثلاث ، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتا ، وهو الظّاهر ، والرفع والنّصب على القطع ، وقد تقدم معناه.

وأصل الظّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه :

أحدها : وعليه الأكثر ـ أن الظّن ـ هاهنا ـ بمعنى اليقين ؛ ومثله (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ)

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٤٣) ، القرطبي : (١ / ٣٧٤) ، الدر المصون : (١ / ٢١٢).

٣٤

[الحاقة : ٢٠] ؛ وقال تعالى : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) [المطففين : ٤].

وقال دريد بن الصّمّة : [الطويل]

٤٥٨ ـ فقلت لهم : ظنّوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد (١)

وقال أبو دؤاد : [الخفيف]

٤٥٩ ـ ربّ همّ فرّجته بعزيم

وغيوب كشّفتها بظنون (٢)

فاستعمل الظّن استعمال اليقين [مجازا ، كما استعمل العلم استعمال الظّن ؛ كقوله : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) [الممتحنة : ١٠] ولكن العرب لا تستعمل الظّن استعمال اليقين] إلّا فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبيت ، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر: أظنّ هذا إنسانا.

قائلو هذا القول قالوا : إن الظن ـ هنا ـ بمعنى العلم ، قالوا : لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة ، وذلك كفر والله ـ تعالى ـ مدح على [الظّن](٣) ، والمدح على الكفر غير جائز ، فوجب أن يكون المراد من الظن ـ هاهنا ـ العلم ، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا ، إلا أن العلم راجح مانع من النقيض ، والظن راجح غير مانع من النقيض ، فلما اشتبها من هذا الوجه صحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر ، كما في الآية والبيت.

والثاني : أن الظّن على بابه وفيه تأويلان :

أحدهما : أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت ؛ لأن ملاقاة الرب سبب عن الموت ، فأطلق المسبّب ، وأراد السبب ، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات : إنه لقي ربّه ، فتقدير الآية : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو الموت في كل لحظة ، فإن من كان متوقعا للموت في كل لحظة ، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع.

وثانيها : أنهم يظنون ملاقاة ثواب ربهم ؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب ، دون العقاب ، والتقدير : يظنون أنهم ملاقو ثواب ربهم ، ولكن يشكل على هذا عطف (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) فإنه إذا أعدناه على الثّواب المقدر ، فيزول الإشكال أو يقال : إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظّن على بابه ، وبالنّسبة إلى الثّاني بمعنى اليقين ، ويكون قد جمع في الكلمة الواحدة بين الحقيقة والمجاز ، وهي مسألة خلاف.

__________________

(١) ينظر الحماسة للمرزوقي : (٢ / ٨١٢) ، المحتسب : (٢ / ٣٤٢) ، ابن يعيش : (٧ / ٨١) ، الأصمعيات : (١٠٧) ، اللسان : ظنن ، الدر المصون : ١ / ٢١٢.

(٢) ينظر البيت في الأضداد : (١٥) ، والقرطبي : ١ / ٣٧٦ ، والدر المصون : ١ / ٢١٣.

(٣) في أ : هذا الظن.

٣٥

وثالثها : قال المهدويّ والماورديّ وغيرهما : أن يضمر في الكلام «بذنوبهم» ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله.

قال «ابن عطية» : «وهذا تعسّف».

فصل في أوجه ورود لفظ الظن

قال «أبو العباس المقرىء» : وقد ورد «الظّن» في القرآن بإزاء خمسة معان :

الأول : بمعنى «اليقين» كهذه الآية ، ومثله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة: ٢٠] ، ومثله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) [البقرة : ٢٤٩].

الثاني : بمعنى «الشّك» قال تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية: ٣٢].

الثالث : بمعنى «حسب» قال تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق : ١٤] أي : حسب ألا يرجع ، ومثله : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢].

الرابع : بمعنى «الإنكار» قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] أي : إنكارهم.

والخامس : بمعنى «الجحد» قال تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [يونس : ٦٠] أي : وما جحدهم.

و «أن» وما في حيّزها سادّة مسدّ المفعولين عند الجمهور ، ومسدّ الأول والثاني محذوف عند «الأخفش» ، وقد تقدّم تحقيقه.

و «ملاقو ربّهم» من باب إضافة اسم الفاعل لمعموله إضافة تخفيف ؛ لأنه مستقبل ، وحذفت النون للإضافة ، والأصل : «ملاقون ربّهم» والمفاعلة ـ هنا ـ بمعنى الثلاثي نحو : عافاك الله.

قال «المهدوي» : قال «ابن عطية» (١) : وهذا ضعيف ؛ لأن «لقي» يتضمن معنى «لاقى». كأنه يعني أن المادّة لذاتها تقتضي المشاركة بخلاف غيرها من «عاقبت وطارقت وعافاك».

وقد تقدم أن في الكلام حذفا تقديره : ملاقو ثواب ربهم وعقابه.

قال «ابن عطية» : «ويصح أن تكون الملاقاة ـ هاهنا ـ بالرؤية التي عليها أهل السّنة ، وورد بها متواتر الحديث». فعلى هذا الذي قاله لا يحتاج إلى حذف مضاف.

و «أنّهم إليه راجعون» عطف على «أنهم» وما في حيّزها ، و «إليه» متعلّق ب «راجعون» ، والضمير : إما للرّبّ سبحانه ، أو للثواب كما تقدّم ، أو للقاء المفهوم من قوله : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا).

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ٣١٨.

٣٦

ويجوز : «وإنهم» بالكسر على القطع.

فصل في رؤية الله تعالى

استدلّ بعض العلماء بقوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) على جواز رؤية الله تعالى (١) ، قالت

__________________

(١) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤية تعالى عقلا ، في الدنيا والآخرة ، بمعنى : أنه تعالى يجوز أنه ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة ، ولا اتصال شعاع ، ولا حصول في جهة ومكان. واستدلوا على ذلك بأدلة نقلية وأدلة عقلية ، فلنذكر الأدلة النقلية ؛ لأنها الأصل في هذا الباب ، وهي أكثر من أن تحصى ، والمعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى ـ حكاية عن سيدنا موسى عليه‌السلام : في ميقات المناجاة ـ : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).

تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس ، وهي مسألة الرؤية ، ولم يحدّد النطق الكريم الحكم فيها ، بل ترك لذوي العقول البحث.

فكان القول بجوازها ووقوعها ، وكان القول باستحالتها وعدم وقوعها ، ولم يكن لصاحب كل قول في الآية الكريمة ما يعتمد عليه صريحا ، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة ، واللجوء إلى الدليل العقلي أخرى ، غير أن أهل السّنة نظروا إلى ظروف الآية وما سيقت لأجله ، فكانت عضدا قويا ركنوا إليه.

فالآية الكريمة تقول : لقد دعي موسى ـ عليه‌السلام ـ لمناجاتنا ، ورفعناه إلى هذا المستوى ، واتّصل بالأفق الأعلى ، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وشهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة والبراهين ، وأنزله هذه المنزلة ، ووقف في ساحة جلاله ، وحظائر قدسه ، ومساقط أنوار جماله ، وذاق حلاوة خطابه.

أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس ليجمع بين حلاوة الكلام ، وجمال الرؤية ، ويؤيّد أن الحامل لموسى ـ عليه‌السلام ـ على طلب الرؤية عوامل الشوق ، ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «جاء موسى ـ عليه‌السلام ـ ومعه السبعون رجلا ، وصعد موسى الجبل ، وبقي السبعون في أسفل الجبل ، فكلّم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيّا ، فلما سمع موسى صرير القلم ، عظم شوقه ، فقال : رب أرني أنظر إليك ، نعم ، طلبها بعامل الشوق ، وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف ، حيث جعل النظر سببا عن الرؤية ، والحال أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء ؛ التماسا لرؤيته ، فهي متأخرة عنها ؛ إذ الفرض (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) مكّنّي من رؤيتك ، فأنظر إليك وأراك ، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم ـ نعم ، أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس ، وانتظر ما يكون من أمر الله ، وقد وقع عليه عمود من الغمام ، وتغشّى الجبل جلال الرب ، وسمع النطق الكريم «و (لَنْ تَرانِي) عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس ، ولو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى ، واصطفاء الله له ، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس ، بل المتبادر إلى الذهن لن تقوى على رؤيتي وأنت على ما أنت عليه ، لتوقفها على استعداد في الرأي ، ولم يوجد في موسى ـ عليه‌السلام ـ وقت الطلب ، يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن عباس (تلا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذه الآية فقال : قال الله ـ تعالى ـ : يا موسى إني لا يراني حي إلا مات ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم). ـ

٣٧

المعتزلة : لفظ اللّقاء لا يفيد الرؤية ، لقوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)

__________________

ـ كذلك يدل على أن التأبيد المستفاد من قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال ؛ يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس وفيه يقول : (يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا ، قال موسى : رب ، إن أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا) وقد نبّه ـ جل شأنه ـ بقوله : (لَنْ تَرانِي) مع وجود المانع وهو الضعف عن تحملها ؛ حيث أراه ضعف من هو أقوى من وتفتته ، عندما تجلّى عليه الرب ، وغشية ذو الجلال والإكرام.

فكان الجبل وتماسكه ، وعاد الجبل متقوص الأركان ، ومتداخل الأجزاء ، سقيم القوام ، وكان موسى وعاد فاقد الحياة ؛ لطلب هذه الرؤية من الانكشاف وهو باق على حياله.

أفاق موسى واسترد حياته ، وقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنزهك من أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت عن الإقدام وأنا أول المؤمنين بأن لا يراك أحد في هذه النشأة ، وليس كما يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان. فكان موسى يعلم امتناعها ، وقد طلهبا وهي ممتنعة بل ثاب من طلب الرؤية بغير إذن ، وكيف لا يتوب وهو الرب صاحب الجبروت ، وهو موسى المصطفى الكليم ، وقد قيل : (حسنات الأبرار سيئات المقرّبين).

إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في غنية عن أدلة الجواز ، لكن دفعهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب ، قد يأتيها الخصم بمنع إمكان المطلوب ؛ لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع ، فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقلية والعقلية ، وكان سلوكهم بهذا الطريق كافيا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي.

ولقد كانوا على حذر من المعتزلة ، فلم يركنوا إلى القول بأن الأصل في الشيء ـ لا سيّما فيما ورد فيه الشرع ـ هو الإمكان ؛ لأن هذا إنما يحسن في مقام النظر والاستدلال ، دون المناظرة والاحتجاج ؛ كذلك لم يكن منهم في بيان الجواز أن العقل إذا خلّي ونفسه ، لم يحكم بالامتناع ؛ لأن هذا هو الإمكان الذهني ، وليس محلّ النزاع ، فالخصم يقول : العقل بعد التخلية لا يحكم بامتناع الرؤية ؛ كما تقول أهل السنة ، لكن بعد ملاحظة الدليل من كونه ـ تعالى ـ منزها عن المكان والجهة ، وليس جسما ؛ كما أنه غير مكيف بالعوارض التي هي شروط الرؤية يحكم بامتناعها ، والحق أنه يصحّ أن يكون محلّ النزاع ؛ لأن العقل إذا كان حاكما بالجواز بعد التخلية ، عملنا بالظواهر الدالة على الوقوع ، ما لم يقم دليل على الامتناع ؛ إذ لا يمكن صرف الظواهر ، ولا التوقف فيها بمجرد احتمال أنه يظهر دليل عقلي على الامتناع ، وإلا توقّف العمل بالظواهر الواردة في الأحكام الشرعية.

وإذا كفى أن عدم حكم العقل بعد التخلية كاف بالعمل بالظواهر ، وإذا ظهر أنه يصحّ أن يكون محلّا للنزاع ـ كفى في الاستدلال على الجواز أن يقال : العقل حاكم بجواز الرؤية ، وما حكم العقل به ما لم يقم دليل على بطلانه ، يجب قبوله ، وإلا لارتفع الإمكان عن العقل ، فإثبات صحة الرؤية بأدلة ذكروها مستغنى عنه ، لكن حيث ذكرت كان علينا أن نبيّن وجهة النظر في الآية الكريمة بطريق منطقي ، وهي من وجهين :

الأول : وحاصله قياس استثنائي يقرّر هكذا : لو لم تكن رؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة ، ما طلبها موسى ـ عليه‌السلام ـ من ربه ، لكنه طلبها ؛ فهي جائزة.

أما دليل الملازمة : فلأنه لو طلبها مع كونها ممتنعة ، فلا يخلو : إما أن يكون موسى ـ عليه‌السلام ـ عالما بامتناعها ، أو جاهلا به ، وكلاهما مناف لمقام نبوته ـ عليه‌السلام ـ. أما الأول : فلأن طلب المحال مع العلم بأنه محال ، يكون عبثا ، ولا شك أن العبث مما يتنزه عنه كلام العقلاء ، فضلا عن النبي المصطفى بالتكليم ، أحد أولي العزم. ـ

٣٨

[التوبة : ٧٧] ، وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ

__________________

ـ وأما الثاني : فلأنه يؤدي إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ جاهل بما يجوز عليه وما يمتنع ، ومن كان هذا شأنه ، لا يصلح للنبوة ؛ إذ المقصود من البعثة هو الدعوة إلى العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة ، فكيف يكون الجاهل بأحكام الألوهية ـ خصوصا بما يجب وما يجوز وما يمتنع ـ مكلفا من (الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) بهدآية الخلق ، ودعوتهم إلى ما يترتب عليه فلا حهم ونجاتهم. قال الشيخ السنوسي في «شرح الكبرى» : كيف يجهل موسى ـ عليه‌السلام ـ ما أدركت استحالته حثالة المعتزلة ، فلو لم يعتقد جوازها ، ما سألها ؛ إذ اعتقاد ما لا يجوز عليه ـ تعالى ـ جائزا كفر ، ومن جوز ذلك على موسى أو على أحد من الأنبياء ، فهو كافر ؛ إذ الأنبياء معصومون من الخطأ في العقائد الإلهية ، خصوصا الأوليات منها ، وموسى ـ عليه‌السلام ـ من رؤسهم كما أسلفنا ؛ إذ هو أحد أولي العزم من الرسل.

وأما دليل الاستثنائية (لكنه طلبها) : فقوله ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فلامرية لعاقل في دلالة ذلك على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه الرؤية.

لكن المعتزلة لما أحالوا رؤيته ـ تعالى ـ ؛ صرفوا الآية عن ظاهرها ، وأولوها بما يتفق ومذهبهم ، وها هي اعتراضاتهم مع الرد عليها :

الاعتراض الأول :

قالوا لا تسلم أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه الرؤية ، وإنما سأله علما ضروريا ، وليس في الآية ما يدل على سؤالها ، وما يستأنس به من لفظ الرؤية فالمراد منه : العلم الضروري لا حقيقة الرؤية ، ولا ضير في ذلك ، وأن العلم الضروري لا زم للرؤية ، وإطلاق الملزوم على اللازم شائع كثير ، سيما أرى بمعنى : أعلم ، ورأى بمعنى : علم ، ويكون المعنى على هذا من قوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ :) رب اجعلني عالما بك علما ضروريا ، ففي هذا الاعتراض منع للاستثنائية بمنع دليلها ، وهذا منسوب إلى أبي الهذيل العلاف ، وتبعه الجبائي وأكثر البصريين.

وأجيب عن هذا الاعتراض.

أولا : لا نسلم أن الرؤية في الآية بمعنى العلم الضروري ، وإلا كان النظر المترتب عليها بمعناها أيضا ، والنظر وإن جاز استعماله بمعنى العلم الضروري ، لكنه في هذا المقام ممتنع لغة ؛ إذ لم ينقل النظر الموصول ب «إلى» إلا بمعنى الرؤية ، وما قيل من أن الدليل هو استحالتها ، فمردود بما سنجيئه من الأدلة الدالة على جوازها ـ إن شاء الله ـ.

ثانيا : لو صح حمل الرؤية على العلم الضروري ، للزم أن يكون موسى النبي المصطفى بالتكليم غير عالم بربه علما ضروريا ؛ إذ السؤال عن الشيء إنما يكون عند الجهل به ، وكيف يتصور ممن يدعو الخلق إلى عبادة ربهم أن يكون جاهلا به ، وأيضا : فإن خطابه لربه يقتضي أن يكون معلوما له بوجه ما ، فإن أريد بالعلم المدعى لزومه للرؤية العلم بالهوية الخاصة ، قلنا : إنه يتناقض مع دعواهم ؛ إذ العلم بالهوية الخاصة ، بمعنى : الانكشاف التام لا يكون إلا بالمشاهدة والقيامة ؛ كما هو شأن جميع الجزئيات الحقيقية ، وأي عاقل يقول بلزوم مثل هذا العلم للرؤية؟ مع أننا لو سلمنا لزومه للرؤية ، لوجب أن تؤل الرؤية به ، وحينئذ لا يصح قول المعتزلة ، بل يجوز بها عن العلم الضروري ؛ لأنه لا زمها.

ثالثا : لو كانت الرؤية في قوله ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بمعنى العلم الضروري كما يقولون ، فإما أن يكون الجواب بقوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَرانِي) نفيا للعلم الضروري ، أو للرؤية ، فإن كان الأول ، لزم أن يكون المعنى في ذلك : لن تعلم بي علما ضروريا ، وهو بديهي البطلان ، وإن كان الثاني ، لم يصلح أن يكون نفي الرؤية جوابا عن سؤال العلم الضروري وكيف يستقيم هذا جوابا في كلام البشر ، ـ

٣٩

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] وهو يتناول المؤمن والكافر ، والرؤية لا تثبت

__________________

ـ فضلا عن القرآن الكريم الذي بلغ حد الإعجاز.

الاعتراض الثاني :

وهو منع الاستثنائية أيضا ـ أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يسأل رؤية ذاته ، بل سأله رؤية أمارة وعلامة من الأمارات الدالة على الساعة ، ومعنى الآية : أرني أمارة وعلامة من علاماتك ، أنظر إلى علاماتك على حد قوله ـ تعالى ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي : واسأل أهل القرية ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه ، وهذا تأويل لا يسيغه عقل سليم ، فهو أولا : مخالف للظاهر بلا ضرورة.

ثانيا : الجواب ب (لن تراني) إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه ؛ من رؤية الأمارة والعلامة ، فلقد أراه أعظم الآيات والعلامات ؛ وهي تدكك الجبل. وإن كان محمولا على نفي رؤية ذاته ، لم يكن الجواب مطابقا للسؤال ، وهذا لا يتفق وبلاغة القرآن.

ثالثا : الرؤية المعلقة على الاستقرار ، إن كانت محمولة على الآية والعلامة ، فباطل ؛ لأن الآية والعلامة في تدكك الجبل لا في استقراره ، وإن كانت محمولة على الرؤية ، فلا تكون مرتبطة بالسؤال.

رابعا : لو كان السؤال على رؤية آية تدل على قيام الساعة ، لأعطاه تلك الآية ؛ كما أعطاه غيرها ؛ إذ لا مانع لمنعه من ذلك ، كيف وقد أعطاه من الآيات ما لا غاية بعدها ؛ كالعصا ، واليد ، والطوفان ، وغير ذلك ؛ وبالجملة فهذا التأويل لا وجه له.

الاعتراض الثالث :

وهو منع الملازمة ولو لم تكن الرؤية جائزة ، ما طلبها.

قالوا : إن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه رؤية ذاته ، وليس في ذلك ما يدل على إمكانها ؛ لأنه لم يسأل لنفسه ؛ لعلمه بامتناعها ، بل سألها لقومه عندما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فسألها ربه وهو عالم بأنه سيمنع منها ، وإنما نسبه لنفسه ، ليمنع هو منها ، فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى ، وفي هذا مبالغة بقطع دابر اقتراحهم ، كما أن أخذ الصاعقة لهم عقب سؤالها دليل ظاهر على استحالتها.

وأجيب على هذا الاعتراض بعدة أجوبة.

أولا : أن الآية صريحة في أنه طلبها لنفسه لا لقومه ، وإلا يقال : أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله تعالى : لن يروني ، فالعدول عن ذلك خلاف الظاهر ، ولا دليل يدل عليه.

ثانيا : لو كان الغرض من السؤال إظهار امتناعها لهم كما يقول المعتزلة ، لكان الأليق في الجواب أن يكون بما يدل على الامتناع ، وليس كذلك ، فإن (لَنْ تَرانِي) إنما يدل على نفي الوقوع للمخاطب ، لا على نفي الإمكان.

ثالثا : لو كان الغرص من سؤال موسى ـ عليه‌السلام ـ الرؤية زجر القوم وردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى ، لكان موسى عليه‌السلام عابثا في طلبه هذا ؛ لأنهم زجروا عن طلبها حين قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) بأخذ الصاعقة لهم ، فتبينوا امتناعها ، فيكون قول موسى عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سؤالا لنفسه لا لقومه ، على أن هذا السؤال ليس بمفيد لهم ؛ لأن هؤلاء إن كانوا مؤمنين ، كفاهم قول موسى : إنها ممتنعة ، بل كان الواجب عليه أن يزجرهم ويردعهم عن طلب ما لا يليق بجلال الباري ـ تعالى ـ ، كما هو شأنه ؛ فقد قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) حينما قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) وإن كانوا كافرين معاندين منكرين ، لم يكفهم قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : إنه ـ تعالى ـ أخبر بامتناعها ، بل هذا قول افتريته على الله ـ تعالى ـ وكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم الأخبار المؤيدة بالمعجزات الباهرة ، والتعليل بأنه يجوز أن يسمعوا كلام الله بآذانهم ، ويكون هناك ـ

٤٠