اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

على الأظهر كما تقدم ، فيلزم الفصل به بين العامل ـ وهو «فتح» وبين معموله ـ وهو عند ربك ـ وذلك لا يجوز ؛ لأنه أجنبي منهما.

قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) في هذه الجملة قولان :

أحدهما : أنها مندرجة في حيّز القول ، أي : إذا خلا بعضهم ببعض قالوا لهم : أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وصرتم محجوجين به ، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق ، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم ، فعلى هذا محلها النصب.

والثاني : أنها من خطاب الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ، وكأنه قدح في إيمانهم ، لقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] قاله الحسن.

فعلى هذا لا محلّ له ، ومفعول «تعقلون» يجوز أن يكون مرادا ، ويجوز ألّا يكون.

قوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ) تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة ؛ لأنها عاطفة ، وإنما أخرت عنها ، لقوة همزة الاستفهام ، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و «لا» للنفي.

و (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) في محلّ نصب وفيها ـ حينئذ ـ تقديران :

أحدهما : أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا «علم» بمعنى «عرف».

والثاني : أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك «ظننت» ، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور ، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول ، والثاني محذوف. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، وعائدها محذوف ، أي : ما يسرونه ويعلنونه ، وأن تكون مصدرية ، أي : يعلم سرهم وعلانيتهم. [والسر](١) والعلانية يتقابلان.

وقرأ ابن محيصن (٢) «تسرون» و «تعلنون» بالتاء على الخطاب.

فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر

في الآية قولان :

الأول : وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية ، فخوّفهم به.

والثاني : أنهم ما علموا بذلك ، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا ، فيعرفوا أن

__________________

(١) في أ : والسرية.

(٢) وهي قراءة أبي حيوة ، ولكن الذي ذكره صاحبا المحرر والبحر أن القراءة بتخفيف الميم لا الياء.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٤٢ ، وما ذكره المصنف هنا مناسب لما في الدر المصون : ١ / ٢٦٨.

٢٠١

ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم ، وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زجر لهم عن النفاق ، وعن وصية بعضهم بعضا بكتمان دلائل نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك ؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر : أو لا يعلم كيف وكيت ، إلّا وهو عالم بذلك الشيء ، ويكون ذلك زاجرا له عن ذلك الفعل.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور

قال القاضي : الآية تدلّ على أمور منها :

أنه ـ تعالى ـ إن كان هو الخالق لأفعال العباد ، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال ، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين.

ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرما.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف اليهود بالعناد ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم ، فالفرقة الأولى هي الضّالة المضلّة ، وهم الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه.

والفرقة الثانية : المنافقون.

والفرقة الثالثة : الذين يجادلون المنافقين.

والفرقة الرابعة : هم المذكورون هنا ، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة ، ولا الكتابة ، وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم ، فبين الله ـ تعالى ـ أن الممتنعين عن الإيمان ليس سبب ذلك واحدا ، بل لكل قسم سبب.

وقال بعضهم : هم بعض اليهود والمنافقين.

وقال عكرمة والضّحاك : «هم نصارى العرب».

وقيل : «هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا آمنين». وعن علي ـ رضي الله عنه ـ هم المجوس.

قوله : (مِنْهُمْ) خبر مقدم ، فيتعلّق بمحذوف. و «أمّيون» مبتدأ مؤخر ، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلا بالظرف قبله ، وإن لم يعتمد.

وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم.

٢٠٢

و «أمّيّون» جمع «أمّي» وهو من لا يكتب ولا يقرأ.

واختلف في نسبته فقيل : إلى «الأمّ» وفيه معنيان :

أحدهما : أنه بحال أمّة التي ولدته من عدم معرفة الكتابة ، وليس مثل أبيه ؛ لأن النساء ليس من شغلهن الكتابة.

والثاني : أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها ، ولم ينتقل.

وقيل : نسب إلى «الأمّة» وهي القامة والخلقة ، بمعنى أنه ليس له من النّاس إلا ذلك.

وقيل : نسب إلى «الأمّة» على سذاجتها قبل أن يعرف الأشياء ، كقولهم : عامي أي : على عادة العامة.

وعن ابن عبّاس : «قيل لهم : أميون ؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب».

وقال أبو عبيدة : «قيل لهم : أميون ، لإنزال الكتاب عليهم ، كأنهم نسبوا لأم الكتاب».

وقرأ ابن أبي عبلة (١) : «أمّيون» بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين.

وقيل : الأمي : من لا يقرّ بكتاب ولا رسول.

قوله : (لا يَعْلَمُونَ) جملة فعلية في محلّ رفع صفة ل «أميون» ، كأنه قيل : أميون غير عالمين.

قوله : (إِلَّا أَمانِيَّ) هذا استثناء منقطع ؛ لأن «الأماني» ليست من جنس «الكتاب» ، ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهذا هو المنقطع ، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما ، كقوله: (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] وقول النّابغة : [الطويل]

٦٠١ ـ حلفت يمينا غير ذي مثنويّة

ولا علم إلّا حسن ظنّ بصاحب (٢)

لأن بذكر العلم استحضر الظن ، ولهذا لا يجوز : صهلت الخيل إلّا حمارا.

واعلم أن المنقطع على ضربين : ضرب يصحّ توجه العامل عليه ، نحو : جاء القوم إلّا حمارا. وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة : «ما زاد إلا ما نقص» ، و «ما نفع إلا ما ضر» فالأول فيه لغتان : لغة «الحجاز» وجوب نصبه ، ولغة «تميم» أنه كالمتّصل ، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع.

__________________

(١) وبها قرأ شيبة ، والأعرج ، وابن جماز عن نافع ، وهارون عن أبي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٤٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٩ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨ ، ٣٩٩ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٢.

(٢) ينظر ديوانه : ص ٤١ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٣٢٣ ، ٣٣٠ ، ، ٦ / ٨٩. وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٥١ ، والكتاب : ٢ / ٣٢٢ ، واللمع في العربية : ص ١٥١ ، والخصائص : ٢ / ٢٢٨. والدر : ١ / ٢٦٨.

٢٠٣

والآية الكريمة من الضرب الأول ، فيحتمل في نصبها وجهان :

أحدهما : على الاستثناء المنقطع.

والثاني : أنه بدل من «الكتاب».

و «إلّا» في المنقطع تقدر عند البصريين ب «لكنّ» ، وعند الكونفيين ب «بل» ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل محذوف ، فإنه قال : «إلا أماني» استثناء منقطع ؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم ، وتقدير «إلّا» في مثل هذا ب «لكن» أي : لكن يتمنونه أماني ، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع ، فيصير نظير : «ما علمت إلا ظنّا». [وفيه نظر].

الأماني جمع «أمنيّة» بتشديد الياء فيها.

وقال أبو البقاء : «يجوز تخفيفها فيها».

وقرأ أبو جعفر (١) بتخفيفها ، حذف إحدى الياءين تخفيفا.

قال الأخفش : «هذا كما يقال في جمع مفتاح : مفاتح ومفاتيح».

قال النّحّاس : «الحذف في المعتلّ أكثر» ؛ وأنشد قول النابغة : [الطويل]

٦٠٢ ـ وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافي والرّسوم البلاقع (٢)

وقال أبو حاتم : «كلّ ما جاء واحده مشددا من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان». وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش.

ووزن «أمنية» : «أفعولة» من تمنّى (٣) يتمنّى : إذا تلا وقرأ ؛ قال : [الطويل]

٦٠٣ ـ تمنّى كتاب الله آخر ليله

تمنّي داود الزّبور على رسل (٤)

وقال كعب بن مالك : [الطويل]

٦٠٤ ـ تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر (٥)

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٤١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨.

(٢) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص (١٢٧٤) وليس للنابغة ، وخزانة الأدب : ١ / ٢١٣ ، والدرر : ٦ / ٢٠١ ، ولسان العرب (خمس) ، والأشباه والنظائر : ٥ / ١٢٢ ، ٢٨٠ ، وإصلاح المنطق : ص ٣٠٣ ، وجواهر الأدب : ص ٣١٧ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٣٠٨ ، وشرح المفصل : ٢ / ١٢٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ١ / ٣٥٨ ، وتذكرة النحاة : ص ٣٤٤ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٨٧ ، والمقتضب : ٢ / ١٧٦ ، ٤ / ١٤٤ ، والمنصف : ١ / ٦٤ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٥٠ ، والدر : ١ / ٢٦٩.

(٣) في ب : تمنى.

(٤) ينظر القرطبي : (٢ / ٦) ، اللسان (منى) ، الكشاف : (١ / ١٥٧) ، مجمع البيان : (١ / ٣٢٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٩).

(٥) ينظر القرطبي : (١ / ٦) ، المحرر الوجيز : (١ / ٣٣٠) ، مجمع البيان : (١ / ٣٢٢) ، اللسان (منى) ، والدر : ١ / ٢٦٩.

٢٠٤

وقال تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] أي : قرأ وتلا.

والأصل على هذا : «أمنوية» فأعلت إعلال «ميت» و «سيد» وقد تقدم.

وقيل : الأمنية : الكذب والاختلاق.

قال أعرابي لابن دأب (١) في شيء يحدث به : أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي : اختلقته.

وقيل : ما يتمنّاه الإنسان ويشتهيه.

وقيل : ما يقدره ويحزره من منّى : إذا كذب ، أو تمنى ، أو قدر ؛ كقوله : [البسيط]

٦٠٥ ـ لا تأمننّ وإن أمسيت في حرم

حتّى تلاقي ما يمني لك الماني (٢)

أي : يقدر لك المقدر.

قال الراغب : والمني : التقدير ، ومنه «المنا» الذي يوزن به ، ومنه «المنية» وهو الأجل المقدر للحيوان ، «والتّمنّي» : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين ، وقد يكون بناء على رويّة وأصل ، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له ، فأكثر التمني تصوّر ما لا حقيقة له [والأمنية : الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء](٣). ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه.

ومنه قوله عثمان : «ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت» (٤).

وقال الزمخشري (٥) : والاشتقاق من منّى : إذا قدّر ؛ لأن المتمني يقدّر في نفسه ، ويحزر ما يتمناه ، وكذلك المختلق ، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا ، فجعل بين هذه المعاني قدرا مشتركا وهو واضح.

__________________

(١) عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الليثي البكري الكناني ، أبو الوليد : خطيب ، شاعر ، عالم بالأنساب ، راوية من أهل المدينة ، اشتهر بأخباره مع المهدي العباسي. وحظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد.

قال ابن قتيبة : له عقب بالبصرة ، وكان أبوه «يزيد» عالما أيضا بأخبار العرب وأشعارها ، والأغلب على آل دأب الأخبار.

توفي سنة ١٧١ ه‍.

انظر إرشاد الأريب : ٦ / ١٠٤ ، البيان والتبيين : ١ / ٣٠ ، لسان الميزان : ٤ / ٤٠٨ ، التاج : ١ / ٢٤٢ ، الأعلام : ٥ / ١١١.

(٢) البيت لسويد بن عامر. ينظر اللسان والتاج (منى) ، القرطبي : (٢ / ٦) ، الدر المصون : ١ / ٢٦٩.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه ابن ماجه في السنن (١ / ١١٣) كتاب الطهارة باب كراهة مسّ الذكر باليمين والاستنجاء باليمين حديث رقم (٣١١) عن عثمان بن عفان بلفظه.

(٥) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٧.

٢٠٥

وقال أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى بقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) [البقرة : ١١١].

وقال الأكثرون : حمله على القراءة أليق ؛ لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلّق ، فكأنه قال : لا يعلمون الكتاب إلّا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ، ثم إنّهم لا يتمكّنون من التدبّر والتأمل ، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادرا.

قوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «إن» نافية بمعنى «ما» وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل «ما» الحجازية.

وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه ، وأنشد : [المنسرح]

٦٠٦ ـ إن هو مستوليا على أحد

إلّا على أضعف المجانين (١)

«هو» اسمها ، و «مستوليا» خبرها.

فقوله : «هم» في محل رفع الابتداء لا اسم «إن» لأنها لم تعمل على المشهور ، و «إلا» للاستثناء المفرغ ، ويظنون في محلّ الرفع خبرا لقوله «هم».

وحذف مفعولي الظّن للعلم بهما واقتصارا ، وهي مسألة خلاف.

فصل في بطلان التقليد في الأصول

الآية تدلّ على بطلان التقليد.

قال ابن الخطيب : وهو مشكل ؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا (٢).

قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) «ويل» مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة ، لأنه دعاء عليهم ، والدعاء من المسوغات ، سواء كان دعاء له نحو : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أو دعاء عليه كهذه الآية ، والجار بعده الخبر ، فيتعلّق بمحذوف.

وقال أبو البقاء : ولو نصب لكان له وجه على تقدير : ألزمهم الله ويلا ، واللام

__________________

(١) ينظر الأزهية : ص ٤٦ ، وأوضح المسالك : ١ / ٢٩١ ، وتخليص الشواهد : ص ٣٠٦ ، وخزانة الأدب : ٤ / ١٦٦ ، والدرر : ٢ / ١٠٨ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ١١٣ ، والمقرب : ١ / ١٠٥ ، وشرح التصريح : ١ / ٢٠١ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٢٦ ، وشرح ابن عقيل : ص ١٦٠ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٢١٦ ، والجنى الداني : ص ٢٠٩ ، ورصف المباني : ص ١٠٨ ، وجواهر الأدب : ص ٢٠٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٢٥ ، والدر : ١ / ٢٧٠

(٢) ينظر المستصفى : ٢ / ٣٨٧ اللمع : (٧) جمع الجوامع : ٢ / ٣٩٢ شرح الكوكب : (٦١٦) البرهان : ٢ / ١٣٥٧ المنخول : ٤٧٢ الإحكام للآمدي : ٤ / ١٩٢ المنتهى : (١٦٣) شرح العضد : ١ / ٣٠٥ ، إرشاد الفحول : (٢٦٥) نشر البنود : ٢ / ٣٣٥ ، تيسير التحرير : ٤ / ٢٤٢ المسودة : (٤٦٢) فواتح الرحموت : ٢ / ٤٠٠ ميزان الأصول : ٢ / ٩٤٩.

٢٠٦

للتبيين ؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني : أن اللام بعد المنصوب للبيان ، فيتعلّق بمحذوف. وقوله : لأن الاسم لم يذكر قبل ، يعني أنه لو ذكر قبل «ويل» فقلت : «ألزم الله زيدا ويلا» لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة ؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب ، فإنه قال : ويجوز النصب على إضمار فعل أي : ألزمهم الله ويلا.

واعلم أن «ويلا» وأخواته وهي : «ويح» و «ويس» و «ويب» و «ويه» و «ويك» و «عول» من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها ، وتلك الأفعال واجبة الإضمار ، لا يجوز إظهارها ألبتة ؛ لأنها جعلت بدلا من اللفظ بالفعل ، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحو : «ويل له» وإن أضيف نصب على ما تقدم ، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قطعه عن الإضافة ، فإنه قال : فإذا أدخلت اللّام رفعت فقلت : «ويل له» و «ويح له» كأنه يريد على الأكثر ، ولم يستعمل العرب منه فعلا ؛ لاعتلال عينه وفائه. وقد حكى ابن عرفة (١) : «تويّل الرجل» إذا دعا بالويل. وهذا لا يرد ؛ لأنه مثل قولهم : سوّفت ولوليت إذا قلت له : سوف ولو.

ومعنى الويل : شدة الشر ، قاله الخليل.

وقال الأصمعيّ : الويل : التفجّع ، والويح : الترحم.

وقال سيبويه (٢) : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك.

وقيل : الويل : الحزن.

وهل «ويل وويح وويس وويب» بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه ، وقد تقدم ما فرق به سيبويه في بعضها.

وقال قوم : «ويل» في الدعاء عليه ، و «ويح» وما بعده ترحم عليه.

وزعم الفراء أنّ أصل «ويل» : وي ، أي : حزن ، كما تقول : وي لفلان أي حزن له ، فوصلته العرب باللّام ، وقدرت أنها منه فأعربوها ، وهذا غريب جدّا.

ويقال : ويل وويلة.

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

__________________

(١) إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي ، أبو عبد الله ، من أحفاد المهلب بن أبي صفرة إمام في النحو ، وكان فقيها ولد في ٢٤٤ ه‍ قال ابن حجر : جالس الملوك والوزراء ، وأتقن حفظ السيرة ووفيات العلماء ، مع المروءة والفتوة والظرف له كتب منها كتاب التاريخ ، غريب القرآن ، كتاب الوزراء ، أمثال القرآن توفي ٣٢٣ ه‍.

ينظر وفيات الأعيان : ١ / ١١ ، نزهة الألبا : ٣٢٦ ، لسان الميزان : ١ / ١٠٩ ، تاريخ بغداد : ٦ / ١٥٩ ، إنباه الرواة : ١ / ١٧٦ ، الأعلام : ١ / ٦١.

(٢) ينظر الكتاب : ١ / ١٦٧.

٢٠٧

٦٠٧ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ عامر (١)

لديه (٢) ولا البسباسة ابنة يشكرا (٣)

وقال أيضا : [الطويل]

٦٠٨ ـ ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت : لك الويلات إنّك مرجلي (٤)

ف «ويلات» جمع «ويلة» لا جمع «ويل» كما زعم ابن عطية ؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس.

قال ابن عباس رضي الله عنه : «الويل العذاب الأليم» (٥) ، وعن سفيان الثورى أنه قال: «صديد أهل جهنم». [وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» (٦)](٧).

وقال سعيد بن المسيب : «واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره» (٨).

وقال ابن يزيد : «جبل من قيح ودم».

وقيل : صهريج في جهنم.

وحكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جهنّم.

وعن ابن عباس : الويل المشقّة من العذاب.

وقيل : ما تقدم في اللغة.

قوله : «بأيديهم» متعلّق ب «يكتبون» ، ويبعد جعله حالا من «الكتاب» ، والكتاب ـ هنا ـ بمعنى المكتوب ، فنصبه على المفعول به ، ويبعد جعله مصدرا على بابه ، وهذا من باب التأكيد ، فإن [الكتابة](٩) لا [تكون](١٠) بغير اليد ، [ونظيره](١١) : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ

__________________

(١) في ب : هاشم.

(٢) في ب : قريب.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٦٨ ، لسان العرب (قرب) ، الأشباه والنظائر : ٥ / ٢٣٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٠.

(٤) ينظر ديوانه : ١١ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٣٤٥ ، شرح المعلقات للتبريزي : (٧٠) ، والشنقيطي : (٦٠) ، وشرح التصريح : ٢ / ٢٢٧ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٧٦٦ ، المقاصد النحوية : ٤ / ٣٧٤ ، وأوضح المسالك : ٤ / ١٣٦ ، شرح الأشموني : ٢ / ٥٤١ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٣٤٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٧١.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٦٧) عن ابن عباس.

(٦) أخرجه أحمد (٣ / ٧٥) والترمذي (٣١٦٤) والحاكم (٤ / ٥٩٦) وعبد بن حميد في «المنتخب» (٩٢٤) وابن حبان (٢٦١٠ ـ موارد) وأبو يعلى (١٣٨٣).

وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وو افقه الذهبي.

(٧) سقط في ب.

(٨) ذكره الرازي في تفسيره : ٣ / ١٢٨.

(٩) في ب : الكتاب.

(١٠) في ب : يكون.

(١١) في ب : ونحوه.

٢٠٨

بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧].

وقيل : فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم ، فإنّ قولهم : فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره ، نحو : «بنى الأمير المدينة» فأتى بذلك رفعا لهذا المجاز.

وقيل : فائدة [ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم ، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته](١) بيان جرأتهم ومجاهرتهم ، فإن المباشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره.

وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز.

وقال ابن السراج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، وهذا الذي قاله لا يلزم.

والأيدي : جمع «يد» ، والأصل : أيدي بضم الدال ك «فلس وأفلس» في القلّة ، فاستثقلت الضمة قبل الياء ، فقلبت كسرة للتجانس ، نحو : «بيض» جمع «أبيض» ، والأصل «بيض» بضم الباء ك «حمر» جمع «أحمر» ، وهذا رأي سيبويه ، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة ، ومذهب الأخفش عكسه ، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر «معيشة» إن شاء الله تعالى.

وأصل «يد» : يدي ـ بسكون العين.

وقيل : يدي ـ بتحريكها ـ فتحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، فصار : يدا ك «رحى» ، وعليه التثنية : يديان [وعليه أيضا قوله : [الرجز]

٦٠٩ ـ يا ربّ سار بات ما توسّدا

إلّا ذراع العنز أو كفّ اليدا (٢)](٣)

[والمشهور في تثنيتها عدم ردّ لامها ، قال تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) [المسد : ١] وقد شذّ الردّ في قوله : يديان ؛ قال : [الكامل]

٦١٠ ـ يديان بيضاوان عند محلّم

قد يمنعانك أن تضام وتقهرا (٤)

و «أياد» جمع الجمع ، نحو : كلب وأكلب وأكالب ، ولا بد في قوله : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) من حذف يصح معه المعنى ، فقدره الزمخشري : «يكتبون الكتاب المحرف» ، وقدره غيره حالا من الكتاب تقديره : ويكتبون الكتاب محرفا ، وإنما [أحوج](٥) إلى هذا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر شرح المفصل لابن يعيش : ٤ / ١٥٢ ، الدرر : ١ / ١٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٧١.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر تذكرة النحاة : ص ١٤٣ ، خزانة الأدب : ٧ / ٤٨٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٢ / ٦٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٧١.

(٥) في أ : أخرج.

٢٠٩

الإضمار ؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب الكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره.

قوله : (لِيَشْتَرُوا) اللام : لام كي ، وقد تقدمت ، والضمير في «به» يعود على ما أشاروا إليه بقوله (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

و «ثمنا» مفعوله.

وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] فليلتفت إليه ، واللّام متعلقة ب «يقولون» أي : يقولون ذلك لأجل الاشتراء.

وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قوله : (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) متعلّق ب «ويل» أو بالاستقرار في الخبر.

و «من» للتعليل و «ما» موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة.

والأول أقوى ، والعائد أيضا محذوف أي : كتبته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : من كتبهم.

و «ويل لهم ممّا يكسبون» مثل ما تقدم قبله ، وإنما كرر الويل ؛ ليفيد أن الهلكة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حدته لا بمجموع الأمرين ، وإنا قدم قوله : «كتبت» على «يكسبون» ؛ لأن الكتابة مقدمة ، فنتيجتها كسب المال ، فالكتب سبب والكسب مسبب ، فجاء النظم على هذا.

فصل في سبب هذا الوعيد

هذا الوعيد مرتّب على أمرين : على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال ، وعلى أن المكتوب من عند الله ، فالجمع بينهما منكر عظيم.

وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تنبيه على أمرين :

الأول : أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم ؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة.

والثاني : إنما فعلوا ذلك طلبا للمال والجاه ، وهذا يدلّ على أن أخذ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو محرّم ؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا.

وقوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) دليل على أخذهم المال عليه ، فلذلك كرر [ذكر](١) الويل.

واختلفوا في قوله : (يَكْسِبُونَ) هل المراد سائر معاصيهم ، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟

__________________

(١) سقط في ب.

٢١٠

والأقرب في نظم الكلام أنه راجع إلى الكسب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف ، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل.

فصل في الرد على المعتزلة

قال القاضي : دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقا لله ـ تعالى ـ لأنها لو كانت خلقا لله ـ تعالى ـ لكانت إضافتها إليه ـ تعالى ـ بقولهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) حقيقة ؛ لأنه ـ تعالى ـ إذا خلقها فيهم فهب أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب ، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله ـ تعالى ـ أولى من إسنادها إلى العبد ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها : إنها من عند الله ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى.

والجواب : أنّ الداعية الموجبة لها من خلق الله كما تقدم في مسألة الداعي.

فصل

يروى أن أحبار اليهود خافوا ذهاب كلمتهم ومآكلهم وزوال رياستهم حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المدينة» فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان ، فعمدوا إلى صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة فغيّروها ، وكان صفته فيها حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ربعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلا أزرق سبط الشعر ، فإذا سألهم سفلتهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرءوا ما كتبوه عليهم ، فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه (١).

وقال أبو مالك : نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيغير ما يملي عليه.

روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلا كان يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قد قرأ «البقرة» و «آل عمران» وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا (غَفُوراً رَحِيماً) فكتب (عَلِيماً حَكِيماً) فيقول له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب كيف شئت» قال : فارتد ذلك الرجل عن الإسلام ، ولحق بالمشركين فقال : أنا أعلمكم بمحمد إنّي كنت أكتب ما شئت ، فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الأرض لا تقبله» (٢) قال : فأخبرني أبو طلحة : أنه أتى الأرض التي مات فيها ، فوجده منبوذا.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا كما ذكره الحافظ السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٥٩).

(٢) أخرجه البخاري في «المناقب» (٣٦١٧) باب علامات النبوة في الإسلام ومسلم بنحوه (٢٧٨١) باب صفات المنافقين وابن حبان (١٥٢١ ـ موارد) وأحمد (٣ / ٢٢٢) والطيالسي (٢ / ٥) رقم (١٩٠٠) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٤ / ٢٤٠) وأبو يعلى (٧ / ٢٢ ـ ٢٣) عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢٩٦ ـ ١٢٩٧) عن عمران بن حصين بلفظ : إن الأرض لتقبل من هو شر منه ، ولكن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله.

٢١١

قال أبو طلحة : ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مرارا فلم تقبله الأرض.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٠)

فقوله : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) استثناء مفرّغ ، و «أيّاما» منصوب على الظرف بالفعل قبله ، والتقدير : لن تمّسنا النار أبدا إلّا أياما قلائل يحصرها العدّ ؛ لأن العد يحصر القليل ، وأصل : «أيّام» : أيوام ؛ لأنه جمع يوم ، نحو : «قوم وأقوام» ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فوجب قلب الواو ياء ، وإدغام الياء في الياء مثل : «هيّن وميّت».

فصل

ذكروا في الأيام المعدودة وجهين :

الأول : أن لفظة الأيام [لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها ، ولا تضاف إلى ما فوقها ، فيقال : أيام خمسة ، وأيام عشرة ، ولا يقال : أيام أحد عشر. إلّا أن هذا](١) يشكل بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] إلى أن قال : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤] وهي أيام الشهر كله ، وهي أزيد من العشرة.

قال القاضي : إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها ، فالأشبه أن يقال : إنه الأقل أو الأكثر ؛ لأن من يقول ثلاثة يقول : أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ، ومن يقول : عشرة يقول : أحمله على الأكثر وله وجه.

فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له ؛ لأنه ليس عدد أولى من عدد ، اللهم إلا إن جاءت في تقديرها رواية صحيحة ، فحينئذ يجب القول بها.

روي عن ابن عباس ومجاهد : أن اليهود كانت تقول : «الدنيا سبعة آلاف سنة ، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوما واحدا» (٢).

وحكى الأصم عن بعض اليهود : أنهم عبدوا العجل سبعة أيام.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : أنه قدر هذه الأيام بالأربعين (٣) ، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها ، وهي مدّة غيبة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عنهم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري (٢ / ٧٧) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٦ / ٣١٧) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٦٣) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن ابن عباس موقوفا وأخرجه عبد بن حميد عن مجاهد مثله كما في «الدر المنثور» (١ / ١٦٣).

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٧٥).

٢١٢

وقال الحسن وأبو العالية : قالت اليهود : إن ربنا عتب علينا في أمرنا ، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوما ، فلن تمسّنا النار إلّا أربعين يوما تحلّة القسم ، فكذبهم الله ـ تعالى ـ بقوله تعالى : (قُلْ : أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً)(١).

وقالت طائفة : إن اليهود قالت في التوراة : إنّ جهنم مسيرة أربعين سنة ، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها ، وتذهب جهنّم. رواه الضّحاك عن ابن عباس (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزّقوم ، فتذهب جهنم وتهلك (٣).

فإن قيل : «وقالوا : لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة» وقال في مكان آخر : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤] والموصوف في المكانين واحد وهو «أيام».

فالجواب : أن الاسم إن كان مذكرا ، فالأصل في صفة جمعه التاء ، يقال : كوز وكيزان مكسورة ، وثياب مقطوعة ، وإن كان مؤنثا كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال : جرّة وجرار مكسورات ، وخابية وخوابي مكسورات ، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور ، وعلى هذا ورد قوله : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] ، و (أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الحج : ٢٨].

فصل في مدة الحيض

ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحيض ثلاثة (٤) أيام ، وأكثره عشرة ، واحتجو بقوله عليه

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٧٩) عن قتادة ومجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥) عن الضحاك عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري (٢ / ٧٥ ـ ٢٧٦) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٦٣) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن ابن عباس.

(٤) وأصله : السيلان ، قال الجوهري : حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ؛ فهي حائض وحائضة أيضا ، ذكره ابن الأثير وغيره ، واستحيضت المرأة : استمرّ بها الدم بعد أيامها ، فهي مستحاضة ، وتحيّضت ، أي : قعدت أيام حيضها عن الصلاة. وقال أبو القاسم الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة» : ومن المجاز : حاضت السّمرة : إذا خرج منها شبه الدم.

ينظر لسان العرب : ٢ / ١٠٧٠ ، ترتيب القاموس : ٧٥٠.

واصطلاحا : عرفه الشافعية بأنه : الدم الخارج في سن الحيض ، وهو تسع سنين قمرية فأكثر ، من فرج المرأة على سبيل الصحة.

عرفه المالكية بأنه : دم كصفرة أو كدرة ، خرج بنفسه من قبل من تحمل عادة.

وعرفه الحنفية بأنه : دم ينفضه رحم امرأة سالمة عن داء.

وعرفه الحنابلة بأنه : دم جبلة يخرج من المرأة البالغة في أوقات معلومة.

ينظر حاشية البيجوري : ١ / ١١٢ ، الاختيار : ١ / ٢٦ ، المبدع : ١ / ٢٥٨ ، أنيس الفقهاء : ص (٦٣) ، حاشية الدسوقي : ١ / ١٦٧.

٢١٣

الصلاة والسلام : «دعي الصّلاة أيّام أقرائك» (١) فمدّة الحيض تسمى أياما ، وأقلّ عدد يسمى أياما ثلاثة ، وأكثره عشرة على ما بيّنا ، وعليه الإشكال المتقدم.

قوله : (أَتَّخَذْتُمْ) الهمزة للاستفهام ، ومعناها الإنكار والتّقريع ، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على «أتخذتم» كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) [سبأ : ٨] (أَصْطَفَى) [الصافات : ١٥٣] وبابه. وقد تقدم القول في تصريف «أتّخذتم» وخلاف أبي علي فيها.

ويحتمل أن تكون هنا لواحد.

وقال أبو البقاء : وهو بمعنى «جعلتم» المتعدية لواحد.

ولا حاجة إلى جعلها بمعنى «جعل» لتعديها لواحد ، بل المعنى : هل أخذتم من الله عهدا؟ ويحتمل أن يتعدّى لاثنين ، الأول «عهد» ، والثاني «عند الله» مقدما عليه ، فعلى الأول يتعلّق «عند الله» ب «اتّخذتم».

وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف.

ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام «قل» قبلها ، فتفتح وتحذف الهمزة.

وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية ورش عنه.

قوله : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ) هذا جواب الاستفهام المتقدم في قوله : (أَتَّخَذْتُمْ).

وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط ، أو بطريق إضمار الشّرط بعد الاستفهام وأخواته؟

قولان [تقدم تحقيقهما](٢) واختار الزمخشري القول الثاني ، فإنه قال : (فَلَنْ يُخْلِفَ) متعلّق بمحذوف تقديره : إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده.

وقال ابن عطية : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) : اعتراض بين أثناء الكلام» كأنه يعني بذلك أن قوله : (أَمْ تَقُولُونَ) معادل لقوله : «أتخذتم» فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين معترضة ، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب ، وعلى الأول محلها الجزم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٤٦ عن عائشة ولفظه : دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي كتاب الحيض باب إذا حاضت في شهر حديث رقم ٣٢٥ والنسائي في السنن كتاب الحيض باب ٣.

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٦٢٣) ـ وأحمد في المسند (٦ / ٤٢ ، ٢٦٢) ـ والدار قطني في السنن (١ / ٢١٢).

والبيهقي في السنن ١ / ٣٢٥ ـ وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ١٠ وابن كثير في التفسير ١ / ٣٩٧ ـ وابن حجر في تلخيص الحبير ١ / ١٧٠.

(٢) سقط في ب.

٢١٤

قوله : (أَمْ تَقُولُونَ) «أم» هذه يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون متّصلة ، فتكون للمعادلة بين الشيئين ، أي : أيّ هذين واقع ، وأخرجه مخرج المتردّد فيه ، وإن كان قد علم وقوع أحدهما ، وهو قولهم على الله ما لا يعلمون للتقرير ، ونظيره : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] علم أيهما على هدى ، وأيهما في ضلال ، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة.

ويجوز أن تكون منقطعة ، فتكون غير عاطفة ، وتقدر ب «بل» والهمزة ، والتقدير : بل أتقولون ، ويكون الاستفهام للإنكار ؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك ، هذا هو المشهور في «أم» المنقطعة ، وزعم جماعة أنها تقدر ب «بل» وحدها دون همزة استفهام ، فيعطف ما بعدها [على ما قبلها](١) في الإعراب ؛ واستدلّ عليه بقولهم : «إن لنا إبلا أم شاء» بنصب «شاء» وقول الآخر : [الطويل]

٦١١ ـ فليت سليمى في الممات ضجيعتي

هنالك أم في جنّة أم جهنّم (٢)

التقدير : بل في جهنّم ، ولو كانت همزة الاستفهام مقدّرة بعدها لوجب الرفع في «شاء» ، و «جهنم» على أنها خبر لمبتدأ محذوف ، وليس لقائل أن يقول : هي في هذين الموضعين متّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظا أو تقديرا ، ولا يصلح ذلك هنا.

قوله : (ما لا تَعْلَمُونَ) ما منصوبة ب «تقولون» ، وهي موصولة بمعنى «الذي» أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : ما لا تعلمونه ، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول ، ومحلّها النصب على الثاني.

فصل في الاستدلال بالآية على أمور

الآية تدلّ على أمور :

أحدها : أن القول بغير دليل باطل.

الثاني : ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلّا بدليل سمعي.

الثالث : تمسّك منكر والقياس وخبر الواحد بهذه الآية ، قالوا : لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم ، فهو قول على الله بما لا يعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص ٥٠١ ، أوضح المسالك ٣ / ٣٧٦ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ١٤٤ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٤٣. والدر المصون ١ / ٢٧٣.

٢١٥

والجواب : أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس ، ومن خبر الواحد ، فكان وجوب العمل عنده معلوما ، فكان القول به قولا بالمعلوم.

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨١)

«بلى» حرف جواب ك «نعم وجير وأجل وإي» ، إلا أن «بلى» جواب لنفي متقدم ، سواء دخله استفهام أم لا فيكون إيجابا له نحو قول القائل ما قام زيد ، فتقول : بلى ، أي : قد قام ، وتقول : أليس زيد قائما فتقول : بلى أي هو قائم قال تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ويروى عن ابن عبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا.

وقال بعضهم : إن «بلى» قد تقع جوابا لنفي متقدّم وقد تقع جوابا لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده : أتحبّ أن تساوي بين أولادك في البرّ؟ قال : «بلى».

وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لرجل : ألست أنت الّذي لقيته ب «مكة»؟ قال : «بلى» فأما قوله : [الوافر]

٦١٢ ـ أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو

وإيّانا ، فذاك بنا تداني

نعم ، وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النّهار كما علاني (١)

فقيل : ضرورة.

وقيل : نظر إلى المعنى ؛ لأنّ الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال : فكيف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا نعم لكفروا مع أنّ النفي صار إيجابا. وقيل : قوله : «نعم» ليس جوابا ل «أليس» إنما هو جواب لقوله : «فذاك بنا تداني» فقوله تعالى : «بلى» رد لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي : بلى تمسّكم أبدا ، في مقابلة قولهم : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وهو تقدير حسن.

والبصريون يقولون : إن «بلى» حرف بسيط ، وزعم الكوفيون أن أصلها «بل» التي للإضراب زيدت عليها «الباء» ليحسن الوقف عليها ، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل : تدلّ على رد النفي ، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف ، وإنما سموها ياء ؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء.

__________________

(١) البيتان لجحدر بن مالك ينظران في أمالي القالي : ١ / ٨٢٢ ، والجنى الداني : ص ٤٢٢ ـ ٤٢٣ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، وسمط اللآلي : ص ٦١٧ ، ٩٦١ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٠٨ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٣٤٧ ، ومعجم البلدان : ٢ / ٢٢٣ (حجر) ، وللمعلوط القريعي في الشعر والشعراء : ١ / ٤٤٩ ، جواهر الأدب : ص ٣٦١ ، ورصف المباني : ص ٣٦٥ ، ومغني اللبيب : ١ / ٣٤٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٣.

٢١٦

و «من» يجوز فيها وجهان.

أحدهما : أن تكون موصولة بمعنى «الذي» والخبر قوله : «فأولئك» ، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط ، ويؤيد كونها موصولة ، وذكر قسيمها موصولا وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا ،) ويجوز أن تكون شرطية ، والجواب قوله : (فَأُولئِكَ) ، وعلى كلا القولين فمحلّها الرفع بالابتداء ، ولكن إذا قلنا : إنها موصولة كان الخبر : «فأولئك» وما بعده بلا خلاف ، ولا يكون لقوله : «كسب سيّئة» وما عطف عليه محلّ من الإعراب ؛ لوقوعه صلة.

وإذا قلنا : إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور ، إما الشرط أو الجزاء ، أو هما حسب ما تقدم ، ويكون قوله : «كسب» وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط.

«سيّئة» مفعول به ، وأصلها : «سيوئة» ؛ لأنها من ساء يسوء فوزنها «فيعلة» فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فأعلت إعلال «سيّد وميّت» كما تقدم.

وراعى لفظ «من» فأفرد في قوله : (كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وقرأ نافع (١) وأهل «المدينة» «خطيئاته» بجمع السلامة والجمهور : «خطيئة» بالإفراد ، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة.

وفيهما أقوال :

أحدها : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظين مختلفين.

الثاني : أنهما عبارتان عن الكفر بلفظين مختلفين.

الثالث : [عكس الثاني](٢).

فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر ، وهو مفرد ، وعلى الوجه الثّاني أن المراد به جنس الكبيرة ، ووجه قراءة نافع على الوجه الأول والثالث أن المراد بالخطيئات أنواع الكفر المتجددة في كلّ وقت ، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة.

وقيل : المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة ، فسماها بهذين الاسمين تقبيحا لها كأنه قال : وأحاطت به خطيئته تلك أي السيئة ، ويكون المراد بالسّيئة الكفر ، أو يراد بهم

__________________

(١) وكذا أبو جعفر.

انظر حجة القراءات : ١٠٢ ، والحجة : ٢ / ١١٤ ، والعنوان : ٧٠ ، وإتحاف : ١ / ٤٠٠ ، وشرح شعلة : ٢٦٦ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٤٢.

(٢) في أ : عكسه.

٢١٧

العصاة ، ويكون أراد بالخلود المكث الطويل ، ثم بعد ذلك يخرجون.

وقوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) إلى آخره تقدم نظيره.

وقرى (١) «خطاياه» تكسيرا ، وهذه مخالفة لسواد المصحف ؛ فإنه رسم «خطيئته» بلفظ التوحيد ، وتقدم القول في تعريف خطايا.

فصل في لفظة «بلى»

قال صاحب «الكشاف» (٢) : بلى إثبات لما بعد حرف النفي ، وهو قوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) ـ أي : بلى تمسكم أبدا بدليل قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي ، قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرت أو كبرت ، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النّار لا جرم بيّن تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة محيطة به ، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السّور بالبلد والكوز بالماء ، وذلك هاهنا ممتنع ، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين :

أحدهما : أن المحيط يستر المحاط به ، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسّاترة لتلك الطاعات ، فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة.

والثاني : أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطّاعات ، فكأنها استولت على تلك الطاعات ، وأحاطت بها كما يحيط العسكر بالإنسان بحيث لا يتمكن (٣) من التخلص منه ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته ، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

فإن قيل : هذه الآية وردت في حق اليهود؟

[فالجواب](٤) : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب ، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر.

وقد اختلف أهل القبلة [فيه](٥) فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان ؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد ، وهم جمهور المعتزلة والخوارج.

ومنهم من أثبت وعيدا منقطعا ، وهو قول بشر المريسي.

ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم ، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر.

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٤٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٧٤.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٨.

(٣) زاد في ب : الإنسان.

(٤) في أ : وقلنا.

(٥) سقط في ب.

٢١٨

والقول الثالث : أنّا نقطع بأنه ـ سبحانه ـ يعفو عن بعض العصاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين ، ونقطع بأنه إذا عذّب أحدا منهم ، فإنه لا يعذبه أبدا ، بل يقطع عذابه ، وهذا قول أكثر الأصحاب والتابعين ، وأهل السنة والجماعة ، وأكثر الإمامية ، فيشتمل هذا البحث على مسألتين.

أحداهما : القطع بالوعيد.

والأخرى : إذا ثبت الوعيد ، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين :

أحدهما : صيغة «من» في معرض الشرط.

والثاني : صيغه الجمع. فأما صيغه «من» في الشرط فإنها تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه ، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة «من» في الوعيد ، فقد استدلّت المعتزلة بها.

قالوا : لأنها تفيد العموم من وجوه :

أحدها : أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص ، أو مشتركة بينهما ، والقسمان باطلان ، فوجب كونها موضوعة للعموم.

أما بطلان كونها موضوعة للخصوص ، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط ؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتبا على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره ، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص.

وأما بطلان كونها موضوعة للاشتراك فلأمرين :

الأول : أنّ الاشتراك خلاف الأصل.

والثاني : أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلّا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال : من دخل داري أكرمته ، فيقال له : أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال : أردت الرجال يقال له : أردت العرب أو العجم؟ فإذا قال : أردت العرب يقال له : أردت ربيعة أو مضر؟ وهلم جرّا إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ، ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل.

الوجه الثاني : صحة الاستثناء منهما ، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل (١).

__________________

(١) قال صاحب المحكم في اللّغة : الاستثناء والثنيا : ردّ الشيء بعضه على بعض. قال الجوهري : الثنيا ـ

٢١٩

الوجه الثالث : أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] قال ابن الزبعرى : لأخصمن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم ، فتمسك بعموم اللفظ والنبي ـ عليه الصلاة ـ لم ينكر عليه ذلك ، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم.

النوع الثاني من دلائل المعتزلة : التمسّك في الوعيد (١) بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام ، قال تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٤] فإنها تفيد العموم ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : قول أبي بكر رضي الله عنه : «الائمّة من قريش» (٢) والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة. ولما همّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رضي الله عنه : أليس قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» (٣) فاحتج عليه بهذا اللفظ

__________________

ـ اسم الاستثناء ، يقال : ثنيا وثنوى ؛ مثل قصيا وقصوى. قال الإمام فخر الدين في المحصول : الاستثناء ؛ ما لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه بلفظه ، ولا يستقل بنفسه. ينظر الاستغناء في أحكام الاستثناء : ص ٩٠ ، ٩٦ ، المحصول في علم الأصول : ٢ / ٧٦٢.

وينظر البحر المحيط للزركشي : ٤ / ٤٩ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ٦٧ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٢ / ٢٧ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ٣٢٩.

(١) سقط في ب.

(٢) جاء هذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب وأبو برزة الأسلمي.

حديث أنس :

أخرجه الطيالسي في «مسنده» (٢١٣٣) وأبو نعيم (٣ / ١٧١) والبزار (١٥٧٨) وأبو يعلى (٧ / ٣٢١) رقم (٣٦٤٤) والبيهقي (٨ / ١٤٤) والطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» (٥ / ١٩٢) وقال الهيثمي : رجاله ثقات.

وأخرجه الحاكم (٤ / ٥٠١) عن أنس بلفظ : الأمراء من قريش. وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

حديث علي بن أبي طالب :

أخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» ص ٨٥ وأبو نعيم (٧ / ٢٤٢) والحاكم (٤ / ٧٥ ـ ٧٦).

وسكت عنه الحاكم والذهبي.

أما حديث أبي برزة الأسلمي :

فأخرجه الطيالسي (٩٢٦) وأحمد (٤ / ٤٢١) وأبو يعلى والطبراني والبزار كما في «مجمع الزوائد» للهيثمي (٥ / ١٦٣) وقال :

ورجال أحمد رجال الصحيح خلا سكين وهو ثقة.

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح (١ / ٢٢) كتاب الإيمان باب فإن تابوا حديث رقم (٢٥) ، (١ / ١٧٤) كتاب الجهاد والسير باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٢٩٤٦).

ومسلم في الصحيح (١ / ٥١ ـ ٥٢) كتاب الإيمان (١) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله (٨) حديث رقم (٣٢ / ٢٠ ، ٣٣ / ٢١). ـ

٢٢٠