اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجّحه الطبري ، وهو ظاهر الآية أنه من الملائكة.

قال ابن عباس : «وكان اسمه عزازيل ، وكان من أشراف الملائكة ، وكان من أولي الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد» (١).

روى سليمان بن حرب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : كان إبليس من الملائكة ، فلما عصى الله غضب عليه فلعنه ، فصار شيطانا.

وحكى الماورديّ عن قتادة : أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنّة.

وقال سعيد بن جبير : إن الجنّ سبط من الملائكة خلقوا من نار ، وإبليس منهم ، وخلق معاشر الملائكة من نور (٢).

حجّة القول الأول ، وهو أنه لم يكن من الملائكة وجوه :

أحدها : قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) وإذا كان من الجنّ وجب أن ألّا يكون من الملائكة لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١] ، وهذا صريح في الفرق بين الجنّ والملك.

فإن قيل : لا نسلّم أنه كان من الجنّ ؛ لأن قوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) يجوز أن يكون المراد كان من الجنّة على ما روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كان من الجنّ كان خازن الجنة.

سلمنا ذلك ، لكن لم لا يجوز أن يكون قوله : «من الجن» أي : صار من الجن كقوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

سلّمنا ما ذكرتم ، فلم قلتم : إن كونه من الجنّ ينافي كونه من الملائكة ؛ لأن الجن مأخوذ من الاجتنان ، وهو الستر ، ولهذا سمي الجنين جنينا لاجتنانه ، ومنه الجنّة لكونها ساترة ، والجنّة لكونها مستترة بالأغصان ، ومنه الجنون لاستتار العقل به ، والملائكة مستترون عن الأعين ، فوجب جواز إطلاق لفظ الجنّ عليهم بحسب اللّغة ، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى في الآية الأخرى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] ، وذلك لأن قريشا قالت : الملائكة بنات الله ، فهذه الآية تدلّ على أن الملائكة تسمى جنّا.

والجواب : لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (كانَ مِنَ الْجِنِّ) أنه كان خازن الجنّة ؛ لأن قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] يشعر بتعليل تركه السّجود

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٥٠٢ / ٥٠٣) وذكره ابن كثير في تفسيره (١ / ١٣٩).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٢) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في «مكائد الشيطان» وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» والبيهقي في الشعب عن ابن عباس.

(٢) ينظر الدر المنثور : ١ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

٥٤١

بكونه جنيا ، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازن الجنّة ، فبطل ذلك.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قلنا : يحتمل أن بعض الكفّار أثبت ذلك النسب في الجنّ ، كما أثبته في الملائكة ، وأيضا فقد بينا أن الملك يسمى جنّا بحسب أصل اللّغة ، لكن لفظ الجنّ بحسب العرف اختصّ بالغير ، كما أن لفظ الدّابة يتناول كل ما دبّ بحسب اللّغة الأصلية ، كلغة بحسب العرف اختص ببعض ما يدبّ ، فيحتمل أن تكون هذه الآية على اللغة الأصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث.

وثانيها : أن «إبليس» له ذريّة لقوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) [الكهف: ٥٠] والملائكة لا ذريّة لها ؛ لأن الذّرية إنما تحصل من الذّكر والأنثى ، والملائكة لا أنثى فيها لقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) [الزخرف : ١٩] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة.

وثالثها : أنّ الملائكة معصومون ، و «إبليس» لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة.

ورابعها : أن «إبليس» مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن «إبليس» : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) [الأعراف : ١٢].

قال : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧] والملائكة مخلوقون من النّور ، لما روت عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجانّ من مارج من نار» (١).

حجّة القول الثاني ، وهو أن «إبليس» كان من الملائكة أمران :

الأول : أن الله ـ تعالى ـ استثناه من الملائكة ، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب ، قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف : ٢٦ ، ٢٧] وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ، ٢٦] وقال : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] ، وقال : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) [النساء : ٢٩] ، وقال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] وأيضا فلأنه كان جنيّا واحدا بين الألوف من الملائكة ، فغلبوا عليه في قوله : فسجدوا ، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم ؛ لأنا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٩٥) كتاب الزهد (٥٣) باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (١٢) حديث رقم (٦٣ / ٢٩٩٨) وأحمد في المسند (٦ / ١٥٣ ، ١٦٨) ـ وابن عساكر ٢ / ٦٤٣ والبيهقي في السنن (٩ / ٣) ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم (٢٠٩٠٤) ـ وذكره ابن كثير في البداية والنهاية : (١ / ٥٥٤ ، ٥٥٥) ـ والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٤٣ ـ وابن كثير في التفسير ٣ / ٣٨٨ ، ٥ / ١٦٣ ، ٧ / ٤٦٧.

٥٤٢

نقول : كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل ، وذلك إنما يصار إليه عند الضرورة ، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ليس فيها إلّا الاعتماد على العمومات ، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عوّلتم عليه من العمومات.

ولو قلنا : إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعا ، فكان قولنا أولى ، وأيضا فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف ، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حيث لولا الصّرف لدخل ، والشيء لا يدخل في غير جنسه ، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه.

وأما قوله : إنه جني واحد من الملائكة فنقول : إنما يجوز إجراؤكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه ، أما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلّا عن ذلك الواحد لم يجز إجراؤكم غيره عليه.

الثاني : قالوا : لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) متناولا ، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباء واستكبارا ومعصية ، ولما استحقّ الذم والعقاب ، ولما حصلت هذه الأمور ، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلّا إذا كان من الملائكة. لا يقال : إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم ، وطالت خلطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] لأنا نقول : أما الأول فجوابه : أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه : خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين ، وأيضا فشدّة المخالطة بين الملائكة ، وبين «إبليس» لما لم يمنع اقتصار اللّعن على إبليس ، فكيف يمنع اقتصار ذلك التّكليف على الملائكة ، ولنا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن ، فإن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالغلبة ، فلما ذكر قوله: (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) عقيب قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر ، لا بسبب مخالطة أمر آخر ، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن «إبليس» كان من الملائكة ، فلما عصى الله غضب عليه ، فصار شيطانا.

وقول سعيد بن جبير إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار ، وإبليس منهم وليس في خلقه من نار ، ولا في تركيب الشّهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس : «أنّ إبليس كان من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم : الحنّ خلقوا من نار السّموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان اسمه بالسّريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث ، وكان من خزّان الجنّة ، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا ، وكان له سلطانها ، وسلطان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا ، وأكثرهم علما ، وكان يسوس ما بين السّماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة ، فذلك الذي دعاه إلى الكفر ، فعصى الله ، فمسخه شيطانا رجيما».

٥٤٣

قوله تعالى : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ).

الظاهر أن هاتين الجملتين استئنافيتان جوابا لمن قال : فما فعل؟

والوقف على قوله : «إلّا إبليس» تام.

وقال أبو البقاء : «في موضع نصب على الحال من «إبليس» تقديره : ترك السجود كارها له ومستكبرا عنه».

فالوقف عنده على «واستكبر» ، وجوز في قوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا أيضا ، و «الإباء» : الامتناع ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٣٨٦ ـ وإمّا أن يقولوا قد أبينا

وشرّ مواطن الحسب الإباء (١)

وهو من الأفعال المفيدة للنفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء المفرّغ قال تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢].

والمشهور «أبي ـ يأبى» بكسرها في الماضي ، وفتحها في المضارع ، وهذا قياس ، فيحتمل أن يكون من قال : «أبى ـ يأبى» بالفتح فيهما استغنى بمضارع من قال «أبي» بالكسر ويكون من التداخل نحو : «ركن ـ يركن» وبابه.

واستكبر بمعنى : تكبّر ، وإنما قدم الإباء عليه ، وإن كان متأخرا عنه في الترتيب ؛ لأنه من الأفعال الظّاهرة ؛ بخلاف الاستكبار ؛ فإنه من أفعال القلوب.

قوله : «وكان» قيل : هي هنا بمعنى «صار» ؛ كقوله : [الطويل]

٣٨٧ ـ بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها (٢)

أي : قد صارت. ورد هذا ابن فورك وقال : «تردّه الأصول ، والأظهر أنها على بابها والمعنى : كان من القوم الكافرين الّذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم على ما روي ، وكان في علم الله».

فصل في بيان بطلان قول أهل الجبر

قال القاضي : هذه الآية تدلّ على بطلان قول أهل الجبر من وجوه :

أحدها : أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السّجود ؛ لأن عندهم القدرة

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه : ص ٧٤ ، والأشباه والنظائر : ٥ / ١٨٤ ، الدر المصون : ١ / ١٨٨.

(٢) البيت لعمرو بن أحمر ينظر ديوانه : ص ١١٩ ، وخزانة الأدب : ٩ / ١٠١ ، ولسان العرب (عرض) ، (كون) ، والحيوان : ٥ / ٧٥ ، وله أو لابن كنزة في شرح شواهد الإيضاح : ص ٥٢٥ ، وينظر أسرار العربية : ص ١٣٧ ، وشرح الأشموني : ١ / ١١١ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٦٨ ، وشرح المفصل : ٧ / ١٠٢ ، والمعاني الكبير : ١ / ٣١٣ ، الدر المصون : ١ / ١٨٨.

٥٤٤

على الفعل شرط ، فإن من لا يقدر على الشيء لا يقال : إنه أباه.

وثانيها : أن من لا يقدر على الفعل لا يقال : استكبر بأن لم يفعل ، فإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع أنه لو أراد الفعل لأمكنه.

وثالثها : قال : «وكان من الكافرين» ولا يجوز أن يكون كافرا بأن لم يفعل ما لا يقدر عليه.

ورابعها : أن استكباره ، وامتناعه خلق من الله فيه ، فهو بأن يكون معذورا أولى من أن يكون مذموما قال : ومن اعتقد مذهبا يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصّفقة.

والجواب : يقال له : صدور ذلك عن «إبليس» لا يخلو ، إما أن يكون عن قصد وداع أو لا.

فإن وقع لا عن فاعل ، فكيف يثبت الصّانع ، وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل.

وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد.

[أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد](١) وداع ، قد ترجّح الممكن من غير مرجّح ، وهو يسد باب إثبات الصانع ، وأيضا فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقيا ، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره ، فكيف يؤمر به وينهى عنه ، وإن وقع عن فاعل هو الله ، فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا.

فإن قيل : هذا (٢) منقوض بأفعال الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن التقسيم وارد فيها ليست اتفاقية ولا خبرا؟

قلنا : الله ـ تعالى ـ واجب الوجود لذاته ، وإذا كان كذلك كان واجب الوجود أيضا في صفاته ، وإذا كان كذلك فهو مستغن في فاعليته عن المؤثرات والمرجّحات ، إذ لو افتقر لكان محتاجا.

فصل في بيان حال إبليس

قال قوم : كان «إبليس» منافقا منذ كان.

وقال آخرون : كان كافرا ، واستدلوا بقوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ؛ لأن كلمة «من» للتبعيض ، والحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكفار حتى يكون هو بعضا منهم ، ويؤكده ما روي عن أبي هريرة قال : إن الله خلق خلقا من الملائكة ، ثم قال لهم : إني خالق بشرا من طين ؛ فإذا سوّيته ، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فقالوا : لا تفعل ذلك ، فبعث الله عليهم نارا ، فأحرقتهم ، وكان «إبليس» من أولئك الذين أبوا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : هل.

٥٤٥

وقال آخرون : إنّ «كان» ها هنا بمعنى «صار» فيكون معنى الآية صار من الذين وقعوا في الكفر بعد ذلك ، وأنه كان قبل ذلك مؤمنا ، وهذا قول «الأصمّ» ، وذكر في مثاله قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [التوبة : ٦٧] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين ، وأيضا فإن هذه إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية ، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهيّة ، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولا يصح أن يقال : إنه فرد من أفراد الحيوان ، لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن ، بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية. واعلم أنه يتفرع على هذا أن «إبليس» هل كان أول من كفر بالله؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله.

فصل في بيان أن الأمر كان للملائكة كلهم

قال الأكثرون : إن جميع الملائكة كانوا مأمورين بالسّجود لآدم ، واحتجوا عليه بوجهين :

الأول : أن لفظ الملائكة صيغة جمع ، وهي تفيد العموم ، لا سيما وقد أكدت بأكمل وجوه التوكيد في قوله : «كلّهم أجمعون».

الثاني : أن استثناء «إبليس» منهم ، واستثناء الشخص الواحد منهم يدلّ على أن من عدا ذلك الشخص يكون داخلا في ذلك الحكم ، ومن الناس من أنكر ذلك ، وقال : المأمور بهذا السّجود هم ملائكة الأرض ، واستعظم أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك.

وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الرّوحانية ، وقالوا : يستحيل أن تكون الأرواح السّماوية منقادة للنفوس الناطقة ، إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى البشرية المطيعة للنفس الناطقة ، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات.

قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ)(٣٥)

الجملة من قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) معطوفة على جملة «إذ قلنا» لا على «قلنا» وحده لاختلاف زمنيهما.

و «أنت» توكيد للضمير المستكنّ في «اسكن» ليصح العطف عليه (١) «وزوجك»

__________________

(١) وحاصل المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوبا ، ونعني بواجب الاستتار : ما لا يحلّ محلّه الظاهر ، وهي أربعة : ـ

٥٤٦

عطف عليه ، هذا هو مذهب البصريين ، أعني اشتراط الفعل بين المتعاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميرا مرفوعا متصلا ، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيدا ، بل أي فصل كان ، نحو : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨].

وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل ؛ وأنشدوا : [الخفيف]

٣٨٨ ـ قلت إذ أقبلت وزهر تهادى

كنعاج الفلا تعسّفن رملا (١)

وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه ، وقد منع بعضهم أن يكون «زوجك» عطفا على الضمير المستكن في «اسكن» ، وجعله من عطف الجمل ، بمعنى أن يكون «زوجك» مرفوعا بفعل محذوف ، أي : ولتسكن زوجك ، فحذف لدلالة «اسكن» عليه (٢) ، ونظيره قوله: (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) [طه : ٥٨] وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكان شبهته في ذلك أن من حقّ المعطوف حلوله محل المعطوف عليه ، ولا يصح هنا حلول «زوجك» محلّ الضمير لأنّ فاعل فعل الأمر الواحد المذكور نحو : «قم واسكن» لا يكون

__________________

ـ الأول : فعل الأمر للواحد المخاطب ؛ كافعل ، فالتقدير : أنت ، وهذا الضمير لا يجوز إبرازه ؛ لأنه لا يحل محله الظاهر ، فلا تقول : افعل زيد ، فأما : افعل أنت ، واسكن أنت ، ف «أنت» توكيد للضمير المستتر ، وعلى ذكر المصنف ـ رحمه‌الله ـ فإن كان الأمر لواحدة ، أو لاثنين ، أو لجماعة ، برز الضمير ، نحو : اضربي ، واضربا ، واضربوا ، واضربن.

الثاني : الفعل المضارع الذي في أوله همزة ، نحو : أوافق ، والتقدير : (أنا) ، فإن قلت : أوافق أنا ، وكان (أنا) تأكيدا للضمير المستتر.

الثالث : الفعل المضارع الذي في أوله النون ، نحو : «نغتبط» أي : نحن.

الرابع : الفعل المضارع الذي في أوله التاء لخطاب الواحد ، نحو : تشكر (أي : أنت).

وقد جمع ذلك ابن مالك فقال :

ومن ضمير الرفع ما يستتر

كافعل أوافق نغتبط إذ تشكر

انظر التصريح على التوضيح : (١ / ١٠٠ ـ ١٠١) ، وشرح ابن عقيل : (١ / ٩٥ ـ ٩٧) ، والكتاب لسيبويه : (١ / ١٢٥) ، وحاشية الصبان على الأشموني : (١ / ١١٢ ـ ١١٣) ، وهمع الهوامع : (١ / ٦٢) ، وشرح المفصل : (٨ / ٧٦) ، وارتشاف الضرب : (٢ / ٦٥٧ ـ ٦٥٨).

(١) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ٤٩٨ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٠١ ، شرح عمدة الحافظ ٦٥٨ ، شرح المفصل ٣ / ٧٦ ، اللمع ١٨٤ ، ٢ / ٣٨٦ ، شرح الأشموني ٢ / ٤٢٩ ، شرح ابن عقيل ٥٠١ ، الكتاب ٢ / ٣٧٩ ، الدرر ٢ / ١٩١ ، الدر المصون ١ / ١٨٩.

(٢) إذا عطفت على الضّمير المرفوع المستكن ، أو البارز ، فذهب البصريون إلى أنه لا يجوز إلا بالفصل بين المتعاطفين ، بتوكيد بضمير منفصل ، أو بغيره.

وذهب الكوفيون وابن الأنباري : إلى أنه لا يشترط في ذلك الفصل ، بل يجوز في الكلام قمت وزيد ، وحكي عن أبي علي إجازة ذلك من غير فصل ، وفي كتاب سيبويه ـ حين ذكر انفصال بعض الضمائر : وكذلك (كنا وأنت ذاهبين) إلا أن الشرّاح تأولوه ، ولا يعتد عند البصريين بفصل كاف (رويدك) ، بل يؤكد إذا عطفت على الضمير المرفوع في (رويدك) ؛ فتقول : رويدك أنت وزيد.

ينظر ارتشاف الضرب : ٢ / ٦٥٨.

٥٤٧

إلا ضميرا مستترا ، وكذلك فاعل يفعل ، فكيف يصح وقوع الظاهر موقع المضمر الذي قبله؟ وهذا الذي يزعم ليس بشيء ؛ لأنّ مذهب سيبويه بنصّه يخالفه ؛ ولأنه لا خلاف في صحّة «تقوم هند وزيد» ولا يصحّ مباشرة «زيد» لا «تقوم» لتأنيثه.

و «السّكون» و «السّكنى» : الاستقرار ، ومنه «المسكين» لعدم حركته وتصرّفه ، والسّكين لأنها تقطع حركة المذبوح ، والسّكينة لأن بها يذهب القلق.

وسكّان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب ، والسّكن : النار.

قال الشاعر : [مشطور السريع]

٣٨٩ ـ ...........

قد قوّمت بسكن وأدهان (١)

و «الجنّ» : مفعول به لا ظرف ، نحو : «سكنت الدّار».

وقيل : هي ظرف على الاتساع ، وكان الأصل تعديته إليها ب «في» لكونها ظرف مكان مختصّ ، وما بعد القول منصوب به.

فصل في بيان هل الأمر في الآية للإباحة أو لغير ذلك

اختلفوا في قوله : «اسكن» هل هو أمر أو إباحة؟

فروي عن قتادة : أن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسّجود ، وذلك لأنه كلفه بأن يكون في الجنّة يأكل منها حيث شاء ، ونهاه عن شجرة واحدة.

وقال آخرون : إن ذلك إباحة.

والصحيح أن ذلك الإسكان مشتمل على إباحة ، وهي الانتفاع بجميع نعم الجنة وعلى تكليف ، وهو النهي عن أكل الشجرة.

قال بعضهم : قوله : «اسكن» تنبيه عن الخروج ؛ لأن السّكنى لا تكون ملكا ؛ لأن من أسكن رجلا مسكنا له فإنه لا يملكه بالسّكنى ، وأن له أن يخرجه منه إذا انقضت مدة الإسكان ، وكان «الشّعبيّ» يقول : إذا قال الرجل : داري لك سكنى حتى تموت ، فهي له حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسكنها حتى تموت ، فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات ، ونحو السّكنى العمرى ، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السّكنى.

قال «الحربي» : سمعت «ابن الأعرابي» يقول : لم يختلف العرب في أنّ هذه الأشياء على ملك أربابها ، ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرّقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعريّة والسّكنى والإطراق.

__________________

(١) ينظر القرطبي : ١ / ٢٠٥.

٥٤٨

فصل في وقت خلق حواء

اختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه ، فذكر «السّدي» عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصّحابة رضي الله عنهم : أن الله ـ تعالى ـ لما أخرج «إبليس» من الجنة ، وأسكن آدم بقي فيها وحده ما كان معه من يستأنس به ، فألقى الله ـ تعالى ـ عليه النّوم ، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقّه الأيسر ، ووضع مكانه لحما ، وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها ما أنت؟ قالت : امرأة. قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إليّ فقالت الملائكة : لنجرب علمه من عنده ، قال : امرأة ، قيل : ولم سميت امرأة؟ قال : لأنها من المرأء أخذت ، فقالوا له : ما اسمها؟ قال : حوّاء ، قالوا : ولم سميت حواء؟ قال : لأنها خلقت من حيّ (١).

وعن «ابن عباس» رضي الله عنهما قال : «بعث الله جندا من الملائكة ، فحملوا آدم وحوّاء ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ، ولباسهما النور حتى أدخلا الجنّة».

فهذا الخبر يدلّ على أن حواء خلقت قبل إدخالهما الجنة.

روى الحسن عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «إنّ المرأة خلقت من ضلع الرّجل ، فإذا أردت تقويمها كسرتها ، وإن تركتها انتفعت بها واستقامت» (٢) ، وهذا القول منقول «عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، ووهب بن منبه ، وسفيان بن عيينة».

واختاره ابن قتيبة في «المغازي» ، [والقاضي منذر بن سعيد البلوطي](٣) وحكاه عن «أبي حنيفة» وأصحابه ، وهو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.

وفي رواية : «وإن أعوج شيء في الضّلع أعلاه ؛ لن تستقيم لك على طريقة واحدة ، فإن استمتعت بها ، استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها» ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الطبري (١ / ٥١٣) رقم (٧١٠) والأثر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» وزاد نسبته لابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن ابن عباس.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح (٢ / ١٠٩١) كتاب الرضاع (١٧) باب الوصية بالنساء (١٨) حديث رقم (٥٩ ، ١٤٦٩ ، ٦٠ ، ١٤٦٩).

والترمذي في السنن حديث رقم (١١٨٨).

والدارمي في السنن (٢ / ١٤٨).

وابن حبان في الموارد حديث رقم (١٣٠٨).

وابن أبي شيبة (٥ / ٢٧٦).

والبخاري في الأدب المفترد (٧٤٧).

(٣) سقط في ب.

٥٤٩

٣٩٠ ـ هي الضّلع العوجاء لست تقيمها

ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها

أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى

أليس عجيبا ضعفها واقتدارها (١)

فصل في بيان خلافهم في الجنة المقصودة

اختلفوا في هذه الجنة هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السّماء ، فهل هي دار ثواب أو جنّة الخلد؟

فقال أبو القاسم البلخيّ ، وأبو مسلم الأصفهاني : هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة : ٦١] واحتجّا عليه بوجوه :

أحدها : أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من «إبليس» ، ولما صحّ قوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠].

وثانيها : أن من دخل هذه الجنّة لا يخرج منها لقوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر : ٤٨].

وثالثها : أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله أن يصل إلى جنة الخلد.

ورابعها : أن جنة الخلد لا يفنى نعيمها لقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) إلى أن قال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] أي : غير مقطوع.

وخامسها : لا نزاع في أن الله ـ تعالى ـ خلق آدم في الأرض ، ولم يذكر في هذه القصّة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان ـ تعالى ـ قد نقله إلى السّماء لكان أولى بالذكر ؛ لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم ، فدلّ على أن ذلك لم يحصل ، وذلك يوجب أن هذه الجنّة غير جنّة الخلد.

وقال «الجبّائي» : أن تلك الجنّة كانت في السّماء السّابعة ، والدليل عليه قوله : (اهْبِطُوا مِنْها) ، ثم إنّ الاهباط الأول كان من السّماء السّابعة إلى السماء الأولى ، والإهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض.

وقال أكثر العلماء : إنها دار الثواب ؛ لأنّ الألف واللام في لفظ الجنّة لا يفيدان العموم ؛ لأن سكون جميع الجنان محال ، فلا بد من صرفها إلى المعهود السّابق ، وجنّة الخلد هي المعهودة بين المسلمين ، فوجب صرف اللفظ إليها.

__________________

(١) ينظر البيتان في القرطبي : ١ / ٢٠٨ ، والبيت الأول في اللسان (ضلع).

٥٥٠

وقال بعضهم : الكلّ ممكن ، والأدلّة النقلية ضعيفة ومتعارضة ، فوجب التوقّف وترك القطع ، والله أعلم.

فصل في إعراب الآية

قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) هذه الجملة عطف على «اسكن» ، فهي في محلّ نصب بالقول ، وأصل «كل» : «اؤكل» بهمزتين : الأولى همزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فلو جاءت هذه الكلمة على الأصل لقيل : أوكل بإبدال الثانية حرفا مجانسا لحركة ما قبلها ، إلّا أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفا ، فاستغنت حينئذ عن همزة الوصل ، فوزنه «عل» ومثله : «خذ» و «مر» ، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها ، فلا تقول : من «أجر ـ جر» ولا تردّ العرب هذه الفاء في العطف ، بل تقول : «قم وخذ وكل» إلّا «مر» ، فإن الكثير ردّ فاءه بعد الواو والفاء ، قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) [طه : ١٣٢] ، وعدم الرد قليل.

وحكى سيبويه «اؤكل» على الأصل ، وهو شاذّ.

وقال «ابن عطية» (١) : حذفت النون من «كلا» للأمر.

وهذه العبارة موهمة لمذهب الكوفيين من أنّ لأمر عندهم معرب على التدريج ، وهو عند البصريين محمول على المجزوم ، فإن سكن المجزوم سكن الأمر منه ، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر.

و «منها» متعلّق به ، و «من» للتبعيض ، ولا بدّ من حذف مضاف أي : من ثمارها ويجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية ، وهو حسن.

فإن قيل : ما الحكمة في عطفه هنا «وكلا» بالواو ، وفي «الأعراف» بالفاء؟

والجواب : كلّ فعل عطف عليه شيء ، وكان الفعل بمنزلة الشّرط ، وذلك الشّيء بمنزلة الجزاء ، عطف الثّاني على الأوّل بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) [البقرة : ٥٨] فعطف «كلوا» على «ادخلوا» بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها فكأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالدّخول موصل إلى الأكل ، والأكل متعلّق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله في سورة «الأعراف» : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا) [الأعراف : ١٦١] فعطف «كلوا» على قوله : «اسكنوا» بالواو دون الفاء ؛ لأن «اسكنوا» من السّكنى ، وهو المقام مع طول اللّبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده ؛ لأن من دخل بستانا قد يأكل منه ، وإن كان مجتازا ، فلما لم يتعلّق الثاني بالأول تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء. إذا ثبت هذا

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٦.

٥٥١

فقوله : «اسكن» يقال لمن أراد منه : الزم المكان الذي دخلته ، فلا تنفك عنه ، ويقال أيضا لمن لم يدخله : اسكن هذا المكان يعني : ادخله واسكن فيه ، فقوله في سورة البقرة : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا) إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنّة ، فكان المراد منه اللّبث والاستقرار ، وقد بيّنّا أن الأكل لا يتعلّق به ، فلهذا ورد بلفظ الواو ، وفي سورة «الأعراف» هذا الأمر إنما ورد قبل دخول الجنّة ، فكان المراد منه دخول الجنة ، وقد بينا أن الأكل متعلّق به ، فلهذا ورد بلفظ الفاء ، والله أعلم.

و «رغدا» نعت لمصدر محذوف ، وقد تقدم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوه أن ينتصب حالا.

وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي : كلا طيّبين مهنّأين.

وقرأ النّخعي (١) وابن وثّاب : «رغدا» بسكون الغين ، وهي لغة «تميم».

وقال بعضهم : كل فعل حلقي العين صحيح اللّام يجوز فتح عينه وتسكينها ، نحو : «نهر وبحر» وهي لغة «تميم».

وهذا فيه نظر ، بل المنقول أن «فعلا» بسكون العين إذا كانت عينه حلقية لا يجوز فتحها عند البصريين ، إلّا أن يسمع فيقتصر عليه ، ويكون ذلك على لغتين ؛ لأن إحداهما مأخوذة من الأخرى.

وأما الكوفيون فبعض هذا عندهم ذو لغتين ، وبعضه أصله السّكون ، ويجوز فتحه قياسا ، أما أن «فعلا» المفتوح العين الحلقيها يجوز فيه التسكين ، فيجوز في السّحر : السّحر ، فهذا لا يجيزه أحد.

و «الرّغد» : الواسع الهنيء ؛ قال امرؤ القيس : [الرمل]

٣٩١ ـ بينما المرء تراه ناعما

يأمن الأحداث في عيش رغد (٢)

ويقال : رغد عيشهم ـ بضم الغين وبكسرها ـ وأرغد القوم : صاروا في رغد.

«حيث شئتما» حيث : ظرف مكان ، والمشهور بناؤها على الضم لشبهها بالحرف في الافتقار إلى جملة ، وكانت حركتها ضمة تشبيها ب «قبل وبعد».

ونقل «الكسائي» إعرابها عن «قيس» وفيها لغات : «حيث» بتثليث الثاء ، و «حوث» بتثليثها أيضا ، ونقل : «حاث» بالألف.

__________________

(١) انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٠٩ ، والدر المصون : ١ / ١٨٩ ، والقرطبي : ١ / ٢٠٨.

(٢) البيت ليس في ديوانه ، وهو في البحر : ١ / ٣٠٥ ، مجمع البيان : ١ / ١٨٦ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٣٧ ، الدر المصون : ١ / ١٩٠.

٥٥٢

وهي لازمة الظرفية لا تتصرف ، وقد تجر ب «من» كقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢](مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٨٢] وهي لازمة للإضافة إلى جملة مطلقا ، ولا تضاف إلى المفرد إلا نادرا ؛ قالوا : [الرجز]

٣٩٢ ـ أما ترى حيث سهيل طالعا (١)

وقال آخر : [الطويل]

٣٩٣ ـ ونطعنهم تحت الحبى بعد ضربهم

ببيض المواضي حيث ليّ العمائم (٢)

وقد تزاد عليها «ما» فتجزم فعلين شرطا وجزاء ك «إن» ، ولا يجزم بها دون «ما» خلافا لقوم ، وقد تشرب معنى التعليل ، وزعم الأخفش أنها تكون ظرف زمان ، وأنشد : [المديد]

٣٩٤ ـ للفتى عقل يعيش به

حيث تهدي ساقه قدمه (٣)

ولا دليل فيه ، لأنها على بابها. والعامل فيها هنا «كلا» أي : «كلا أي مكان شئتما» توسعة عليهما.

وأجاز «أبو البقاء» (٤) أن تكون بدلا من «الجنة» ، قال : «لأنّ الجنة مفعول بها ، فيكون حيث مفعولا به» وفيه نظر ؛ لأنها لا تتصرّف كما تقدّم إلا بالجر ب «من».

و «شئتما» الجملة في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه. وهل الكسرة التي على الشين أصل كقولك : جئتما وخفتما ، أو محوّلة من فتحة لتدلّ على ذوات الياء نحو : يعتمد؟

قولان مبنيان على وزن شاء ما هو؟ فمذهب المبرد أنه : «فعل» بفتح العين ، ومذهب سيبويه «فعل» بكسرها ، ولا يخفى تصريفهما.

__________________

(١) ينظر البيت في شرح المفصل : (٤ / ٩٠) ، الشذور : (١٢٩) ، الخزانة : (٣ / ١٥٥) ، الدرر : (١ / ١٨٠) ، مغني اللبيب : (١ / ١٣٣) ، ابن الناظم : (٣٩١) ، الأشموني : (٢ / ٢٥٤) ، الهمع : (١ / ٢١٢) وتمامه : نجما مضيئا كالشهاب لامعا ، الدر المصون : (١ / ١٩٠).

(٢) البيت للفرزدق ينظر في شرح شواهد المغني : ١ / ٣٨٩ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٨٧ ، أوضح المسالك : ٣ / ١٢٥ ، وخزانة الأدب : ٦ / ٥٥٣ ، ٥٥٧ ، ٥٥٨ ، ٧ / ٤ ، والدرر : ٣ / ١٢٣ ، وشرح التصريح : ٢ / ٣٩ ، وشرح المفصل : ٤ / ٩٢ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٤ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٣٢ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢١٢ ، الدر المصون : ١ / ١٩٠.

(٣) البيت لطرفة بن العبد ينظر ديوانه : ص ٨٦ ، وخزانة الأدب : ٧ / ١٩ ، والدرر : ٣ / ١٢٥ ، وسمط اللآلي : ص ٣١٩ ، ولسان العرب (سوق) ، (هدى) ، شرح المفصل : ٤ / ٩٢ ، ومجالس ثعلب : ص ٢٣٨ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢١٢ ، الدر المصون : ١ / ١٩٠.

(٤) ينظر الاملاء : ١ / ٣٠.

٥٥٣

قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) «لا» ناهية و «تقربا» مجزوم بها حذفت نونه.

وقرىء (١) : «تقربا» بكسر حرف المضارعة ، و «الألف» فاعل ، وتقول : «قربت» الأمر «أقربه» ـ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع أي : التبست به.

وقال «الجوهريّ» «قرب» ـ بالضم ـ «يقرب» ـ «قربا» أي دنا. و «قربته» ـ بالكسر ـ «قربانا» دنوت منه.

وقربت ـ أقرب ـ قرابة ـ مثل : كتبت ـ أكتب ـ كتابة ـ إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة.

وقيل : إذا قيل : لا تقرب ـ بفتح الرّاء كان معناه : لا تلتبس بالفعل ، وإذا قيل : لا تقرب ـ بالضّم ـ لا تدن منه.

و «هذه» مفعول به اسم إشارة للمؤنث ، وفيها لغات : هذي وهذه وهذه بكسر الهاء بإشباع [ودونه] «وهذه» بسكونها و «ذه» بكسر الذال فقط ، والهاء بدل من الياء لقربها منها في الخفاء.

قال «ابن عطية» ونقل أيضا عن النّحاس (٢) وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير «هذه» ، وفيه نظر ؛ لأن تلك الهاء التي تدلّ على التأنيث ليست هذه ؛ لأن «تيك» بدل من تاء التأنيث في الوقف ، وأما هذه الهاء فلا دلالة لها على التأنيث ، بل الدّال عليه مجموع الكلمة كما لا يقال : الياء في «هذي» للتأنيث ، وحكمها في القرب والبعد والتوسّط ، ودخول هاء التنبيه وكاف الخطاب حكم «ذا» وقد تقدم.

ويقال فيها أيضا : «تيك» و «تيلك» و «تالك» ؛ قال : [الوافر]

٣٩٥ ـ تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا

وأنّ لتالك العمر انكسارا (٣)

قال هشام : ويقال : «تا فعلت» ؛ وأنشد : [الطويل]

٣٩٦ ـ خليليّ لو لا ساكن الدّار لم أقم

بتا الدّار إلّا عابر ابن سبيل (٤)

و «الشجرة» بدل من «هذه».

وقيل : نعت لها لتأويلها بمشتقّ ، أي : بهذه الحاضرة من الشجر. والمشهور أنّ اسم الإشارة إذا وقع بعده مشتقّ كان نعتا له ، وإن كان جامدا كان بدلا منه.

__________________

(١) قرأ بها يحيى بن وثاب ، وهي لغة عند الحجازيين.

انظر الشواذ : ٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٣٠٩ ، والدر المصون : ١ / ١٩١.

(٢) ينظر إعراب القرآن : ١ / ١٦٣.

(٣) ينظر البيت في الهمع : (١ / ٧٥) ، الدرر : (١ / ٤٩) ، خزانة الأدب : (٩ / ١٢٩ ، ١٣٠) ، القرطبي : (٢ / ٥٤) ، الدر المصون : (١ / ١٩١) ، اللسان «تا».

(٤) ينظر القرطبي : (١ / ٢١٣) ، الدر المصون : (١ / ٢٨٤.

٥٥٤

و «الشجرة» واحدة «الشجر» : اسم جنس ، وهو ما كان على ساق ، وله أغصان ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) مع أنها كالزرع والبطّيخ ، فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجرا.

قال المبرد : «وأحسب كلّ ما تفرعت له عيدان وأغصان ، فالعرب تسميه شجرا في وقت تشعبه».

وأصل هذا أنه كلما تشجر ، أي : أخذ يمنة ويسرة ، يقال : رأيت فلانا قد شجرته الرّماح ، قال تعالى : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] وتشاجر الرجلان في أمر كذا.

وقرىء (١) : «الشّجرة» بكسر الشين والجيم ، وبإبدالها ياء مع فتح الشّين ، وكسرها ؛ لقربها منها مخرجا ؛ كما أبدلت الجيم منها في قوله : [الرجز]

٣٩٧ ـ يا ربّ إن كنت قبلت حجّتج

فلا يزال شاحج يأتيك بج (٢)

يريد : حجّتي وبي.

وقال الراجز أيضا : [الرجز]

٣٩٨ ـ خالي عويف وأبو علج

ألمطعمان اللّحم بالعشجّ (٣)

يريد : أبو عليّ ، وبالعشيّ.

وقال الشاعر في «شيرة» : [الطويل]

٣٩٩ ـ إذا لم يكن فيكنّ ظلّ ولا جنى

فأبعدكنّ الله من شيرات (٤)

وقال أبو عمرو : «إنما يقرأ بها برابر مكة وسودانها ، وجمعت «الشّجرة» على «شجراء» ، ولم يأت جمع على هذه الزّنة إلا قصبة وقصباء ، وطرفة وطرفاء ، وحلفة وحلفاء.

__________________

(١) هذه القراءة حكاها هارون الأعور عن بعض القراء.

انظر الشواذ : ٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٢٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٣١٠ ، والدر المصون : ١ / ١٩١.

(٢) ينظر نوادر أبي زيد : (٤٥٥) ، ابن السكيت (٩٦) ، الأصول : (٢ / ٢٧٤) ، المحتسب : (١ / ٧٥) ، سر الصناعة : (١ / ١٩٣) ، التبصرة : (٢ / ٨٦٦) ، ابن يعيش (١٠ / ٥٠) ، الرضي (٢ / ٢٨٧) ، الممتع : (١ / ٣٥٥) ، الأشموني : (٣ / ١٤٧) ، التصريح : (٢ / ٣٦٧) ، الدرر : (١ / ١٥٥) ، الدر المصون : (١ / ١٩١.

(٣) ينظر الكتاب : (٤ / ١٨٢) ، سر الصناعة : (١ / ١٩٢) ، المحتسب : (١ / ٧٥) ، المنصف : (٢ / ١٧٨) ، أمالي القالي : (٢ / ٧٩) ، ابن يعيش : (٩ / ٧٤) ، (١٠ / ٥٠) ، التبصرة : (٢ / ٨٦٥) ، شرح الأشموني: ٤ / ٣٤٦) ، التصريح : (٢ / ٣٧١.

(٤) ينظر أمالي القالي : (٢ / ٢٣٨) ، المزهر : (١ / ١٤٦) ، العيني : (٤ / ٥٨٩) ، السمط : (٨٣٤) ، الكشاف : ٤ / ٣٦٤) ، الدر المصون : (١ / ١٩١.

٥٥٥

وكان الأصمعي يقول : «حلفة ـ بكسر اللام» ، وعند سيبويه أن هذه الألفاظ واحدة وجمع.

و «المشجرة» : موضع الأشجار ، وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا ، قاله الجوهري.

فصل في جنس الشجرة المذكورة

اختلف العلماء في هذه الشجرة المنهي عنها ، فروي عن بعض العلماء أنه نهى عن جنس من الشجر.

وقال آخرون : إنما نهى عن شجر بعينه ، واختلفوا في تلك الشجرة.

روى السّدي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وجعدة بن هبيرة هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر (١).

وقال ابن عباس أيضا ، وأبو مالك وقتادة ، ورواه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي السّنبلة ، والحبّة منها كشكل البقر ، أحلى من العسل. وألين من الزّبد ، قاله وهب بن منبّه (٢).

ونقل ابن جريج عن بعض الصحابة أنها التين ، وهو مروي أيضا عن مجاهد وقتادة (٣) ، ولذلك تعبر في الرّؤيا بالندامة لآكلها ، ذكره السهيلي.

وروي عن قتادة أيضا هي شجرة العلم ، وفيها من كل شيء.

وقال عليّ : شجرة الكافور.

فصل في الإشعار بأن سكنى آدم لا تدوم

قال بعض أرباب المعاني في قوله : (وَلا تَقْرَبا) إشعار بالوقوع في الخطيئة ، والخروج من الجنة ، وأنّ سكناه فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يخطر عليه شيء ، والدليل على هذا قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فدلّ على خروجه منها.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وأخرجه ابن جرير (١ / ٥١٩) عن ابن مسعود وأخرجه أيضا (١ / ٥١٩) عن جعد بن هبيرة وزاد نسبته السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٧) لوكيع وابن سعد وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري (١ / ٥١٨) عن وهب وابن عباس وأبي مالك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٧) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن عباس. ووكيع وعبد بن حميد وأبي الشيخ عن أبي مالك الغفاري.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٧.

٥٥٦

فصل في المراد بالنهي عن الأكل من الشجرة

هذا النهي (١) نهي تحريم ، أو تنزيه؟ فيه خلاف.

__________________

(١) النهي خلاف الأمر : نهاه ينهاه نهيا : كفه ؛ فانتهى ، وتناهى : كفّ ، وهو واويّ يائي ، يقال في الواويّ : نهوته عن الشيء ، وفي اليائي : نهيته ، ونفس نهّاء : منتهية عن الشيء ، وتناهوا عن الأمر وعن المنكر : نهى بعضهم بعضا ، وفي التنزيل العزيز : «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه».

والنّهية والنهاية آخر كل شيء ؛ وذلك لأن آخره ينهاه عن التمادي فيرتدع ، والنّهي والنّهي : الموضع الذي له حاجز ، كأنه ينهى الماء أن يفيض منه. ونهية الوتد : الفرضة التي في رأسه ، تنهى الحبل أن ينسلخ.

والنّهى : العقل ، يكون واحدا وجمعا ، واحده نهية ، سمي بذلك ؛ لأنه ينهى عن القبيح.

وناهيك بفلان : كافيك به ، ويؤخذ من ذلك ؛ أن جميع اشتقاقات كلمة «نهى» تفيد المنع والحظر.

وتعريف النهي في اصطلاح الفقهاء والأصوليين : يعتبر النهي قسما من أقسام الكلام ؛ حيث إن الكلام ينقسم إلى : أمر ، ونهي ، وخبر ، وإنشاء ، ووعد ، ووعيد ، وغيرها ، فالنهي أحد هذه الأقسام. واختلف العلماء بإزاء إثبات كلام النفس إلى طائفتين : طائفة أثبتت كلام النفس ، وهم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم ، والطائفة الثانية نفت تحقّق الكلام النفسي ، وهم المعتزلة ومن وافقهم.

ونحا كل فريق طريقا خاصا إلى تحديد النهي بما يلائم وجهة نظره ، في إثبات كلام النفس أو نفيه ؛ فالأشاعرة المثبتون لكلام النفس عرّفوه تارة باعتبار حقيقته الكلامية ، وعرفوه تارة أخرى باللفظ الدّال على تلك الحقيقة.

مذهب الأشاعرة في تعريف النهي باعتبار حقيقته الكلامية :

الصّحيح في تعريفه على ما اختاره ابن الحاجب : أنه «اقتضاء كفّ عن فعل على جهة الاستعلاء.

وتعريفه عندهم باعتبار أنه لفظ دالّ على المعنى النفسي ، وهو المناسب لغرض الأصوليين ؛ لأن بحثهم إنما هو عن الأدلة اللفظية السمعية ، من حيث يوصل العلم بأحوالها العارضة لها من عموم ، وخصوص ، وإطلاق ، وتقييد ، ونحوه ، إلى القدرة على إثبات الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين ، وإن كان مرجع الأدلة السمعية إلى الكلام النفسي.

وذهب القاضي أبو بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الغزالي : بأنه «القول المقتضي طاعة المنهي بترك المنهي عنه» وهذا ما اختاره الجمهور من الشافعية. قال الكمال ما محصله : «وهو المختار» معنى تعريف النهي اللفظي الذي هو غرض الأصولي أنه لطلب الكفّ عن الفعل ، صيغة تخصّه ، بمعنى : أنها لا تستعمل في غيره على سبيل الحقيقة ، وقد وقع في هذا خلاف ، والصّحيح أنّ له لفظا يخصّه ، وحاصل تعريف النهي اللفظي ذكر ما يميّز صيغته عن غيرها من الصيغ ، فسميت هذه المميزات حدّا.

ـ مذهب المعتزلة في تعريف النهي :

لسبب أن المعتزلة أنكرت الكلام النفسي ، لم يعرّفوا النهي باعتبار المعنى القائم بالنفس ، وأنه اقتضاء الكفّ أو طلب الكف ؛ لأن هذا نوع من الكلام النفسي ، فعرّفوه تارة باعتبار أنّه لفظ ، وعرفوه تارة أخرى باعتبار الإرادة المقترنة بالصيغة ، ومرة ثالثة عرّفوه باعتبار أنه نفي الإرادة.

وقد عرّفه جمهورهم باعتبار أنه لفظ ؛ قالوا : «هو قول القائل لمن دونه : لا تفعل أي : قول القائل لفظا موضوعا لطلب ترك الفعل من الفاعل.

واتفق العلماء على أن صيغة النهي «لا تفعل» ترد لعدّة معان منها :

١ ـ التحريم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى» ، «لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» ، «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»

٥٥٧

قال قوم : هذا نهي تنزيه ؛ لأن هذه الصّيغة وردت في التنزيه والتحريم ، والأصل عدم الاشتراك فلا بدّ من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين ، وما ذلك إلّا أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل ، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل ، أو الإطلاق فيه كان ثابتا بحكم الأصل ، فإن الأصل في المنافع الإباحة ، فإذا ضممنا مدلول اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلا على التنزيه ، قالوا : وهذا هو الأولى بهذا المقام ؛ لأنّ على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إلى ترك الأولى ، ومعلوم أن كل مذهب أفضى إلى عصمة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كان أولى.

وقال آخرون : بل هذا نهي تحريم ، واحتجوا عليه بأمور :

أحدها : أن قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) كقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢] وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الإسراء : ٣٤] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول.

__________________

٢ ـ كراهة التحريم ؛ كقوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا يبع بعضكم على بيع بعض».

٣ ـ كراهة التنزيه ؛ كقوله ـ عليه‌السلام : «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول».

٤ ـ التحذير ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ».

٥ ـ بيان العاقبة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ».

٦ ـ الدعاء ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا».

٧ ـ التيئيس ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ».

٨ ـ الإرشاد ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».

٩ ـ التسوية ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «اصبرواأَوْ لا تَصْبِرُوا»

١٠ ـ التهديد ؛ كقول السيد لعبده : «لا تمتثل أمري».

١١ ـ الالتماس ؛ كقول الصديق لصديقه : «لا تبرح مكانك».

واتفقوا أيضا على أن الصيغة إذا استعملت في غير الحرمة والكراهة من المحامل ، لا تكون حقيقة ، فهي إذا مجاز ، فيما عدا طلب الترك واقتضاءه.

البرهان لإمام الحرمين ١ / ٢٨٣ ، البحر المحيط للزركشي ٢ / ٤٢٦ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ٢ / ١٧٤ ، سلاسل الذهب للزركشي ص ٢٠١ ، التمهيد للإسنوي ص ٢٩٠ ، نهاية السول له ٢ / ٢٩٣ ، زوائد الأصول له ص ٢٣٨ ، منهاج العقول للبدخشي ٢ / ٦٧ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٢٦١ ، المنخول للغزالي ص ١٢٦ ، المستصفى له ٢ / ٢٤ ، حاشية البناني ١ / ٣٩٠ ، الإبهاج لابن السبكي ٢ / ٦٦ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ١ / ٤٩٦ ، المعتمد لأبي الحسين ١ / ١٦٨ ، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص ٢٢٨ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٣ / ٢٦٩ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ١ / ٣٧٤ ، كشف الأسرار للنسفي ١ / ١٤٠ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ٩٥ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ١ / ١٤٩ ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص ٦١ ، شرح المنار لابن ملك ص ٤٤ ، الموافقات للشاطبي ٣ / ١٤٤ ، تقريب الوصول لابن جزيّ ص ٩٥ ، إرشاد الفحول للشوكاني ص ١٠٩ ، الكوكب المنير للفتوحي ص ٣٣٧.

٥٥٨

وثانيها : قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : إن أكلتما منها ظلمتما أنفسكما ألا ترى لما أكلا (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣].

وثالثها : لو كان للتنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنّة ، ولما وجبت التوبة عليه.

قال ابن الخطيب : الجواب عن الأول : أن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه ، لكنه قد يحمل على التحريم بدليل منفصل.

وعن الثاني : أن قوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه ؛ لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنّة التي لا تظمآن فيها ، ولا تضحيان ولا تجوعان ولا تقربان إلى موضع ليس فيه شيء من هذا.

وعن الثالث : أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنّة كان لهذا السبب.

فصل في فحوى الآية

قال قوم قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) يفيد بفحواه النهي عن الأكل ؛ وفيه نظر لأن النهي عن القربان لا يستلزم النهي عن الأكل ؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله ، بل الظاهر [إنما] يتناول النهي عن القرب.

وأما النهي عن الأكل ، فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ(١) بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف : ٢٢] ولأنه حدث الكلام بالأكل فقال : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) فصار ذلك كالدّلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشّجرة ، لكن النهي بهذا القول يعم الأكل ، وسائر الانتفاعات ، ولو كان نصّ على الأكل ما كان يعمّ ذلك ، ففيه مزيد فائدة.

قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) فتكونا : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مجزوما عطفا على «تقربا» ؛ كقوله : [الطويل]

٤٠٠ ـ فقلت له : صوّب ولا تجهدنّه

فيذرك من أعلى القطاة فتزلق (١)

والثّاني : أنه منصوب على جواب النّهي لقوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَ) [طه : ٨١] والنصب بإضمار «أن» عند البصريين ، وبالفاء نفسها عند الجرمي ، وبالخلاف عند الكوفيين. وهكذا كل ما يأتي مثل هذا.

و «الظّالمين» خبر «كان».

__________________

(١) البيت لعمرو بن عمار الطائي ينظر شرح أبيات سيبويه : ٢ / ٦٢ ، والكتاب : ٣ / ١٠١ ، ولامرىء القيس ينظر ديوانه : ص ١٧٤ ، ولسان العرب [ذرا] ، والمحتسب : ٢ / ١٨١ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٥٢٦ ، ومجالس ثعلب : ٢ / ٤٣٦ ، والمقتضب : ٤ / ٢٣ ، الدر المصون : ١ / ١٩٢.

٥٥٩

و «الظلم» : وضع الشّيء في غير موضعه ، ومنه قيل للأرض الّتي لم تستحقّ الحفر ، فتحفر : مظلومة ، قال النابغة : [البسيط]

٤٠١ ـ إلّا الأواريّ لأيا ما أبيّنها

والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (١)

وقيل : سميت مظلومة ؛ لأنّ المطر لم يأتها ؛ قال عمرو بن قميئة : [الكامل]

٤٠٢ ـ ظلم البطاح بها انهلال حريصة

فصفا النّطاف بها بعيد المقلع (٢)

وقالوا : «من أشبه أباه فما ظلم» ؛ قال : [الرجز]

٤٠٣ ـ بأبه اقتدى عديّ في الكرم

ومن يشابه أبه فما ظلم (٣)

والمراد من الآية هو أنكما إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظلم الغير ، وقد يكون ظالما بأن يظلم نفسه ، وبأن يظلم غيره ، فظلم النفس أعم وأعظم. والظلم على وجوه :

الأول : ظلم الظّالم لنفسه بالمعصية كهذه الآية أي : فتكونا من العاصين.

الثاني : الظّالمون المشركون ، قال تعالى : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود : ١٨] يعني : المشركين.

الثالث : الظلم : الضرر ، قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل : ١١٨] ، أي : ما ضررناهم ، ولكن كانوا أنفسهم يضرون.

الرابع : الظلم : الجحود ، قال تعالى : (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) [الأعراف : ٥١] ومثله : «فظلموا بها» أي : فجحدوا بها.

قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٣٦)

المفعول في قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) واجب التقديم ، لأنه ضمير متّصل ، والفاعل ظاهر ، وكل ما كان كذا فهذا حكمه.

وقرأ «حمزة» (٤) : «فأزالهما» والقراءتان يحتمل أن تكونا بمعنى واحد ، وذلك أن

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه : (٩) ، شواهد الكتاب : (٢ / ٣٢١) ، الخزانة : (٢ / ١٤٥) ، العيني : (٤ / ٤٩٦) ، الدرر : (١ / ١٩١) ، معاني الفراء : (١ / ٢٨٨) ، القرطبي : (١ / ٣٠٩) ، اللسان : ظلم ، الدر المصون : (١ / ١٩٢).

(٢) ينظر المفضليات : (٤٤) ، الطبري : (٢ / ٢٣٠) ، الحيوان : (١ / ١٦١) ، الدر المصون : (١ / ١٩٢).

(٣) البيت لرؤبة. ينظر ملحقات ديوانه : (١٨٢) ، أوضح المسالك : (١ / ٣٢) ، الأشموني : (١ / ١٧٠) ، الدر : (١ / ١٢) ، الدر المصون : (١ / ٩٢).

(٤) انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٤ ، وطيبة النشر : ٤ / ١٨ ، والعنوان : ٦٩ ، وإعراب القراءات السبع ـ

٥٦٠