اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٤٣

ويقال : بدل وبدل كشبه وشبه ، ومثل ومثل ، ونكل ونكل [قال أبو عبيدة : لم يسمع في فعل وفعل غير هذه الأربعة أحرف](١).

فصل في بيان التبديل

قال أبو مسلم : قوله : «فبدّل» يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل ، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة ، قال تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) إلى قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) [الفتح : ١٥] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول ، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع ، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله.

وقال جمهور المفسرين : إنّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له ؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل ، فلا بدّ من حصول البدل ، كما يقال : بدّل دينه أي : انتقل من دين إلى دين ، ويؤيده قوله تعالى : (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

فصل في الباعث على تبديلهم

وقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم ، واختلفوا هل هو مطلق الظلم ، فيكونون كلهم بدلوا ، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوا ، وهم الرؤساء والأشراف ، وهذا هو الظاهر ، لقوله في سورة «الأعراف» : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٦٢] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بدّلوها ، أو بدّل كلّ أناس منهم شيئا ، أو بدّلوا في كل وقت شيئا؟

فإن قيل : إنّهم قد بدّلوا القول والفعل ، فلم خصّ القول بالتبديل؟

فالجواب : أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد ، فكأنه قال : بدّلوا القول والفعل ، وأيضا فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر ، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل.

واختلفوا في ذلك القول :

فروي عن ابن عبّاس : أنّهم لم يدخلوا الباب سجدا ، ولم يقولوا حطّة ، بل دخلوا زاحفين على استاههم قائلين حنطة.

وقال ابن زيد : استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة.

وقال «مجاهد» : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم ، ويركعوا ، فدخلوا زاحفين.

وقيل لهم : قولوا حطة فقالوا : حطّا شمقا ما يعني حطة حمراء استخفافا بأمر الله.

__________________

(١) سقط في ب.

١٠١

قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أضروا بأنفسهم ، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا.

و «الرجز» : هو العذاب.

فصل في لغات الرجز

وفيه لغة أخرى وهي ضمّ الراء ، وقرىء (١) بهما.

وقيل : المضموم اسم صنم ، ومنه : (وَالرُّجْزَ) [المدثر : ٥]. والرّجز والرّجس بالزاي والسين ـ بمعنى ك : السّدغ والزّدغ.

والصحيح أن الرّجز : القذر ، والرّجز : ما يصيب الإبل ، فترتعش منه ، ومنه : بحر الرّجز في الشّعر.

قوله : (مِنَ السَّماءِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون متعلقا ب «أنزلنا» و «من» لابتداء الغاية ، أي : من جهة السماء ، وهذا الوجه هو الظاهر.

والثاني : أن يكون صفة ل «رجزا» فيتعلّق بمحذوف ، و «من» أيضا للابتداء.

وقوله : (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فأعادهم بذكرهم أولا ، ولم يقل : «عليهم» تنبيها على أن ظلمهم سبب في عقابهم ، وهو من إيقاع الظاهر موقع المضمر لهذا الغرض ، وإيقاع الظاهر موقع المضمر على ضربين : ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية ، وقول الخنساء : [المتقارب]

٥١٨ ـ تعرّقني الدّهر [نهسا](٢)وحزّا

[وأوجعني](٣) الدّهر قرعا وغمزا (٤)

أي : أصابتني نوائبه جمع.

وضرب يقع في كلام واحد ؛ نحو قوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢].

وقول الآخر : [الكامل]

٥١٩ ـ ليت الغراب غداة ينعب دائبا

كان الغراب مقطّع الأوداج (٥)

__________________

(١) والضم قراءة ابن محيصن ، وهي لغة في «الرّجز».

انظر البحر المحيط : ١ / ٣٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٤١ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤.

(٢) في أ : نهشا.

(٣) في أ : وأفجعني.

(٤) ينظر الديوان : (١٤٣) ، أمالي الشجري : (١ / ٢٤١) ، الحماسة الشجرية : (١ / ٣٢٣) ، القرطبي : (١ / ٢٨٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٣٥).

(٥) البيت لجرير. ينظر ديوانه وروايته فيه : ينعب بالنوى ... (١ / ١٣٦) ، الطبري : ٢ / ٣٩٦ ، الأمالي الشجرية : ١ / ٢٤٣ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٥ ، القرطبي : ١ / ٢٨٣.

١٠٢

وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال : [الخفيف]

٥٢٠ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

قوله : (بِما كانُوا) متعلّق ب «أنزلنا» و «الباء» للسببية ، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ـ وهو الظّاهر ـ أي : بسبب فسقهم ، وأن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع ، والأصل : يفسقونه ، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة.

وقرأ (٢) «ابن وثّاب» (٣) : «يفسقون» بكسر السين ، وتقدم أنهما لغتان.

فصل في تفسير الظلم

قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله : (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وفائدة التكرار التأكيد.

قال ابن الخطيب : والحق أنه غيره ؛ لأن الظلم قد يكون من الصّغائر ، ولذلك قال

__________________

(١) كرر الموت في مواضع البيت ؛ تهويلا وتعظيما للموت ، فأقام الظاهر موضع الضمير الرابط ، والأصل : لا أرى الموت يسبقه شيء ، وأما قوله : «نغص الموت» ففيه أيضا إقامة الظاهر مقام الضمير ، لكن لا للربط ، ويجوز مثله إذا كان في جملة مستأنفة.

ووضع الظاهر موضع المضمر فيه قبح ، إذا كان تكريره في جملة واحدة ، فلا يكاد يجوز إلا في ضرورة ، وكان مقصودا به التهويل والتعظيم ، فيجوز قياسا في الشعر ؛ بشرط أن يكون بلفظ الأول كما سبق أن وضحناه في الشاهد السابق ، ومنع بعضهم في غير التفخيم مطلقا ، ولا وجه له مع وروده.

ويقول السيرافي ما ملخصه : اعلم أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكريره في جملة واحدة ، كان الاختيار ذكر ضميره ، نحو : زيد ضربته ، وزيد ضربت أباه ، وزيد مررت به ، ويجوز إعادة لفظه بعينه في موضع كنايته ، أما إذا أعدت لفظه في جملة أخرى ، فذلك جائز حسن ، نحو قوله تعالى : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) والله أعلم ، ومن إعادة الظاهر في جملة واحدة قولك : ما زيد ذاهبا ولا محسنا زيد ، والمختار : ولا محسنا هو بالضمير ؛ ولذلك كان رفع «محسن» أجود ؛ حتى تكون جملة أخرى.

ينظر ديوانه : ص ٦٥ ، ولسوادة بن عدي في شرح أبيات سيبويه : ١ / ١٢٥ ، الأشباه والنظائر : ٨ / ٣٠ ، خزانة الأدب : ١ / ٣٧٨ ، ٣٧٩ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٣٦ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ١٧٦ ، الكتاب : ١ / ٦٢ ، ولسوادة أو لعدي في لسان العرب (نغص) ، شرح جمل الزجاجي : ١ / ٥٦٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ١ / ١٥٣ ، ٢٨٦ ، ٢ / ٨٢٩ ، الخصائص : ٣ / ٥٣ ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٠٠ ، يس : ١ / ١٦٥ ، الكافية : ١ / ٩٢ ، القرطبي : ١ / ٢٨٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٥.

(٢) وهي قراءة النخعي والأعمش.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥١ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٨٧ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٦ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٤ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٣.

(٣) يحيى بن وثاب الأسدي بالولاء الكوفي : إمام أهل الكوفة في القرآن تابعي ثقة ، قليل الحديث ، من أكابر القراء ، له خبر طريف مع الحجاج : كان يحيى يؤم قومه في الصلاة ، وأمر الحجاج ألّا يؤم بالكوفة إلا عربي فقيل له اعتزل فبلغ الحجاج فقال : ليس عن مثل هذا نهيت. فصلى بهم يوما ثم قال : اطلبوا إماما غيري إنما أردت ألّا تستذلوني ، فإذا صار الأمر إلي فلا أؤمكم.

ينظر الأعلام : ٨ / ١٧٦ (١٦١٣) ، تهذيب التهذيب : ١١ / ٢٩٤ ، غاية النهاية : ٢ / ٣٨٠ ، النجوم : ١ / ٢٥٢.

١٠٣

بعض الأنبياء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] وقد يكون من الكبائر ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، والفسق لا بدّ وأن يكون من الكبائر ، ويمكن أن يجاب عنه : بأن أبا مسلم لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم ، وإنما خصّه بظلم معين ، وهو الذي وصفوا به في أوّل الآية ، ويحتمل أنهم استحقّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ، فنزل الرّجز عليهم بالفسق الذي كانوا يفعلوه قبل التبديل ، فيزول التكرار.

احتجّ بعضهم بقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) على أنّ ما ورد من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره ، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصّلاة بلفظ التّعظيم ، ولا يجوز القراءة بالفارسية.

وأجاب أبو بكر الرّازي : «بأنهم إنما استحقّوا الذّم لتبديلهم القول إلى قول يضاد معناه معنى الأول ، فلهذا استوجبوا الذم ، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك».

قال ابن الخطيب : «والظّاهر أن هذا يتناول كل من بدّل قولا بقول آخر سواء اتّفقا أو لم يتفقا».

فإن قيل : قال هنا : «وإذ قلنا» ، وفي «الأعراف» : (وَإِذْ قِيلَ) [الأعراف : ١٦١].

قيل : لأن سورة «الأعراف» مكية ، و «البقرة» مدنية فأبهم القائل في الأولى ـ وهي «الأعراف» ـ ليكون لهم وقع في القلب ، ثم بيّنه في هذه السورة المدنية ، كأنه قال : ذلك القائل هناك هو هذا.

وقال هنا : «ادخلوا» ، وفي «الأعراف» : «اسكنوا».

قال ابن الخطيب : «لأنّ الدخول مقدّم على السّكنى».

وهذا يرد عليه ، فإن «الأعراف» قبل «البقرة» ؛ لأنها مكية.

وقال [هنا](١) «فكلوا» بالفاء ، وفي «الأعراف» «وكلوا» بالواو.

والجواب ـ هاهنا ـ هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) ، وفي «الأعراف» (فَكُلا). [ولم ذكر قوله : (رَغَداً) في «البقرة» ، وحذفه في «الأعراف»؟ لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا](٢) ، وفي «الأعراف» لما لم يسند الفعل إلى نفسه [لا جرم](٣) لم يذكر الإنعام الأعظم.

وقال هنا : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ ،) وفي «الأعراف» قدّم المؤخر ؛ لأن الواو للجمع المطلق ، وأيضا يحتمل أن يكون بعضهم مذنبا ، وبعضهم ليس بمذنب ، فالمذنب يكون اشتغاله أولا بالتوبة ، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولا «حطة» ثم يدخلوا الباب سجّدا ، وأما الذي ليس بمذنب ، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولا ، ثم [يذكروا](٤) التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس ، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة

__________________

(١) في ب : في البقرة.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : بدلوا.

١٠٤

فكلفوا أن يدخلوا الباب سجدا أولا ، ثم يقولوا «حطة» ، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب.

وفيه نظر ؛ لأن هذا القول إنما كان مرّة واحدة.

وقال هنا : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بالواو ، وفي «الأعراف» بغير واو.

وقال ابن الخطيب : لأنه ذكر في «الأعراف» أمرين : قول الحطة ، وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب سجدا ، وهو إشارة إلى العبادة ، ثم ذكر جزاءين : قوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ ،) وهو واقع في مقابلة قول الحطّة ، وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ،) وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجدا ، [فترك](١) الواو يفيد توزيع كل واحد من الجزاءين على كل واحد من الشرطين.

وأما في «البقرة» فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين.

وقال هنا : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً ،) وفي «الأعراف» زاد كلمة «منهم».

قال ابن الخطيب (٢) : لأنه ـ تعالى ـ قال : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ ،) فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم ، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [فذكر لفظة «منهم» في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصّة](٣) ليكون آخر الكلام مطابقا لأوله ، وأما هنا فلم يذكر في الآيات التي قبل قوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص.

وقال هنا : (فَأَنْزَلْنا) وفي [سورة](٤) «الأعراف» : (فَأَرْسَلْنا ،) وأتى بالمضمر دون الظاهر ؛ لأنه ـ تعالى ـ عدّد عليهم في هذه السّورة نعما جسيمة كثيرة ، فكان توجيه الذّم عليهم ، وتوبيخهم بكفرانها أبلغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عدّد هنا.

فلفظ (٥) «الإنزال» للعذاب أبلغ من لفظ «الإرسال».

وقال ـ هنا : (يَفْسُقُونَ ،) وفي «الأعراف» : (يَظْلِمُونَ) تنبيها على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين.

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

كسرت الذّال من «إذ» لالتقاء الساكنين ، والسين للطلب على وجه الدعاء أي : سأل

__________________

(١) في أ : فذكر.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٨٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) في ب : ولفظ.

١٠٥

لهم السّقيا ، وألف «استسقى» منقلبة عن ياء ؛ لأنه من «السّقي» ، وتقدّم معنى «استفعل» ، ويقال : «سقيته» و «أسقيته» بمعنى ؛ وأنشد : [الوافر]

٥٢١ ـ سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (١)

وقيل : «سقيته» : أعطيته ما يشرب ، «وأسقيته» : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء.

و «الإسقاء» أبلغ من «السّقي» على هذا.

وقيل : أسقيته : دللته على الماء ، وسيأتي عند قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل: ٦٦] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين ، قال تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] وقال : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً)(٢) [المرسلات : ٢٧].

و «لقومه» متعلّق بالفعل ، واللام للعلّة ، أي : لأجل ، أو تكون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم : «سقيا لك» فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها.

قوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) الإدغام ـ هنا ـ واجب ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين ؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو : اضرب بكرا ، وألف «عصاك» منقلبة عن واو ؛ لقولهم في النّسب : عصويّ ، وفي التثنية عصوان ؛ قال : [الطويل]

٥٢٢ ـ ..........

على عصويها سابريّ مشبرق (٣)

والجمع : «عصيّ» «وعصيّ» بضم العين وكسرها إتباعا ، «وأعص» مثل : «زمن» «وأزمن» ، والأصل : «عصوو» و «أعصو» ، فأعلّ. وعصوته بالعصا ، وعصيته بالسيف. و «ألقى عصاه» يعبر به عن بلوغ المنزل ، قال : [الطويل]

٥٢٣ ـ فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر (٤)

وانشقت العصا بين القوم ، أي : وقع الخلاف ؛ قال : [الطويل]

٥٢٤ ـ إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد (٥)

__________________

(١) البيت للبيد في ديوانه : ٩٣ ، ولسان العرب [مجد] ، ونوادر أبي زيد : ٢١٣ ، رصف المباني : ٥٠ ، القرطبي : ١ / ٢٨٤ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٦.

(٢) زاد في أ : وقد يحذفان ، وقد يحذف أحدهما.

(٣) عجز بيت لذي الرمة وصدره :

فجاءت بنسج العنكبوت كأنه

ينظر ديوانه : ٤٩٦ ، القرطبي : (١ / ٢٨٤) ، الدر المصون : ١ / ٢٣٦.

(٤) البيت لمعقر بن أوس بن حمار في الاشتقاق : ص ٤٨١ ، وينظر لسان العرب (نوى) ، وله أو لعبد ربه السلمي أو لسليم بن ثمامة الحنفي في لسان العرب (عصا) وبلا نسبة في خزانة الأدب : ٦ / ٤١٣ ، ٧ / ١٧ ، رصف : ص ٤٨ ، القرطبي : ١ / ٢٨٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٧.

(٥) البيت لجرير ينظر ذيل الأمالي : (١٤٠) ، وليس في ديوانه ، خزانة الأدب : ٧ / ٥٨١ ، سمط اللآلي : (٨٨٩) ، شرح الأشموني : ١ / ٢٢٤ ، شرح شواهد الإيضاح : ٣٧٤ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٩٠٠ ، ـ

١٠٦

قال الفرّاء : «أوّل لحن سمع ب «العراق» هذه عصاتي» ، يعني : بالتاء.

وفي [المثل](١) : «العصا من العصيّة» أي : بعض الأمر من بعض.

و «الحجر» مفعول. و «أل» فيه للعهد.

وقيل : للجنس ، وهو معروف ، وقياس جمعه في أدنى العدد «أحجار» وفي التكثير : «حجار وحجارة». و «الحجارة» نادر ، وهو كقولنا : «جمل وجمالة» ، و «ذكر وذكارة» قاله ابن فارس والجوهري.

وكيف يكون نادرا وفي القرآن : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) [البقرة : ٢٧] ، (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) [الإسراء : ٥٠] ، (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) [الفيل : ٤] ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً) [هود : ٨٢].

قوله : (فَانْفَجَرَتْ) «الفاء» عاطفة على محذوف لا بدّ من تقديره : فضرب فانفجرت. قال ابن عصفور : إن هذه «الفاء» الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف ، والفاء الداخلة على «انفجرت» محذوفة ، وكأنه يقول : حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، وحذفت «الفاء» الثانية لدلالة الأولى عليها. ولا حاجة إلى ذلك ، بل يقال : حذفت الفاء ، وما عطفته قبلها.

وجعلها الزمخشري جواب شرط [مقدر](٢) قال : [أو](٣) فإن ضربت فقد انفجرت ، قال : «وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ». وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب.

و «الانفجار» : الانشقاق والتفتّح ، ومنه : الفجر لانشقاقه بالضّوء.

وفي «الأعراف» : (فَانْبَجَسَتْ) [الأعراف : ١٦٠] فقيل : هما بمعنى.

وقيل : «الانبجاس» أضيق ؛ لأنه يكون أولا والانفجار ثانيا.

وقيل : انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنى واحد.

قوله : (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) فاعل «انفجرت» ، والألف علامة الرفع ؛ لأنه محمول على المثنّى ، وليس بمثنى حقيقة ، إذ لا واحد له من لفظه ، وكذلك مذكره «اثنان» ، ولا يضاف إلى تمييز ، لاستغنائه بذكر المعدود «مثنى» تقول : «رجلان وامرأتان» ولا تقول : «اثنا رجل ، ولا اثنتا امرأة» إلا ما جاء نادرا فلا يقاس عليه ، قال : [الرجز]

__________________

ـ شرح المفصل : ٢ / ٥١ ، لسان العرب ، (هيج) ، (عصا) ، مغني اللبيب : ٢ / ٥٦٣ ، المقاصد النحوية : ٣ / ٨٤ ، القرطبي : ١ / ٢٨٥ ، الكشاف : ٤ / ٣٧٤ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٧.

(١) في أ : المقال.

(٢) في أ : مقدم.

(٣) في ب : أما.

١٠٧

٥٢٥ ـ كأنّ خصييه من التّدلدل

ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (١)

و «ثنتان» مثل «اثنتين» ، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يعربا بخلاف سائر أخواتهما ، قالوا : لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة ، وهي النون ، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعا والباء نصبا وجرّا.

وأما «عشرة» فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث ، ولها أحكام كثيرة.

و «عينا» تمييز. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى : «عشرة» بكسر الشين ، وهي لغة تميم.

قال النحّاس (٢) : «وهذا عجيب ، فإن لغة تميم «عشرة» بالكسر ، وسبيلهم التخفيف ، ولغة «عشرة» بالسكون ، وسبيلهم التثقيل».

وقرأ الأعمش (٣) : «عشرة» بالفتح.

و «العين» : اسم مشترك بين عين الإنسان ، وعين الماء ، وعين الرّكيّة ، وعين الشمس ، وعين الذهب ، وعين الميزان.

والعين : سحابة تقبل من ناحية القبلة. والعين : المطر الدائم ستّا أو خمسا. والعين : الثقب في المزادة ، وبلد قليل العين ، أي : قليل النّاس. [وبها عين ، محركة الياء](٤).

فإن قيل : إذا كانت العين لفظا مشتركا بين حقائق ، فكيف وقعت هنا تمييزا؟

فالجواب : أن قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى) ، وقوله : (فَانْفَجَرَتْ) ، وقوله : (مَشْرَبَهُمْ) دليل على إرادة عين الماء ، فاللفظ مع القرينة مميز ، والعين من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها ، كخروج الدّمع من عين الحيوان.

__________________

(١) البيت لخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو لشماء الهذلية في خزانة الأدب : ٧ / ٤٠٠ و ٤٠٤ ، ولجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية في المقاصد النحوية : ٤ / ٤٨٥ ، ولخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى في شرح التصريح : ٢ / ٢٧٠ ، إصلاح المنطق : ١٨٩ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٥٠٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٦١ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١٨٤٧ ، شرح المفصل :٤ / ١٤٣ و ١٤٤ و ٦٢ / ١٦ و ١٨ ، والكتاب : ٣ / ٥٦٩ و ٦٢٤ ، ولسان العرب (دلل) ، والمقتضب : ٢ / ١٥٦ ، والمنصف : ٢ / ١٣١ ، همع الهوامع : ١ / ٢٥٣ ، الدر المصون : ١ / ٢٣٧.

(٢) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٨٠.

(٣) وروي عنه كسرها وتسكينها ، وقرأ بالفتح ابن الفضل الأنصاري.

وقد ضعفوا القراءة بفتح الشين.

انظر الشواذ : ٦ ، وإتحاف : ١ / ٣٩٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٢ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩١ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٧ ، والمحتسب : ١ / ٨٥ ، والتخريجات النحوية : ٣٠٩.

(٤) في أ : وأتى بضمير.

١٠٨

وقيل : لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبّهت به عين الماء ؛ لأنها أشرف ما في الأرض.

قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) [الأعراف : ٨٢] قد تقدّم الكلام على أنّ «أناس» أصل «النّاس». وقال الزمخشري في سورة «الأعراف» : «إنه اسم جمع غير تكسير» ، ثم قال : «ويجوز أن يكون الأصل الكسر ، والتكسير ، والضمة بدل من الكسرة ، كما أبدلت في سكارى» من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى.

قوله : (مَشْرَبَهُمْ) مفعول ل «علم» بمعنى «عرف» ، و «المشرب» ـ هنا ـ موضع الشّرب ؛ لأنه روي أنه كان لكل سبط عين من اثنتي عشرة عينا ، لا يشاركه فيها سبط غيره.

وقيل : هو نفس المشروب ، فيكون مصدرا واقعا موقع المفعول به ، وضمير الجمع في قوله: (مَشْرَبَهُمْ) يعود على معنى «كلّ أناس».

فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التّيه

قال جمهور المفسرين : هذا الاستسقاء كان في التّيه ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لما ظلّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى ، وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ، ولا تتّسخ خافوا العطش ، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال : بل هو كلام مفرد بذاته ، ومعنى الاستسقاء طلب السّقيا من المطر على عادة الناس إذا [أقحطوا] ، ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسّقيا ، [وإنزال الغيث].

[وقال ابن الخطيب :](١) وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين ، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التّيه ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النّادر ، وأيضا روي أنهم كانوا يحملون الحجر معهم ؛ لأنه صار معدّا لذلك ، [فكما كان](٢) المنّ والسّلوى ينزلا في كل غداة ، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت ، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التّيه.

فصل في جنس الشجرة

اختلفوا في العصا ، فقال الحسن : كانت عصا أخذها من بعض الأشجار وقيل : كانت من آس الجنّة طولها عشرة أذرع على طول موسى ، ولها شعبتان تتّقدان في الظلمة ، واسمه عليق ، وكان آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ حمله معه من الجنّة إلى الأرض ، فتوارثه صاغرا عن كابر حتى وصل إلى شعيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأعطاه لموسى عليه الصلاة والسلام.

والذي ينبغي أن يقال : إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها ، وأن تنقلب حيّة عظيمة ، وما زاد على ذلك لا دليل عليه.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : فكلما نزل.

١٠٩

قال ابن الخطيب (١) : «والسّكوت عن هذه المباحث واجب ؛ لأنه ليس فيها نصّ متواتر ، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظّن المستفاد من أخبار الآحاد».

فصل في المراد بالحجر

إن قلنا : الألف واللام في «الحجر» للعهد ، فالإشارة إلى حجر معلوم ، روي أنه حجر طوري مربّع قدر رأس الشّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط ، فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم.

وقيل : بل كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى ، وهذا من [أعظم](٢) الإعجاز.

وقال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين اغتسل ، فضربه حتى برّأه الله مما رموه به من الأدرة ، فقال له جبريل : فيقول الله ـ تعالى ـ لك : ارفع هذا الحجر ، فإن لي فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته. قال أبو روق : كان من [الكدّان](٣) ، وقيل : من الرّخام.

[فإن قلت](٤) : الألف واللام للجنس ، فمعناه : [اضرب] أي حجر كان.

قال الحسن : لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه ، قال : وهذا أظهر في الحجّة. وروي أنه كان يضره ضربة واحدة ، فيظهر فيه اثنتا عشر عينا كل عين مثل ثدي المرأة فيعرق ، وهو الانبجاس ، ثم ينفجر بالأنهار.

قال عطاء : ثم يضربه ضربة واحدة فيببس.

وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني (٥) : كان يضربه اثنتا عشرة ضربة لكل عين ضربة.

قال القرطبي : ما أوتي نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ من نبع الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المعجزة ، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار ، ومعجزة نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخرج الماء من بين لحم ودم!

وروى الأئمة الثقات عن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم مجد ماء فأتي بتور

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٨٩.

(٢) في ب : عظيم.

(٣) في ب : الكتان.

(٤) في ب : وإن قلنا.

(٥) عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكتاني المكي : فقيه مناظر. كان من تلاميذ الإمام الشافعي يلقب بالغول لدمامته ، قدم بغداد في أيام المأمون له تصانيف عديدة منها الحيدة مطبوع ، رسالة في مناظرة لبشر المريسي توفي في ٢٤٠ ه‍.

ينظر تهذيب التهذيب : ٦ / ٣٦٣ ، دول الإسلام : ١ / ١١٣ ، مفتاح السعادة : ٢ / ١٦٣ ، ميزان الاعتدال : ٢ / ١٤١ ، الأعلام : ٤ / ٢٩.

١١٠

فأدخل يده فيه ، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه ، ويقول : «حي على الطّهور» (١).

قال الأعمش : حدثني سالم بن أبي الجعد ، قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ؟ قال : ألفا وخمسمائة. لفظ النّسائي.

فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر

والحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عينا قطع التنازع والتّشاجر بينهم ، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه.

أحدها : أن نفس ظهور الماء معجزة.

وثانيها : خروج الماء العطيم من الحجر الصغير.

وثالثها : خروج الماء بقدر حاجتهم.

ورابعها : خروج الماء عند الضّرب بالعصا.

وخامسها : خروج الماء بالضّرب بعصا معينة.

وسادسها : انقطاع الماء عند الاستغناء عنه ، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة في كل الممكنات ، وعلم نافذ في جميع المعلومات.

قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) هاتان الجملتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا. وقد تقدّم تصريف «كل» وما حذف منه.

قوله : (مِنْ رِزْقِ اللهِ) هذه من باب الإعمال ؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه ، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول. والتقدير : كلوا منه.

و «من» يجوز أن تكون لابتداء الغاية ، وأن تكون للتبعيض ، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفا ، وكذلك مفعول الشرب ؛ للدلالة [عليهما](٢) ، والتقدير : كلوا المنّ والسّلوى لتقدمهما في قوله : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [البقرة : ٥٧] ، واشربوا ماء العيون المتفجّرة. وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله ، ويحتمل أن يكون حالا من ذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمحذوفه.

وقيل : المراد بالرّزق الماء وحده ، ونسب الأكل إليه لما كان سببا في نماء ما يؤكل وحياته ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والمراد بالرزق المرزوق ، وهو يحتمل أن يكون من باب «ذبح ورعي» ، وأن يكون من باب «درهم ضرب الأمير» وقد تقدم بيانه.

فإن قيل : قوله : (مِنْ رِزْقِ اللهِ) يفهم منه أن ثمّ رزقا ليس لله ، وذلك باطل.

__________________

(١) أخرجه النسائي (١ / ٦٠) ، وأحمد (١ / ٤٦٠) والدارمي (١ / ١٥) وابن خزيمة (٢٠٤) وابن أبي شيبة (١١ / ٤٧٤) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤ / ١٢٩).

(٢) في ب : عليها.

١١١

فالجواب : من [وجوه](١) :

[أحدها : أن هذا مفهوم لقب ؛ فلا يدل](٢).

الثاني : أن هذا رزق لم تعمل فيه أيديهم بحرث ولا غيره ، فهو خالص أرسله الله إليهم.

الثالث : أن إضافته إلى الله ـ تعالى ـ إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل ، وما يشرب ؛ لأنه تسبّب عن معجز خارق للعادة.

فصل في كلام المعتزلة

واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال قالوا : لأن أقل درجات قوله : كلوا واشربوا الإباحة ، فهذا يقتضي كون الرزق مباحا ، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحا وحراما ، وإنه غير جائز.

قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

أصل «تعثوا» : «تعثيوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء ، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف ، وبقيت الفتحة تدل عليها. وهذا أولى ، فوزنه «تفعون».

و «العثيّ» و «العيث» : أشد الفساد وهما متقاربان.

وقال بعضهم : «إلا أنّ العيث أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه ، والعثيّ فيما يدرك حكما ، يقال : عثي يعثى عثيّا ، وهي لغة القرآن ، وعثا يعثو عثوّا ، وعاث يعيث عيثا».

وليس «عاث» مقلوبا من «عثي» ك «جبذ وجذب» لتفاوت معنييهما كما تقدم.

ويحتمل ذلك ، ثم اختصّ كل واحد بنوع ، ويقال : عثي ـ يعثى ـ عثيّا ـ ومعاثا ، وليس «عثي» أصله «عثو» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، ك «رضي» من الرّضوان ، لثبوت العثيّ ، وإن توهّم بعضهم ذلك.

ويقال : عثّ يعثّ مضافا أي : فسد ، قال ابن الرّقاع : [الكامل]

٥٢٦ ـ لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثا

فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (٣)

ومنه : العثّة : [سوسة](٤) تفسد الصّوف.

__________________

(١) في ب : وجهين.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر ديوانه : ص ٩٩ ، والأغاني : ٣ / ٣٧٤ ، ٩ / ٣٠٤ ، ٣٠٧ ، وأمالي المرتضى : ١ / ٥١١ ، وسمط اللآلي : ص ٥٢١ ، وشرح التصريح : ١ / ٢١٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٩٢ ، والشعر والشعراء : ٢ / ٦٢٤ ، ولسان العرب (جسم) ، (عتا) ، ومعجم البلدان : ٢ / ٩٤ (جاسم) ، ومغني اللبيب : ١ / ١٧٣ ، اللامات : ص ١٢٩

(٤) في أ : دورة.

١١٢

وأما «عتا» بالتاء المثنّاة من فوق فهو قريب من معناه ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

و «مفسدين» حال من فاعل «تعثوا» وهي حال مؤكدة ؛ لأن معناها قد فهم من عاملها ، وحسن ذلك اختلاف اللفظين ، ومثله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] ، هكذا قالوا. ويحتمل أن تكون حالا مبينة ؛ لأن الفساد أعم ، والمعنى أخص ، ولهذا قال الزمخشري : فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم ؛ لأنهم كانوا متمادين فيه. فغاير بينهما كما ترى.

و «في الأرض» يحتمل أن يتعلّق ب «تعثوا» وهو الظاهر ، وأن يتعلّق ب «مفسدين». والمراد بالأرض : عموم الأرض [لا](١) أرض التّيه.

والمراد بالفساد ـ هاهنا ـ هو قوله في سورة طه : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) [طه : ٨١].

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

«لن نصبر» ناصب منصوب ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وتقدم الكلام على «لن».

قوله : (طَعامٍ واحِدٍ ،) وإنما كان طعامين هما : المنّ والسّلوى ؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل ، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف ، أو لأنهما ضرب واحد ؛ لأنهما من طعام أهل التلذّذ والترف ، ونحن أهل زراعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة ، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المنّ والسّلوى ، فيصير طعاما واحدا.

وقيل : لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد ، وبلفظ الواحد عن الواحد ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، وإنما يخرجان من الملح دون العذب.

قال ابن الخطيب (٢) : ليس المراد أنه واحد في النوع ، بل إنه واحد في المنهج ،

__________________

(١) في أ : وقيل.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٣.

١١٣

كما يقال : إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغيّر عن نهجه.

وقيل : كنوا بذلك عن الغنى ، فكأنهم قالوا : لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضا ، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد. و «الطعام» : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب ، ومنه : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) [البقرة : ٤٩] ، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبرّ والتّمر في حديث الصّدقة ، أو صاعا من طعام أو صاعا من شعير (١). والطّعم ـ بفتح الطاء ـ المصدر أو ما يشتهى من الطعام ـ أو ما يؤديه الذوق ، تقول : طعمه حلو وطعمه مرّ ، وبضمها الشيء المطعوم كالأكل والأكل ؛ قال أبو خراش : [الطويل]

٥٢٧ ـ أردّ شجاع البطن لو تعلمينه

وأوثر غيري من عيالك بالطّعم

وأغتبق الماء القراح فأنتهي

إذا الزّاد أمسى للمزلّج ذا طعم (٢)

أراد بالأول المطعوم ، وبالثاني ما يشتهى منه ، وقد يعبّر به عن الإعطاء ؛ قال عليه‌السلام : «إذا استطعمكم الإمام فأطعموه» (٣) أي : إذا استفتح ، فافتحوا عليه ، وفلان ما يطعم النوم إلّا قائما ؛ قال : [المتقارب]

٥٢٨ ـ نعاما بوجرة صفر الخدو

د ما تطعم النّوم إلّا صياما (٤)

قوله : «فادع» اللّغة الفصيحة «ادع».

بضم العين من «دعا يدعو».

ولغة بني عامر «فادع» بكسر العين قال أبو البقاء (٥) : «لالتقاء السّاكنين ؛ يجرون المعتلّ مجرى الصّحيح ، ولا يراعون المحذوف» يعني أن العين ساكنة ، لأجل الأمر ، والدّال قبلها ساكنة ، فكسرت العين ، وفيه نظر ؛ لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يكسر الأوّل من الساكنين ، لا الثاني ، فيجوز أن يكون من لغتهم «دعا يدعي» ، مثل «رمى يرمي» ، والدّعاء هنا السّؤال ، ويكون هنا بمعنى التّسمية ؛ كقوله : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦١) كتاب الزكاة باب فرض صدقة الفطر وباب صدقة الفطر على الصغير حديث رقم (١٥٠٣ ، ١٥١٢).

ومسلم في الصحيح (٢ / ٦٧٧) كتاب الزكاة (١٢) باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (٤) حديث رقم (١٢ / ٩٨٤ ، ١٣ / ٩٨٤ ، ١٤ / ٩٨٤ ، ١٥ / ٩٨٤ ، ١٦ / ٩٨٤ ، ١٧ / ٩٨٥).

وأبو داود في السنن حديث رقم (١٦١١) ، (١٦١٢).

(٢) ينظر البيتان في ديوان الهذليين : ٢ / ١٢٨ ، اللسان «طعم» ، القرطبي : ١ / ٢٨٧ والدر المصون : ١ / ٢٣٩.

(٣) موقوف على سيدنا علي كرم الله وجهه.

(٤) البيت لبشر بن أبي خازم. ينظر اللسان «طعم» ، القرطبي : ١ / ٢٨٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٣٩.

(٥) ينظر الاملاء : ١ / ٤٢.

١١٤

٥٢٩ ـ دعتني أخاها أمّ عمرو ...

 .......... (١)

وقد تقدم ، و «لنا» متعلّق به ، واللام للعلة.

قوله : «يخرج» مجزوم في جواب الأمر.

وقال بعضهم : مجزوم بلام الأمر مقدرة ، أي «ليخرج» ، وضعفه الزجاج (٢) وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى.

والقراءة المشهورة «يخرج» بضم «الياء» وكسر «الراء» ، و «تنبت» بضم «التاء» وكسر «الباء» وقرأ (٣) زيد بن علي «يخرج» بفتح «الياء» وضم «الراء» و «تنبت» بفتح «التاء» وضم «الباء».

قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) مفعول «يخرج» محذوف عن سيبويه تقديره : مأكولا مما ، أو شيئا ممّا تنبت الأرض. والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، ويكون «من» لابتداء الغاية ، وأن تكون صفة لذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمضمر ، أي : مأكولا كائنا مما تنبته الأرض.

و «من» للتبعيض ، ومذهب الأخفش : أن «من» زائدة في المفعول ، والتقدير : يخرج ما تنبته الأرض ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئا.

قال النّحاس : وإنما دعى الحسن إلى زيادتها ؛ لأنه لم يجد مفعولا ل «يخرج» فأراد أن يجعل «ما» مفعولا و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، أي : من الذي تنبته ، أو من شيء تنبته ، ولا يجوز جعلها مصدريّة ؛ لأن المفعول المحذوف لا يوصف بالإنبات ؛ لأن الإنبات مصدر ، [والمخرج](٤) جوهر ، وكذلك على مذهب الأخفش ؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات (٥).

قوله : (مِنْ بَقْلِها) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون بدلا من «ما» بإعادة العامل ، و «من» معناها : بيان الجنس.

والثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على «ما» أي : مما تنبته الأرض في حال كونه من بقلها ، و «من» أيضا للبيان.

و «البقل» : كل ما تنبته الأرض من النّجم ، أي : ما لا ساق له ، وجمعه «بقول».

و «القثّاء» معروف ، الواحدة : قثّاءة ، فهو من باب قمح وقمحة ، وفيها لغتان :

__________________

(١) هذا جزء من صدر بيت لعبد الرحمن بن الحكم وهو :

 ... ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان

ينظر شرح المفصل : ٦ / ٢٧ ، الكامل : ٧٢ ، الدر المصون : ٢٣٩.

(٢) ينظر معاني القرآن : ١ / ١١٣.

(٣) انظر تفسير الرازي : ٣ / ٩١.

(٤) في أ : المخروج.

(٥) سقط في ب.

١١٥

المشهورة كسر القاف ، وهي قراءة العامة ، وقرأ (١) يحيى بن وثّاب ، وطلحة بن مصرّف (٢) ، والأشهب العقيليّ بضم القاف وهي لغة «تميم».

و «القثّاء» مفرده وجمعه ممدود ، تقول : «قثّاء» و «قثّاءة» و «دبّاء» و «دبّاءة» ، و «داء» و «دواء» والهمزة أصل بنفسها في قولهم : «أقثأت الأرض» ، أي : كثر قثّاؤها.

ووزنها «فعّال» ، ويقال في جمعها : «قثائي» ، مثل : «علباء» و «علابي».

قال بعضهم : إلا أن «قثّاء» من ذوات الواو ، تقول «أقثأت القوم» ، أي : أطمعتهم ذلك ، وقثأت القدر سكّنت غليانها بالماء.

قال الجعدي : [الطويل]

٥٣٠ ـ تفور علينا قدرهم فنديمها

ونقثؤها عنّا إذا حميها غلا (٣)

وهذا وهم فاحش ؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم : «أقثأت القوم» بالهمز ، بل كان ينبغي أن يقال : «أقثيث» والأصل «أقثوت» لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء ، ك «أغزيت» من الغزو ، ولكان ينبغي أن يقال : «قثوت القدر» بالواو ، ولقال الشاعر : [نقثوها](٤) بالواو.

و «المقثأة» و «المقثؤة» ـ بفتح الثاء وضمها : موضع «القثّاء».

و «الفوم» : الثّوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ (٥) : «وثومها» ، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما ـ وفي مصحف عبد الله. والفاء تبدل من الثاء كما قالوا : «جدث وجدف» و «عاثور وعافور» و «مغافير ومغاثير» ، ولكنه غير قياس.

وعن ابن عباس الفوم : الخبز (٦) ، تقول العرب : «فوّموا لنا : أي : اختبزوا».

وقال ابن عباس أيضا وعطاء وأبو مالك : هو الحنطة (٧) وهي لغة قديمة ، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن «الفوم» : [الكامل]

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩٥ ، والدر المصون : ١ / ٢٤٠ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٨.

(٢) طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب أبو محمد ، ويقال : أبو عبد الله الهمداني اليامي الكوفي ، تابعي كبير ، له اختيار في القراءة ينسب إليه ، أجمع القرّاء على أنّه أقرأ أهل الكوفة. قرأ في الري وأخذ الناس عنه هناك. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة ، قال أبو معشر : ما ترك بعده مثله ، قال عبد الله بن إدريس : كانوا يسمونه سيد القرّاء. ينظر الغاية : ١ / ٣٤٩

(٣) ينظر ديوانه : ١٨ ، اللسان (خثأ) ، القرطبي : ١ / ٤٢٤ ، الدر المصون : (١ / ٢٤٠).

(٤) سقط في ب.

(٥) انظر البحر المحيط : ١ / ٣٩٥ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٣ ، والقرطبي : ١ / ٢٨٨.

(٦) أخرجه ابن جرير (٢ / ١٢٧) عن ابن عباس ومجاهد وعطاء.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٤١) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

١١٦

٥٣١ ـ قد كنت أحسبني كأغنى واحد

[نزل](١) المدينة عن زراعة فوم(٢)

وقال ابن دريد : «الفومة السّنبلة» ، وأنشد : [الوافر]

٥٣٢ ـ وقال ربيئهم لمّ أتانا

بكفّه فومة أو فومتان (٣)

وقال القتيبي : «هو الحبوب كلها».

قال الكلبي والنضر بن شميل والكسائي والمؤرج : الصّحيح أنه الثّوم ، لقراءة ابن عباس ، ولكونه في مصحف عبد الله بن مسعود وثومها ؛ ولأنه لو كان المراد الحنطة لما جاز أن يقال لهم : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ لأن الحنطة أشرف الأطعمة ، ولأنّ الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة وأنشد المؤرج لحسان : [المتقارب]

٥٣٣ ـ وأنتم أناس لئام الأصول

طعامكم الفوم والحوقل (٤)

يعني : الثوم والبصل ؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصّلت : [البسيط]

٥٣٤ ـ كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل (٥)

الفراديس : واحدها فرديس. وكوم مفردس ، أي : معرّش.

وقال بعضهم : «الفوم : الحمّص لغة شاميّة».

قوله : (وَعَدَسِها) العدس معروف ، والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت وعدس زجر للبغال ؛ قال : [الطويل]

٥٣٥ ـ عدس ما لعبّاد عليك إمارة

نجوت وهذا تحملين طليق (٦)

__________________

(١) في أ : قدم.

(٢) البيت لأبي محجن الثقفي ينظر في لسان العرب (فوح) ، والدرر : ٢ / ٢٦٧ ، والأشباه والنظائر : ٨ / ٧٨ ، وليس في ديوانه ، وينظر المحتسب : ١ / ٨٨ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٥٦ ، الدر المصون : ١ / ٢٤٠.

(٣) ينظر جمهرة اللغة : (٣ / ١٦٠) ، مجاز القرآن : (١ / ٤١) ، الجامع لأحكام القرآن : (١ / ٢٨٩) ، اللسان (فوم) ، والهاء في قوله : «بكفه» غير مشبعة.

(٤) ينظر القرطبي : ١ / ٢٨٩.

(٥) ينظر اللسان (فوم) ، القرطبي : ١ / ٢٨٨.

(٦) البيت ليزيد بن مفرغ ينظر ديوانه : ص ١٧٠ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٤١ ، ٤٢ ، ٤٨ ، ولسان العرب (حدس) ، (عدس) ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٤٢ ، ٣ / ٢١٦ ، وتخليص الشواهد : ص ١٥٠ ، وتذكرة النحاة : ص ٢٠ ، وجمهرة اللغة : ص ٦٤٥ ، وأدب الكاتب : ص ٤١٧ ، والإنصاف : ٢ / ٧١٧ ، والدرر : ١ / ٢٦٩ ، وشرح التصريح : ١ / ١٣٩ ، ٣٨١ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٥٩ ، وشرح المفصل : ٤ / ٧٩ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٧١ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب : ص ٣٦٢ ، ٤٤٧ ، وأوضح المسالك : ١ / ١٦٢ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٣٣٣ ، ٦ / ٣٨٨ ، وشرح الأشموني : ١ / ٧٤ ، ـ

١١٧

والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسه. وعدس في الأرض ذهب فيها ، وعدست إليه المنيّة أي : سارت ؛ قال الكميت : [الطويل]

٥٣٦ ـ أكلّفها هول الظّلام ولم أزل

أخا اللّيل معدوسا إليّ وعادسا

أي : يسار إليّ بالليل. وعدس لغة في حدس ، قاله الجوهري. وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدّس ، وإنه يرقق (١) القلب ويكثر الدّمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم» (٢).

اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [والكراث](٣) وما له رائحة كريهة من البقول.

فذهب الجمهور إلى الإباحة ، للأحاديث الثابتة في ذلك.

وذهبت طائفة من أهل الظاهر ـ القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجماعة إلى المنع ؛ لأن النبي ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سمّاها خبيثة.

وقال تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧].

والصحيح الأول ؛ لقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لبعض أصحابه : «كل فإنّي أناجي من لا تناجي» (٤).

فصل في لفظ أدنى

قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ ؛) وفي مصحف أبي «أتبدّلون الّذي هو أدنى» ، وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها : ـ وهو الظاهر ـ قول الزجاج أن أصله : «أدنو» من الدنو ، وهو القرب ، فقلبت الواو ألفا لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ومعنى الدّنوّ في ذلك فيه وجهان :

أحدهما : أنه أقرب لقلّة قيمته وخساسته.

__________________

ـ والمحتسب : ٢ / ٩٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ١٦ ، ٤ / ٢٣ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٩٠ ، وشرح قطر الندى : ص ١٠٦ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٦٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٨٤ ، القرطبي : ١ / ٢٩٠.

ينظر ديوانه : (١٨٧) ، القرطبي : (١ / ٢٩٠) ، اللسان (عدس).

(١) في ب : يرق.

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير كما في «مجمع الزوائد» (٥ / ٤٧) وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ٢٩٤) وذكره السيوطي في اللآلىء المصنوعة (٢ / ١١٥).

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٢) كتاب الصلاة باب ما جاء في الثوم النيء .. حديث رقم (٨٥٥) ، (٩ / ١٩٧) كتاب الاعتصام بالسنة باب الأحكام التي تعرف ... حديث رقم (٧٣٥٩).

ومسلم في الصحيح (١ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥) كتاب المساجد مواضع الصلاة (٥) باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها (١٧) حديث رقم (٧٣ / ٥٦٤) ... وأبو داود كتاب الأطعمة باب ٤١ والبيهقي في السنن (٣ / ٧٧) ، (٧ / ٥٠) ـ وأبو عوانة في مسنده (١ / ٤١٠) وذكره ابن عبد البر في التمهيد (٦ / ٤١٧).

١١٨

والثاني : أنه أقرب لكم ؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير ، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة.

والثاني : قول علي بن سليمان الأخفش أن أصله : «أدنأ» مهموزا من دنأ ـ يدنأ ـ دناءة ، وهي الشيء الخسيس ، إلا أنه خفّف همزته ؛ كقوله : [الكامل]

٥٣٧ ـ ..........

فارعي فزارة لا هناك المرتع (١)

ويدل عليه قراءة زهير (٢) [القرقبي](٣) الكسائي (٤) : «أدنأ» بالهمز.

الثالث : أن أصله : أدون من الشيء الدّون ، أي : الرّديء ، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام ، فصار : أدنو ، فأعلّ كما تقدم. ووزنه «أفلع» ، وقد تقدم معنى الاستبدال.

و «أدنى» خبر عن «هو» ، والجملة صلة وعائد ، وكذلك : «هو خير» صلة وعائد أيضا.

فصل في معنى الآية

ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمنّ والسّلوى الذي هو خير؟ من وجوه :

الأول : أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المنّ والسلوى ، لأنهما طعام منّ الله به عليهم ، وأمرهم بأكله ، فكان في استدامته شكر نعمة الله ، وذلك أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصال ، فكان أدنى.

وأيضا لما كان المنّ والسّلوى ألذّ من الذي سألوه ، وأطيب كان أدنى ، وأيضا لما كان ما أعطوه لا كلفة فيه ، ولا تعب ، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والتعب كان [أيضا](٥) أدنى.

__________________

(١) عجز بيت للفرزدق وصدره :

راحت بمسلمة البغال عشيّة

ينظر ديوانه : (٥٠٨) ، أمالي ابن الشجري : (١ / ٨٠) ، الخصائص : (٣ / ١٥٢) ، المحتسب : ٢ / ١٧٣ ، الكشاف : ٤ / ٤٤٥ ، الكتاب : (٣ / ٥٥٤) ، المقتضب : (١ / ٢١٣) ، الحجة : (١ / ٣٠١) ، (٢ / ١٦٩) ، شرح المفصل : (٤ / ١٢٢) ، (٩ / ١١١ ، ١١٣) وشرح الشافية للرضي : (٣ / ٤٧) ، الدر المصون : (١ / ٢٤١).

(٢) انظر البحر المحيط : ١ / ٣٩٦ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٥٣ ، والدر المصون : ١ / ٢٤١.

(٣) سقط في ب.

(٤) زهير القرقبي النحوي ، يعرف بالكسائي ، له اختيار في القراءة يروى عنه ، وكان في زمن عاصم ، روى عنه الحروف نعيم بن ميسرة النحوي ، ينظر غاية النهاية : ١ / ٢٩٥ (١٣٠١).

(٥) سقط في ب.

١١٩

وأيضا لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حلّه وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغصوب وتدخلها الشّبه ، كانت أدنى من هذا الوجه.

وأفرد في قوله : (الَّذِي هُوَ أَدْنى) وإن كان ما طلبوه أنواعا حملا على قوله : «ما» في قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ،) أو على الطعام المفهوم من قوله : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ).

قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) القراءة المعروفة (اهْبِطُوا) بكسر الباء ، وقرىء (١) بضمها.

و (مِصْراً) قرأ الجمهور منونا ، وهو خطّ المصحف.

فقيل : إنهم أمروا بهبوط مصر من الأمصار فلذلك صرف.

وقيل : أمروا بمصر بعينه ، وإنما صرف لخفّته ، لسكون وسط ك «هند ودعد» ؛ وأنشد : [المنسرح]

٥٣٨ ـ لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تسق دعد في العلب (٢)

فجمع بين الأمرين.

أو صرفه ذهابا به إلى المكان.

وقرأ الحسن (٣) : «مصر» بغير تنوين ، وقال : الألف زائدة من الكاتب ، وكذلك في بعض مصاحف عثمان ، ومصحف أبيّ ، وابن مسعود ، كأنهم عنوا مكانا بعينه ، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية.

وقال الزمخشري : «إنه معرّب من لسان العجم ، فإن أصله مصرائيم ، فعرب» ، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه ، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العجمة إليه ، فهو نظير «ماه وجور وحمص» ، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله : (ادْخُلُوا مِصْرَ) [يوسف : ٩٩]. والمصر في أصل اللغة : الحدّ الفاصل بين الشيئين ، وحكي عن أهل «هجر» أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا : «اشترى فلان الدّار بمصورها» أي : حدودها ؛ وأنشد : [البسيط]

__________________

(١) تقدم تخريج هذه القراءة.

(٢) البيت لجرير ينظر ملحق ديوانه : ص ٩٠٢١ ، ولسان العرب (دعد) ، (لفع) ، ولعبيد الله بن قيس الرقيات ينظر ملحق ديوانه : ص ١٧٨ ، وبلا نسبة ينظر أدب الكاتب : ص ٢٨٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٣٩٥ ، والخصائص : ٣ / ٦١ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٥٢٧ ، وشرح قطر الندى : ص ٣١٨ ، وشرح المفصل : ١ / ٧٠ ، والكتاب : ٣ / ٢٤١ ، وما ينصرف وما لا ينصرف : ص ٥٠ ، والمنصف : ٢ / ٧٧ ، والدر المصون : ١ / ٢٤١.

(٣) وقرأ بها الأعمش وأبان بن تغلب وطلحة.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٥٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٩٦ ، والدر المصون : ١ / ٢٤١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٩٥ ، والتخريجات النحوية : ١٥٥.

١٢٠