اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

قوله : «بقوة» في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها قولان :

أحدهما : أنه فاعل «خذوا» وتكون حالا مقدرة ، والمعنى : خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به.

والثاني : أنه ذلك العائد المحذوف ، والتقدير : خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشددا فيه أي : في العمل به ، والاجتهاد في معرفته.

قوله : «ما فيه» الضمير يعود على «ما آتيناكم» أي : اذكروا ما في الكتاب ، واحفظوه وادرسوه ، ولا تغفلوا عنه ، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان ؛ لأنه ليس من فعل العبد ، فلا يجوز الأمر به ، وفي حرف «أبيّ» «واذّكروا» بذال مشددة وكسر الكاف ، وفي حرف عبد الله «وتذكّروا ما فيه» [ومعناه](١) : اتّعظوا به.

قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا ، والعذاب في العقبى.

قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) التولّي تفعل من الولي ، وأصله : الإعراض والإدبار عن الشّيء بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعا ومجازا وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطّور ، وإيتاء التوراة.

قال القفّال رحمه‌الله : «إنهم بعد قبول التوراة ، ورفع الطور تولّوا عن التّوراة بأمور كثيرة ، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها ما اختصّ به بعضهم دون البعض ، ومنها ما عمله أوائلهم ، ومنها ما فعله متأخروهم ، ولم يزالوا في التّيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا ونهارا يخالفون موسى ، ويعرضون عنه ، ويلقونه بكلّ أذى ، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به من تخريب «بيت المقدس» ، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة ، فالجملة معروفة من إخبار الله ـ تعالى ـ عن عناد أسلافهم ، فلا عجب في إنكارهم ما جاء به محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من الكتاب والنبوة».

قوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) «لو لا» هذه حرف امتناع لوجود ، والظّاهر أنها بسيطة.

وقال أبو البقاء : هي مركّبة من «لو» ، و «لا» ، و «لو» قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، و «لا» للنفي ، والامتناع نفي في المعنى ، وقد دخل النفي ب «لا» على أحد امتناعي «لو» والامتناع نفي في المعنى ، والنّفي إذا دخل على النّفي صار إيجابا ، فمن [ثمّ](٢) صار معنى «لو لا» هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلّف ما لا فائدة فيه ،

__________________

(١) في أ : ومعناها.

(٢) في أ : هنا.

١٤١

وتكون «لو لا» أيضا حرف تحضيض فتختص بالأفعال ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.

و «لو لا» هذه تختص بالمبتدأ ، ولا يجوز أن يليها الأفعال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك أوّل ؛ كقوله : [الوافر]

٥٥٨ ـ ولو لا يحسبون الحلم عجزا

لما عدم المسيئون احتمالي (١)

وتأويله أن الأصل : «ولو لا أن تحسبوا» فلما حذفت أن ارتفع الفعل ؛ كقوله : [الطويل]

٥٥٩ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 .......... (٢)

أي : «أن أحضر» (٣).

__________________

(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٢٤٩.

(٢) صدر بيت لطرفة بن العبد وعجزه :

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

ينظر ديوانه : (٣٢) ، والكتاب : ٣ / ٩٩ ، والمقتضب : ٢ / ٨٥ ، ومجالس ثعلب : ١ / ٣١٧ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٨٣ ، الصاحبي : (١٧٨) ، الإنصاف : ٢ / ٥٢٠ ، وابن يعيش : ٢ / ٧ ، وابن عقيل : ٢ / ٣٦٢ ، الهمع : ١ / ٥ ، والدرر : ١ / ٣ ، الفراء : ٣ / ٢٦٥ ، سر صناعة الإعراب : ١ / ٢٨٦ ، والعيني : ٤ / ٤٠٢ ، شرح القصائد العشر : ١٣٢ ، المحتسب : ٢ / ٣٣٨ ، شذور الذهب : ١٥٣ ، شرح أبيات المغني : ٥ / ٥٨.

(٣) استشهد بهذا البيت على نعت «أي» باسم الإشارة ، ثم نعت اسم الإشارة بالاسم المحلى بالألف واللام ، وهذا هو الغالب إذا نعت «أي» باسم الإشارة (شذور الذهب ـ ١٩٩).

وفي البيت شاهد آخر : وهو انتصاب الفعل المضارع الذي هو قوله : (أحضر) بأن المصدرية المحذوفة ، وذلك عند من روى هذا الفعل بالنصب وهم الكوفيون ، والذي سهل النصب مع الحذف ذكر «أن» في المعطوف ، وهو قوله : «وأن أشهد اللذات» ونظيره : «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» بنصب «تسمع» ويستدلون بقراءة عبد الله بن مسعود : «وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله» فنصب تعبدوا بأن مقدرة ؛ لأن التقدير فيه : ألّا تعبدوا إلا الله ، فحذف «أن» وأعملها مع الحذف ، فدل على أنها تعمل النصب مع الحذف ؛ وكذلك الشاهد في هذا البيت على رواية النصب.

فأما البصريون : فيروون البيت برفع «أحضر» ؛ لأنهم لا يجيزون أن ينتصب الفعل المضارع بحرف محذوف ؛ لأن نواصب المضارع عوامل ضعيفة لا تعمل إلا وهي مذكورة ، والذي يدلّ على ذلك أنّ «أنّ» المشدّدة لا تعمل مع الحذف ، ف «أن» الخفيفة أولى ألّا تعمل ؛ وذلك لوجهين : أحدهما : أنّ «أنّ» المشددة من عوامل الأسماء ، و «أن» الخفيفة من عوامل الأفعال ، وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال ، وإذا كانت «أنّ» المشددة لا تعمل مع الحذف ، وهي الأقوى ، فألّا تعمل «أن» الخفيفة مع الحذف وهي الأضعف ، كان ذلك من طريق الأولى. والثاني : أنّ «أن» الخفيفة إنما عملت النصب ؛ لأنها أشبهت «أنّ» المشددة ، وإذا كان الأصل المشبه به لا ينصب مع الحذف ، فالفرع المشبه أولى ألا ينصب مع الحذف ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الفرع أقوى من الأصل ، وذلك لا يجوز ـ وبقية خلاف البصريين والكوفيين في الإنصاف : ٢ / ٣٢٧. ـ

١٤٢

والمرفوع بعدها مبتدأ خلافا للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر ، وللفراء حيث قال : «مرفوع بنفس لو لا». وخبره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير : ولو لا فضل الله كائن أو حاصل ، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر ، ولذلك لحّن المعرّيّ في قوله : [الوافر]

٥٦٠ ـ يذيب الرّعب منه كلّ عضب

فلولا الغمد يمسكه لسالا (١)

حيث أثبت خبرها بعدها ، هكذا أطلقوا ، وبعضهم فصّل فقال : إن كان خبر ما بعدها كونا مطلقا ، فالحذف واجب ، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام ، وإن كان كونا مقيدا فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أو لا ، فإن لم يدلّ عليه دليل ، وجب ذكره ؛ نحو قوله عليه الصّلاة والسّلام : «لو لا قومك حديثو عهد بكفر» (٢) ، وقول الآخر : [الطويل]

٥٦١ ـ فلولا بنوها حولها لخبطتها

 .......... (٣)

وإن دلّ عليه دليل جاز الذّكر والحذف نحو : «لو لا زيد لغلبنا» أي : شجاع ، وعليه بيت المعرّي المتقدم.

__________________

قال الأعلم الشنتمري : وعند سيبويه رفع «أحضر» لحذف الناصب وتعريه منه ، والمعنى : لأن أحضر الوغى ، وقد يجوز النصب بإضمار «أن» ضرورة ، وهو مذهب الكوفيين (الكتاب ٣ / ٩٩).

أما ابن يعيش : فيستشهد بالبيت على اطراد حذف «أن» وإرادتها ، والمراد : أن أحضر الوغى ، فلما حذف «أن» ارتفع الفعل وإن كانت مرادة (شرح المفصل ٤ / ٢٨).

أما الزجاجي : فيرفعه على فقدان الناصب ، ويرويه منصوبا (الجمل في النحو : للزجاجي ، ١٤٠ ، ١٤١).

أما ابن هشام : فيرى حذف «أن» وارتفاع الفعل مع من رفع «أحضر» (مغني اللبيب ٢ / ٣٨٣).

قال الفارسي : روى ابن قطرب عن أبيه ؛ أنه سمع من العرب من يقول : ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى بنصب أحضر على إضمار «أن» ، وهذا قبيح ؛ ألا ترى أنّ «أن» لا تكاد تعمل مضمرة ، حتى يثبت منها عوض ، نحو : الفاء أو الواو ، أو تعطف على اسم.

(١) البيت لأبي العلاء المعري في أوضح المسالك ١ / ٢٢١ ، والجنى الداني ٦٠٠ ، والدرر ٢ / ٢٧ ، ورصف المباني ٢٩٥ ، شرح الأشموني ١ / ١٠٢ ، وشرح ابن عقيل ١٢٨ ، مغني اللبيب ١ / ٢٧٣ ، المقرب ١ / ٨٤ ، الدر المصون ١ / ٢٤٩.

(٢) أخرجه ابن ماجه في السنن (٢ / ١٩٨٥) كتاب المناسك باب الطواف بالحجر حديث رقم (٢٩٥٥) بلفظه.

والدارمي في السنن (٢ / ٥٤) كتاب المناسك باب الحجر من البيت وأخرجه البخاري في الصحيح بلفظ مقارب (٢ / ٢٨٧) كتاب الحج باب فضل مكة ... حديث رقم (١٥٨٥) ، (١٥٨٣) ، (٤ / ٢٨٨) كتاب الأنبياء ... حديث رقم (٣٣٣٦٨).

وأحمد في المسند (٦ / ١٧٩) ـ وابن خزيمة في صحيحه حديث (٣٠٢٠) والحاكم في المستدرك (١ / ٤٧٩) ـ وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٤٦٦٦).

(٣) صدر بيت للزبير بن العوام وعجزه :

كخبطة عصفور ولم أتلعثم

ينظر المغني : (٥٦٣) ، العيني : (١ / ٥٧١) ، شرح شواهد المغني : (٢ / ٨٤١) ، الدر : (١ / ٢٥٠).

١٤٣

وقال أبو البقاء (١) : ولزم حذف الخبر للعلم به ، وطول الكلام ، فإن وقعت «أن» بعدها ظهر الخبر كقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات : ١٤٣] فالخبر في اللّفظ ل «أن» ، وهذا الّذي قاله موهم ، ولا تعلّق لخبر «أن» بالخبر المحذوف ، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء ، والتقدير : فلولا كونه مسبحا حاضر أو موجود. فأي فائدة في ذكره لهذا؟ [والخبر](٢) يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله ـ تعالى ـ في مواضعها ، وقد تقدم معنى الفضل عند قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧].

قوله : (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللّام جواب «لو لا» ، واعلم أن جوابها إن كان مثبتا ، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها ، ويقلّ حذفها ؛ قال : [البسيط]

٥٦٢ ـ لو لا الحياء ولو لا الدّين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري (٣)

وإن كان منفيّا فلا يخلو : إما أن يكون حرف النّفي «ما» أو غيرها ، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو : «لو لا زيد لم أقم ، ولن أقوم» ، لئلا يتوالى لامان ، وإن كان ب «ما» فالكثير الحذف ، ويقلّ الإتيان بها ، وهكذا حكم جواب «لو» الامتناعية ، وقد تقدم عند قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقرة : ٢٠] ، ولا محلّ لجوابها من الإعراب.

و «من الخاسرين» في محلّ نصب خبر «كان» ، و «من» للتبعيض.

فصل في تفسير فضل الله عليهم

ذكر القفّال في تفسيره وجهين :

الأول : لو لا تفضل الله عليكم من إمهالكم ، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين ، أي من الهالكين [الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم](٤) ، ومنه قوله تعالى : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١].

والثاني : أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ،) ثم قال : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) رجوعا بالكلام إلى أوله ، أي : لو لا لطف الله ـ تعالى ـ بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولو لا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم.

فإن قيل : كلمة «لو لا» تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره ، فهذا يقتضي أن انتفاء

__________________

(١) ينظر الاملاء : ١ / ٤١.

(٢) في ب : والجر.

(٣) البيت لابن مقبل ينظر ديوانه : ص ٧٦ ، الدرر : ٥ / ١٠٤ ، لسان العرب (بعض) ، الشعر والشعراء : ١ / ٤٦٣ ، الجنى الداني : ص ٥٩٨ ، رصف المباني : ص ٢٤٢ ، همع الهوامع : ٢ / ٦٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٠.

(٤) في أ : وقيل : المغلوبين.

١٤٤

الخسران من لوازم حصول فضل الله ـ تعالى ـ فحيث حصل الخسران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى.

وهذا يقتضي أن الله ـ تعالى ـ لم يفعل بالكافر شيئا من الألطاف الدينية ، وذلك خلاف قول المعتزلة.

أجاب الكعبي بأنه ـ تعالى ـ سوّى بين الكلّ في الفضل ، لكن بعضهم انتفع دون بعض ، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لو لا أن أباك [فضّلك] لكنت فقيرا ، وهذا ضعيف ؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن «لو لا» تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره ، وإذا ثبت هذا فكلام الكعبي ساقط.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)

لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [إليهم](١) ما وجه إليهم من التشديدات.

و «اللام» في [لقد] جواب قسم محذوف تقديره : والله لقد ، وكذلك نظائرها.

قال بعض المتأخرين لها نحو أربعين معنى قال : وجميع أقسام «اللام» التي هي حرف معنى يرجع عند التّحقيق إلى قسمين : عاملة ، وغير عاملة.

فالعاملة قسمان : جارّة ، وجازمة ، وزاد الكوفيون النّاصبة للفعل.

وغير العاملة خمسة أقسام : لام ابتداء ، ولام فارقة ، ولام الجواب ، ولام موطّئة ، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحاديا.

أما الجارة فلها ثلاثون قسما مذكورة في كتب النحو.

وأمّا الجازمة فلام الأمر ، والدعاء والالتماس. وحركة هذه اللام الكسر.

ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة ، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء ، وهو الأكثر.

وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال :

وأما اللام ـ [هنا فهي لام «كي»](٢) عند الكوفيين ، وعند البصريين لام جرّ.

ولام الجحود نحو : ما كان زيد ليذهب ، ولام الصّيرورة ، وتسمى لام التّعاقب ، ولام المآل (٣) واللام الزائدة كقوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] واللام بمعنى الفاء كقوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨] أي : فيضلوا. والكلام على هذه اللّامات ليس

هذا موضعه ، وإنما نبّهنا عليه ، فيطلب من مكانه.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : لام المالك.

١٤٥

و «قد» حرف تحقيق وتوقّع ، وتفيد في المضارع التقليل إلّا في أفعال الله ـ تعالى ـ فإنها للتحقيق ، وقد تخرج المضارع إلى المضيّ كقوله : [البسيط]

٥٦٣ ـ قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (١)

وهي أداة مختصّة بالفعل ، وتدخل على الماضي والمضارع ، وتحدث في الماضي التقريب من الحال.

وفي عبارة بعضهم : «قد» حرف يصحب الأفعال ، ويقرّب الماضي من الحال ، ويحدث تقليلا في الاستقبال.

والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة معان : التوقّع ، والتقريب ، والتحقيق ، ومع المضارع أحد أربعة معان : التوقّع ، والتقليل ، والتكثير ، والتحقيق. قال ابن مالك : «والدّالة على التقليل تصرف المضارع» ، وكذلك الدّالة على التكثير. وأما الدالة على التحقيق ، فقد تصرفه إلى المضيّ ، ولا يلزم فيها ذلك ، وهي مع الفعل كجزء منه ، فلا يفصل بينهما بغير القسم ؛ كقوله : [الطويل]

٥٦٤ ـ أخالد قد ـ والله ـ أوطأت عشوة

وما العاشق المظلوم فينا بسارق (٢)

وإذا دخلت على الماضي ، فيشترط أن يكون متصرفا ، وإذا دخلت على المضارع ، فيشترط تجرّده من جازم وناصب ، وحرف تنفيس ، وتكون اسما بمعنى «حسب» ؛ نحو : «قدني درهم» ، أي : حسبي ، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالبا ، وقد جمع الشاعر بين الأمرين ، قال : [الرجز]

٥٦٥ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي (٣)

والياء المتّصلة ب «قدني» في موضع نصب إن كان «قدني» اسم فعل ، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى «حسب».

والياء في «قدي» تحتمل أن تكون بمعنى «حسبي» ، ولم يأت بنون الوقاية على أحد

__________________

(١) البيت لأخي يزيد بن عبد الله البجلي ينظر شرح شواهد المغني : ص ٤٨٨ ، تذكرة النحاة : ص ٧٦ ، ومغني اللبيب : ص ٢٨٤ ، ٣٩٣ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٤٨ ، ٥ / ٧٣ ، والجنى الداني : ص ٢٦٠ ، والدر : ١ / ٢٥١.

(٢) وهو أخو يزيد بن عبد الله البجلي. وقد لفق بعضهم بين صدر هذا البيت وعجز بيت للفرزدق. المغني ١٨٦ وشرح شواهده ٤٨٨ ـ ٤٨٩ وديوان الفرزدق ٥٦١. وقد أوطأت عشوة أي ركبت أمرا غير بيّن.

(٣) البيت لأبي بحدلة وقيل لحميد الأرقط. ينظر أمالي الشجري : (١ / ١٤) ، النوادر : (٢٠٥) ، شرح المفصل : (٣ / ٢٤) ، شواهد المغني : (٤٨٧) ، الإنصاف : (١٣١) ، الخزانة : (٢ / ٤٤٩) ، العيني : (١ / ٣٧٥) ، الكتاب : (٢ / ٣٧١) ، الأمالي الشجرية : (١ / ١٤) ،. ابن يعيش : (٣ / ١٢٤) ، الجنى الداني : ٢٥٣ ، الهمع : (١ / ٦٢) ، الأشموني : (١ / ١٢٥) ، شرح التصريح : (١ / ١١٢) ، ومصابيح المعاني : ص ٣٢١ ، الدر المصون : (١ / ٢٥١).

١٤٦

الوجهين ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، وحذفت النون للضرورة ، وتحتمل أن تكون اسم فعل ، والياء للإطلاق.

وإن كانت حرفا جاز حذف الفعل بعدها ، كقوله : [الكامل]

٥٦٦ ـ أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا

لمّا تزل برحالنا وكأن قد (١)

أي : قد زالت.

وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [مفصلة](٢).

و «علمتم» بمعنى : عرفتم ، فيتعدّى لواحد فقط.

والفرق بين العلم والمعرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات ، وما هي عليه من الأحوال نحو : «علمت زيدا قائما أو ضاحكا» ، والمعرفة تستدعي معرفة الذّات.

وقيل : لأن المعرفة يسبقها جهل ، والعلم قد لا يسبقه جهل ، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى.

و (الَّذِينَ اعْتَدَوْا) الموصول وصلته في محصل نصب مفعول به ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم ، أي : أحكام الذين اعتدوا ؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم.

وأصل «اعتدوا» : «اعتديوا» ، فأعلّ بالحذف ، ووزنه «افتعوا» ، وقد عرف تصريفه ومعناه.

و «منكم» في محلّ نصب على الحال من الضمير في «اعتدوا» ، ويجوز أن يكون من «الذين». أي : من المعتدين كائنين منكم.

و «من» للتبعيض.

و «في السّبت» متعلّق ب «اعتدوا» ، والمعنى : في حكم السبت.

وقال أبو البقاء : وقد قالوا : «اليوم السّبت» ، فجعلوا «اليوم» خبرا عن «السبت» ، كما يقال : «اليوم القتال» ، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف ، تقديره : في يوم السّبت ، فالسّبت في الأصل مصدر «سبت» أي : قطع العمل.

وقال ابن عطية : والسّبت : إما مأخوذ من «السّبوت» الذي هو الراحة والدّعة ، وإما من «السّبت» وهو القطع ؛ لأن الأشياء فيه سبتت ، وتمت خلقتها.

__________________

(١) البيت للنابغة. ينظر ديوانه : (٢٧) ، شرح المفصل : (٨ / ٥) ، الخصائص : (٢ / ٣٦١) ، الخزانة : (٧ / ١٩٧) ، الدرر : (١ / ١٢١) ، الأشموني : (١ / ٣١) ، المغني : (١ / ٢٧١) ، التصريح : (١ / ٢٦) ، الهمع : (١ / ١٤٣) ، الجنى الداني : (٢٦٠) ، الدر المصون : (١ / ٢٥١).

(٢) سقط في ب.

١٤٧

ومنه قولهم : سبت رأسه أي : حلقه.

وقال الزمخشري : «والسّبت مصدر [سبتت] اليهود : إذا عظمت يوم السبت». وفيه نظر ، فإنّ هذا اللفظ موجود ، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليهود ذلك ، اللهم إلا [أن](١) يريد هذا السبت الخاصّ المذكور في هذه الآية.

والأصل فيه المصدر كما ذكرت ، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع ، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تمّ وانقطع ، وقد يقال : يوم السبت فيكون مصدرا.

وإذا ذكر معه «اليوم» ، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملا وحدثا جاز نصب «اليوم» ، ورفعه ، نحو : «اليوم الجمعة» ، «اليوم العيد» كما يقال : «اليوم الاجتماع والعود».

فإن ذكر مع «الأحد» وأخواته وجب الرفع على المشهور ، وتحقيقها مذكور في [كتب] النحو.

فصل في قصة عدوانهم بالصيد

روي عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال : هؤلاء القوم كانوا في زمان داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ ب «أيلة» على ساحل البحر بين «المدينة» و «الشام» وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من الماء لأمنها ، فإذا مضى يوم السّبت تفرقن ، ولزمن قعر البحر فذلك قوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف : ٦٣] فعمد رجال فحفروا حياضا عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فتحوا تلك الجداول ، فكانت الحيتان تدخل إلى الحياض ، فلا تطيق الخروج منها لبعد عمقها ، وقلّة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد.

وقيل : كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ، ويخرجونها يوم الأحد ، وذلك هو اعتداؤهم ، ففعلوا ذلك زمانا واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العهد ، ولم تنزل عقوبة قست قلوبهم [وتجرءوا](٢) على الذنب فاستنّ الأبناء بسنّة الآباء ، واتخذوا الأموال ، وقالوا : ما نرى السبت إلّا وقد أحل لنا ، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت ، ونهوهم عن ذلك فلم ينتهوا ، وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان ، فما زادنا الله به إلا عزّا فقيل لهم : لا تفتروا فربما نزل بكم العذاب ، فانقسموا ثلاثة أصناف : صنف أمسك وانتهى ، وصنف ما أمسك ولم ينته ،

__________________

(١) في ب : أمد.

(٢) في ب : تجروا.

١٤٨

وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قبول النصح قال الناهون : والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار ، ومكثوا على ذلك سنين ، فلعنهم داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ وغضب الله عزوجل عليهم لإصرارهم على المعصية ، فخرج النّاهون ذات يوم من بابهم ، والمجرمون لم يفتحوا بابهم ، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تسوّروا عليهم الحائط ، فإذا هم جميعا قردة خاسئين.

فإن قيل : إذا كانوا قد نهوا عن الاصطياد يوم السّبت ، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السّبت دون سائر الأيام؟

فالجواب : أما على مذهب أهل السّنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى.

وأما على مذهب المعتزلة ، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب.

و (قِرَدَةً خاسِئِينَ) يجوز فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكونا خبرين ، قال الزّمخشري : «أي : كونوا جامعين بين القرديّة والخسوء».

وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد ، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب : «هذا حلو حامض» وقد تقدّم القول فيه.

والثّاني : أن يكون «خاسئين» نعتا ل «قردة» قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء ، وهذا جمع العقلاء.

فإن قيل : المخاطبون عقلاء؟ فالجواب : أنّ ذلك لا يفيد ؛ لأن التقدير عندكم حينئذ : كونوا مثل قردة من صفتهم الخسوء ، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك ، إلا أنه يمكن أن يقال : إنهم مشبّهون بالعقلاء كقوله : (لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] و (أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١].

والثالث : أن يكون حالا من اسم «كونوا» ، والعامل فيه «كونوا» ، وهذا عند من يجيز ل «كان» أن تعمل في الظروف [والأحوال](١) وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) [يونس : ٢].

الرابع : وهو الأجود أن يكون حالا من الضمير المستكنّ في «قردة» ؛ لأنه في معنى المشتق أي : كونوا ممسوخين في هذه الحال.

وجمع «فعل» على «فعلة» قليل لا ينقاس.

ومادة «القرد» تدلّ على اللّصوق والسكون ، تقول : قرد بمكان كذا : أي : لصق به وسكن ، ومنه : الصّوف «القرد» أي : المتداخل ، ومنه أيضا : «القراد» هذا الحيوان المعروف ويقال : «خسأته فخسا ، فالمتعدي والقاصر سواء نحو : زاد وغاض وقيل : خسأته فخسىء وانخسأ ، والمصدر «الخسوء» و «الخسء».

__________________

(١) سقط في ب.

١٤٩

وقال الكسائي : «خسأت الرجل خسأ ، وخسأ هو خسوءا» ، ففرق بين المصدرين.

والخسوء : الذّلة والصّغار والطرد والبعد ، ومنه : خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع : وهي لغة «كنانة».

وقال أبو روق : يعني خرسا لقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر. روي عن مجاهد رضي الله عنه أن الله ـ تعالى ـ مسخ قلوبهم يعني : بالطّبع والختم ، إلا أنه مسخ صورهم لقوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] وهذا مجاز ظاهر [مشهور](١).

فصل في المقصود من ذكر هذه القصة

والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران :

الأول : إظهار معجزة سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه ، فلما أخبرهم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عن هذه الواقعة مع أنه كان أميا لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يخالط القوم ـ دلّ ذلك على أنه إنما عرفه بالوحي.

والثاني : أنه ـ تعالى ـ لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السّبت ، فكأنه يقول لهم : لا تتمردوا ولا تغتروا بالإمهال ، فينزل بكم ما نزل بهم ، ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً) ظلما (مَعَكُمْ مِنْ) قبلكم (أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) [النساء : ٤٧] الآية.

فإن قيل : إنهم بعد أن صاروا قردة لا يبقى لهم فهم ، ولا عقل ، ولا علم ، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب ، ووجود القرديّة غير مؤلم.

فالجواب : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الذي كان إنسانا عاقلا فاهما كان ثابتا لم يتغير ، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية ، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب المعصية ، فكانت في نهاية الخوف والخجل ، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟.

فإن قيل : أولئك القردة بقوا أو هلكوا ، فإن بقوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نسلهم أم لا؟

فالجواب : الكل جائز ، إلّا أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام ، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا ، ولم ينسلوا (٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه أحمد في المسند : ١ / ٣٩٠ ، ٤١٣ ، ٤٦٦ ، عن أم حبيبة ولفظه إن الله لم يمسخ شيئا فيدع له نسلا وقد كانت القردة والخنازير ـ والطبراني في الكبير ١٠ / ١٣١ ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٩٥.

١٥٠

قال ابن عطية (١) : وروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال إن الممسوخ لا ينسل ، ولا يأكل ، ولا يشرب ، ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. قاله القرطبي. وهذا هو الصحيح.

واحتج ابن العربيّ وغيره على أن الممسوخ يعيش ، وينسل ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشّاة تشربها» (٢).

ويقول جابر رضي الله عنه : أتي النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بضبّ فأبى أن يأكل منه وقال : «لا أدري لعلّه من القرون التي مسحت». (٣)

وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال : «رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم» (٤).

قال ابن العربي : فإن قيل : كيف تعرف البهائم الشرائع حتى ورثوها خلفا عن خلف إلى زمان عمر؟

قلنا : نعم! كان ذلك ؛ لأن اليهود غيّروا الرّجم ، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحجّة على ما أنكروا وغيّروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم ، وأخبارهم ، ومسوخهم ، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون.

قال القرطبي : ولا حجّة في شيء من ذلك ، أما حديث الفأر والضّبّ فكان هذا حدسا منه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا ينسل.

وأما حديث القردة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرّجم فقط ، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [عمرو بن ميمون أدرك الجاهلية ، ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية ، وذكر ابن عبد البر أن](٥) عمرو بن ميمون من كبار التابعين من الكوفيين ، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة.

«فجعلناها» فعل وفاعل ومفعول.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٠.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢٢٩٤ كتاب الزهد (٥٣) باب (١١) حديث ٦١ / ٢٩٩٧ وأخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٣٨١ عن ثابت بن وديعة كتاب الأطعمة باب في أكل الضب حديث رقم ٣٧٩٥ والنسائي في السنن ٧ / ١٩٩.

وابن ماجه في السنن حديث رقم ٣٢٣٨.

وأحمد في المسند ٤ / ١٩٦ ، ٣٤٠ ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم ١٠٧٠ ـ وابن أبي شيبة ٨ / ٧٨ ، ٧٩ ، ٨١ ، ٨٥.

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٣ / ٣٢٣ ، ٣٨٠).

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٥ / ١٣١) كتاب المناقب باب القسامة في الجاهلية حديث رقم (٣٨٤٩).

(٥) سقط في ب.

١٥١

«نكالا» مفعول ثان ل «جعل» التي بمعنى «صير» ، والأول هو الضمير ، وفيه أقوال:

أحدها : يعود على المسخة.

وقيل : على القرية ، لأن الكلام يقتضيها كقوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) [العاديات : ٤] أي : بالمكان.

وقيل : على العقوبة.

وقيل : على الأمة.

«النكال» : المنع ، ومنه : النّكل ، والنّكل : اسم للقيد من الحديد ، واللّجام ؛ لأنه يمنع به ، وسمي العقاب نكالا ؛ لأنه يمنع به غير المعاقب أن يفعل فعله ، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فعله الأول.

و «التنكيل» : إصابة الغير بالنّكال ليردع غيره ، ونكل عن كذا ينكل نكولا : امتنع ، وفي الحديث : «إنّ الله يحب الرّجل النّكل» (١) أي : القوي على الغرس.

«والمنكل» : ما ينكّل به الإنسان ، قال : [الرجز]

٥٦٧ ـ فارم على أقفائهم بمنكل (٢)

والمعنى : أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم.

والضمير في «يديها» و «خلفها» كالضمير في «جعلناها».

قال ابن الخطيب (٣) : لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون ، لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، «ما يحضرها من [القرون](٤) والأمم. وما خلفها من بعدهم.

وقال الحسن : عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعل ، وما بعده.

و «موعظة» عطف على «نكالا» وهي «مفعلة» ، من الوعظ وهو التخويف.

وقال الخليل : «التذكير بالخير فيما يرق له القلب».

والاسم : «العظة» ك «العدة» و «الزّنة» و «للمتّقين» متعلّق ب «موعظة» ، واللام للعلّة ، وخصّ المتّقين بالذّكر وإن كانت موعظة لجميع العالم البرّ والفاجر ؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم ، ويجوز أن تكون اللام [مقوية](٥) ؛ لأن «موعظة» فرع على

__________________

(١) ذكره أبو عبيد الهروي في كتاب غريب الحديث ١ / ٣٩٧.

(٢) البيت لرياح المؤملي وهو في اللسان (نكل) ، القرطبي ١ / ٣٠١ ، والدر المصون ١ / ٢٥٢.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٠٤.

(٤) في أ : القرى.

(٥) في أ : تقوية.

١٥٢

الفعل في العمل فهو نظير (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] فلا تعلّق لها لزيادتها ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف ؛ لأنها صفة ل «موعظة».

أي : موعظة كائنة للمتّقين ، أي : يعظ المتقون بعضهم بعضا.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٧٣)

في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المنّ والسّلوى ، ورفع الطّور ، وغير ذلك ـ ذكر بعده هذه النعم التي بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم.

الثّاني : أنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم التّشديدات والتعنّت كقولهم : يريد (اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] وقولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] ، وغير ذلك من التعنّت ذكر بعده تعنتا آخر ، وهو تعنتهم في صفة البقرة.

الثالث : ذكرها معجزة للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

هذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

والجمهور على ضم الرّاء في «يأمركم» ؛ لأنه مضارع معرب مجرّد عن ناصب وجازم ، وروي عن (١) أبي عمرو سكونها سكونا محضا ، واختلاس الحركة ، وذلك لتوالي الحركات ، لأن الراء حرف تكرير ، فكأنها حرفان ، وحركتها حركتان.

وقيل : شبّهها ب «عضد» فسكّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصل ، وهذا كما

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٤١٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٣ ، والقرطبي : ١ / ٣٠١.

١٥٣

تقدم في قراءة (بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النّحاة ، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه.

ويجوز إبدال همزة «يأمركم» ألفا ، وهذا مطرد.

و «يأمركم» هذه الجملة في محلّ رفع خبر ل «إن» ، و «إن» وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولا بالقول ، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه ، والظرف معمول لفعل محذوف أي : اذكر.

قوله : (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أن وما حيّزها مفعول ثان ل «يأمركم» ، فموضعها يجوز أن يكون نصبا ، وأن يكون جرّا على ما مضى من الخلاف ، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تذبحوا ، ويجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب ؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه ، ولو لم تكن الباء في «أن» نحو : «أمرتك الخير». و «البقرة» واحدة البقر ، تقع على الذّكر والأنثى نحو : «حمامة» ، والصّفة تميز الذّكر من الأنثى ، تقول : بقرة ذكر ، وبقرة أنثى.

وقيل : بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور ، نحو : ناقة وجمل ، وأتان وحمار.

وسمي هذا الجنس بذلك ، لأنه يبقر الأرض ، أي : يشقّها بالحرث ، ومنه : بقر بطنه ، والباقر أبو جعفر (١) ، لشقّه العلم ، والجمع «بقر وباقر وبيقور وبقير».

و «البقيرة» : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمّين.

فصل في قصة القتيل

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له ليرثه ، وقيل : لينكح زوجته ، وقيل : إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته ، وكان امتنع من تزويجها له ، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق ، ثم شكا ذلك إلى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل ، فلما لم يظهر قالوا : قل لربك «بيّنه» فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [فعجبوا](٢) من ذلك ، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النّعت إلّا عند

__________________

(١) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو جعفر الباقر ، لأنّه بقر العلم ، أي شقه وعرف ظاهره وخفيّه ، وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، ولد سنة ٥٦ ه‍ ، عرض على أبيه زين العابدين وروى عنه وعن جابر وابن عمر ، سئل عن أبي بكر وعمر فقال : تولهما وابرأ من عدوهما ، فإنهما كانا إمامي هدى. توفي سنة ١١٨ ه‍ ، وقيل غير ذلك.

ينظر غاية النهاية : ٢ / ٢٠٢.

(٢) في ب : فتعجبوا.

١٥٤

إنسان معيّن ولم يبعها إلّا بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها ، وأمرهم موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أن يأخذوا عضوا منها ، فيضربوا به القتيل ، ففعلوا فأحيا الله القتيل ، وسمى لهم قاتلهم ، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [فورا](١).

قوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) المفعول الثاني ل «أتتخذنا» هو «هزوا» ، وفي وقوع «هزوا» مفعولا ثانيا ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه على حذف مضاف ، أي : ذوي هزء.

الثاني : أنه مصدر واقع موقع المفعول به ، أي مهزوءا بنا.

الثالث : أنهم جعلوا نفس الهزء مبالغة. وهذا أولى.

وقال الزمخشري (٢) : وبدأ ب «أتجعلنا» مكان هزء ، وهو قريب من هذا. وفي «هزوا» ستّ قراءات (٣) ، المشهور منها ثلاث : «هزؤا» بضمتين مع الهمز ، و «هزءا» بسكون الزّاي مع الهمز وصلا ، وهي قراءة حمزة رحمه‌الله ، فإذا وقف أبدلها واوا ، وليس قياس تخفيفها ، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها.

وإنما اتبع رسم المصحف ، فإنها رسمت فيه «واو» ، ولذلك لم يبدلها في «جزءا» واوا وقفا لأنها لم ترسم فيه واوا كما سيأتي ، وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلّا أنه خفّف كقولهم في عنق : عنق.

وقيل : بل هي أصل بنفسها ليست مخففة من ضم.

حكى مكّي عن الأخفش عن عيس بن عمر : «كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتان : التخفيف والتثقيل».

و «هزوا» بضمتين مع الواو وصلا ووقفا ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، كأنه أبدل الهمزة واوا تخفيفا ، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو : جون في جؤن ، وحكم [كفوا](٤) في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] حكم «هزوا» في جميع ما تقدم قراءة وتوجيها.

و «هزا» بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها ، وهو أيضا قياس مطرد.

و «هزوا» بسكون العين مع الواو. و «هزّا» بتشديد الزاي من غير همزة ، ويروى

__________________

(١) في أ : قودا.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٤٨.

(٣) انظر الكلام عن هذه القراءات في : الكشف : ١ / ٢٤٧ ، والسبعة : ١٥٧ ، وحجة القراءات : ١٠٠ ، ١٠١ ، والشواذ : ٦ ، والحجة : ٢ / ١٠٠ ـ ١٠٤ ، والعنوان : ٦٩ ، وشرح شعلة : ٢٦٥ ، وشرح الطيبة : ٤ / ٣٣ ، ٣٥ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٧.

(٤) في ب : كفئا.

١٥٥

عن أبي جعفر [وتقدم معنى «الهزء» في أول السورة](١).

وقال الثعلبي في تفسيره : قرىء : «هزؤّا» و «كفؤّا» مثقلات ومهموزات ، وهي قراءة أبي عمرو وأهل «الشام» و «الحجاز» واختار الكسائي ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم «هزوّا» و «كفوّا» مثقلات بغير همز قال : وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها : الاستهزاء.

فصل في الباعث على تعجبهم

القوم إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم لما طلبوا من موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تعيين القاتل ، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام : اذبحوا بقرة فلم يفرقوا ، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة ، فظنوا أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يداعبهم ؛ لأنه من المحتمل أن يكون ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أمرهم بذبح البقرة ، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ، وضربوا القتيل ببعضها يصير حيا ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ، ويحتمل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيّن لهم كيفية الحال إلّا أنهم تعجّبوا من [أن](٢) القتيل كيف يصير حيّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة ، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء.

نقل القرطبي عن الماورديّ قال : «وإنما أمروا ـ والله أعلم ـ بذبح بقرة دون غيرها ؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهوّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته».

وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة ، وليس بعلّة في جواب السّائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حيّ ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.

فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟

قال بعضهم : إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عليه الصلاة والسلام : أتتخذنا هزوا ، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الميت فهو كفر ، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ هل هو بأمر الله ، فقد جوّزوا الخيانة على موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ في الوحي ، وذلك أيضا كفر ، ومن الناس من [قال](٣) : إنه لا يوجب الكفر لوجهين :

الأول : أن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يداعبهم مداعبة حقّه ، وذلك لا يوجب الكفر.

والثاني : أن معنى قوله : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي : ما أعجب هذا الجواب ، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء.

قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ) تقدم إعرابه في الاستعاذة.

__________________

(١) في أ : قراءة حفص عن عاصم.

(٢) سقط في ب.

(٣) في ب : يقول.

١٥٦

وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى ، كأنه قال لا أهزأ مستعيذا بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل ، فلم يستعذ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الشّيء الذي نسبوه إليه ، لكنه استعاذ من السّبب الموجب له ، كما يقول : أعوذ بالله من عدم العقل ؛ وغلبة الهوى ، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازا.

ويحتمل أن يكون المراد (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد ، والوعيد العظيم ، فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء.

وقال بعضهم : إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلا وجهالة ، فقد روي عن بعض أهل اللّغة أن الجهل ضدّ الحلم ، كما قال بعضهم : إنه ضدّ العلم.

قوله : (أَنْ أَكُونَ) أي من أن (١) أكون ، فيجيء فيه الخلاف المعروف.

و «من الجاهلين» خبرها ، وهو أبلغ من قولك : أن أكون جاهلا. فإن المعنى أن انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل.

قوله : (قالُوا : ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ) ف «يبيّن» مجزوم على جواب الأمر كقوله : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا) [البقرة : ٦١].

قوله «ما هي» ، «ما» استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، تقديره : أي شيء هي؟ وما [الاستفهامية](٢) يطلب بها شرح الاسم تارة ، نحو : ما العنقاء؟ وماهية المسمى أخرى ، نحو : ما الحركة؟.

وقال السكاكي (٣) : «يسأل ب «ما» عن الجنس ، تقول : ما عندك؟ أي : أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه «كتاب» ونحوه ، أو عن الوصف ، تقول : ما زيد؟ وجوابه : «كريم» ، وهذا هو المراد في الآية.

و «هي» ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبرا ل «ما» والجملة في محلّ نصب ب «يبيّن» ؛ لأنه معلّق عن الجملة بعده ، وجاز ذلك ؛ لأنه شبيه بأفعال القلوب.

قوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) لا «نافية» ، و «فارض» صفة ل «بقرة».

واعترض ب «لا» بين الصفة والموصوف ، نحو : «مررت برجل لا طويل ولا قصير».

وأجاز أبو البقاء : أن يكون خبر المبتدأ محذوف ، أي : لا هي فارض.

__________________

(١) في ب : بأن.

(٢) في أ : استفهامية.

(٣) يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب سراج الدين : عالم بالعربية والأدب مولده ووفاته بخوارزم من كتبه : «مفتاح العلوم» و «رسالة في علم المناظرة».

ينظر الأعلام : ٢٢٨ ، الجواهر المضية : ٢ / ٢٢٥ ، الشذرات : ٥ / ١٢٢.

١٥٧

وقوله : (وَلا بِكْرٌ) مثل ما تقدّم.

وتكررت «لا» لأنها متى وقعت قبل خبر ، أو نعت ، أو حال وجب تكريرها تقول : «زيد لا قائم ولا قاعد» ، و «مررت به لا ضاحكا ولا باكيا».

ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلافا للمبرّد وابن كيسان ؛ فمن ذلك : [الطويل]

٥٦٨ ـ وأنت امرؤ منّا خلقت لغيرنا

حياتك لا نفع وموتك فاجع (١)

وقوله : [الطويل]

٥٦٩ ـ قهرت العدا لا مستعينا بعصبة

ولكن بأنواع الخدائع والمكر (٢)

فلم يكررها في الخبر ، ولا في الحال.

و «الفارض» : المسنّة الهرمة ، قال الزمخشريّ : كأنها سميت بذلك ؛ لأنها فرضت سنّها ، أي : قطعتها وبلغت آخرها ؛ قال : [الطويل]

٥٧٠ ـ لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا

تساق إليه ما تقوم على رجل (٣)

ويقال لكل ما قدم : فارض ؛ قال [الرجز]

٥٧١ ـ شيّب أصداعي فرأسي أبيض

محامل فيها رجال فرّض (٤)

أي : كبار قدماء.

وقال آخر : [الرجز]

٥٧٢ ـ يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض (٥)

وقال الرّاغب : سميت فارضا ؛ لأنها تقطع الأرض ، والفرض في الأصل القطع ، وقيل : لأنها تحمل الأعمال الشاقة.

__________________

(١) البيت للضحاك بن هنام ينظر في خزانة الأدب : ٤ / ٣٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٥٢١ ، والاشتقاق: ص ٣٥٠ ، ولأبي زبيد الطائي في حماسة البحتري : ص ١١٦ ، ولرجل من سلول في الكتاب : ٢ / ٣٠٥ ، والأزهية : ص ١٦٢ ، والدرر : ٢ / ٢٣٥ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٥٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ١١٢ ، والمقتضب : ٤ / ٣٦٠ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٤٨ ، والدر المصون : ١ / ٢٥٤.

(٢) البيت لزياد بن سيار ينظر الجنى الداني : (٢٩٩) ، الأشموني : (٢ / ٤٢) ، الشذور : (٣٦٢) ، شرح الصبان : (٢ / ١٨) ، الهمع : (١ / ١٤٨ ، ٢٤٥) الدرر : (١ / ١٢٩ ، ٢٠٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٥٥).

(٣) البيت لعلقمة بن عوف ينظر الأضداد : (٣٧٦) ، اللسان «فرض» ، القرطبي : (١ / ٣٠٤) ، الكشاف : (١ / ١٤٩) ، ومجمع البيان : (١ / ٢٩٣) ، البحر : (١ / ٤١٢) ، الدر المصون : (١ / ٢٥٥).

(٤) ينظر اللسان «فرض» ، القرطبي : (١ / ٣٠٤) ، الصحاح «فرض» ، الدر المصون : (١ / ٢٥٥).

(٥) ينظر الأضداد : (٢٨) ، مجالس ثعلب : (١ / ٣٠١) ، الطبري : (٢ / ١٩٠) ، البحر : (١ / ٤١٢) ، مجمع البيان : (١ / ٢٩٣) ، روح المعاني : (١ / ٢٨٧) ، اللسان (فرض) ، الدر المصون : ١ / ٢٥٥.

١٥٨

وقيل : لأن فريضة البقر تبيع ومسنّة ، قال : فعلى هذا تكون الفارض اسما إسلاميّا.

وقيل : «الفارض» : التي ولدت بطونا كثيرة فيتسّع جوفها لذلك ؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع ، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين. ويقال : فرضت ـ تفرض ـ بالفتح ـ فروضا.

وقيل : فرضت ـ بالضم ـ أيضا.

وقال المفضّل بن سلمة : الفارض : المسنّة. و «البكر» : ما لم تحمل.

وقيل : ما ولدت بطنا واحدا ، وذلك الولد بكر أيضا. قال : [الرجز]

٥٧٣ ـ يا بكر بكرين ويا خلب الكبد

أصبحت منّي كذراع من عضد (١)

و «البكر» من الحيوان : من لم يطرقه فحل ، و «البكر» ـ بالفتح ـ الفتيّ من الإبل ، والبكارة ـ بالفتح ـ المصدر.

وقال المفضّل بن سلمة : البكر : الشابة.

قال القفال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : اشتقاق البكر يدل على الأول ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، ومنه : بكرة النهار ، ويقال : بكرت عليه البارحة ، إذا جاء في أول الليل.

والأظهر أنها هي التي لم تلد ؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم : ما لم ينز عليها الفحل.

قوله : عوان صفة ل «بقرة» ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي : هي عوان كما تقدم في (لا فارِضٌ) [البقرة : ٦٨] والعوان : النّصف ، وهو التوسّط بين الشيئين ، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه ؛ قال : [الوافر]

٥٧٤ ـ ..........

نواعم بين أبكار وعون (٢)

وقال الشاعر يصف فرسا : [الطويل]

٥٧٥ ـ كميت بهيم اللّون ليس بفارض

ولا بعوان ذات لون مخصّف (٣)

«فرس أخصف» إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه ، ويقال للنخلة الطويلة : عوان ، وهي فيما زعموا لغة عانية ، حكاه القرطبي.

__________________

(١) ينظر القرطبي : (١ / ٣٠٤) ، اللسان (بكر) ، البحر : ١ / ٤١٢ ، مفردات الراغب : (٥٨) ، الدر المصون : ١ / ٢٥٥.

(٢) عجز بيت للطرماح وصدره :

حصان مواضع النقب الأعالي

ينظر المنصف : (٣ / ٥٨) ، الكشاف : ١ / ١٤٩ ، اللسان (عون) ، الدر : ١ / ٢٥٥.

(٣) ينظر القرطبي : ١ / ٣٠٤ ، البحر : ١ / ٤١٢.

١٥٩

وقيل : هي التي ولدت مرة بعد أخرى ومنه «الحرب العوان» أي التي جاءت بعد حرب أخرى (١) ؛ قال زهير : [الطويل]

٥٧٦ ـ إذا لحقت حرب عوان مضرّة

ضروس تهرّ النّاس أنيابها عصل (٢)

والعون ـ بسكون الواو ـ الجمع ، وقد بضم ضرورة كقوله : [السريع]

٥٧٧ ـ ..........

 ... في الأكفّ اللّامعات سور(٣)

بضم الواو. ونظيره في الصحيح «قذال وقذل» و «حمار وحمر».

قوله : «بين ذلك» صفة ل «عوان» [فهي](٤) في محلّ رفع ، ويتعلق بمحذوف ، أي : كائن بين ذلك ، و «بين» إنما تضاف لشيئين فصاعدا ، وجاز أن تضاف ـ هنا ـ إلى مفرد ؛ لأنه يشار به إلى المثنّى والمجموع ؛ كقوله : [الرمل]

٥٧٨ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل (٥)

كأنه قيل : بين ما ذكر من الفارض والبكر. قال الزمخشري :

فإن قلت : كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين ، وإنما هو لإشارة المذكر؟

قلت : لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم ، وقال : وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله : [الرجز]

٥٧٩ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق (٦)

إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، وإن أردت السواد والبلق فقل : كأنهما ، فقال :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ديوانه : (١٠٣) ، معاني القرآن للزجاج : (١ / ١٢٢) ، القرطبي : (١ / ٣٠٥) ، الدر : (١ / ٢٥٥).

(٣) هذا جزء من عجز بيت لعدي بن زيد وهو :

عن مبرقات بالبرين وتب

دو ...

ينظر ملحق ديوانه : (١٢٧) ، وشواهد الكتاب : ٢ / ٣٦٩ ، والممتع : ٤٦٧ ، المنصف : ١ / ٣٣٨ ، المقتضب : ١ / ١١٢ ، وشرح المفصل لابن يعيش : ٥ / ٤٤ ، رصف المباني : (٤٢٩) ، الدرر : ٢ / ٤٧٧ ، الهمع : ٢ / ١٧٦ ، واللسان «لمع» ، الدر المصون : ١ / ٢٥٦ ، البحر المحيط : ١ / ٤١٢.

(٤) في ب : فهو.

(٥) البيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه ٤١ ، والأغاني ١٥ / ١٣٦ ، والدرر ٥ / ٢٥ ، وشرح التصريح ٢ / ٤٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٩ ، شرح المفصل ٣ / ٢ و ٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤١٨ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٣٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٧ ، شرح ابن عقيل ٣٨٩ ، مغني اللبيب ١ / ٢٠٣ ، المقرب ١ / ٢١١ ، همع الهوامع ٢ / ٥٠ ، والدر المصون ١ / ٢٥٦.

(٦) ينظر ديوانه : (١٠٤) ، مجالس العلماء : (٢٧٧) ، المحتسب : ٢ / ١٥٤ ، المغني : (٦٧٨) ، اللسان (بهق) ، مجاز القرآن : (١ / ٤٣) ، مجالس ثعلب : (٢ / ٣٧٥) ، حاشية الكشاف للتفتازاني : (١ / ٢٢ ، ٥٣٠) ، الدر المصون : (١ / ٢٥٦).

١٦٠