اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

أردت : ذاك وذلك. والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها ، وجمعها ، وتأنيثها ليست على الحقيقة ، وكذلك الموصولات ، ولذلك جاء «الذي» بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله : «عوان بين ذلك» على جواز الاجتهاد ، واستعمال غلبة النّص في الأحكام ، إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد.

قوله : (ما تُؤْمَرُونَ) «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره : تؤمرون به ، فحذفت الباء ، وهو حذف مطرد ، فاتصل الضمير فحذفت «الهاء» ، وليس هو نظير : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] فإن الحذف ـ هناك ـ غير مقيس.

ويضعف أن تكون «ما» نكرة موصوفة.

قال أبو البقاء (١) : لأن المعنى على العموم ، وهو ب «الذي» أشبه ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : أمركم بمعنى مأموركم ، تسمية للمفعول بالمصدر ك «ضرب الأمير» قاله الزمخشري(٢).

و «تؤمرون» مبني للمفعول ، و «الواو» قائم مقام الفاعل ، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة.

فصل في الغاية من وصف البقرة

والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها ، وذلك لأن الصّغيرة تكون ناقصة ؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال ، والمسنّة صارت ناقصة ؛ لتجاوزها حدّ الكمال ، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال. قاله الثعلبي.

قوله : (ما لَوْنُها) كقوله : «ما هي».

وقرأ الضحاك : «لونها» بالنصب.

وقال أبو البقاء (٣) : لو قرىء : «لونها» بالنصب لكان له وجه ، وهو أن تكون «ما» زائدة كهي في قوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) [القصص : ٢٨] ويكون التقدير : يبين لنا لونها وهذا تجديد للأمر ، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّت ، وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب ، ويدل على أن الأمر على الفور ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذمهم على التأخير بقوله : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].

واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي ؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب ، قاله القرطبي عن ابن خويزمنداد (٤).

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٤٢.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٥٠.

(٣) ينظر الاملاء : ١ / ٤٢.

(٤) محمد بن أبي بكر بن خويزمنداد. كنيته أبو عبد الله ، تفقه على الأبهري وله كتاب كبير في الخلاف ، ـ

١٦١

قال الثعلبي : وقرأ الضحاك : «لونها» بالنصب.

وأما «ما هي» فابتداء وخبر لا غير ، إذ لا يمكن جعل «ما» زائدة ؛ لأن «هي» لا يصح أن يكون مفعول «يبين» يعني : أنها بصيغة الرفع ، وهذا ليس من مواضع زيادة «ما» فلا حاجة إلى هذا.

واللّون عبارة عن الحمرة والسّواد ونحوهما ، واللّون ـ أيضا ـ النّوع ، وهو الدّقل نوع من النخل.

قال الأخفش : «هو جماعة واحدها لينة» وفلان يتلوّن ، أي : لا يثبت على حال ؛ قال الشاعر : [الرمل]

٥٨٠ ـ كلّ يوم تتلوّن

غير هذا بك أجمل (١)

و «صفراء فاقع لّونها» يجوز أن يكون «فاقع» صفة ، و «لونها» فاعل به ، وأن يكون خبرا مقدما و «لونها» مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء.

وفي الوجه الأول نظر ، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال.

فإن قيل : يكون العمل ل «صفراء» لا ل «فاقع» ، كما تقول : «مررت برجل أبيض ناصع لونه» ف «لونه» مرفوع ب «أبيض» لا ب «ناصع».

فالجواب : أن ذلك ـ هاهنا ـ ممنوع من جهة أخرى ، وهو أن «صفراء» مؤنّث اللفظ ، ولو كان رافعا ل «لونها» لقيل : أصفر لونها ، كما تقول : مررت بامرأة أصفر لونها ، ولا يجوز : صفراء لونها ؛ لأن الصفة كالفعل ، إلّا أن يقال : إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث ، فعومل معاملته كما سيأتي.

ويجوز أن يكون «لونها» مبتدأ و «تسرّ» خبره ، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث ؛ كقوله : [الطويل]

٥٨١ ـ مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم (٢)

__________________

ـ وكتاب في أصول الفقه ، وكتاب في أحكام القرآن. وكان يجانب الكلام ، وينافر أهله ، حتى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة ويحكم على الكل منهم بأنهم من أهل الأهواء كما قال مالك.

انظر الديباج : ٢ / ٢٢٩ ، وشجرة النور : ١ / ١٠٣.

(١) البيت ينظر القرطبي : ١ / ٣٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٧

(٢) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ٧٥٤ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢٢٥ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٨ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ٦٥ ، والمحتسب : ١ / ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٦٧ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ٢٣٩ ، والخصائص : ٢ / ٤١٧ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٠ ، وشرح ابن عقيل : ص ٣٨٠ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٧٣٨ ، ولسان العرب (عرد) ، (صدر) ، (قبل) ، والمقتضب : ٤ / ١٩٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٧.

١٦٢

وقول الآخر : [الطويل]

٥٨٢ ـ وتشرق [بالقول] (١) الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم (٢)

أنّث فعل المرّ والصّدر لما أضيفا لمؤنث ، وقرىء (٣) : تلتقطه بعض السيارة [يوسف : ١٠].

وقيل : لأن المراد باللّون هنا الصّفرة ، وهي مؤنّثة ، فحمل على المعنى في ذلك ، ويقال : أصفر فاقع ، وأبيض ناصع ، ويقق ولهق ولهاق ، وأخضر ناضر ، وأحمر قانىء ، وأسود حالك وحائك وحلكوك ، ودجوجيّ وغربيب ، وبهيم.

وقيل : «البهيم الخالص من كل لون».

وبهذا يظهر أن «صفراء» على بابها من اللون المعروف لا سوداء كما قاله بعضهم : فإن الفقوع من صفة الأصفر خاصّة ، وأيضا فإنه مجاز بعيد ، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لقرب سوادها من الصّفرة ، كقوله تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات : ٣٣] وقال : [الخفيف]

٥٨٣ ـ تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب (٤)

فإن قيل : هلّا قيل : صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذكر اللون؟

فالجواب : فائدته التأكيد ؛ لأن اللون اسم للهيئة ، وهي الصّفرة ، فكأنه قال : شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك : جدّ جدّه.

وعن وهب : إذا نظرت إليها خيّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، فمعنى قوله: (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي : يعجبهم حسنها وصفاء لونها ، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن.

قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : من لبس نعلا صفراء قلّ همه ؛ لأن الله تعالى يقول : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)(٥).

__________________

(١) في أ : بالأمر.

(٢) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ص ١٧٣ ، وخزانة الأدب : ٥ / ١٠٦ ، والدرر : ٥ / ١٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٤ ، والكتاب : ١ / ٥٢ ، ولسان العرب (صدر) ، (شرق) ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٧٨ ، والأزهية : ص ٢٣٨ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ٢٥٥ ، والخصائص : ٢ / ٤١٧ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٥١٣ ، والمقتضب : ٤ / ١٩٧ ، ١٩٩ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٤٩ ، والدر : ١ / ٢٥٧.

(٣) ستأتي في يوسف (١١٠).

(٤) البيت للأعشى. ينظر ديوانه : (٣٣٥) ، الأضداد : (١٣٨) ، اللسان (خشب) ، الدر المصون : ١ / ٢٥٧.

(٥) أخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (٥ / ١٣٨) وابن أبي حاتم والخطيب والديلمي كما في «الدر المنثور» (١ / ١٥١) عن ابن عباس موقوفا والحديث ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ٣١٩) ـ

١٦٣

قال الكسائي ؛ يقال : فقع لونها يفقع فقوعا ، إذا خلصت صفرته ، والإفقاع : سوء الحال ، وفواقع الدهر : بوائقه ، وفقّع بأصابعه : إذا صوّت ، ومنه حديث ابن عباس : «نهى عن التّفقيع في الصلاة» ، وهي الفرقعة ، وهي غمز الأصابع حتى تنقض ، قاله القرطبي.

واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قرونها وأظلافها ، أو الصفرة المعتادة؟ قولان. وفي قوله : «فاقع» لطيفة ، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار. يعني : في الماضي والمستقبل.

وفي قوله : «تسرّ» لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدّد والحدوث ، بخلاف الماضي.

وفي قوله : «النّاظرين» آية لطيفة ، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المحلّى بالألف واللام ، ليعمّ كلّ ناظر منفردين ومجتمعين.

وقيل : المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين ، وهو التفكر في المخلوقات.

قوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) جملة في محل رفع صفة ل «بقرة» أيضا ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبرا عن «لونها» بالتأويلين المذكورين.

و «السرور» لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه ، ومنه [السرير](١) الذي يجلس عليه إذا كان لأولي النعمة ، وسرير الميت تشبيها به في الصورة وتفاؤلا بذلك.

قوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تقرير للسؤال عن حالها وصفتها ، واستكشاف زائد ، ليزدادوا بيانا لوصفها ، وفي مصحف عبد الله : «سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما صفتها».

قوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) البقر : اسم إن ، وهو اسم جنس كما تقدم.

وقرأ محمد (٢) ذو الشامة الأموي : «إنّ الباقر» وهو جمع البقر ك «الجامل» جماعة الجمل ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٥٨٤ ـ ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا

خلقا كحوض الباقر المتهدّم (٣)

__________________

ـ وقال : رواه سهل بن عثمان العسكري عن ابن العذراء عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وقال : قال أبي : هذا حديث كذب موضوع.

وذكره الهيثمي في «المجمع» وعزاه للطبراني في «الكبير» وقال : وفيه ابن العذراء غير مسمى ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

(١) في ب : السرر.

(٢) وقرأ بها عكرمة ويحيى بن يعمر.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨.

(٣) ينظر معاني القرآن للزجاج : ١ / ١٢٧ ، البحر : ١ / ٤١٩.

١٦٤

قال قطرب : «يقال لجمع البقرة : بقر وباقر وباقور وبيقور».

وقال الأصمعيّ : «الباقر» جمع باقرة ، قال : ويجمع بقر على باقورة ، حكاه النّحاس.

قال القرطبي : والباقر والبقر والبيقور والبقير لغات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه ، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في «تشابه».

و «تشابه» جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل «إن» ، وقرىء (١) : «تشّابه» مشدّدا ومخفّفا ، وهو مضارع الأصل : «تتشابه» بتاءين ، فأدغم تارة ، وحذف منه أخرى ، وكلا الوجهين مقيس.

وقرىء أيضا (٢) : «يشّابه» بالياء من تحت ، [وأصله : يتشابه فأدغم أيضا ، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزان ؛ لأن فاعله اسم جنس](٣) وفيه لغتان : التذكير والتأنيث ، قال تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] فأنّث ، و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] فذكر ، وقيل : ذكر الفعل لتذكير لفظ «البقرة» ؛ كقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).

وقال المبرّد : سئل سيبويه عن هذه الآية ، فقال : «كل جمع حروفه أقل من حروف واحده ، فإن العرب تذكره» ؛ واحتج بقول الأعشى : [البسيط]

٥٨٥ ـ ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل

[وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل (٤) (٥)

ولم يقل : «مرتحلون».

وفي «تشابه» قراءات (٦) : «تشابه» بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء ، وهي قراءة العامة. و «تتشابه» بتاءين على الأصل.

و «تشّبّه» بتشديد الشين والباء من غير ألف ، والأصل : تتشبّه.

__________________

(١) قرأ بالتشديد الحسن ، وروي عنه التخفيف ، وبالتشديد ـ أيضا ـ الأعرج.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨.

(٢) قرأ بها ابن مسعود ، والمطوعي.

انظر البحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر ديوانه : (١٠٥) ، الخصائص : (٢ / ٤٧٦) ، المحتسب : (١ / ١٠٥).

(٥) في أ : وتلمني ولمه أيها الرجل.

(٦) قراءة التائين قرأ بها يحيى بن يعمر ، وقراءة تشديد الشين والباء من غير ألف ، قرأ بها أبو بكر المعيطي ، وقراءة «متشابهة» ، و «متشبّه» ، الأولى للأعمش ، والثانية حكاها أبو عمرو الداني.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨ ، والتخريجات النحوية : ٣٦٢.

١٦٥

و «تشابهت» على وزن «تفاعلت» وهو في مصحف أبيّ كذلك أنّثه لتأنيث البقرة.

و «متشابهة» و «متشبّهة» على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه. وقرىء (١) : «تشبّه» ماضيا.

وقرأ ابن أبي إسحاق (٢) : «تشّابهت» بتشديد الشين ، قال أبو حاتم : هذا غلط ، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلّا في المضارع .. وهو معذور في ذلك.

وقرىء (٣) : «تشّابه» كذلك ، إلا أنه بطرح تاء التأنيث ، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل : إن البقرة تشابهت ، فالتاء الأولى من البقرة و [التاء](٤) الثانية من الفعل ، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو : الشجرة تمايلت ، إلّا أنه يشكل أيضا في تشّابه من غير تاء ؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث.

وجوابه : أنه مثل : [المتقارب]

٥٨٦ ـ ..........

ولا أرض أبقل إبقالها (٥)

مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعة.

وقرأ الحسن : «تشابه» بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد : تتشابه.

وقرأ الأعرج (٦) : «تشّابه» بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى : تتشابه.

وقرأ مجاهد : «تشّبّه» كقراءة الأعرج ، إلا أنه بغير ألف. ومعنى الآية : [التلبيس] والتشبه.

قيل : إنما قالوا : «إنّ البقر تشابه علينا» أي : اشتبه أمره علينا ، فلا نهتدي إليه ؛ لأن وجوه البقر [تتشابه] يريد : أنها يشبه بعضها بعضا ، ووجوه البقر تتشابه.

قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) هذا شرط جوابه محذوف لدلالة «إن» ، وما في حيّزها عليه ، والتقدير : إن شاء الله هدايتنا للبقرة ، اهتدينا ، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهداية ، واعترضوا بالشرط تيمّنا بمشيئة الله تعالى. و «المهتدون» اللام : لام الابتداء داخلة على خبر «إن».

وقال أبو البقاء (٧) : جواب الشرط «إن» وما عملت فيه عند سيبويه.

__________________

(١) قرأ بها مجاهد.

انظر البحر المحيط : ١ / ٤١٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٨.

(٢) تقدم تخريج هذه القراءة.

(٣) ينظر الدر : ١ / ٢٥٨ ، والبحر : ١ / ٤١٩ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٦٣.

(٤) سقط في ب.

(٥) تقدم برقم (٢٨٤).

(٦) ينظر تخريج القراءة السابقة.

(٧) ينظر الإملاء : ١ / ٤٣.

١٦٦

وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطا ، وخبر «إنّ» هو جواب الشرط في المعنى ، وقد وقع بعده ، فصار التقدير : إن شاء الله هدايتنا اهتدينا.

وهذا الذي قاله لا يجوز ، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطا وجب اقترانه بالفاء ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطا ، فلو كانت جوابا لزمتها الفاء ، ولا تحذف إلا ضرورة ، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب ، وسماه جوابا مجازا ؛ لأنه جعل ذلك مذهبا للمبرد مقابلا لمذهب سيبويه فقال : وقال المبرد : والجواب محذوف دلت عليه الجملة ؛ لأن الشرط معترض ، فالنية به التأخير ، فيصير كقولك : أنت ظالم إن فعلت.

وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه ، والذي نقله عن سيبويه قريب مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشّرط عليه ، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب : «أنت ظالم إن فعلت».

إذ لو كان جوابا لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك.

وأصل «مهتدون» : «مهتديون» ، فأعلّ بالحذف ، وهو واضح.

فصل في الاستثناء بالمشيئة

قال الحسن ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده لو لم يقولوا : إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا» (١).

واعلم أن التلفّظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله ، قاله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه ، والاعتراف بقدرته.

فصل في الإرادة الكونية

احتج أهل السّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى.

وعند المعتزلة أن الله ـ تعالى ـ لما أمرهم بذلك ، فقد أراد اهتداءهم لا محالة ، وحينئذ لا يبقى لقولهم : (إِنْ شاءَ اللهُ) فائدة.

قال ابن الخطيب (٢) : أما على قول أصحابنا ، فإن الله ـ تعالى ـ قد يأمر بما لا يريد ، فحينئذ يبقى لقولهم : (إِنْ شاءَ اللهُ) فائدة.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٢ / ١٥٠) عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : لو لا أن بني إسرائيل قالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون ما أعطوا أبدا.

وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ١٥٨) عن ابن جريج ولفظه : لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١١١.

١٦٧

فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة

احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله ـ تعالى ـ محدثة من وجهين :

الأول : أن دخول حرف «إن» يقتضي الحدوث.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء ، فلما لم يكن حصول الاهتداء أزليّا وجب ألّا تكون مشيئة الاهتداء أزلية.

فصل في تقدير المشيئة

ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوها :

أحدها : وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها.

وثانيها : وإنا إن شاء الله تعريفها إيّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها.

وثالثها : وإنا إن شاء الله على هدى ، أي : في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر ، أي : إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث.

ورابعها : إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها.

قال القرطبي : وفي هذا الاستثناء إنابة وانقياد ، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر.

وتقدير الكلام : وإنما لمهتدون إن شاء الله.

فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به.

قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) المشهور «ذلول» بالرفع على أنها صفة ل «بقرة» ، وتوسطت «لا» للنفي كما تقدم في «لا فارض» ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : لا هي ذلول ، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [محل](١) رفع صفة ل «بقرة».

وقرىء (٢) : «لا ذلول» بفتح اللام على أنها «لا» التي للتّبرئة والخبر محذوف تقديره : لا ذلول ثمّ أو ما أشبهه ، وليس المعنى على هذه القراءة ، ولذلك قال الأخفس : «لا ذلول نعت ، ولا يجوز نصبه».

و «الذّلول» : التي ذلّلت بالعمل ، يقال : بقرة ذلول بيّنة الذّل ـ بكسر الذال ، ورجل ذليل : بين الذّل ـ بضمّها ، وقد تقدم عند قوله : (الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١].

__________________

(١) في ب : موضع.

(٢) قرأ بها أبو عبد الرحمن السلمي.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٣ ، والكشاف : ١ / ١٥١ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢١ ، الدر المصون : ١ / ٢٥٩.

١٦٨

[قوله] : (تُثِيرُ الْأَرْضَ) في هذه الجملة أقوال كثيرة :

أظهرها : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في «ذلول» تقديره : لا تذلّ حال إثارتها.

وقال ابن عطية : وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل «بقرة» أي : لا ذلول مثيرة.

وقال أيضا : «ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ؛ لأنها نكرة».

أما قوله : في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض ، وهذا لم يقل به الجمهور ، بل قال به بعضهم ، وسيأتي إن شاء الله.

وأما قوله : لا يجوز أن تكون حالا يعني من «بقرة» ؛ لأنها نكرة.

فالجواب : أنّا لا نسلم أنها حال من «بقرة» ، بل من الضمير في «ذلول» كما تقدم ، أو تقول : بل هي حال من النكرة ؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله : «لا ذلول» ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقا.

وقيل : إنها مستأنفة ، [واستئنافها على وجهين :

أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي تثير.

والثاني : أنها مستأنفة] بنفسها من غير تقدير مبتدأ ، بل تكون جملة فعلية ابتدىء بها لمجرد الإخبار بذلك. وقد منع من القول باستئنافها جماعة منهم الأخفش عليّ بن سليمان ، وعلل ذلك بوجهين :

أحدهما : أن بعده : «ولا تسقي الحرث» فلو كان مستأنفا لما صحّ دخول «لا» بينه وبين «الواو».

والثّاني : أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله ـ تعالى ـ نفى عنها ذلك بقوله : «لا ذلول» وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون «تثير» صفة ل «بقرة» ؛ لأن اللازم مشترك ، ولذلك قال أبو البقاء : ويجوز على قول من أثبت هذا الوجه ـ [يعني : كونها تثير الأرض ولا تسقي ـ أن تكون «تثير» في موضع رفع صفة ل «بقرة».

وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مرحها ونشاطها ؛ كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٨٧ ـ يهيل ويذري تربه ويثيره

إثارة نبّاث الهواجر مخمس (١)

أي : تثير الأرض مرحا ونشاطا لا حرثا وعملا.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (١٠٢) ، القرطبي : ١ / ٣٠٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٥٩.

١٦٩

وقال أبو البقاء (١) : وقيل : هو مستأنف ، ثم قال : وهو بعيد عن الصّحة لوجهين :

أحدهما : أنه عطف عليه قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ، فنفى المعطوف ، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك ؛ لأنه في المعنى واحد ، ألا ترى أنك لا تقول : مررت برجل قائم ولا قاعد ، بل تقول : لا قاعد بغير واو ، كذلك يجب أن يكون هذا.

وذكر الوجه الثاني لما تقدم ، وأجاز أيضا أن يكون «تثير» في محلّ رفع صفة ل «ذلول» ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟

فهذه ستة أوجه تلخيصها : أنها حال من الضمير في «ذلول» ، أو من «بقرة» ، أو صفة ل «بقرة» ، أو ل «ذلول» ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ ، أو دونه.

قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) الكلام في هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل «بقرة» ، أو خبر لمبتدأ محذوف.

وقال الزمخشري : و «لا» الأولى للنفي يعني الدّاخلة على «ذلول».

والثانية مزيدة لتأكيد الأولى ؛ لأن المعنى : لا ذلول تثير [الأرض](٢) وتسقي ، على أن الفعلين صفتان ل «ذلول» ، كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية.

وقرىء (٣) : «تسقى» بضم التاء من «أسقى».

وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) [الروم : ٩] أي : بالحرث والزراعة ، وفي الحديث : «أثيروا القرآن فإنّه علم الأوّلين والآخرين».

وفي رواية : «من أراد العلم فليثوّر القرآن» (٤).

وجملة القول أن البقرة لا يكون بها نقص ، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض ، وتسقي الحرث لا بد وأن يظهر بها النقص.

قال القرطبي : قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفها الله ـ تعالى ـ بأنها لا تثير الأرض ، ولا تسقي الحرث (٥).

وقال : الوقف ـ هاهنا ـ حسن.

و «مسلّمة» قيل : من العيوب مطلقا.

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٤٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) انظر الكشاف : ١ / ١٥٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٠ ، والشواذ : ٧.

(٤) الحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ١٦٨) عن عبد الله بن مسعود موقوفا وقال : رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.

(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (٢ / ١٩٩) عن الحسن.

١٧٠

وقيل : من آثار العمل المذكور.

وقيل : مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها ، أي : خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله : (لا شِيَةَ فِيها) يصير تكرارا.

و «شية» : مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا وشية ، حذفت فاؤها ؛ لوقوعها بين ياء وكسره في المضارع ، ثم حمل باقي الباب عليه ، ووزنها «علة» ومثلها :

«صلة وعدة وزنة».

وهي عبارة عن اللّمعة المخالفة للون ، ومنه : ثوب موشيّ : أي : منسوج بلونين فأكثر ، وثور موشيّ القوائم ، أي : أبلقها ؛ قال : [البسيط]

٥٨٨ ـ من وحش وجرة موشيّ أكارعه

طاوي المصير كسيف الصّيقل الفرد (١)

ومنه : الواشي ـ للنّمّام ؛ لأنه يشي حديثه ، أي : يزينه ويخلطه بالكذب.

وقال بعضهم : ولا يقال له واش حتى يغير كلامه ويزينه.

ويقال : ثور أشيه ، وفرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ، كل ذلك بمعنى البلقة.

و «شية» اسم «لا» ، و «فيها» خبرها.

فصل في ضبط الحيوان بالصفة

دلت هذه الآيات على ضبط الحيوان بالصفة ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السّلم فيه ، وكذلك كل ما ضبط بالصفة.

وقال عليه الصلاة والسلام :

«لا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنّه ينظر إليها» (٢). فجعل عليه الصلاة والسلام الصّفة تقوم مقام الرؤية.

قوله : (الْآنَ جِئْتَ) الآن منصوب ب «جئت» ، وهي ظرف للزّمان يقتضي الحال ، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة.

__________________

(١) البيت للنابغة. ينظر ديوانه : (٧) ، القرطبي : (٦ / ١٥٠) ، البحر : (١ / ٤١٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٦٠).

(٢) أخرجه أبو داود في السنن (١ / ٦٥٢ ـ ٦٥٣) كتاب النكاح باب فيما يؤمر به من غض البصر حديث رقم (٢١٥٠) ولفظه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها والطبراني في الكبير (١٠ / ١٧٣) بلفظه.

وذكره ابن عبد البر في التمهيد (٤ / ٦٥).

والهندي في كنز العمال حديث رقم ٤٥١١٨.

١٧١

وقال بعضهم : هذا هو الغالب ، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال ، كقوله :(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) [الجن : ٢] (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) [البقرة : ١٨٧] فلو كان يقتضي الحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال ، وعبر عنه هذا القائل بعبارة توافق مذهبه وهي : «الآن» لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله : «أو بعضه» نحو : «فمن يستمع الآن يجد له» ، وهو مبني.

واختلف في علّة بنائه : فقال الزّجّاج (١) : لأنه تضمن معنى الإشارة ؛ لأن معنى أفعل الآن ، أي : هذا الوقت.

وقيل : لأنه أشبه الحرف في لزوم لفظ واحد ، من حيث إنه لا يثنّى ولا يجمع ولا يصغّر.

وقيل : لأنه تضمّن معنى حرف التعريف ، وهو الألف واللام ك «أمس» ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه ، ولم يعهد معرف ب «أل» إلا معربا ، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي والّتي» وبابهما ، ويعزى هذا للفارسي ، وهو مردود بأن التضمين اختصار ، فكيف يختصر الشيء ، ثم يؤتى بمثل لفظه.

وهو لازم للنظر فيه ، ولا يتصرف غالبا ، وقد وقع مبتدأ في قوله عليه الصلاة والسلام : «فهو يهوي في قعرها الآن حين انتهى».

ف «الآن» مبتدأ ، وبني على الفتح لما تقدم ، و «حين» خبره ، بني لإضافته إلى غير متمكّن ، ومجرورا في قوله :

٥٨٩ ـ أإلى الآن لا يبين ارعواء

 .......... (٢)

وادعى بعضهم إعرابه مستدلّا بقوله : [الطويل]

٥٩٠ ـ كأنّهما ملآن لم يتغيّرا

وقد مرّ للدّارين من بعدنا عصر (٣)

يريد : «من الآن» فجره بالكسرة ، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر ، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماض ، وأن أصله «آن» بمعنى : «حان» فدخلت عليه «أل» زائدة ،

__________________

(١) ينظر معاني القرآن : ١ / ١٢٦.

(٢) صدر بيت لعمر بن أبي ربيعة. وعجزه :

لك بعد المشيب عن ذا التصابي

ينظر ديوانه : (٤٢٣) والهمع : ١ / ٢٠٧ ، الدرر : ١ / ١٧٤ ، والدرر : ١ / ٢٦١.

(٣) البيت لأبي صخر الهذلي ينظر الدرر : ٣ / ١٠٦ ، سر صناعة الإعراب : ٢ / ٥٣٩ ، وشرح أشعار الهذليين : ٢ / ٩٥٦ ، شرح شواهد المغني : ١ / ١٦٩ ، والمنصف : ١ / ٢٢٩ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٣٣ ، لسان العرب (أين) ، شرح شذور الذهب : ص ١٦٥ ، الخصائص : ١ / ٣١٠ ، رصف المباني : ص ٣٢٦ ، سر صناعة الإعراب : ٢ / ٤٣٩ ، ٤٤٠ ، شرح المفصل : ٨ / ٣٥ ، همع الهوامع : ١ / ٢٠٨ ، ٢ / ١٩٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦١.

١٧٢

واستصحب بناؤه على الفتح ، وجعله مثل قولهم «ما رأيته من شب إلى دبّ».

وقوله عليه الصلاة والسلام : «وأنهاكم عن قيل وقال» (١).

ورد عليه بأن «أل» لا تدخل على المنقول من فعل ماض ، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره.

وعنه قول آخر أن أصله «أوان» فحذفت الألف ، ثم قلبت الواو ألفا ، فعلى هذا ألفه عن واو.

وأدخله الرّاغب في باب «أين» ، فتكون ألفه عن «ياء». والصواب الأول.

وقرىء : قالوا : ألآن بتحقيق الهمزة من غير نقل ، وهي قراءة الجمهور.

و «قال : لأن» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها ، وحذف الهمزة ، وهو قياس مطّرد ، وبه قرأ (٢) نافع وحمزة باختلاف عنه.

و «قالوا : لآن» بثبوت «الواو» من «قالوا» ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء الساكنين ، وقد تحركت «اللام» لنقل حركة «الهمزة» إليها ، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر «محمر».

وسيأتي تحقيق هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ في (عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] ويحكى وجه رابع «قالوا : آلآن» بقطع همزة الوصل ، وهو بعيد ، و «بالحق» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون باء التّعدية كالهمزة كأنه قيل : «أجأت الحق» ، أي : ذكرته.

الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «جئت» أي : جئت ملتبسا بالحق ، أو «ومعك الحق».

فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا

قال القاضي : قولهم : «الآن جئت بالحقّ» كفر من قبلهم لا محالة ؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة.

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفرا.

قوله : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي : فذبحوا البقرة. و «كادوا» كاد واسمها وخبرها ، والكثير في خبرها تجرده من «أن».

وشذ قوله : [الرجز]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ٨ / ١٧٩ كتاب الرقاق باب ما يكره من قيل وقال .. حديث رقم (٦٤٧٣) وفي «الأدب المفرد» رقم (٤٦) وأحمد (٤ / ٢٥٠).

(٢) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٢ ، والدر المصون : ١ / ٢٦١.

١٧٣

٥٩١ ـ قد كاد من طول البلى أن يمصحا (١)

وهي عكس «عسى» وذكروا ل «كاد» تفسيرين :

أحدهما : قالوا : نفيها إثبات وإثباتها نفي ، فقوله : كاد يفعل كذا ، معناه : قرب من أن يفعل ، لكنه ما فعله.

والثاني : قال عبد القاهر النحوي : إن «كاد» لمقاربة الفعل ، فقوله : «كاد يفعل» [معناه](٢) قرب من فعله.

وقوله : «ما كاد يفعل» معناه : ما قرب منه.

وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية ؛ لأن قوله : (وَما كادُوا) معناه ما قاربوا الفعل ، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل ، فلو كانت «كاد» للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية ، وقد تقدم الكلام على كاد عند قوله (يَكادُ الْبَرْقُ) [البقرة : ٢٠].

فصل في النسخ بالأشقّ

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : لو ذبحوا أيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم ؛ لكنهم شددوا على أنفسهم ، فشدد الله ـ تعالى ـ عليهم (٣) ، فعلى هذا نقول : التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت ، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضا ولا بكرا ، قيل : عوان ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كلّفوا أن تكون مع ذلك لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان ، فلا بد من كونه تكليفا بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل (٤) بالأشقّ

__________________

(١) تقدم برقم (٢٤٣).

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٠٤) وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (١ / ١٥١).

(٤) اتفق الأصوليون على جواز نسخ الحكم بأخفّ ، أو مساو. واختلفوا في جوازه بأثقل : فالجمهور ذهب إلى جوازه عقلا ، ووقوعه شرعا ، ومنع ذلك طائفة ؛ منهم الإمام الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ مفترقين إلى فرقتين : فرقة منعت جوازه عقلا ووقوعه شرعا ، وفرقة منعت وقوعه شرعا فقط.

والدّليل على جوازه عقلا : هو أننا إمّا أن نعتبر المصلحة في فعله ـ تعالى ـ أم لا ، فإن ذهبنا إلى اعتبار المصلحة ، فلعل المصلحة تكون في رفع الحكم ، والإتيان بما هو أثقل منه ، وإن ذهبنا إلى عدم اعتبارها ، فله أن ينسخ الحكم ويأتي بما هو أخفّ وأثقل ؛ حيث هو الفاعل المختار.

والدّليل على وقوعه شرعا : ما ثبت من نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، والظاهر أن انتساخه كان بالتخيير بين صوم رمضان كله ، وبين فدية كل صوم ، ولا شكّ أن هذا التخيير أشق على الإنسان من صوم يوم واحد ، وإنكاره مكابرة.

وأما على قول من قال : «لم يشرع تخيير قط» بل أوجب الصوم في شهر رمضان كله ابتداء ، بدل هذا الصوم الواحد ، والآية في حق الشيخ الفاني ؛ فالأمر أظهر. ـ

١٧٤

__________________

ـ ومنه نسخ الحبس في البيوت الثابت بقوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) بإقامة الحد وهو : إما الجلد ، أو الرجم .. روى البيهقي في سننه ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : «كانت المرأة إذا زنت ، حبست في البيت حتى تموت ، فأنزل الله بعد ذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإن كانا محصنين ، رجما ، فهذا السبيل الذي جعل لها». وقد روي هذا بطرق كثيرة ، ولا شك أن الحبس في البيوت أهون من الرجم الذي يموت فيه بيقين ، والجلد الذي قلّما يبرأ منه الإنسان ؛ هذا هو القول الصحيح المعول عليه. وأما ما ذهب إليه العلامة البيضاوي : من عدم نسخ هذه الآية ؛ لاحتمال أن يكون المراد من قوله : «فَأَمْسِكُوهُنَّ» : التوصية بإمساكهن في البيوت بعد الجلد ، حتى لا تكون عرضة للرّجال ، فيجري عليهن ما جرى بسبب الخروج ، ولم يذكر الحد ؛ اكتفاء بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الخ ـ فمجرد احتمال ، وهو لا يعارض قول الصحابي ؛ لأنه حجّة في أخبار النسخ.

ومنه نسخ التخيير بين الصوم والفدية المدلول عليه بقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) بتخيير الصوم المدلول عليه بقوله تعالى : «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» ؛ روى الشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والدارمي ، والحاكم ، والبيهقي عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من شاء منّا ، صام ، ومن شاء ، يفطر ويفتدي ، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

ومنه نسخ إباحة الخمر ، ونكاح المتعة ، ولحوم الحمر الأهلية بتحريمها.

ومنه نسخ كون الحج مندوبا ؛ بكونه فرضا ، وإباحة تأخير الصلاة عند الخوف ؛ بوجوب أدائها في أثناء القتال ، وكل ذلك نسخ بالأشق والأثقل ، وتقرير الدليل على هيئة قياس منطقي هكذا : لو لم يجز نسخ الحكم بما هو أشق أو أثقل ، ما وقع ، والثاني وهو عدم الوقوع باطل ، فبطل المقدم وهو عدم الجواز ؛ فثبت النقيض وهو الجواز المطلوب ، أما الملازمة فبديهية ؛ لأن الوقوع فرع الجواز ، وأما الاستثنائية فدليلها ما تقدم من قولنا : ما ثبت. ومن قالوا بالمنع قالوا : «أولا» النقل من الأخف إلى الأثقل أبعد من المصلحة ، وكل ما كان أبعد من المصلحة لا يجوز التكليف به ؛ فضلا عن وقوعه ، فالنقل من الأخف إلى الأثقل لا يجوز التكليف به ؛ فضلا عن وقوعه ، دليل الصغرى : أن تكليف المكلف بما هو أشق ليس من مصلحته ، والكبرى ضرورية.

ويردّ على هذا الدليل النقض الإجمالي ؛ فإنه يلزمه في أصل التكليف ؛ فإنه نقل من البراءة الأصلية إلى ما هو أثقل ، فينبغي ألّا يجوز ، لكنه جائز اتفاقا .. ويدفع هذا النقض بأن البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا ، حتى يكون التكليف نقلا منها ، والكلام فيه فإن قلت : ليس في النقل شناعة إلا لأجل إيقاعه في العسر بعدما كان في اليسر ، وهو متحقق ههنا ، فينبغي ألّا يصح ؛ فانتفى الدليل.

قلت جوابا عن هذا : بأنه لم يكن هناك يسر من الشارع ، وإنما كانت البراءة للجهل بالمصالح ، فإذ قد تفضل الحكيم فكلف على حسب المصالح ، فلو نقل من اليسر الثابت منه ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإن اليسر كان من الشارع الحكيم.

والحق في دفع الدليل وإبطاله .. الحل ، وذلك يكون بمنع الصغرى وعدم تسليمها ؛ إذ لا يبعد في النقل من الأخف إلى الأثقل ، فقد يكون الأثقل بعد الأخف أصلح للمكلف ، والحكيم يكلّف على حسب المصالح ؛ تفضلا منه علينا لا وجوبا ، كما يقول بذلك المعتزلة.

وثانيا : قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ، وقال تعالى في آية أخرى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ووجه الاستدلال بالآيتين : أن التكليف بالأثقل بعد الأخف غير مراد لله ـ تعالى ـ ، ـ

١٧٥

وعلى جواز النسخ قبل الفعل (١) ، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى أن الزيادة على النص نسخ ، وعلى حسن التكليف ثانيا لمن عصى ولم

__________________

ـ وكل ما هو كذلك لا يجوز التعبد به ، فالتكليف بالأثقل لا يجوز التعبد به ، دليل الصغرى الآيتان ، والكبرى ضرورية.

وقد أجاب بعض الأصوليين عن هذا الدليل بأنه : ليس المراد من التخفيف واليسر الواردين في الآيتين التخفيف واليسر في الدنيا ، وإنما المراد : التخفيف واليسر في الآخرة ؛ فالتخفيف تخفيف الحساب في الآية الأولى ، واليسر تكثير الثواب في الآية الثانية ناقلا «والسياق أكبر مؤيّد لهذا المراد» ولكن بالرجوع إلى سياق هاتين الآيتين ، وجدنا أن هذا الجواب خاطىء ؛ فإن الآية الأولى سيقت في معرض التشريع ، فإن الله بعد أن أباح للناس الفتيات المؤمنات إذا لم يستطيعوا طول المحصنات المؤمنات ، وخشوا العنت ـ بيّن أنه يريد هدايتهم سنن الذين من قبلهم ، والتوبة عليهم ، وأنه يريد التخفيف عليهم ، ولا معنى لذلك إلا التخفيف ؛ بالترخيص لهؤلاء العاجزين أن يتزوجوا الفتيات ، وذلك شأن الحكيم في كل تشريع ، فهو يراعي أحوال الضعفاء ؛ رعاية لمصالحهم الخاصة ، كما يراعي المصالح العامة ؛ ومثل ذلك : الآية الثانية ؛ فقد سيقت في معرض الترخيص للمرضى والمسافرين أن يفطروا ، ويقضوا عدة من أيام أخر ، فهي تماثل الآية الأولى ، ومتى علمنا أن مراده ـ سبحانه ـ بالتخفيف واليسر هو هذا ، ضعف احتجاج مانعي النسخ بالأثقل بهاتين الآيتين ؛ لأن موضوعهما الاستثناء من قواعد كلية لمصالح جزئية نسبية ، والكلام الآن في رفع حكم عام وإبداله بحكم آخر ، على أننا لو سلّمنا للخصم ما يقول ، فلا نسلّم أن هناك عموما ؛ فإن من البيّن ، أنه ليس المعنى : يريد الله جميع أنواع التخفيف واليسر ؛ إذ لو كان الأمر كذلك ، لما صحّ التكليف أصلا ، ولا الوقوع في الشدائد ، بل التخفيف أمر نسبي ؛ وكذا العسر واليسر ، ولو سلم العموم في الاثنين ، فمخصوص بثقال التكاليف بالاتفاق.

وثالثا : قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وظاهر هذه : أن الأيسر خير في حق المكلف دون الأثقل ، وتقرير الدليل على هيئة قياس منطقي ، نقول فيه : التكليف بالأيسر فيه مصلحة للمكلف ، وكل ما فيه مصلحة للمكلف لا يجوز استبداله بغيره ، فالتكليف بالأيسر لا يجوز استبداله بغيره ، دليل الصغرى الآية الكريمة ، والكبرى ضرورية.

والجواب عن هذا الدليل : أنّنا لا نسلم أن الأشق ليس بخير ، بل هو خير باعتبار الثواب في الآخرة ؛ كما أن الأخف خير باعتبار السهولة في الدنيا ، فإن الأشق أكثر ثوابا على ما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : «وأجرك على قدر تعبك» ، وقال : «أفضل الأعمال أحمزها» أي : أشقها على البدن.

فإن قلت : قد روي عن ابن عباس حمل الخيرية في الآية على الخيرية الدنيوية في المشقة وعدمها.

قلنا : لو سلم صحته ، فتأويل الراوي لا يكون حجّة إذا قام الدليل على خلافه ، أو نقول المراد الخيرية لفظا في الإعجاز والفصاحة والبلاغة.

(١) إن القائلين بجواز النسخ ، اتفقوا فيما بينهم على جواز نسخ حكم الفعل بعد خروج وقته ، واختلفوا في نسخ حكم الفعل قبل التمكن ، ومعنى التمكن : أن يمضي بعدما وصل الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به ، مثال ذلك : ما لو قال الشارع في رمضان : «حجّوا في هذه السنة» ثم قال قبل يوم عرفة : «لا تحجّوا» فقد ذهب إلى جواز ذلك الأشاعرة ، وكثير من أصحاب الشافعي ، وأكثر الفقهاء ، وعامّة أصحاب الحديث ، ومنع من ذلك : جماهير المعتزلة ، وأبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي ، وبعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل.

١٧٦

يفعل ما كلف أولا ، وعلى أن الأمر للوجوب والفور ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذمّ التثاقل فيه ، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه ، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر.

قال القاضي : إنما وجب ؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة ، فأمر تعالى بذبح البقرة ، لكي يظهر القاتل ، فيزول الشّر والفتنة ، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجبا.

وقال بعضهم : إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها ، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام ، وعلى القول الأول لا بدّ من بيان ما الذي حملهم على [هذا](١) الاستفسار؟

فقيل : إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيّا تعجبوا من ذلك ، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصيّ بتلك الخواص ، إلّا أن القوم أخطئوا في ذلك ؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله ـ تعالى ـ على يد موسى عليه الصلاة والسلام.

وقيل : لعلّ القوم أرادوا أيّ بقرة كانت إلّا أن القاتل خاف من الفضيحة ، فألقى شبهة في نفوسهم وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام.

قال القشيريّ (٢) في تفسيره : قيل : إن أوّل من راجع موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح ، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب.

وقيل : إن الخطاب الأول للعموم ، إلّا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه ، فسألوا طلبا لمزيد البيان ، وإزالة سائر الاحتمالات إلّا أن المصلحة تغيرت ، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.

وقيل : كان سؤالهم تقديرا من الله ـ عزوجل ـ وحكمة ، ومصلحة لصاحب البقرة ، فإنه يروى أن رجلا صالحا من بني إسرائيل كان له ولد بارّ ، وكان له عجلة فأتى بها غيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، ثم مات الأب فشبّت ، وكانت من أحسن البقر [وأتمّها](٣) وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة النيسابوري القشيري : زين الإسلام شيخ خراسان في عصره زهدا وعلما بالدين كانت إقامته بنيسابور ولد في ٣٧٦ ه‍ من كتبه «التيسير من التفسير مخطوط» لطائف الإشارات مطبوع ، الرسالة القشيرية توفي في ٤٦٥ ه‍.

ينظر طبقات السبكي : ٣ / ٢٤٣ ـ ٢٤٨ ، الوفيات : ١ / ٢٩٩ ، تاريخ بغداد : ١١ / ٨٣ ، مفتاح السعادة : ١ / ٤٣٨ ، كشف الظنون : ٥٢٠ ، تذكرة النوادر : ٢٤ ، الأعلام : ٤ / ٥٧.

(٣) في ب : وأثمنها.

١٧٧

اشتروها بملء مسكها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.

ذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي. وزاد الماوردي : ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل ، فأصاب كل فقير دينارين ، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.

فصل في سبب تثاقلهم

اختلفوا في السبب الذي كان لأجله (ما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، فقيل : لأجل غلاء ثمنها ، وقيل : لخوف الشهرة والفضيحة ، وعلى كلا القولين فالإحجام عن المأمور به غير جائز.

أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، إلّا أن يدل دليل على خلافه.

وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف ، فإن القود إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب ، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة ، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم ، لأنه الذي عرضهم إليه ، فيلزمهم إزالتها ، فكيف يجوز جعله سببا للتّثاقل في هذا الفعل.

قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها).

أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدما على الأمر بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة ، فلا يجب أن يكون متقدما في التلاوة في الأول ؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب ؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم ، وتارة على العكس ، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله ـ تعالى ـ بذبح البقرة فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفسا من قبل ، واختلفتم وتنازعتم ، فإني أظهر لكم القاتل الذي [سترتموه](١) بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة.

وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب.

قال القرطبي : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] إلى قوله : (إِلَّا قَلِيلٌ) فذكر إهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقول : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] فذكر الركوب متأخرا ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك ، ومثله في القرآن كثير ، قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] أي : أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا فإن قيل [هب أنه](٢) لا خلل في هذا النظم [ولكن النظم](٣) الآخر

__________________

(١) في ب : ستدعون.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

١٧٨

كان مستحسنا ، فما الفائدة في ترجيح هذا النظم؟

قلنا : إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل ؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع.

فصل في نسبة القتل إلى جميعهم

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) فعل وفاعل ، والفاء للسببية ؛ لأن التّدارؤ كان مسببا عن القتل ، ونسب القتل إلى الجميع ، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل ؛ لأنه وجد فيهم وهو مجاز شائع.

وأصل «ادّارأتم» : تدارأتم تفاعلتم من الدّرء هو الدّفع ، فاجتمعت «التاء» مع «الدال» وهي مقاربتها ، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالا ، وسكنت لأجل الإدغام ، ولا يمكن الابتداء بساكن ، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي «ادارأتم» ، والأصل اددارأتم فأدغم ، وهذا مطرد في كل فعل على «تفاعل» أو «تفعّل» فاؤه دال نحو : «تداين وادّاين ، وتديّن وادّين» أو طاء ، أو ظاء ، أو صادا ، أو ضادا نحو : «تطاير واطّاير» وتطير واطّير [وتظاهر واظّاهر ، وتطهر واطّهّر ، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو : تدارؤ وتطهّر](١) نظرا إلى الأصل.

وهذا أصل نافع في جميع الأبواب.

معنى «ادارأتم» : اختلفتم واختصمتم في شأنها.

وقيل : [تدافعتم](٢) أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره.

والكناية في قوله : «فيها» للنفس.

وقال القفال : ويحتمل إلى القتلة ؛ لأن قوله : «قتلتم» يدل على المصدر.

قوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) الله رفع بالابتداء و «مخرج» خبره ، و «ما» موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل.

فإن قيل : اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام.

فالجواب : أن هذه حكاية حال ماضية ، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨].

والكسائي يعمله مطلقا ، ويستدل بهذا ونحوه. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فلا بد من عائد ، تقديره : مخرج الذي كنتم تكتمونه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمصدر واقع موقع المفعول به ، أي : مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما : «فادّارأتم» وقوله : (فَقُلْنا : اضْرِبُوهُ) قاله الزمخشري.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : تدارأتم.

١٧٩

والضمير في : فاضربوه» يعود على «النفس» لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان ، أو على القتيل المدلول عليه بقوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) والجملة من «اضربوه» في محلّ نصب بالقول.

وفي الكلام محذوف والتقدير : فقلنا : اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي ، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله : (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) عليه ، فهو كقوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] أي : فضرب فانفجرت [وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) [البقرة : ١٨٤] أي : فأفطر فعدّة](١) وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة : ١٩٦] أي : فحلق ففدية.

فصل في بيان المضروب به

اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به.

فقيل : اللّسان ، لأنه آلة الكلام قاله الضحاك والحسين بن الفضل.

وقال سعيد بن جبير : بعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى ؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق ، وهو أول ما يخلق وآخر ما يبلى.

وقال مجاهد : بذنبها.

وقال عكرمة والكلبي : بفخذها الأيمن (٢).

وقال السّدّي : بالبضعة التي بين كتفيها.

وقيل : بأذنها.

وقال ابن عباس : بالعظم الذي يلي الغضروف ، وهو أصل الأذن [وهو المقتل](٣).

والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة ؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به ، فإنهم كانوا ممتثلين الأمر ، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العهدة.

وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض ، فإن ورد فيه خبر صحيح قبل ، وإلا وجب السكوت عنه.

فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يحييه ابتداء؟

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٢٣٠) عن عكرمة.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٥٣) ونسبه لوكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

١٨٠