اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠)

[اعلم] أنه لما أقام دلائل التوحيد ، والنبوة ، والمعاد أولا ، ثم عقبها بذكر الإنعامات العامّة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليهود استمالة لقلوبهم ، وتنبيها على ما يدلّ على نبوة «محمد عليه الصّلاة والسّلام» من حيث كونها إخبارا عن الغيب ، موافقا لما كان موجودا في التّوراة والإنجيل من غير تعلّم ، ولا تتلمذ.

قوله : (يا بَنِي) منادى منصوب وعلامة نصبه الياء ؛ لأنه جمع مذكّر سالم ، وحذفت نونه للإضافة ، وهو شبيه بجمع التّكسير لتغير مفرده ، ولذلك عاملته العرب ببعض معاملة جمع التكسير ، فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث ، نحو : «قالت بنو فلان» ، وقال الشاعر : [البسيط]

٤٢٤ ـ قالت بنو عامر خالوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (١)

وأعربوه بالحركات أيضا إلحاقا له به ، قال الشاعر : [الوافر]

٤٢٥ ـ وكان لنا أبو حسن عليّ

أبا برّا ونحن له بنين (٢)

[فقد روي بنين](٣) برفع النون ، وهل لامه ياء ؛ لأنه مشتقّ من البناء ؛ لأن الابن من فرع الأب ، ومبنيّ عليه ، أو واو ؛ لقولهم : البنوّة كالأبوّة والأخوّة ؛ قولان.

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني ينظر ديوانه : ص ٨٢ ، والإنصاف : ١ / ٣٣٠ ، وتذكرة النحاة : ص ٦٦٥ ، وخزانة الأدب : ٢ / ١٣٠ ـ ١٣٢ ، ١١ / ٣٣ ، ٣٥ ، والدرر : ٣ / ١٩ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٣٣٢ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٢١٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٤٥٨ ، والشعر والشعراء : ١ / ١٠١ ، والكتاب : ٢ / ٢٧٨ ، ولسان العرب (خلا) ، وجواهر الأدب : ص ١١٥ ، ٢٢٨ ، والخصائص : ٣ / ١٠٦ ، ورصف المباني : ص ١٦٨ ، ٢٤٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١٤٨٣ ، وشرح المفصل : ٣ / ٦٨ ، ٥ / ١٠٤ ، واللامات : ص ١٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٧٣ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٢.

(٢) البيت لأحد أولاد علي بن أبي طالب ينظر شرح التصريح : ١ / ٧٧ ، والمقاصد النحوية : ١ / ١٥٦ ، ولسعيد بن قيس الهمداني ينظر خزانة الأدب : ٨ / ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٨ ، أوضح المسالك : ١ / ٥٥ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٦٠ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٢.

(٣) سقط في أ.

٣

الصّحيح الأول ، وأما البنّوة فلا دلالة فيها ؛ لأنهم قد قالوا : الفتوّة ولا خلاف أنها من ذوات «الياء».

إلا أن «الأخفش» رجّح الثاني بأن حذف الواو أكثر.

واختلف في وزنه فقيل : «بني» بفتح العين ، وقيل : بني ـ بسكونها ، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العشرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوصل.

و «إسرائيل» خفض بالإضافة ، ولا ينصرف للعلمية والعجمة ، وهو مركّب تركيب الإضافة مثل : «عبد الله» فإن «إسرا» هو العبد بلغتهم ، و «إيل» هو الله تعالى. وقيل : «إسرا» هو مشتقّ من الأسر ، وهو القوّة ، فكان معناه الذي قوّاه الله.

وقيل «إسرا» (١) هو صفوة الله ، و «إيل» هو الله.

وقال القفّال : قيل : إن «إسرا» بالعبرانية في معنى إنسان ، فكأنه قيل : رجل الله ، فكأنه خطاب مع اليهود الذين كانوا بالمدينة.

وقيل : إنه أسرى بالليل مهاجرا إلى الله.

وقيل : لأنه أسر جنّيّا كان يطفىء سراج بيت المقدس.

قال بعضهم : فعلى هذا يكون بعض الاسم عربيّا ، وبعضه أعجميّا ، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن ، وهي قراءة الجمهور.

وقرأ (٢) «أبو جعفر والأعمش» : «إسرايل» بياء بعد الألف من غير همزة ، وروي عن «ورش» «إسرائل» بهمزة بعد الألف دون ياء ، و «إسرأل» بهمزة مفتوحة ، و «إسرئل» بهمزة مكسورة بين الراء واللام ، و «إسرال» بألف محضة بين الراء واللام (٣) ؛ قال : [الخفيف]

٤٢٦ ـ لا أرى من يعينني في حياتي

غير نفسي إلّا بني إسرال (٤)

وروي قراءة غير نافع قرأ عن نافع. و «إسرائيل» هذه مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ ، عن ورش ، و «إسرايل» من غير همز ولا مدّ و «إسرائين» أبدلوا من اللام نونا ك «أصيلان» في «أصيلال» ؛ قال : [الرجز]

__________________

(١) في أ : ليس.

(٢) ورويت عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٢٥ ، وجعل أبو حيان قراءة أبي جعفر بياءين بعد الألف ، وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر.

وانظر إتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٠٢ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٦.

(٣) ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وهي إحدى اللغات في كلمة «إسرائيل» ، انظر المحتسب لابن جني : ١ / ٧٩ ـ ٨٠ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٠ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٦.

(٤) البيت لأمية بن أبي الصلت ينظر ديوانه : (٥١) ، البحر : (١ / ٣٢٥) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٣).

٤

٤٢٧ ـ يقول أهل السّوء لمّا جينا

هذا وربّ البيت إسرائينا (١)

وقال آخر : [الرجز]

٤٢٨ ـ قالت وكنت رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا (٢)

ويجمع على «أساريل». وأجاز الكوفيون «أسارلة» ، و «أسارل» ، كأنهم يجيزون التعويض بالياء وعدمه ، نحو : «فرازنة» و «فرازين».

قال الصّفار (٣) : لا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله.

قال ابن الجوزي (٤) : ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّ له أسماء كثيرة.

وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ غير مشتقّ ، وقد سمّاه الله ـ تعالى ـ روحا وكلمة ، وكانوا يسمونه «أبيل الأبيلين» ، ذكره «الجوهري».

وذكر «البيهقي» في «دلائل النبوة» عن «الخليل بن أحمد» : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين ، نبينا محمد وأحمد ، وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النّون ، وإلياس وذو الكفل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قول : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ).

«اذكروا» فعل وفاعل ، و «نعمتي» مفعول.

وقال «ابن الأنباري» : لا بدّ له من حذف مضاف تقديره : شكر نعمتي.

__________________

(١) ينظر البحر : (١ / ٣٢٦) ، روح المعاني : (١ / ٢٤٢).

(٢) تقدم برقم (١٧٨).

(٣) القاسم بن عليّ بن محمد بن سليمان الأنصاري البطليوسي الشهير بالصّفار شرح كتاب سيبويه مات بعد الثلاثين وستمائة. ينظر بغية الوعاة : ٢ / ٢٥٦.

(٤) عبد الرحمن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن عبيد الله بن عبد الله البكري من ولد الإمام أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الإمام أبو الفرج ابن الجوزي.

البغدادي الحنبلي الواعظ ، صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم من التفسير ، والحديث ، والفقه ، والوعظ ، والزهد ، والتاريخ ، وغير ذلك.

قال الذهبيّ : كان مبرزا في التفسير ، وفي الوعظ ، وفي التاريخ ، ومتوسطا في المذهب ، وفي الحديث ، له اطلاع تام على متونه ، وأما الكلام على صحيحه وسقيمه فما له فيه ذوق المحدثين ، ولا نقد الحفاظ المبرزين.

تصانيفه كثيرة منها تفسيره المشهور بزاد المسير ، وله جامع المسانيد وله كتاب المنتظم. ينظر البداية والنهاية : ١٣ / ٢٨ وردت ترجمته في البداية والنهاية : ١٣ / ٢٨ ، وتذكرة الحفاظ : ٤ / ١٣٣٢ ، وشذرات الذهب : ٤ / ٣٢٩ ، وطبقات الحفاظ : ٤٧٧ ، وطبقات القراء لابن الجزري : ١ / ٣٧٥ ، وطبقات المفسرين للداودي : ١ / ٢٧٠ ، والعبر : ٤ / ٢٩٧ ، وطبقات المفسرين للسيوطي ص ٥٠.

٥

و «الذكر» ـ بضم الذال وكسرها ـ بمعنى واحد ، ويكونان باللّسان والجنان.

وقال «الكسائي» : هو ـ بالكسر ـ للسان ، وبالضّم للقلب فضدّ المكسور : الصّمت ، وضد المضموم : النّسيان ، وبالجملة فالذكر الذي محلّه القلب ضدّه النسيان ، والذي محلّه اللسان ضده الصّمت ، سواء قيل : إنهما بمعنى واحد أم لا.

و «الذّكر» ـ بالفتح ـ خلاف الأنثى ، و «الذّكر» ـ أيضا ـ الشرف ومنه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

فصل في النعمة

النعمة اسم لما ينعم به ، وهي شبيهة ب «فعل» بمعنى «مفعول» نحو : ذبح ورعي ، والمراد الجمع ؛ لأنها اسم جنس ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [النحل : ١٨].

قال «أبو العباس المقرىء» : «النّعمة» ـ بالكسر ـ هي الإسلام ، قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران : ١٠٣].

وقال : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) [الحجرات : ٨] يعني : الإسلام.

وقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) [النمل : ١٩].

وقوله : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٧١] أي : الإسلام.

فصل في حد النعمة

قال ابن الخطيب (١) : حدّ النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير.

وقيل : الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا : وإنما زدنا هذا ؛ لأن النعمة إن كانت حسنة يستحق بها الشكر ، وإن كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر.

قال : والحقّ أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ، وإن كان فعله محظورا ؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذّم والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته ، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟

واعلم أن نعم الله على العبد لا تتناهى ، ولا تحصى كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٠].

فإن قيل : فإذا كانت النعم غير متناهية ، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد ، فكيف أمر بتذكرها في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ)؟

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٢٨.

٦

والجواب : أنها غير متناهية بحسب الأشخاص والأنواع ، إلّا أنها متناهية بحسب الأجناس ، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصّانع الحكيم.

فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا

اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟

فمنهم من قال : هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة ، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سبيلا إلى الضرر العظيم ، ولهذا قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [آل عمران : ١٧٨].

ومنهم من قال : إنه ـ تعالى ـ وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدّين ، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه‌الله](١).

قال ابن الخطيب (٢) : وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه :

أحدها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] الآيات فأمر الكلّ بطاعته لمكان هذه النعم ، وهي نعمة الخلق والرزق.

وثانيها : قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) [البقرة : ٢٨] وذكره في معرض الامتنان ، وشرح النعم ، ولو لم يصل إليهم من الله ـ تعالى ـ شيء من النعم لما صحّ ذلك.

وثالثها : قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وهذا نصّ صريح ؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب ، وكانوا من الكفار ، وكذا قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٤٧] إلى قوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩].

ورابعها : قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) [الأنعام : ٦].

وخامسها : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣] إلى قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٦٤].

وسادسها : قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [الأعراف : ١٠] وقال في قصة «إبليس» : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧].

وسابعها : قوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ٧٤] وقال : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [الأعراف : ١٤٠].

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٣٠.

٧

وثامنها : قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) [الأنفال : ٥٣].

وتاسعها : قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥].

وعاشرها : قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) [يونس : ٢٢] إلى قوله : (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٢٣].

واعلم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي ؛ لأنه لا نزاع في أن الحياة والعقل والسمع والبصر ، وأنواع الرزق ، والمنافع من الله ـ تعالى ـ إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضارّ الأبدية ، هل يطلق عليها في العرف اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرّد عبارة.

فصل في النعم المخصوصة ببني إسرائيل

وهي كثيرة منها :

استنقذهم من فرعون وقومه ، وخلّصهم من العبودية وأولادهم من القتل ونساءهم من الاستحياء ، وخلصهم من البلاء ، ومكنهم في الأرض ، وجعلهم ملوكا ، وجعلهم الوارثين بعد أن كانوا عبيدا للقبط ، وأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم ، وأموالهم ، وأنزل عليهم [الكتب العظيمة ، وجعل فيهم أنبياء ، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وظللّ عليهم الغمام ، وأنزل عليهم](١) المنّ والسّلوى ، وأعطاهم الحجر ليسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا ، فإذا استغنوا عن الماء رفعوها فاحتبس الماء عنهم ، وأعطاهم عمودا من النور يضيء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث وثيابهم لا تبلى. رواه «ابن عباس».

فصل في سبب تذكيرهم بهذه النعم

قال ابن الخطيب (٢) : إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه :

أحدها : أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي التوراة ، والإنجيل ، والزّبور.

وثانيها : أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليها من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن.

وثالثها : أن تذكّر النعم الكثيرة يفيد الحياء عن إظهار المخالفة.

ورابعها : أن تذكر النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصّهم من بين سائر الناس بها ، ومن خص أحدا بنعم كثيرة ، فالظاهر أن تذكر تلك النعم يطمع في النّعم الآتية ، وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٣٢.

٨

فإن قيل : إن هذه النّعم إنما كانت على المخاطبين وأسلافهم ، فكيف تكون نعمة عليهم؟

فالجواب : لو لا هذه النعم على آبائهم لما بقوا ، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء ، وأيضا فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، وأيضا فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله ـ تعالى ـ خصّ آباءهم بهذه النّعم لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة ؛ لأنّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير ، فيصير هذا التذكر داعيا إلى الاشتغال بالخيرات.

قوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ).

«التي» صفة «النعمة» والعائد محذوف.

فإن قيل : من شرط [حذف](١) عائد الموصول إذا كان مجرورا أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف ، وأن يتّحد متعلقهما ، وهنا قد فقد الشّرطان ، فإن الأصل : التي أنعمت بها.

فالجواب : إنما حذف بعد أن صار منصوبا بحذف حرف الجرّ اتساعا فبقي «أنعمتها» وهو نظير : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] في أحد الأوجه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

و «عليكم» متعلّق به ، وأتى ب «على» دلالة على شمول النعمة لهم.

قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

هذه جملة أمرية عطف على الأمرية قبلها. ويقال : «أوفى» ، و «وفّى» ، و «وفى» ـ مشددا ومخففا ـ ثلاث لغات بمعنى ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٤٢٩ ـ أمّا ابن [طوق] (٢) فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النّجم حاديها (٣)

فجمع بين اللغتين.

وقيل : يقال : أوفيت ووفيت بالعهد ، وأوفيت الكيل لا غير ، وعن بعضهم : أن اللغات الثلاث واردة في القرآن.

أما «أوفى» فكهذه الآية.

وأما «وفّى» بالتشديد فكقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧].

وأما «وفى» بالتخفيف ، فلم يصرح به ، وإنما أخذ من قوله تعالى : (أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ،) وذلك أن «أفعل» التفضيل لا يبنى إلّا من الثلاثي كالتعجّب هذا هو المشهور ، وإن كان في المسألة كلام كثير ، ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشّاطبي (٤).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : بيض.

(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت. ينظر ديوانه : (٥١) ، البحر : (١ / ٣٢٦) ، الكامل : (٢ / ١٨٧) ، الزجاج : (١ / ٩١) ، اللسان «عوف» و «قلص» ، الدر المصون : (١ / ٢٠٣).

(٤) القاسم بن فيره بكسر الفاء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ، ثم راء مشددة مضمومة بعدها هاء ومعناه ـ

٩

ويجيء «أوفى» بمعنى : ارتفع ؛ قال : [المديد]

٤٣٠ ـ ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات (١)

و «بعهدي» متعلّق ب «أوفوا» ، و «العهد» مصدر ، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول.

والمعنى : بما عاهدتكم عليه من قبول الطّاعة ، ونحوه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠] أو بما عاهدتموني عليه ، ونحوه : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣].

و «أوف» مجزوم على جواب الأمر ، وهل الجازم الجملة الطّلبية نفسها لما تضمّنته من معنى الشرط ، أو حرف شرط مقدر تقديره : إن توفوا بعهدي أوف؟ قولان.

وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري فيه هذا الخلاف.

وقرأ الزّهري (٢) : «أوفّ» بفتح الواو وتشديد الفاء للتّكثير.

و «بعهدكم» متعلّق به [وهذا](٣) محتمل للإضافة إلى الفاعل ، أو المفعول على ما تقدّم.

فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه

في العهد المأمور بوفائه قولان :

أحدهما : أنه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ، وقوله : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أراد به الثواب والمغفرة.

وقال «الحسن» : هو قوله : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) إلى قوله : (الْأَنْهارُ) [المائدة : ١٢].

وحكى «الضحاك» عن ابن عباس أوفوا بما أمرتكم به من الطّاعات ، ونهيتكم عنه من المعاصي ، وهو قول جمهور المفسرين.

__________________

ـ بلغة عجم الأندلس الحديد ابن خلف بن أحمد أبو القاسم وأبو محمد الشاطبي الرعيني الضرير الإمام العلامة ، أحد الأعلام الكبار والمشتهرين في الأقطار ، ولد سنة ٥٣٨ ه‍ بشاطبة من الأندلس ، وقرأ ببلده القراءات ، رحل إلى بلنسبة بالقرب من بلده فعرض بها التفسير من حفظه على ابن هذيل ، أخذ عن كتاب سيبويه والكامل للمبرّد ، وأدب الكاتب. توفي سنة ٥٩٠ ه‍ بالقاهرة ودفن بها. ينظر غاية النهاية : ٢ / ٢٠.

(١) البيت لجذيمة الأبرش وهو من شواهد الكتاب (٢ / ١٥٣) ، النوادر (٢١٠) ، الهمع (٢ / ٣٨) ، الدرر (٢ / ٤١) ، روح المعاني (١ / ٢٤٢) ، اللسان «شمل» ، الدر المصون (١ / ٢٠٤) ، والبحر المحيط : ١ / ٣٢٦.

(٢) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٣٠ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٧

(٣) في ب : وهو.

١٠

وقيل : هو ما أثبته في الكتب المتقدّمة في صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه سيبعثه على ما قال في سورة المائدة : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى قوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [المائدة : ١٢].

وقال في سورة الأعراف : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] إلى قوله : (وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وأما عهد الله معهم ، فهو أن يضع عنهم إصرهم والأغلال ، لقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١] الآية وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ) [الصف : ٦].

وقال ابن عباس رضي الله ـ تعالى ـ عنهما : [إن الله تعالى](١) كان عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيّا أميا ، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به ـ أي القرآن ـ [أغفر له ذنبه ، وأدخله](٢) الجنّة ، وجعلت له أجرين ؛ أجرا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به أنبياء بني إسرائيل ، وأجرا [باتباع](٣) ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [النبي الأمي] من ولد إسماعيل ، وتصديق هذا في القرآن في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) [القصص : ٥٢] إلى قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) [القصص : ٥٤].

وتصديقه أيضا بما روى أبو موسى الأشعري ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ، ثم آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فله أجران](٤) ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها فتزوّجها ، فله أجران ، وعبد أطاع الله ، وأطاع سيّده فله أجران» (٥).

فإن قيل : إن كان الأمر هكذا ، فكيف يجوز جحده من جماعتهم؟

فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ هذا العلم كان حاصلا عند العلماء في كتبهم ، لكن لم يكن منهم عدد كثير ، فجاز منهم كتمان ذلك.

الثاني : أن ذلك النصّ كان خفيّا لا جليّا ، فجاز وقوع الشّكّ فيه.

فإن قيل : الشخص الموعود به في هذه الكتب ، إما أن يكون قد ذكر في هذه

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : غفرت له ذنبه وأدخلته.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الترمذي (٣ / ٤٢٥) رقم (١١١٦) والنسائي (٦ / ١١٥) وأحمد (٤ / ٤٠٥) والدارمي (٢ / ١٥٥) وأبو عوانة (١ / ١٠٣) والحميدي (٧٦٨) والطبراني في «الأوسط» (١ / ٤٤) عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

١١

الكتب وقت خروجه ، ومكان خروجه ، وسائر التّفاصيل المتعلّقة بذلك ، أو لم يذكر شيء من ذلك.

فإن كان الأول كان [ذلك](١) النص نصّا جليّا واردا في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر ، فيمتنع قدرتهم على الكتمان ، ويلزم أن يكون ذلك معلوما بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين.

وإن كان الثاني لم [يدلّ](٢) ذلك النّص على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاحتمال أن يقولوا : إن ذلك المبشّر به سيجيء بعد ذلك على ما هو معتقد جمهور اليهود.

والجواب : قال ابن الخطيب (٣) : «لم يكن منصوصا عليه نصّا جليّا يعرفه كل أحد ، بل كان منصوصا عليه نصّا خفيّا ، فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضّرورة من دين الأنبياء المتقدّمين».

قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

«إياي» ضمير منصوب منفصل ، وقد عرف ما فيه في «الفاتحة» ، ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده ، والتقدير : «وإياي ارهبوا فارهبون» ، وإنما قدرته متأخرا فيه ؛ لأن تقديره متقدما عليه لا يحسن لانفصاله ، وإن كان بعضهم قدره كذلك.

والفاء في «فارهبون» فيها قولان للنحويين :

أحدهما : أنها جواب أمر مقدر تقديره : تنبّهوا فارهبون ، وهو نظير قولهم : «زيدا فاضرب» أي : تنبه فاضرب زيدا ، ثم حذف «تنبه» ، فصار : فاضرب زيدا ، ثم قدم المفعول إصلاحا للفظ ؛ لئلا تفع الفاء صدرا (٤) ، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين.

والقول الثاني في هذه «الفاء» : أنها زائدة.

وقال «أبو حيان» بعد أن حكى القول الأول : فتحتمل الآية وجهين :

أحدهما : أن يكون التقدير : «وإيّاي ارهبوا تنبهوا فارهبون» ، فتكون «الفاء» حصلت (٥) في جواب الأمر ، وليست مؤخّرة من تقديم.

والوجه الثاني : أن يكون التقدير : وتنبّهوا فارهبون ، ثم قدّم المفعول فانفصل ، وأتى بالفاء حين قدّم المفعول ، وفعل الأمر الذي هو «تنبهوا» محذوف ، فالتقى بعد حذفه الواو والفاء ، يعني : فصار التقدير : «وفإياي ارهبوا» ، فقدم المفعول على الفاء إصلاحا للفظ ، فصار : «وإيّاي فارهبوا» ، ثم أعيد المفعول على سبيل التّأكيد ، ولتكمل الفاصلة ، وعلى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : يذكر.

(٣) ينظر الرازي : ٣ / ٣٤.

(٤) في ب : صدورا.

(٥) في ب : دخلت.

١٢

هذا في «إياي» منصوب بما بعده لا بفعل محذوف ، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتّصل ، كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل.

و «الرّهب» و «الرّهب» ، و «الرّهبة» : الخوف ، مأخوذ من الرّهابة ، وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف ، وسقطت «الياء» بعد «النون» ؛ لأنها رأس فاصلة.

وقرأ ابن أبي إسحاق (١) : «فارهبوني» بالياء ، وكذا : (فَاتَّقُونِ) [البقرة : ٤١] على الأصل.

ويجوز في الكلا م «وأنا فارهبون» على الابتداء والخبر.

وكون «فارهبون» الخبر على تقدير الحذف كان المعنى : «وأنا ربكم فارهبون». ذكره القرطبي.

وفي الآية دليل على أنّ المرء يجب عليه ألا يخاف أحدا إلا الله تعالى ، ولما وجب ذلك في الخوف ، فكذا في الرجاء فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء ، وأن ذلك لا بد منه.

قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٤١)

قوله : «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف ، أي : بالذي أنزلته ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول أي : [بالمنزل](٢).

و «مصدقا» نصب على الحال ، وصاحبها العائد المحذوف.

وقيل : صاحبها «ما» ، والعامل فيها «آمنوا» ، وأجاز بعضهم أن تكون «ما» مصدرية من غير جعله المصدر واقعا موقع مفعول به ، وجعل «لما معكم» من تمامه ، أي : بإنزالي لما معكم ، وجعل «مصدقا» حالا من «ما» المجرورة باللّام قدمت عليها ، وإن كان صاحبها مجرورا ؛ لأن الصّحيح جواز تقديم حال المجرور بحرف الجر عليه ؛ كقوله : [الطويل]

٤٣١ ـ فإن يك أذواد أصبن ونسوة

فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال (٣)

__________________

(١) وقرأ بها يعقوب ووافقه الحسن وصلا.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٣٤ ، والبحر المحيط : ٣٣١ ، والقرطبي : ١ / ٢٢٧ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٠

(٢) في أ : بالمقول.

(٣) البيت لطليحة بن خويلد. ينظر المقاصد النحوية : ٣ / ١٥٤ ، إصلاح المنطق : ١٩ ، شرح الأشموني : ١ / ٢٤٩ ، شرح ابن عقيل : ٣٣١ ، شرح عمدة الحافظ ، والمحتسب : ٢ / ١٤٨ ، والتهذيب : ٨ / ١١٠ ، (فرع) واللسان (فرع) والدر المصون : ١ / ٢٠٥.

١٣

«فرغا» حال من «بقتل» ، وأيضا فهذه «اللام» زائدة ، فهي في حكم المطرح ، و «مصدقا» حال مؤكّدة ؛ لأنه لا تكون إلا كذلك.

والظاهر أن «ما» بمعنى «الذي» وأن «مصدقا» حال من عائد الموصول ، وأن اللّام في «لما» مقوية لتعدية «مصدقا» ل «ما» الموصولة بالظّرف.

فصل في بيان المخاطبين في الآية

اعلم أن المخاطبين بقوله : (وَآمِنُوا) هم بنو إسرائيل لعطفه على قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ،) ولقوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

وقوله : (بِما أَنْزَلْتُ) فيه قولان :

أحدهما : أنه القرآن ؛ لأنه وصفه بكونه منزلا ، وبكونه مصدقا لما معهم.

والثاني : قال قتادة : بما أنزلت من كتاب ورسول تجدونه مكتوبا في التّوراة ، والإنجيل.

ومن جعل «ما» مصدرية قدّرها ب «إنزالي لما معكم» يعني : التوراة.

وقوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) فيه تفسيران :

أحدهما : أن في القرآن أنّ موسى وعيسى حقّ ، والتوراة والإنجيل حقّ ، فالإيمان بالقرآن مؤكّد للإيمان بالتوراة والإنجيل.

والثاني : أنه حصلت البشارة بمحمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بالقرآن ، وبمحمد تصديقا للتوراة والإنجيل ، وتكذيب محمد والقرآن تكذيب للتوراة والإنجيل.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا التفسير يدلّ على نبوة محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من وجهين :

الأول : أن شهادة كتب الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ لا تكون إلا حقّا.

والثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لم يقرأ كتبهم ، ولم يكن له معرفة بذلك إلّا من قبل الوحي.

قوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ).

«أول» خبر كان ، وفيه أربعة أقوال :

أحدها ـ وهو مذهب سيبويه ـ : أنه «أفعل» ، وأن فاءه وعينه واو ، وتأنيثه «أولى» ، وأصلها : «وولى» ، فأبدلت الواو همزة وجوبا ، وليست مثل «ووري» في عدم قلبها

__________________

(١) ينظر الرازي : ٣ / ٣٩.

١٤

لسكون الواو بعدها ، لأن واو «أولى» تحركت في الجمع في قولهم «أوّل» ، فحمل المفرد على الجمع في ذلك ، ولم يتصرف من «أول» فعل لاستثقاله.

وقيل : هو من «وأل» إذا نجا ، ففاؤه واو ، وعينه همزة ، وأصله : «أوأل» فخففت بأن قلبت الهمزة واوا ، وأدغمت الواو الأولى فيها فصار : «أول» ، وهذا ليس بقياس تخفيفه ، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على «الواو» الساكنة ، وتحذف الهمزة ، ولكنهم شبهوه ب «خطية وبرية» وهو ضعيف ، والجمع : «أوائل» و «أوالي» أيضا على القلب.

وقيل : هو من «آل ـ يئول» إذا رجع ، وأصله : «أأول» بهمزتين ، الأولى زائدة والثانية فاؤه ، ثم قلبت فأخرت الفاء بعد العين فصار : «أوأل» بوزن «أعفل» ، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدغام ، وهو أضعف منه.

وقيل : هو «ووّل» بوزن «فوعل» ، فأبدلت الواو الأولى همزة ، وهذا القول أضعفها ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، والجمع «أوائل» ، والأصل : «وواول» فقلبت الأولى همزة لما تقدم ، والثالثة أيضا لوقوعها بعد ألف الجمع ، وإنما لم يجمع على «أواول» لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع.

واعلم أن «أوّل» «أفعل» تفضيل ، و «أفعل» التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفردا مذكرا مطلقا ، ثم النكرة المضاف إليها «أفعل» ، إما أن تكون جامدة أو مشتقة ، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو : الزّيدان أفضل رجلين ، الزيدون أفضل رجال ، الهندات أفضل نسوة.

وأجاز المبرد إفرادها مطلقا.

وإن كانت مشتقة ، فالجمهور أيضا على وجوب المطابقة ، نحو : «الزيدون أفضل ذاهبين وأكرم قادمين» ، وأجاز بعضهم المطابقة وعدمها ؛ أنشد الفراء : [الكامل]

٤٣٢ ـ وإذا هم طعموا فألأم طاعم

وإذا هم جاعوا فشرّ جياع (١)

فأفرد في الأول ، وطابق في الثاني ، ومنه عندهم : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ) [البقرة : ٤١].

إذا تقرر هذا ، فكان ينبغي على قول الجمهور أن يجمع «كافر» ، فأجابوا عن ذلك بأوجه :

أجودها : أن «أفعل» في الآية ، وفي البيت مضاف لاسم مفرد مفهم للجمع حذف ، وبقيت صفته قائمة مقامه ، فجاءت النكرة المضاف إليها «أفعل» مفردة اعتبارا بذلك الموصوف المحذوف ، والتقدير : ولا تكونوا أوّل فريق ـ أو فوج ـ كافر ، وكذا «فألأم

__________________

(١) ينظر النوادر : (١٥٢) ، معاني القرآن : (١ / ٣٣٣) ، الطبري : (١ / ٥٦٢) ، البحر : (١ / ٣٣٢) ، مجمع البيان : (١ / ٢٠٨) ، روح المعاني : (١ / ٢٤٥) ، الدر المصون : (١ / ٢٠٦).

١٥

فرق طاعم» ، وقيل : لأنه في تأويل : «أول من كفر به».

وقيل : لأنه في معنى : لا يكن كل واحد منكم أول كافر ، كقولك : كسانا حلّة أي : كل واحد منّا ، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا ، فلا يراد : ولا تكونوا أول كافر ، بل آخر كافر ؛ لأن ذكر الشّيء ليس فيه دلالة على أن ما عداه بخلافه.

وأيضا فقوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) دليل على أن كفرهم أولا وآخرا محظور ، وأيضا قوله : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] لا يدلّ على وجود عمد لا يرونها ، وقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١٨١] لا يدلّ على وقوع قتل الأنبياء بحق.

وقوله بعد هذه الآية : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] لا يدلّ على إباحة ذلك بالثّمن الكثير ، فكذا هاهنا ، ولما اعتقد بعضهم أن لها مفهوما احتاج إلى تأويل جعل «أول» زائدا ، قال تقديره : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ليس بشيء ، وقدّره بعضهم بأن ثمّ معطوفا محذوفا تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ، ولا آخر كافر ، ونصّ على الأول ؛ لأنه أفحش للابتداء به ؛ وهو نظير قوله : [الرمل]

٤٣٣ ـ من أناس ليس في أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع (١)

لا يريد أن فيهم فحشا آجلا ، بل يريد لا فحش عندهم لا عاجلا ولا آجلا. والهاء في «به» تعود على «ما أنزلت».

وقيل : على «ما معكم».

وقيل : على الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأن التنزيل يستدعي منزلا إليه.

وقيل : على النعمة ذهابا بها إلى معنى الإحسان.

فإن قيل : كيف جعلوا أوّل من كفر به ، وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب؟

فالجواب : من وجوه :

أحدها : أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ؛ لأنهم كانوا هم المبشّرين بزمان محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلمّا بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

وثانيها : المراد : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، يعني : من أشرك من أهل «مكة» ، أي أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة والإنجيل ، فلا تكونوا مثل من لم يعرفه ، وهو مشرك لا كتاب له.

__________________

(١) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من عينيته الشهيرة ، ينظر شرح المفضليات للتبريزي : ٢ / ٨٨٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٣٣ ، مجمع البيان : ١ / ٢١٠ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٦.

١٦

وثالثها : ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب ؛ لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل ، وإن كانت قريش كفرت به قبل ذلك.

ورابعها : ولا تكونوا أول كافر به ، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم ، أي : ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم ؛ لأن تكذيبكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم.

وخامسها : ولا تكونوا أوّل كافر به عند سماعكم بذكره ، بل تثبّتوا فيه ، وراجعوا عقولكم فيه.

قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

«بآياتي» متعلّق بالاشتراء وضمن الاشتراء معنى الاستبدال ، فلذلك دخلت الباء على الآيات ، وكان القياس دخولها على ما هو ثمن ؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لا أن يشترى ، لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك ؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلا والمجرور بالباء زائلا.

وقد ظنّ بعضهم أن قولك : «بدلت الدّرهم بالدينار» وكذا : «أبدلت» أيضا أن الدينار هو الحاصل ، والدرهم هو الزّائل ، وهو وهم ؛ ومن مجيء «اشترى» بمعنى «استبدل» قوله : [الرجز]

٤٣٤ ـ كما اشترى المسلم إذ تنصّرا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٤٣٥ ـ فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل (٢)

وقال المهدوي : دخول «الباء» على «الآيات» كدخولها على «الثّمن» ، وكذلك كل ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دراهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن ، قاله الفرّاء ، يعني أنه إذا لم يكن في الكلام درهم ولا دينار صحّ أن يكون كلّ من العوضين ثمنا ، ومثمنا ، لكن يختلف ذلك بالنسبة إلى المتعاقدين ، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه ، وزال عنه ، ونصب ما حصل له ، فتقول «اشتريت هذا الثّوب بهذا العبد».

__________________

(١) ينظر الكشاف (١ / ١٣١) ، البحر المحيط (١ / ٣٣٣) ، الدر المصون (١ / ٢٠٦).

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في الأضداد : ١٠٧ و ١٨٦ ، وتخليص الشواهد : ٤٢٨ ، وخزانة الأدب : ١١ / ٢٤٩ ، والدرر : ٢ / ٢٤٢ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٨٦ و ٣٥١ ، شرح أشعار الهذليين : ١ / ٩٠ ، شرح شواهد الإيضاح : ١١٩ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٧١ ، والكتاب : ١ / ١٢١ ، ولسان العرب [زعم] ، مغني اللبيب : ٢ / ٤١٦ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٣٨٨ ، شرح ابن عقيل : ٢١٤ ، همع الهوامع : ١ / ١٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٠٧.

١٧

وأما إذا كان ثمّ دراهم أو دنانير كان ثمنا ليس إلا ، نحو «اشتريت الثوب بالدرهم» ، ولا تقول : «اشتريت الدّرهم بالثوب».

وقدر بعضهم مضافا فقال : بتعليم آياتي ؛ لأن الآيات نفسها لا يشترى بها ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن معناه الاستبدال كما تقدم.

و «ثمنا» مفعول به ، و «قليلا» صفته.

و (إِيَّايَ فَاتَّقُونِ) كقوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].

وقال هنا : «فاتّقون» وهناك : «فارهبون» لأن ترك المأمور به هناك معصية ، وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ، وهنا ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمنا قليلا كفر ، فناسب ذكر الرهب هناك ؛ لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية ، وذكر التقوى هنا ؛ لأنه كفر لا يجوز العفو عنه ؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لا بدّ منه.

فصل في الباعث على كفر زعماء اليهود

قال ابن عباس : إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا ، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لا نقطعت عنهم تلك الهدايا ، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحتقر.

قال القرطبي في تفسيره : هذه الآية وإن كانت خاصّة ببني إسرائيل ، فهي تتناول من فعل فعلهم ، فمن أخذ رشوة على تغيير حق ، أو إبطاله ، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه ، أو أداء ما علمه ، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجرا ، فقد دخل في مقتضى الآية.

وروى أبو داود عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلّم علما مما يبتغي به وجه الله لا يتعلّمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة» (١) يعني : ريحها.

وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، فمنع ذلك الزّهري ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن (٢ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧) كتاب العلم باب في طلب العلم لغير الله تعالى حديث رقم (٣٦٦٤).

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٢٥٢) ـ وابن حبان في صحيحه حديث (٨٩) وأحمد في المسند (٢ / ٣٣٨) ـ وابن أبي شيبة (٨ / ٥٤٣).

والحاكم في المستدرك (١ / ٨٥) ـ والخطيب في التاريخ (٥ / ٣٤٧) ، (٨ / ٧٨) ـ والعقيلي في الضعفاء (٣ / ٤٦٧) ـ وذكره المنذري في الترغيب ١ / ١١٥ ـ والقرطبي في التفسير ١ ـ / ١٨ ، ٣٣٥ والزبيدي في الإتحاف ١ / ١٨١ ، ١٠ / ٦٠.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي.

١٨

وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نيّة التقرب ، فلا يؤخذ عليها أجره كالصّلاة والصيام.

واستدلوا بالآية [وروى أبو هريرة قال : قلت : يا رسول الله ما تقول في المعلّمين؟ قال : «درهمهم حرام ، وشربهم سحت وكلامهم رياء»](١).

وروى عبادة بن الصامت قال : علمت ناسا من أهل الصفّة القرآن والكتابة ، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا ، فقلت : ليست بمال [وأرمي] عنها في سبيل الله ، فسألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن سرّك أن تطوّق بها طوقا من نار فاقبلها» (٢).

وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك ، والشّافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، وأكثر العلماء ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الرّقية :

«إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» (٣) أخرجه البخاري ، وهو نصّ [يرفع الخلاف ، فينبغي أن يعوّل عليه](٤).

وأما حجّة [المخالفين](٥) فقياسهم في مقابلة النّص ، وهو قادر ، ويمكن الفرق ، وهو أن الصّلاة والصّوم عبادات مختصّة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم ، فيجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن.

قال ابن المنذر ، وأبو حنيفة : يكره تعليم القرآن بأجرة ، ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم ، فيجوز الإجارة فيما هو معصية ، ويبطلها فيما هو طاعة.

وأما الآية فهي خاصّة ببني إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ فيه خلاف ، وهو لا يقول به ، ويمكن أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التّعليم ، فأبى حتى يأخذ عليه أجرا.

فأما إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السّنّة في ذلك ، وقد يتعيّن عليه إلّا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ، ولا على عياله ، فلا يجب عليه التّعليم ، وله أن يقبل على صنعته وحرفته. [وأما أحاديثهم فلا يصح منها شيء في الدليل](٦).

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي : (١ / ٣٣٥).

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٣٠) رقم (٢١٥٧) وأحمد (٥ / ٣١٥) والبيهقي (٦ / ١٥٥).

(٣) أخرجه البخاري «كتاب الطب» باب الشروط في الرقية رقم (٥٧٣٧) والبيهقي (١ / ٤٣٠) وابن حبان (١١٣١) والدار قطني (٣ / ٦٥) رقم (٢٤٨) والبغوي (٨ / ٢٦٧).

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : المخالف.

(٦) سقط في أ.

١٩

قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤٢)

أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان :

أحدهما : أن يكون الغير قد سمع دلائل الحق ، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات.

والثاني : أن تخفي تلك الدّلائل عنه ، وتمنعه من الوصول إليها فقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) إشارة إلى الأول ، وقوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) إشارة إلى الثاني.

والباء في قوله : «بالباطل» للإلصاق كقولك : «خلطت الماء باللّبن» ، أي : لا تخلطوا الحقّ بالباطل ، فلا يتميز.

وقال «الزمخشري» : إن كانت صلة مثلها في قولك : لبست الشيء بالشّيء ، وخلطته به كان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم.

وإن كانت «باء» الاستعانة كالتي في قولك : «كتبت بالقلم» كان المعنى : ولا تجعلوا الحقّ مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه.

فأجاز فيها وجهين كما ترى ، ولا يريد بقوله «صلة» أنها زائدة ، بل يريد أنها موصلة للفعل كما تقدم.

وقال «أبو حيان» : «وفي جعله إياها للاستعانة بعد ، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة» ، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟

وقال ابن الخطيب (١) : [إنها «باء» الاستعانة](٢). والمعنى : ولا تلبسوا الحقّ بسبب الشبهات التي توردونها على السّامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات ، فهذا هو المراد بقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ ،) فهو المذكور في قوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [غافر : ٥].

و «اللّبس» : الخلط والمزج ؛ لقوله : لبست عليه الأمر ألبسه خلطت بيّنه بمشكله ؛ ومنه قوله الخنساء : [البسيط].

٤٣٦ ـ ترى الجليس يقول الحقّ تحسبه

رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا

صدّق مقالته واحذر عداوته

والبس عليه أمورا مثل ما لبسا (٣)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤٠.

(٢) في أ : الأظهر أنها للاستعانة ، والذي أثبتناه موافق للرأي.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٢٣٢ ، الدر المصون : ١ / ٢٠٨٠.

٢٠