اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

٥٣٩ ـ وجاعل الشّمس مصرا لا خفاء به

بين النّهار وبين اللّيل قد فصلا (١)

قوله : (ما سَأَلْتُمْ مِمَّا) في محلّ نصب اسما ل «إن» ، والخبر في «لكم» ، و «ما» بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : الّذي سألتموه.

قال أبو البقاء : «ويضعف أن تكون نكرة موصوفة». يعني : أنّ الذي سألوه شيء معيّن ، فلا يحسن أن يجابوا بشيء مبهم.

وقرىء : «سلتم» مثل : بعتم ، وهي مأخوذة من «سال» بالألف ، قال حسّان رضي الله عنه : [البسيط]

٥٤٠ ـ سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب (٢)

وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم : يتساولان ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة «المعارج» إن شاء الله تعالى.

فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال

أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية.

قال ابن الخطيب : وعندنا ليس الأمر كذلك ، والدليل عليه أن قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) عند إنزال المنّ والسّلوى ليس بإيجاب ، بل هو إباحة ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) معصية ؛ لأن من أبيح له ضرب من الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك ، إما بنفسه أو على لسان الرسول ، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك ، ولم يكن فيه معصية.

واعلم أن سؤال النّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها : أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملّوه ، فاشتهوا غيره.

ومنها : لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع ، وإنما تعودوا سائر الأنواع ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفا.

ومنها : لعلهم ملوا البقاء في التّيه ، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلّا في البلاد ، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة.

ومنها : أن المواظبة على نوع واحد سبب لنقصان الشهوة ، وضعف الهضم ، وقلّة

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد. ينظر ديوانه : ١٥٩ ، القرطبي : ١ / ٤٢٩ ، الصحاح (مصر) ، اللسان (مصر) ، الدر المصون : (١ / ٢٤٢).

(٢) ينظر (ملحق ديوانه : ص ٣٧٣) ، وشرح المفصل : ٩ / ١١٤ ، والكتاب : ٣ / ٤٦٨ ، ٥٥٤ ، والمقتضب : ١ / ١٦٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٣ / ٤٨ ، والمحتسب : ١ / ٩٠ ، والممتع في التصريف : ص ٤٠٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٢.

١٢١

الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلك ، فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء ، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم ، فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية ، ومما يؤكد ذلك أن قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) كالإجابة لما طلبوا ، ولو كانوا عاصين في ذلك السّؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء ، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئا اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠] لأن هذا خلاف الظاهر. واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :

الأول : قولهم : لن نصبر على طعام واحد يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المنّ والسلوى ، فتلك الكراهة معصية.

الثاني : أن قول موسى عليه الصلاة والسلام : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدلّ على كونه معصية.

الثالث : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصف ما سألوه بأنه أدنى ، وما كانوا عليه بأنه خير ، وذلك يدلّ على ما قلناه.

والجواب عن الأول : أن قولهم : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ليس فيه دليل على أنهم كرهوه ، بل اشتهوا شيئا آخر ؛ لأن قولهم : لن نصبر إشارة إلى المستقبل ؛ لأن «لن» لنفي المستقبل ، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع.

وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة.

وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن ، ومن حيث إنه حصل بلا كدّ ولا تعب ، فكما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكدّ ، فلا يمتنع أن يكون مراده ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا المعنى ، أو بعضه ، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية ، بل كان سؤالا مباحا ، وإذا كان كذلك فقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ،) لا يجوز أن يكون لما تقدم ؛ بل لما ذكره الله ـ تعالى ـ بعد ذلك وهو قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) إلى آخره. فهذا هو الموجب للغضب والعقاب لا كونهم سألوا ذلك.

فصل في المراد ب «مصر»

قال قوم : المراد من «مصر» البلد الذي كانوا فيه مع فرعون ؛ لقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] فأوجب دخول تلك الأرض ، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها ، وأيضا قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) يقتضي

١٢٢

دوامهم فيه ؛ وقوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس ، وأيضا فإنه ـ تعالى ـ بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة ، قال : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) [المائدة : ٢٦].

فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدّة ، فعند زوال تلك المدّة يجب أن يلزمهم دخولها ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها.

فإن قيل : هذه الوجوه ضعيفة.

أما الأول : فلأن قوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة ، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر ، وأما قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة.

وأما قوله : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) فلا نسلّم أنّ معناه : ولا ترجعوا إلى مصر ، بل يحتمل أن يكون معناه : ولا تعصوا فيما أمرتكم ؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر : ارتدّ على عقبه ، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى.

ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصا بوقت معين.

والجواب : أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب ، وإن سلّمنا أنه للندب ، ولكن الإذن في تركه يكون إذنا في ترك المندوب ، وهو لا يليق بالأنبياء.

وأما قوله : لا نسلّم أن المراد من قوله : (وَلا تَرْتَدُّوا :) ولا ترجعوا.

قلنا : الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسة ، ثم قوله بعده : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) يتبادر إلى الفهم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر.

وقوله : «تخصيص النهي بوقت معين».

قلنا : التخصيص خلاف الظاهر.

قال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يكون المراد «مصر فرعون» لوجهين :

الأول : من قرأ (١) «مصر» بغير تنوين كان علما للبلد المعيّن ، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها ، فحمل اللفظ عليه ، ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علما ، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى.

ومن قرأه منونا فإما أن تجعله اسم علم ، وتقول : إنما نون لسكون وسطه ، فيكون القريب أيضا ما تقدم ، وإن جعلناه اسم جنس فقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) يقتضي التخيير ، كما إذا قال: أعتق رقبة.

__________________

(١) سبق تخريج هذه القراءة.

١٢٣

الوجه الثاني : أن الله ـ تعالى ـ ورث بني إسرائيل أرض «مصر» لقوله : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها.

فإن قيل : قد يكون الرجل مالكا للدّار وإن كان ممنوعا من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكاف أيام في المسجد ، فإنه يحرم عليه دخول داره ، وإن كانت مملوكة له ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ ورّثهم «مصر» بمعنى الولاية ، والتصرف فيها ، ثم إنه ـ تعالى ـ حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سكنى الأرض المقدسة؟

قلنا : الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل.

وأجاب الفريق الأول عن حجّتي أبي مسلم.

أما قوله «إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير».

قلنا : نعم ، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل.

وأما الثاني : فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذا الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر ، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل.

قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي : جعلت الذّلّة محيط بهم ، مشتملة عليهم ؛ كمن يكون في القبّة المضروبة ؛ قال الفرزدق لجرير : [الكامل]

٥٤١ ـ ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل (١)

أو ألصقت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطّين على الحائط فيلزمه.

ومن قال : إنها الجزية فبعيد ؛ لأن الجزية لم تكن مضروبة حينئذ.

وقال بعضهم : هذا من باب المعجزات ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبر عن ضرب الذّلّة والمسكنة عليهم ، ووقع الأمر كذلك ، فكان معجزة. و «الذّلّة» : الصّغار. والذّلّ بالضم : ما كان عن قهر ، وبالكسر : ما كان بعد شماس من غير قهر. قاله الراغب (٢).

و «المسكنة» : مفعلة من السّكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر ، و «المسكين» : مفعيل منه ، إلّا أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة ، قالوا : تمسكن يتمسكن فهو متمسكن ، وذلك كما تثبت ميم «تمندل وتمدرع» من «النّدل» و «الدّرع» وذلك لا يدلّ على أصالتها ؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزّيادة.

وقال الراغب : قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ :) فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢ / ٧١٥) ، القرطبي : ١ / ٢٩٢ ، مجمع البيان : ١ / ٢٧٢ ، (الدر : ١ / ٢٤٢).

(٢) ينظر المفردات : ١٨٣.

١٢٤

وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة ، وأنه من «مسك» و «ضربت» مبني للمفعول و «الذّلة» قائم مقام الفاعل.

قوله : (وَباؤُ) ألف «باء بكذا» منقلبة عن واو ؛ لقولهم : «باء ـ يبوء» مثل : «قال ـ يقول» قال عليه الصّلاة والسّلام : «أبوء بنعمتك عليّ» (١) ، والمصدر : «البواء».

وباء معناه : رجع ؛ وأنشد بعضهم هذا : [الوافر]

٥٤٢ ـ فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا (٢)

وهذا وهم ؛ لأن هذا البيت من مادة : «آب ـ يئوب» فمادته من همزة ، وواو ، وباء ، و «باء» مادته من باء ، وواو ، وهمزة ، وادعاء القلب يه بعيد ؛ لأنه لم يعهد تقدّم العين واللام معا على الفاء في مقلوب ، وهذا من ذاك.

والبواء : الرجوع بالقود ، وهم في هذا الأمر بواء ، أي : سواء ؛ قال : [الطويل]

٥٤٣ ـ ألا تنتهي عنّا [ملوك] وتتّقي

محارمنا لا يبؤ الدّم بالدّم (٣)

أي : لا يرجع الدم بالدم في القود.

وباء بكذا : أقرّ أيضا ، ومنه الحديث المتقدّم أي : أقرّ بها ، وألزمها نفسي ، وقال : [الكامل]

٥٤٤ ـ أنكرت باطلها وبؤت بحقّها

 .......... (٤)

وقال الراغب : «أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النّبوة الذي هو منافاة الأجزاء».

وقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ) أي : حلّوا مبوأ ومعه غضب ، واستعمال «باء» تنبيه على أن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٨٣٨ ، ٨٨) كتاب الدعوات باب ما يقول إذا أصبح وإذا أمسى.

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٢٧٤) كتاب الدعاء باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى حديث رقم (٣٨٧٢).

وأحمد في المسند (٤ / ١٢٢ ، ١٢٥) ، (٥ / ٣٥٦) ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢٣٥٣) ـ والبيهقي في الدلائل (٧ / ١٢٢) وذكره ابن حجر في فتح الباري ١١ / ٩٧ ، ٩٨.

والمنذري في الترغيب ١ / ٤٤٨ ـ والهيثمي في الزوائد ١٠ / ١٢٢ ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٥٠١ ، ٣٥٩٦ ، ٣٥٩٨.

(٢) البيت من معلقة عمرو بن كلثوم. ينظر شرح المعلقات للتبريزي (٤١٦) ، الشنقيطي : (١٠٥) ، القرطبي : (١ / ٢٩٢) ، المعلقات السبع للزوزني : (١٠٥) ، الدر المصون : (١ / ٢٤١).

(٣) تقدم برقم (٣٢٣).

(٤) صدر بيت للبيد وعجزه :

عندي ولم يفخر علي كرامها

ينظر ديوانه : (٣١٨) ، مفردات الراغب : (٧٠) ، اللسان (بوأ) ، الدر المصون : (١ / ٢٤٣).

١٢٥

مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة ، وذلك نحو : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١].

ثم قال : وقول من قال : بؤت بحقها ، أي : أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ.

وقولهم : «حيّاك الله وبيّاك» أصله : بوّأك ، وإنما غير للمشاكلة ، قاله خلف الأحمر (١).

وقيل : باءوا : استحقوا ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة: ٢٩] أي : تستحق الإثم جميعا ، ومن قال : إنه الرجوع فلا يقال : باء إلا بشرّ.

قوله : (بِغَضَبٍ) في موضع الحال من فاعل «باءوا» أي : رجعوا مغضوبا عليهم ، وليس مفعولا به ك «مررت بزيد».

وقال الزمخشري : هو من قولك : باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي : صاروا أحقاء بغضبه. وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال.

قوله : (مِنَ اللهِ) الظاهر أنه في محلّ جر صفة ب «غضب» ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : بغضب كائن من الله.

و «من» لابتداء الغاية مجازا.

وقيل : هو متعلّق بالفعل نفسه أي : رجعوا من الله بغضب. وليس بقوي.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ).

«ذلك» مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذّلّة والمسكنة [والخلافة](٢) بالغضب.

و «بأنهم» الخبر ، والباء للسببية ، أي : ذلك مستحقّ بسبب كفرهم.

وقال المهدوي : الباء بمعنى اللام أي : لأنهم ، ولا حاجة إلى هذا ، فإن باء السببية تفيد التّعليل بنفسها.

__________________

(١) خلف بن حيان أبو محرز المعروف بالأحمر راوية عالم بالأدب ، شاعر من أهل البصرة ، كان أبواه موليين من فرغانة ، أعتقهما بلال بن أبي موسى الأشعري قال معمر بن المثنى : خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة وقال الأخفش : لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي وكان يضع الشعر وينسبه إلى العرب ، قال صاحب مراتب النحويين : وضع خلف على شعرا عبد القيس شعرا كثيرا وعلى غيرهم عبثا به فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة وله «ديوان شعر» وكتاب «جبال العرب» و «مقدمة في النحو».

ينظر الأعلام : ٢ / ٣١٠ (٣٨١٨) ، بغية الوعاة : ٢٤٢ ، الشعر والشعراء : ٣٠٨ ، نزهة الألبا : ٦٩!.

(٢) في أ : والخلق.

١٢٦

و «يكفرون» في محلّ نصب خبرا ل «كان» ، و «كان» وما في حيّزها في محل رفع خبرا للمبتدأ كما تقدم.

قوله : (بِآياتِ اللهِ)(١) متعلّق ب «يكفرون» ، والباء للتعدية.

قوله : (وَيَقْتُلُونَ) في محلّ نصب عطفا على خبر «كان» ، وقرىء (٢) : «تقتلون» بالخطاب التفاتا إلى الخطاب الأول بعد الغيبة. و (يَقْتُلُونَ) بالتشديد للتكثير.

قوله : (النَّبِيِّينَ) مفعول به جمع «نبي».

والقراء (٣) على ترك الهمزة في النّبوة ، وما تصرف منها ، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلّا موضعين : في سورة «الأحزاب» : (لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ) [لأحزاب : ٥٠] ، (بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا) [الأحزاب : ٥٣] ، فإن قالون حكى عنه في الوصل كالجماعة وسيأتي. وأما من همز فإنه جعله مشتقا من «النبأ» وهو الخبر ، فالنّبيّ «فعيل» بمعنى «فاعل» أي : منبّىء عن الله برسالته ، ويجوز أن يكون بمعنى «مفعول» ، أي : أنه منبّأ من الله بأوامره ونواهيه ، واستدلّوا على ذلك بجمعه على «نبآء» ك «ظريف وظرفاء» قال العبّاس بن مرداس : [الكامل]

٥٤٥ ـ يا خاتم النّبآء إنّك مرسل

بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا (٤)

فظهور الهمزتين يدلّ على كونه من «النّبأ» ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة ، قال أبو علي : «قال سيبويه» (٥) : بلغنا أن قوما من أهل التحقيق يحققون «نبيئا وبريئة» قال : وهو رديء ، وإنما استردأه ؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف. وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعوامّ على إسقاط الهمز من النّبي والأنبياء ، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه ، فذكر أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا نبيء الله»

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قرأ بها الحسن بن أبي الحسن ، وقراءة التشديد لعلي ـ رضي الله عنه ـ ، ونسبت للحسن.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٥ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٣ ، والقرطبي : ١ / ٢٩٢.

(٣) قرأ بالهمز نافع ؛ لأنه من النبأ ، ومن ذلك قوله تعالى : «مَنْ أَنْبَأَكَ هذا» ، فالنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ينبىء ، أي يخبر عن الله تعالى ، وعلى غرار ذلك قول عباس بن مرداس :

يا خاتم النّبآء إنك مرسل

بالحق خير هدى السبيل هداكا

انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٨٧ ، والسبعة : ١٥٦ ، والكشف عن وجوه القراءات : ١ / ٢٤٣ ، والعنوان : ٦٩ ، وحجة القراءات : ٩٨ ، وشرح شعلة : ٢٦٤ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٥.

(٤) ينظر ديوانه : ص ٩٥ ، والكتاب : ٣ / ٤٦٠ ، ولسان العرب : (نبأ) ، وجمهرة اللغة : ص ١٠٢٨ ، والمقتضب : ١ / ١٦٢ ، ٢ / ٢١٠ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٤.

(٥) ينظر الكتاب : ٢ / ١٧٠.

١٢٧

فهمز ، فقال : «لست بنبيء الله» ـ فهمز ـ ولكنّي نبيّ الله ، ولم يهمز ، فأنكر عليه الهمز.

قال : وقال لي أبو عبيدة : العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف : «النبيّ والبرية والخابية» وأصلهن الهمز.

قال أبو عبيدة : ومنها حرف رابع : «الذّرّيّة» من ذرأ ـ يذرأ ، ويدلّ على أن الأصل الهمز قال سيبويه : [إنهم] كلّهم يقولون : تنبأ مسيلمة فيهمزون.

وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير ، أما الحديث فقد ضعفوه.

قال ابن عطية : ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العبّاس : [الكامل]

٥٤٦ ـ يا خاتم النّبآء ...

 .......... (١)

لم ينكره ، ولا فرق بين الجمع والواحد ، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكم في «المستدرك» ، وقال : هو صحيح على شرط الشّيخين ، ولم يخرجاه.

فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريج يكون جوابا عن قراءة نافع ، على أنّ القطعيّ لا يعارض بالظني ، وإنما يذكر زيادة فائدة.

والجواب عن الحديث : أنّ أبا زيد حكى : نبأت من أرض كذا إلى أرض كذا ، أي : خرجت منها إليها فقوله : «يا نبيء الله» بالهمز يوهم يا طريد الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره ، فنهاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلّق بالقراءة.

ونظير ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم : (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] لما وجدت اليهود بذلك طريقا إلى السّب به في لغتهم ، أو يكون حضّا منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على تحرّي أفصح اللغات في القرآن وغيره ، وأما من لم يهمز ، فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه من المهموز ، ولكن [خفف] ، وهذا أولى ليوافق القراءتين ، ولظهور الهمز في قولهم : تنبأ مسيلمة ، وقوله : «يا خاتم النّبآء ....».

والثاني : أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من «نبا ـ ينبو» : إذا ظهر وارتفع ، ولا شكّ أن رتبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتفعة ، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخلق ، والأصل : «نبيو وأنبواء» ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ك «ميت» في «ميوت» ، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء ، فصار : أنبياء.

والواو في «النبوة» بدل من الهمزة على الأول ، وأصل بنفسها على الثّاني ، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» ، أي : ظاهر مرتفع ، أو بمعنى مفعول أي : رفعه الله على خلقه ، أو يكون مأخوذا من النبي الذي هو الطريق ، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه ، به

__________________

(١) تقدم برقم (٥٤٥).

١٢٨

يتوصّلون إلى معرفة خالقهم ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٥٤٧ ـ لمّا وردن نبيّا واستتبّ بنا

مسحنفر كخطوط النّسج منسحل (١)

وقال الشاعر : [المتقارب]

٥٤٨ ـ لأصبح رتما دقاق الحصى

مكان النّبيّ من الكاثب (٢)

«الرّتم» ـ بالتاء المثناة والمثلثة جميعا : الكسر.

و «الكاثب» بالمثلثة : اسم جبل ، وقالوا في تحقير نبوّة مسيلمة : نبيئة.

وقالوا : جمعه أنبياء قياس مطّرد في «فعيل» المعتل نحو : «وليّ وأولياء ، وصفيّ وأصفياء».

وأما قالون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمدرك آخر ، وهو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى ، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ ، فتبدل وتدغم ، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في : (بِالسُّوءِ إِلَّا) [يوسف : ٥٣] من الإبدال والإدغام ، إلّا أنه روي عنه خلاف في : (بِالسُّوءِ إِلَّا) ولم يرو عنه [هنا](٣) خلاف كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللّفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يترك همزة «النّبيّ» ، بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك ، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يفعل ذلك حيث يصل ، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين ، لزوال السّبب المذكور ، فهو تارك للهمز لفظا آت به تقديرا.

فإن قيل : قوله : (يَكْفُرُونَ) دخل تحته قتل الأنبياء ، فلم أعاد ذكره؟

فالجواب : أن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله ، وهو الجهل والجحد بآياته ، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.

قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «يقتلون» تقديره : يقتلونهم مبطلين ، ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره : قتلا كائنا بغير الحقّ ، فيتعلّق بمحذوف.

قال الزمخشريّ (٤) : قتل الأنبياء لا يكون إلّا بغير الحقّ ، فما فائدة ذكره؟

وأجاب : بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحقّ عندهم ؛ لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يستحقّون به القتل عندهم.

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر. ينظر : ديوانه (١١) ، اللسان (كثب) ، القرطبي : ١ / ٢٩٣ ، الدر المصون : (١ / ٢٤٥).

(٢) البيت للقطامي. ينظر ديوانه : (٤) ، البحر : (١ / ٣٨٢).

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر الكشاف : ١ / ١٤٦.

١٢٩

وقيل : إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لاحق ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم.

وقيل : هذا التكرير للتأكيد ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون : ١١٧] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان.

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ [لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا : أليس أنّ الله يقتلهم ، فكأنه تعالى قال : القتل الصادر من الله ـ تعالى ـ](١) قتل بحقّ ، ومن غير الله قتل بغير حق.

فإن قيل : كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [وقتل](٢) الأنبياء؟

قيل : ذلك كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم.

قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : لم يقتل قطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر.

فصل في أوجه ورود لفظ الحق

وقد ورد «الحقّ» على أحد عشر وجها :

الأول : بمعنى «الجزم» لقوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢] أي : بغير جزم كهذه الآية.

الثاني : بمعنى «الصّفة» قال تعالى : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٧١] أي : بالصفة التي نعرفها.

الثالث : بمعنى «الصّدق» قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] ، ومثله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) [مريم : ٤٧] أي : قول الصدق.

الرابع : بمعنى : «وجب» قال تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) [السجدة : ١٣] أي : وجب ، ومثله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) [غافر : ٦] أي : وجبت.

الخامس : بمعنى : «الولد» قال تعالى : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) [الحجر : ٥٥] أي : بالولد.

السادس : الحقّ : الحجّة قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦] أي : جاءتهم الحجّة ، وهي اليد والعصاة.

السابع : بمعنى «القضاء» قال تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٥] أي : اقض ، ومثله : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور : ٤٩].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : وبين.

١٣٠

الثامن : بمعنى : «التوحيد» قال تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) [الصافات : ٣٧] أي : بالتوحيد.

التاسع : الحقّ : الإسلام قال تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] أي : جاء الإسلام ، وذهب الكفر ، ومثله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [يونس : ٣٥] أي : إلى الإسلام ، ومثله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩].

العاشر : بمعنى القرآن ، قال تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) [ق : ٥] أي : بالقرآن.

الحادي عشر : الحقّ : هو الله تعالى ، قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) [المؤمنون : ٧١] أي : في إيجاد الولد ، ومثله : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) [العصر : ٣] أي : بالله.

قوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) مثل ما تقدم.

وفي تكرير اسم الإشارة قولان :

أحدهما : أنه مشار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيد.

والثاني : ما قاله الزمخشري : وهو أن يشار به إلى الكفر ، وقتل الأنبياء ، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم ؛ لأنهم انهمكوا فيها.

و «ما» مصدرية ، و «الباء» للسببية ، أي : بسبب عصيانهم ، فلا محلّ ل «عصوا» لوقوعه صلة ، وأصل «عصوا» : «عصيوا» تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفا ، فالتقى ساكنان [الياء](١) والواو ، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين ، وبقيت الفتحة تدلّ عليها ، فوزنه «فعوا».

وأصل «العصيان» : الشدة. واعتصت النّواة : إذا اشتدت.

قوله : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) المراد منه الظّلم ، أو تجاوز الحقّ إلى الباطل.

وأصل «الاعتداء» : المجاوزة من «عدا» ـ «يعدو» ، فهو «افتعال» منه ، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء ، ليعم كل ما يعصى ويعتدى فيه.

وأصل «يعتدون» : «يعتديون» ، ففعل به ما فعل ب (تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] من الحذف والإعلال ، وقد تقدم ، فوزنه : «يفتعون».

والواو من «عصوا» واجبة الإدغام في الواو بعدها ، لانفتاح ما قبلها ، وليس فيها [مدّ](٢) يمنع من الإدغام ، ومثله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) [آل عمران : ٢٠] وهذا بخلاف ما إذا انضم ما قبل الواو ، فإن المدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين ، فيجب الإظهار ، نحو : (آمَنُوا وَعَمِلُوا) [البقرة : ٢٥] ومثله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ) [الناس : ٥].

__________________

(١) في أ : هي.

(٢) في ب : ما.

١٣١

فإن قيل : ما الفرق بين ذكره «الحقّ» هاهنا معرفا ، وبين ذكره في «آل عمران» منكرا في قوله : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢]؟

والجواب : أن الحقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث ، كفر بعد [إيمان](١) ، وزنى بعد [إحصان](٢) ، وقتل نفس بغير حق».

فالمعرّف إشارة إلى هذا ، والمنكّر المراد به تأكيد العموم ، أي : لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره.

فإن قيل : ما الفائدة في جمعه «الأنبياء» هنا جمع سلامة ، وفي «آل عمران» جمع تكسير؟

فالجواب : [ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السّلامة ، وهو «النّبيّين» ـ «الصّابئين» بخلاف الأنبياء](٣) ..

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

قال ابن عباس : والمراد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) هم الذين آمنوا قبل [مبعث](٤) محمد بعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قسّ بن ساعدة ، وبحيرى الراهب ، وحبيب النّجّار ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وخطر بن مالك ، ووفد النجاشي ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد ، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله واليوم الآخر ومحمد ، فلهم أجرهم (٥).

وقال سفيان الثوري : المراد من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) هم المنافقون ؛ لأنهم يؤمنون باللّسان دون القلب ، ثم اليهود والنصارى والصّابئون ، فكأنه قال : هؤلاء المبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم أجرهم.

وقال المتكلمون : المراد أنّ الذين آمنوا بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي ، ثم قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يقتضي المستقبل ، فكأنه قال : إن الذين آمنوا في الماضي ، وثبتوا عليه في المستقبل.

و (هادُوا) في ألفه قولان :

__________________

(١) في أ : الإيمان.

(٢) في أ : الإحصان.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : بعث.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي كما في «الدر المنثور» (١ / ١٤٣).

١٣٢

أحدهما : أنه من واو ، والأصل «هاد ـ يهود» أي : تاب ؛ قال الشاعر : [السريع]

٥٤٩ ـ ..........

إنّي امرؤ من حبّه هائد (١)

أي : تائب ، ومنه سمي اليهود ، لأنهم تابوا عن عبادة العجل ، وقالوا : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] أي : تبنا ورجعنا.

[قاله](٢) ابن عباس.

وقيل : هو من التهويد ، وهو النطق في سكون ووقار ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٥٥٠ ـ وخود من اللّائي تسمّعن بالضّحى

قريض الرّدافى بالغناء المهوّد (٣)

وقيل : من «الهوادة» ، وهي الخضوع.

الثاني : أنها من ياء ، والأصل : «هاد ـ يهيد» ، أي : تحرّك ، ومنه سمي اليهود ؛ لتحركهم في دراستهم ، قاله أبو عمرو بن العلاء.

وقيل : سموا يهودا نسبة ليهوذا ـ بالذال المعجمة ـ وهو ابن يعقوب عليه الصلاة والسلام ، فغيّرته العرب بالدّال المهملة ، جريا على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ، فعرب ونسب الواحد إليه ، فقيل يهوديّ ، ثم حذف الياء في الجمع ، فقيل يهود.

وكل جمع منسوب إلى جنس ، فهو بإسقاط ياء النسب ؛ كقولهم في «زنجيّ» : زنج ، وفي «روميّ» : روم أيضا. وهيادا : إذا دخل في اليهودية ، وتهوّد إذا [نسبه إليهم](٤) وهوّد إذا دعا إلى اليهودية.

والنّصارى جمع واحده «نصران» ، و «نصرانة» ك : «ندمان وندمانة وندامى» ، قاله سيبويه ؛ وأنشد : [الطويل]

٥٥١ ـ فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما أسجدت نصرانة لم تحنّف (٥)

وقال عليه الصلاة والسلام : «فأبواه يهوّدانه» (٦).

__________________

(١) البيت لرجل من الأعراب. ينظر الصحاح (هود) ، اللسان (هود) القرطبي : ١ / ٢٩٤ ، المحرر الوجيز : (١ / ٣٠٠) ، الدر المصون : (١ / ٢٤٧).

(٢) في ب : قال.

(٣) البيت للراعي النميري.

ينظر اللسان (هود) ، الدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٤) في أ : تشبه بهم.

(٥) البيت لأبي الأخزر الحماني ينظر الكتاب : ٣ / ٤١١ ، ولسان العرب (نصر) ، والإنصاف : ٢ / ٤٤٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٦) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٠٨) كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين حديث رقم (١٣٨٥). ـ

١٣٣

وقرأ (١) أبو السمال (٢) ومجاهد : «هادوا» بفتح الدال ، وإسكان الواو كأنها من المفاعلة ، والأصل : هاديوا فأعلّ كنظائره.

وقيل : سمّوا يهودا لميلهم عن دين الإسلام ، وعن دين موسى ، فعلى هذا إنما سموا يهودا بعد أنبيائهم.

وقال ابن الأعرابي : يقال : هاد : إذا رجع من خير إلى شرّ ، ومن شرّ إلى خير ، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم ، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم ، نقله النووي في «التهذيب» عن الواحديّ(٣).

وأنشد الطبري على «نصران» [قول الشاعر](٤) : [الطويل]

٥٥٢ ـ يظلّ إذا دار العشا متحنّفا

ويضحي لديه وهو نصران شامس (٥)

قال سيبويه (٦) : إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النّسب.

وقال الخليل : «واحد النصارى نصريّ ، كمهريّ ومهارى».

وقال الزمخشريّ : الياء في «نصرانيّ» للمبالغة كالتي في «أحمريّ» و «نصارى» نكرة ، ولذلك دخلت عليه أل ، ووصف بالنكرة في قول الشاعر : [البسيط]

٥٥٣ ـ صدّت كما صدّ عمّا لا يحلّ له

ساقي نصارى قبيل الفصح صوّام (٧)

__________________

ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٤٧١٤) ، (٤٧١٦).

وأحمد في المسند (٢ / ٣٣ ، ٢٧٥ ، ٢٨٢ ، ٣٩٣ ، ٤١٠ ، ٤٨١) ، (٣ / ٣٥٣) ـ ومالك في الموطأ (١٩٢) كتاب الجنائز والحميدي في مسنده (١١١٣) ـ وأبو نعيم في الحلية (٩ / ٢٨٨) وذكره السيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٥٥ ، ٦ / ٢٩٨.

(١) انظر الشواذ : ٦ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٠٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٨ ، والقرطبي : ١ / ٢٩٤.

(٢) قعنب بن أبي قعنب أبو السمال بفتح السين وتشديد الميم وباللام العدوي البصري ، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة ، رواه عنه أبو زيد سعيد بن أوس ، وأسند الهذلي قراءة أبي السمال عن هشام البربري عن عباد بن راشد عن الحسن عن سمرة عن عمر ، وهذا إسناد لا يصح.

ينظر غاية النهاية : ٢ / ٢٧.

(٣) علي بن أحمد بن محمد ، أبو الحسن الواحدي ، كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما ، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه ، أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي ، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري والنحو عن أبي الحسن القهندري. صنف الوسيط ، والبسيط والوجيز ، ومنه أخذ الغزالي هذه الأسماء ، وله أسباب النزول ، وغير ذلك. مات سنة ٤٦٨ ينظر طبقات ابن قاضي شهبة : ١ / ٢٥٦ ، الأعلام : ٥ / ٥٩ ، وفيات الأعيان : ٢ / ٤٦٤.

(٤) في أ : قوله.

(٥) ينظر الأضداد : (١٥٥) ، البحر : ١ / ٤٠١ ، والقرطبي : ١ / ٢٩٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٦) ينظر الكتاب : ٢ / ٢٩.

(٧) البيت للنمر بن تولب ينظر ديوانه : ص ٣٨٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٥٥ ، والكتاب : ٣ / ٢٥٥ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٧.

١٣٤

وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها ، وقياسه النّصارنيون. وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها : «ناصرة» كان ينزلها عيسى عليه الصلاة والسلام ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج. فنسب عيسى إليها ، فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل : النّصارى.

قال الجوهري : و «نصران» قرية ب «الشّام» ينسب إليها النصارى. أو لأنهم كانوا يتناصرون ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥٥٤ ـ لمّا رأيت نبطا أنصارا

شمّرت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النّصارى جارا (١)

وقيل : لأن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال للحواريين : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢].

و «الصّابئين» الجمهور على همزه ، وقرأه (٢) نافع وشيبة (٣) والزهري بياء ساكنة غير مهموزة ، وعن أبي جعفر بياءين خالصتين بدل الهمزة ، فمن همزه جعله من صبأ ناب البعير أي : خرج ، وصبأت النجوم : طلعت.

وقال أبو علي : صبأت على القوم إذا طرأت عليهم. فالصّابىء : التّارك لدينه ، كالصّابىء الطارىء على القوم ، فإنه تارك لأرضه ، ومنتقل عنها.

ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مأخوذا من المهموز فأبدل من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واوا ، فصار من باب المنقوص مثل : «قاض أو غاز» ، والأصل : صاب ، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي ، إلا أن سيبويه (٤) لا يرى قلب هذه الهمزة إلّا في الشعر ، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقا.

الثّاني : أنه من باب «صبا .. يصبو» إذا مال ، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صابئا ؛ لأنه أظهر دينا خلاف أديانهم ، فالصّابي كالغازي أصله : «صابوا» فأعلّ كإعلال

__________________

(١) ينظر أمالي ابن الشجري : (١ / ٧٩) ، القرطبي : (١ / ٢٩٤) ، معاني القرآن للفراء : (١ / ٤٤١) ، تفسير الطبري : ٢ / ١٤٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٧.

(٢) تقدم تخريج هذه القراءة.

(٣) شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب ، إمام ، ثقة ، مقرىء المدينة مع أبي جعفر وقاضيها ، ومولى أم سلمة ـ رضي الله عنها ، مسحت على رأسه ودعت له بالخير ، وقال الحافظ أبو العلاء : هو من قراء التابعين الذين أدركوا أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأدرك أمّي المؤمنين عائشة وأم سلمة. مات سنة ١٣٠ في أيّام مروان بن محمد وقيل غير ذلك.

ينظر غاية النهاية : ١ / ٣٢٩.

(٤) ينظر الكتاب : ٢ / ١٩٠.

١٣٥

غاز ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس : «ما الصّابون إنا هي الصابئون ، والخاطون إنما هي الخاطئون». فقد اجتمع في قراءة نافع همز «النبيين» ، وترك همز «الصابئين». [وقد علم أنّ العكس فيهما أفصح](١).

فصل في تفسير الصابئين

[وللمفسرين في تفسير «الصّابئين» أقوال](٢) :

فقال مجاهد والحسن : هم طائفة بين اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم(٣).

وقال السّدي : هم فرقة من أهل الكتاب (٤) [وقاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر](٥):

وقال إسحاق : لا بأس بذبائح الصابئين ؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب.

وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ، ومناكحة نسائهم.

وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النّصارى ، إلّا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصّلاة والسّلام. [نقله](٦) القرطبي.

وقال قتادة : قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات.

وقال أيضا : الأديان خمسة أربعة للشّيطان ، وواحد للرحمن ، وهم : الصابئون وهم يعبدون الملائكة ، والمجوس يعبدون النّار ، والذين أشركوا يعبدون الأوثان ، واليهود والنّصارى ، وقال : هم قبيلة نحو «الشام» بين اليهود والنّصارى ، والمجوس لا دين لهم ، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكتاب ، وهو منقول عن أبي حنيفة.

وقال قتادة ومقاتل : هم قوم يقرون بالله عزوجل ، ويعبدون الملائكة ، ويقرون بالزّبور ، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئا.

وقال [الكلبي](٧) : «هم قوم بين اليهود والنّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ، ويجبّون مذاكيرهم». وقال عبد العزيز بن يحيى : درجوا وانقرضوا.

وقيل : هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ رادّا عليهم ومبطلا لقولهم ، وكانوا يعبدون الكواكب.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فصل : اختلف المفسرون في مذهب الصابئين.

(٣) أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن مجاهد كما في «الدر المنثور» (١ / ١٤٥).

(٤) أخرجه وكيع عن السدي كما في «الدر المنثور» (١ / ١٤٦).

(٥) سقط في ب.

(٦) في ب : رواه.

(٧) في ب : الطبري.

١٣٦

قال ابن الخطيب : وهو الأقرب ، ثم لهم قولان :

أحدهما : أنّ الله خلق هذا العالم ، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة الصلاة ، والدعاء والتعظيم.

والثاني : أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق الأفلاك والكواكب ، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر ، والصحة والمرض ، فيجب على البشر تعظيمها ؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم.

قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) آمن : صدق. و «من» في قوله: (مَنْ آمَنَ) في موضع نصب بدل من (الَّذِينَ آمَنُوا). والفاء في قوله : «فلهم» داخلة بسبب الإبهام الذي في «من».

وقيل : في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط ، و «آمن» في موضع جزم بالشرط ، و «الفاء» جواب و «لهم أجرهم» خبر «من» والجملة كلها خبر «إن» ، والعائد على «الذين» محذوف تقديره : من آمن منهم بالله ، وحمل الضمير على لفظ «من» فأفرد ، وعلى المعنى في قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فجمع ؛ كقوله : [الطويل]

٥٥٥ ـ ألمّا بسلمى عنكما إن عرضتما

وقولا لها : عوجي على من تخلّفوا (١)

وقال الفرزدق : [الطويل]

٥٥٦ ـ تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (٢)

[فراعى المعنى](٣) وقد تقدم تحقيق ذلك [عند] قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) [البقرة : ٨] والأجر في الأصل مصدر يقال : أجره الله يأجره أجرا ، وقد يعبر به عن نفس الشيء المجازى به ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.

والمراد بهذه العنديّة أن أجرهم متيقّن جار مجرى الحاصل عندهم.

قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فقيل : أراد زوال الخوف [عنهم] في الدنيا.

وقيل : الآخرة وهو أصح ؛ لأنه عامّ في النفي ، وكذا قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، وهذه لا تحصل في الدنيا ؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن ، إما في

__________________

(١) ينظر البيت في القرطبي : ١ / ٢٩٥ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٨.

(٢) ينظر ديوانه : ٢ / ٣٢٩ ، وتخليص الشواهد : ص ١٤٢ ، والدرر : ١ / ٢٨٤ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٨٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٥٣٦ ، ٨٢٩ ، والكتاب : ٢ / ٤١٦ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٠٤ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٦١ ، والخصائص : ٢ / ٤٢٢ ، وشرح الأشموني : ١ / ٦٩ ، وشرح المفصل : ٢ / ١٣٢ ، ٤ / ١٣ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٧٣ ، ولسان العرب (منن) ، والمحتسب : ١ / ٢١٩ ، والمقتضب : ٢ / ٢٩٥ ، ٣ / ٢٥٣ ، والدر المصون : ٢ / ٦٥.

(٣) سقط في ب.

١٣٧

أسباب الدنيا ، أو في أمور الآخرة ، فكأنه ـ سبحانه ـ وعدهم في الآخرة بالأجر ، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خاليا من الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائما ؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعا لاعتراهم الخوف العظيم.

فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا : (الصَّابِئِينَ ،) منصوبة ، وفي «المائدة»: (وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] مرفوعة. وقال في الحج : (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧] فقدم «الصّابئين» على «النصارى» في آية ، وأخّر «الصّائبين» في الأخرى ، فهل في ذلك حكمة ظاهرة.

قال ابن الخطيب (١) : إن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)

هذا هو الإنعام العاشر.

والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة.

واختلفوا في ذلك الميثاق.

قال الأصمّ : [ما وعده الله القوم](٢) من الدّلائل الدّالة على صدق أنبيائه ورسله ، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود ؛ لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه ألبتة. وقال أبو مسلم : هو ما روى عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما رجع إلى قومه بالألواح ، قال لهم : «إن فيها كتاب الله تعالى» فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول : هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصّاعقة ، فماتوا ثمّ أحياهم ، ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله ، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، [فأخذوه](٣) فرفع الطور هو الميثاق (٤) ؛ لأنه آية [باهرة] عجيبة تبهر العقول ، وتردّ المكذب إلى التصديق ، والشّاكّ إلى اليقين ، وأكدوا ذلك ، وعرفوا أنه من قبله ـ تعالى ـ وأظهروا التوبة ، وأعطوا العهد والميثاق ألّا يعودوا إلى ما كان منهم ، وأن يقوموا بالتوراة ، فكان هذا عهدا موثقا. وروي عن عبد الله بن عباس : أن لله ميثاقين.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٨.

(٢) في أ : هو ما وعد الله العقول.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧) عن ابن زيد.

١٣٨

الأول : حين أخرجهم من صلب آدم ، وأشهدهم على أنفسهم.

والثاني : أنه ألزم النّاس متابعة الأنبياء ، وهو المراد من هذا العهد.

قال ابن الخطيب (١) : «وهذا ضعيف».

فإن قيل : لم قال : «ميثاقكم» ولم يقل : «مواثيقكم»؟

قال القفّال : لوجهين :

أحدهما : أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أي : كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره ، فلا جرم كان كله ميثاقا واحدا.

والثاني : أنه لو قال : مواثيقكم لأبهم أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد.

قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) نظيره : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) [الأعراف : ١٧١]. و «الواو» في قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ) واو عطف على تفسير ابن عباس ، والمعنى : أن أخذ الميثاق كان متقدما فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفعنا عليهم الجبل.

وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال ، كما يقال : «فعلت ذلك والزمان زمان» فكأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطّور فوقكم.

وفوقكم ظرف مكان ناصبه «رفعنا» ، وحكم «فوق» مثل حكم «تحت» ، وقد تقدم الكلام عليه.

قال أبو البقاء (٢) : ويضعف أن يكون حالا من «الطور» ؛ لأن التقدير يصير : ورفعنا الطور عاليا ، وقد استفيد من «رفعنا». وفي هذا نظر ؛ لأن المراد به علو خاص ، وهو كونه عاليا عليهم لا مطلق العلو حتى يصير : رفعناه عاليا كما قدره. قال : «لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع ، وإنما صار فوقهم بالرفع».

ولقائل أن يقول : لم لا تكون حالا مقدرة ، وقد قال هو في قوله : (بِقُوَّةٍ) إنها حال مقدرة كما سيأتي.

و «الطور» اسم [لكلّ](٣) جبل ، وقيل : [لما](٤) أنبت منها خاصة دون ما لم ينبت ، وهل هو عربي أو سريانيّ قولان.

وقيل : سمي بطور بن إسماعيل عليه الصلاة والسلام ؛ وقال العجّاج : [الرجز]

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٩.

(٢) ينظر الإملاء : ١ / ٤١.

(٣) في أ : لمكان.

(٤) في ب : ما.

١٣٩

٥٥٧ ـ دانى جناحيه من الطّور فمرّ

تقضّي البازي إذا البازي كسر (١)

وقال الخليل : الطّور اسم جبل معلوم ؛ لأن لام التعريف تقتضي حمله على جبل معهود مسمى بهذا الاسم ، وهو جبل المناجاة. وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم ، فيجعله فوقهم وإن كان بعيدا منهم.

وقال ابن عباس : أمر الله جبلا من جبال «فلسطين» (٢) ، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظّلة ، وبعث نارا من قبل وجوههم ، وأتاهم البحر الملح من خلفهم ، وقيل لهم : خذوا ما آتيناكم ، أي : اقبلوا ما أعطيناكم وإلّا رضختكم بهذا الجبل ، وغرقتكم في هذا البحر ، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قبلوا ذلك ، وسجدوا خوفا ، وجعلوا يلاحظون الجبل ، وهم سجود ، فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون إلّا على أنصاف وجوههم (٣).

قوله : «خذوا» في محل نصب بقول مضمر ، أي : وقلنا لهم : خذوا ، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل «رفعنا» والتقدير : ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا. وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل : اؤخذ ، عند قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥].

قوله : (ما آتَيْناكُمْ) مفعول «خذوا» ، و «ما» موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة ، والعائد محذوف أي : ما آتيناكموه.

__________________

(١) ينظر ديوانه : (٢٨) ، الخصائص : (٢ / ٩٠) ، أمالي القالي : ٢ / ١٧١) ، المحتسب : (١ / ١٥٧) ، المخصص : (١١ / ١٢٠) ، الدرر (٢ / ٢١٣) ، الكامل : (٣ / ٤٧) ، الكشاف : (٤ / ٤٢٦) ، مجاز القرآن : (٢ / ٣٠٠) ، ابن يعيش : (١٠ / ٢٥٠) ، الهمع : (٢ / ١٥٧) ، الأشموني : (٤ / ٣٣٦) ، الصحاح : (قضض) ، الدر : (١ / ٢٤٨).

(٢) (فلسطين) بالكسر ، ثم الفتح ؛ وسكون السين ، وطاء مهملة ، وآخره نون : آخر كور الشام من ناحية مصر ، قصبتها بيت المقدس ، ومن مشهور مدنها : عسقلان ، والرملة ، وغزّة ، وأرسوف ، وقيسارية ، ونابلس ، وأريحا ، وعمّان ، ويافا ، وبيت جبرين ، وهي أول أجناد الشام ، أولها من ناحية الغرب «رفح» ، وآخرها «اللّجون» من ناحية الغور.

وعرضه من البلقاء إلى أريحا ثلاثة أيام ، و «زغر» ديار قوم لوط ، وجبال الشراة إلى «أيلة» كله مضموم إلى جند فلسطين ، وأكثرها جبال ؛ والسهل فيها قليل.

وقيل : إنها الأرض التي قال الله ـ تعالى ـ : (الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، و (الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) ..

وقيل : فلسطين أيضا قرية بالعراق. ينظر مراصد الاطلاع : ٣ / ١٠٤٢.

والآن قد تمالأ الصهاينة والعملاء الخونة فسلبوها إسلامها ، ويكيدون في الظلام لأخذ قدسها المبارك ، مسرى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فرد الله كيدهم في نحورهم ، وسلّم الله الأرض والقدس لدينه وعباده المسلمين.

(٣) ذكره ابن جرير في تفسيره (٢ / ١٥٨ ، ١٥٩) ، مع اختلاف في اللفظ.

١٤٠