اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

آدم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ خليفة لأولئك الجنّ الذين تقدّموه ، لأنه خلفهم (١).

والثاني : إنما سمّاه الله خليفة ، لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه ، ويروى عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والسّدي وهذا (٢) الرأي متأكّد بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦]. [روى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أنبيا كان آدم مرسلا؟ قال : نعم .. الحديث](٣).

فإن قيل : لمن كان رسولا ، ولم يكن في الأرض أحد؟.

فيقال : كان رسولا إلى ولده ، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، وأنزل عليه تحريم الميتة والدّم ولحم الخنزير ، وعاش تسعمائة وثلاثين سنة. ذكره أهل التوراة والله أعلم. [وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة](٤).

وقرىء (٥) : «خليقة» بالقاف ، و «خليفة» منصوب ب «جاعل» كما تقدّم ؛ لأنه أسم فاعل ، وأسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقا إن كان فيه الألف واللام ، ويشرط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافته لمعموله تخفيفا ما لم يفصل بينهما كهذه الآية.

فصل في وجوب نصب خليفة للناس

هذه الآية دليل على وجوب نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع (٦) ، لتجتمع به

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٩٣).

(٢) في أ : فأهل.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

(٥) قرأ بها زيد بن علي وعمران بن عثمان أبو البرهسم الزبيدي.

ينظر غاية النهاية : ١ / ٦٠٤ ، المحرر الوجيز : ١ / ١١٧ ، البحر المحيط : ١ / ٢٨٩ ، الدر المصون : ١ / ١٧٧.

(٦) ذهب جمهور العلماء إلى أن نصب الخليفة ، وإقامته على الأمة واجب على المسلمين.

وخالفهم الأصمّ من المعتزلة ، وبعض الخوارج ؛ إذ قالوا بجواز نصب الخليفة لا وجوبه ، والواجب عندهم إمضاء أحكام الشرع ، فإذا اتّفقت الأمة على العدل ، وتواطأت على تنفيذ أحكام الله تعالى ، لم تحتج إلى خليفة ، ولا يجب عليها نصبه. والقائلون بوجوب نصب الخليفة اختلفوا في طريقه : فذهب أهل السنة ، وأكثر المعتزلة إلى أن نصبه واجب بالسّمع ، وذهب جماعة منهم : الجاحظ ، والخيّاط ، والكعبي ، وأبو الحسين البصري إلى أن نصبه واجب بالعقل.

استدل أهل السنة ، ومن وافقهم على الوجوب سمعا بأمور :

الأول : تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على امتناع خلو الوقت عن خليفة ، حتى قال أبو بكر في خطبته حين وفاة الرسول ـ عليه‌السلام ـ : «ألا إن محمدا قد مات ، ولا بد ـ

٥٠١

الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأئمة إلّا ما روي عن

__________________

ـ لهذا الدين ممّن يقوم به» فبادر الكلّ إلى قبول قوله ، ولم يقل أحد : لا حاجة لنا بذلك ، بل اتفقوا عليه ، وأخذوا ينظرون فيمن يتولّى أمرهم ، وتركوا له أهم الأشياء ، وهو دفن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، واختلاف الصحابة في تعيين الخليفة لا يقدح في ذلك الاتّفاق ، ولم يزل الناس بعدهم على ذلك في كل عصر وزمن.

الثاني : أن الشارع أمر بإقامة الحدود ، وسد الثغور ، وتجهيز الجيوش للجهاد ، وكثير من الأمور المتعلّقة بحفظ النّظام ، وحماية البيضة ممّا لا يتم إلا بخليفة ؛ إذ لا يمكن لآحاد الناس أن يقوم به ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به ، وكان مقدورا عليه ـ فهو واجب.

الثالث : أن في نصب الخليفة جلب منافع كثيرة ، ودفع مضارّ عديدة ، وكل ما كان كذلك فهو واجب بالإجماع ؛ وذلك لأنّا نعلم علما ضروريا أن اجتماع الناس الموصّل إلى صلاحهم في دينهم ودنياهم ، لا يتم إلا بسلطان قاهر يدرأ المفاسد ، ويحفظ المصالح ، ويمنع ما تتسارع إليه طباعهم ، وتتنازع عليه أطماعهم.

ولهذا لا ينتظم أمر أذنى اجتماع ؛ كرفقة طريق بدون رئيس يقتدون برأيه ، وربما يحصل مثل هذا بين الحيوانات كالنّحل ؛ إذ لها عظيم يقوم مقام الرئيس ، ينتظم به أمرها ، فإذا هلك ، شاع بينها الانقسام والفساد.

ونوقش هذا الدليل بأن في نصب الخليفة مضارّ كثيرة ، وقد قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «لا ضرر ولا ضرار».

فإن تولية الإنسان على مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه ، وفيما لا يهتدي إليه ضرر لا محالة.

وقد يستنكف عنه بعض الناس ؛ كما وقع فيما مضى ، فيفضي ذلك إلى الاختلاف والفتنة ، وهذا ضرر عظيم.

ويزاد على ذلك : أن الخليفة لا تجب عصمته ، فيتصوّر منه الكفر والفسوق ، وإن لم يعزل ، أضرّ بالأمة ، وإن عزل ، أدّى ذلك إلى الفتنة ؛ لاحتياج الناس إلى محاربته.

وأجيب عن ذلك : بأن المضارّ اللازمة من ترك نصب الخليفة أكثر بكثير من المضار الناشئة من نصبه ، ودفع الضرر الأعظم عند التّعارض واجب.

قال العلامة «السعد» في «شرح المقاصد» بعد أن ذكر الأدلّة الثلاثة : وقد يتمسك بمثل قوله ـ تعالى ـ : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول.

واستدل القائلون بوجوب نصب الخليفة عقلا : بأن طباع العقلاء توجب التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ، وأنّ كل أمة لا تستغني عن قوّة تحمي قوانينها ، وتدير شئون أفرادها ، وعليه فوجود الحاكم الوازع ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري الذي تختلف فيه الأهواء ، وتتشتت الآراء ، فيكثر النزاع ، ويشتد الخصام ، وتسود الفوضى ؛ لذلك يقول الأفوه ـ وهو شاعر جاهلي ـ : (البسيط)

لا يصلح النّاس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهّالهم سادوا

وردّ هذا الدليل : بأنه مبني على قاعدة (ما أدركه العقل حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما أدركه قبيحا فهو عند الله قبيح).

وهي قاعدة باطلة ، إذ لو كان العقل كافيا في درك الأحكام الشرعية ، وانتظام أمر الناس في دينهم ودنياهم ، لما كان هناك حاجة لإرسال الرسل ـ عليهم‌السلام ـ إلى الخلق.

وهذا هو الصواب الذي تركن إليه النّفس ، ويطمئن إليه القلب ، ويخضع له الفكر السليم ؛ لأن العقول متباينة ومتفاوتة ، فربّ أمر يكون حسنا في نظر بعض العقول ، هو قبيح في نظر بعض آخر ، فكيف يدرك العقل الأحكام الشرعية؟ وكيف يكون متعلّق المدح والثواب والذم والعقاب؟ لا بدّ إذا في انتظام أمر المجتمع من قانون سماويّ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ـ

٥٠٢

الأصمّ ، وأتباعه أنها غير واجبة في الدين ـ وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ،

__________________

ـ يكون هو المرجع في تعريف الأحكام الشرعية ، وتنظيم شأن المجتمع ، حتى يسود العدل ، ويستقرّ في نصابه ، وينتظم أمر الدين والدنيا.

هذه أدلة القائلين بوجوب نصب الخليفة ، على اختلافهم في طريق الوجوب.

أما القائلون بعدم وجوب نصب الخليفة ، فاستدلوا بما يأتي :

الأول : توفر الناس على مصالحهم الدنيوية ، وتعاونهم على واجباتهم الدينية مما يحث عليه طبعهم ، وينادي به دينهم ، فلا حاجة بهم إلى قيام حاكم عليهم فيما يستقلون به ؛ ويدل على ذلك انتظام أحوال العرب ، وأهل البادية النائين عن السلطان وحكمه.

الثاني : انتفاع الناس بالخليفة لا يكون إلا بالوصول إليه ، ولا يخفى أن وصول آحاد الرعية إليه في كل ما يطرأ لهم من الأمور الدنيوية متعذّر عادة ، فلا فائدة إذا في نصبه للعامة ؛ فلا يكون واجبا ، بل جائزا. الثالث : اشترط العلماء في الخليفة شروطا قلّما تتوفّر في كل عصر ؛ وعلى ذلك فإن أقام المسلمون فاقدها ، لم يأتوا بالواجب عليهم ، وإن لم يقيموه ، فقد تركوا الواجب ، فوجوب نصبه يستلزم أحد الأمرين الممتنعين ؛ فيكون ممتنعا.

ورد دليلهم الأول : بأنه وإن كان ممكنا عقلا ، فهو ممتنع عادة لما نشاهده من قيام الفتن ، وحدوث الخلاف والشقاق عند موت الولاة ؛ حيث كان العرب من سكان البادية قساة غلاظا أجلافا يشنون الغارات لأتفه الأسباب ، ويقتلون الأنفس والذّراري ؛ فهم إذن بعيدون عن آداب الدين وسياسة الدنيا.

ورد الثاني : بمنع ما يدعونه من أن الانتفاع بالإمام لا يكون إلا بالوصول إليه فقط ، بل كما يكون بالوصول إليه يكون بوصول أحكامه وسياسته إلى الرّعية ، ونصبه من يرجعون إليه في مصالحهم.

ورد الثالث : بأن الواجب على المسلمين أن يبايعوا من كان مستجمعا للشروط الواجبة ، فإذا تعذّر وجود بعض الشروط ، دخلت المسألة في حكم الضرورات ، والضرورات تقدر بقدرها ، فيكون الواجب حينئذ مبايعة من كان مستجمعا لأكثر الشروط من أهلها ، مع الاجتهاد ، والسعي لاستكمالها كلّها فيه.

قال ابن خلدون بعد أن ذكر مذهب القائلين بجواز نصب الخليفة : «والذي حملهم على هذا المذهب ، إنما هو الفرار عن الملك ، ومذاهبه ؛ من الاستطالة والتغلّب ، والاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك ، والنعي على أهله ، ومرغبة في رفضه ، واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته ، ولا حظر القيام به ، وإنما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم ، والتمتع باللّذات ، ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة ، وهي من توابعه ؛ كما أثنى على العدل والنصفة ، وإقامة مراسيم الدين ، والذب عنه ، وأوجب بإزائها الثواب ، وهي كلها من توابع الملك ، فإذا وقع الذم للملك على صفة ، وحال دون حال أخرى ، ولم يذم لذاته ...» الخ.

خلاصة القول : أن وجوب نصب الخليفة الذي ذهب إليه جمهور العلماء ليس وجوبا عينيا ، بل هو وجوب كفائي ، شأنه شأن سائر الواجبات الكفائية ؛ من جهاد ، وطلب علم ، ونحو ذلك ، فإذا قام بهذه الوظيفة من يصلح لها ، سقط وجوبها عن كافة المسلمين ، وإن لم يقم بها أحد ، أثم من الناس فريقان : الأول : أهل الاختيار المعروفون بشروطهم ، حتى يختاروا خليفة المسلمين.

والثاني : أهل الخلافة ، حتى ينتصب أحدهم ، ويتولى أمورها ، وليس على غير هذين الفريقين من الأمة حرج ولا مأثم.

ينظر الخلافة أو الإمامة العظمى للسيد محمد رشيد رضا : (ص ٢٦).

مقدمة ابن خلدون ، (ص ١٦٠).

«الأحكام السلطانية» للماورديّ (ص ٣).

٥٠٣

وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحقّ من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولّى ذلك ، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفقه.

قوله : «قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها» قد تقدم أن «قالوا» عامل في «إذ قال ربّك» ، وأنه المختار ، والهمزة في «أتجعل» للاستفهام على بابها ، وقال الزمخشري : «للتعجب» ، وقيل : للتقرير ؛ كقوله : [الوافر]

٣٥٧ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (١)

وقال «أبو البقاء» للاسترشاد ، أي : أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل. و «فيها» الأولى متعلّقة ب «تجعل» إن قيل : إنها بمعنى «الخلق» ، و «من يفسد» مفعول به.

وإن قيل : إنها بمعنى «التصيير» ، فيكون «فيها» مفعولا ثانيا قدّم على الأول ، وهو «من يفسد» ، و «من» تحتمل أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة ، فعلى الأول لا محلّ للجملة بعدها من الإعراب ، وعلى الثّاني محلها النصب ، و «فيها» الثانية متعلّقة ب «يفسد». و «يسفك» عطف على «يفسد» بالاعتبارين.

والجمهور على رفعه ، وقرىء منصوبا (٢) على جواب الاستفهام بعد «الواو» التي تقتضي الجمع بإضمار «أن» كقوله : [الكامل]

٣٥٨ ـ أتبيت ريّان الجفون من الكرى

وأبيت منك بليلة الملسوع (٣)

وقال «ابن عطية» : «منصوب بواو الصرف» وهذه عبارة الكوفيين ، ومعنى «واو الصرف» أن الفعل كان يقتضي إعرابا ، فصرفته «الواو» عنه إلى النصب.

والمشهور «يسفك» بكسر الفاء ، وقرىء بضمها (٤) وقرىء أيضا (٥) بضم حرف المضارعة من «أسفك».

__________________

(١) ينظر البيت في ديوان جرير : (٨٩) ، المفصل : (٨ / ١٢٣) ، الخصائص : (٢ / ٤٦٣) ، المغني : (١١) ، شواهد المغني : (٤٣) ، الأخفش : (١ / ٢١٩) ، مجاز القرآن : (١ / ٣٥ / ١٨٤) ، (٢ / ١١٨ / ١٥٠) ، إعجاز القرآن : (١٣٠) ، اللسان : نقص ، الدر المصون : (١ / ١٧٧).

(٢) قرأ بها الأعرج فيما رواه عنه أسيد ، وكذلك قرأ بها ابن هرمز.

انظر البحر المحيط : ١ / ٢٩٠ ، والدر المصون : ١ / ١٧٧ ، والقرطبي : ١ / ١٩٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١١٨.

(٣) البيت للشريف الرضي ينظر ديوانه : ١ / ٤٩٧ ، وحاشية الشيخ ياسين : ١ / ١٨٤ ، والدرر : ٤ / ٨٧ ، وللشريف المرتضى في مغني اللبيب : ٢ / ٦٦٨ ، شرح الأشموني : ٣ / ٥٦٦ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣ ، الدر المصون : ١ / ١٧٧.

(٤) وهي قراءة أبي حيوة ، وابن أبي عبلة.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١١٨ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٠ ، والدر المصون : ١ / ١٧٧.

(٥) انظر البحر المحيط : ١ / ٢٩٠ ، والدر المصون : ١ / ١٧٧.

٥٠٤

وقرىء أيضا (١) مشددا للتكثير. و «السّفك» : هو الصّب ، ولا يستعمل إلّا في الدم.

وقال ابن فارس والجوهري : «يستعمل أيضا في الدمع».

وقال «المهدويّ» : ولا يستعمل السّفك إلّا في الدم ، وقد يستعمل في نثر الكلام ، يقال: سفك الكلام ، أي : نثره.

و «السّفاك» : السفاح ، وهو القادر على الكلام.

و «الدّماء» جمع «دم» ولا يكون اسم معرب على حرفين ، فلا بدّ له من ثالث محذوف هو لامه ، ويجوز أن تكون «واوا» وأن تكون «ياء» ؛ لقولهم في التثنية «دموان» و «دميان» ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٣٥٩ ـ فلو أنّا على حجر ذبحنا

جرى الدّميان بالخبر اليقين (٢)

وهل وزن دم : «فعل» بسكون العين ، أو «فعل» بفتحها؟ قولان ؛ وقد يردّ محذوفه ، فيستعمل مقصورا ك «عصا» ؛ وعليه قول الشاعر :

٣٦٠ ـ كأطوم فقدت برغزها

أعقبتها الغبس منه عدما

غفلت ثمّ أتت ترقبه

فإذا هي بعظام ودما (٣)

«الأطوم» : الناقة ، «وبرغزها» : ولدها ، و «الغبس» : الضباع.

وقد تشدّد ميمه ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٣٦١ ـ أهان دمّك فرغا بعد عزّته

يا عمرو بغيك إصرارا على الحسد (٤)

وأصل الدّماء : «الدّماو» أو «الدّماي» فقلب حرف العلّة همزة لوقوعه طرفا بعد ألف زائدة ، نحو : «كساء» و «رداء».

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٢٩٠ ، الدر المصون : ١ / ١٧٧.

(٢) البيت للمثقب العبدي ينظر ملحق ديوانه : ص ٢٨٣ ، والمقاصد النحوية : ١ / ١٩٢ ، والأزهية : ص ١٤١ ، ولعلي بن بدال في أمالي الزجاجي : ص ٢٠ ، وخزانة الأدب : ١ / ٢٦٧ ، وشرح شواهد الشافية : ص ١١٢ ، وللمثقب أو لعلي بن بدال ينظر خزانة الأدب : ٧ / ٤٨٢ ، ٤٨٥ ، ٤٨٦ ، ٤٨٨ ، الإنصاف : ١ / ٣٥٧ ، وجمهرة اللغة : ص ٦٨٦ ، ١٣٠٧ ، ورصف المباني : ص ٢٤٢ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٣٩٥ ، وشرح الأشموني : ٣ / ٦٦٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٢ / ٦٤ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٨١ ، وشرح المفصل : ٤ / ١٥١ ، ١٥٢ ، ٥ / ٨٤ ، ٦ / ٥ ، ٩ / ٢٤ ، ولسان العرب (أخا) ، (وفي) ، والمقتضب : ١ / ٢٣١ ، ٢ / ٢٣٨ ، ٣ / ١٥٣ ، والمقرب : ٢ / ٤٤ ، والممتع في التصريف : ٢ / ٦٢٤ ، والمنصف : ٢ / ١٤٨ ، الدر المصون : (١ / ١٧٨).

(٣) ينظر البيتان في المنصف : (٢ / ١٤٨) ، ابن الشجري : (٢ / ٣٤) ، الهمع : (١ / ٣٩) ، الدرر : (١ / ١٣) ، رصف المباني : (١٦) ، ابن يعيش : (٥ / ٨٤) ، الخزانة : (٧ / ٤٩١) ، الجوزي : (١ / ٦ / ٦١) ، الدر المصون : (١ / ١٧٨).

(٤) ينظر البيت في الهمع : (١ / ١٢٠) ، الدرر : (١ / ١٣) ، الدر المصون : (١ / ١٧٨).

٥٠٥

فإن قيل : الملائكة لا يعملون إلا بما علموا ، ولا يسبقونه بالقول ، فكيف قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)؟.

فالجواب : اختلف العلماء فيه ، فمنهم من قال : إنهم ذكروا ذلك عن ظنّ قياسا على حال الجنّ الذين كانوا في الأرض قبل آدم عليه الصّلاة والسّلام ، قاله ابن عباس ، والكلبي وأحمد بن يحيى.

الثّاني : أنهم عرفوا خلقة آدم ، وعرفوا أنه مركّب من الأخلاط الأربعة فلا بد وأن يتولد منه المشهور بالغضب ، فيتولّد الفساد من الشّهوة ، وسفك الدماء من الغضب.

ومنهم من قال : إنهم قالوا ذلك على يقين ، وهو مروي عن «ابن مسعود» وناس من الصحابة ، وذكروا وجوها :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لما قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟.

قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ، ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضا ، فعند ذلك قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ؟).

إما على طريق التعجّب من استخلاف الله من يعصيه ، أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه ، وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والاستكبار للفعلين جميعا الاستخلاف والعصيان.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء.

وثالثها : قال ابن زيد : لما خلق الله النّار خافت الملائكة خوفا شديدا ، فقالوا : ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال : لمن عصاني من خلقي ، ولم يكن لله يومئذ خلق سوى الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة ، فلما قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) عرفوا أن المعصية تظهر منهم.

ورابعها : لما كتب القلم في اللوح [المحفوظ](١) ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فلعلّهم طالعوا اللّوح ، فعرفوا ذلك.

وخامسها : إذا كان معنى الخليفة من يكون نائبا لله في الحكم والقضاء ، والاحتياج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع ، والتّظالم ، فكان الإخبار عن وجود الخليفة إخبارا عن وقوع الفساد والشّرّ بطريق الالتزام.

__________________

(١) سقط في ب.

٥٠٦

وسادسها : قال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا ، قالوا : أتجعل فيها الّذي علمناه أم غيره.

قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) الواو : للحال ، و «نحن نسبح» : جملة من مبتدأ وخبر في محلّ النصب على الحال.

و «بحمدك» : متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال أيضا ، و «الباء» فيه للمصاحبة أي : نسبّح ملتبسين بحمدك ، نحو : جاء زيد بثيابه. فهما حالان متداخلان ، أي حال في حال.

وقيل : «الباء» للسببية فتتعلّق بالتسبيح ، قال «ابن عطية» : ويحتمل أن يكون قولهم: «بحمدك» اعتراضا بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضا على جهة التسليم ، أي : وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك وكأنه يحاول أنه تكون «الباء» للسببية ، ولكن يكون ما تعلّقت به «الباء» فعلا محذوفا لائقا بالمعنى تقديره : حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك.

و «الحمد» هنا : مصدر مضاف لمفعوله ، وفاعله محذوف تقديره بحمدنا إيّاك ، وزعم بعضهم أنّ الفاعل مضمر فيه ، وهو غلط ؛ لأنّ المصدر اسم جامد لا يضمر فيه على أنه قد حكي الخلاف في المصدر الواقع موقع الفعل ، نحو : «ضربا زيدا» هل يتحمّل ضميرا أم لا وقد تقدم.

و «نقدّس» عطف على «نسبّح» فهو خبر أيضا عن «نحن» ، ومفعوله محذوف أي: نقدس أنفسنا وأفعالنا لك.

و «لك» متعلّق به ، أو ب «نسبح» ومعناها العلّة.

وقيل : زائدة ، فإنّ ما قبلها متعدّ بنفسه ، وهو ضعيف ، إذ لا تزاد «اللّام» إلا مع تقديم المعمول ، أو يكون العامل فرعا.

وقيل : هي معدّية ، نحو : «سجدت لله».

وقيل : للبيان كهي في قولك : «سقيا لك» فعلى هذا تتعلّق بمحذوف ، ويكون خبر مبتدأ مضمر أي : تقديسا لك.

وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم : أعني ؛ لأنه أليق بالموضع. وأبعد من زعم أن جملة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره : وأنحن نسبح أم نتغير؟ واستحسنه ابن عطية (١) مع القول بالاستفهام المحض في قولهم : «أتجعل» وهذا يأباه الجمهور ، أعني : حذف همزة الاستفهام من غير ذكر «أم» المعادلة وهو رأي «الأخفش» ، وجعل من ذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] أي : وأتلك نعمة.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١١٨.

٥٠٧

وقول الآخر : [الطويل]

٣٦٢ ـ طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا منّي وذو الشّيب يلعب (١)

أي : وأذو الشيب؟.

وقول الآخر : [المنسرح]

٣٦٣ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

أورث ذودا شصائصا نبلا (٢)

أي : أأفرح؟

فأما مع «أم» فإنه جائز لدلالتها عليه ؛ كقوله : [الطويل]

٣٦٤ ـ لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان (٣)

أي : أبسبع؟

و «التسبيح» : التنزيه والبراءة ، وأصله من السّبح وهو البعد ، ومنه السّابح في الماء ، فمعنى «سبحان الله» أي : تنزيها له وبراءة عما لا يليق بجلاله ومنه : [السريع]

٣٦٥ ـ أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (٤)

أي : تنزيها ، وهو مختص بالباري تعالى.

قال «الراغب» في قوله : سبحان من علقمة الفاخر إن أصله : سبحان علقمة ، على سبيل التهكّم فزاد فيه «من».

__________________

(١) البيت للكميت في جواهر الأدب : ص ٣٦ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٣١٣ ، ٣١٤ ، ٣١٥ ، ٣١٩ ، ١١ / ١٢٣ ، والدرر : ٣ / ٨١ ، وشرح شواهد المغني : ص ٣٤ ، والمحتسب : ١ / ٥٠ ، ٢ / ٢٠٥ ، ومغني اللبيب : ص ١٤ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ١١٢ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٩ ، الدر المصون : ١ / ١٧٩.

(٢) ينظر البيت في الكشاف : (٤ / ٢٩٦) ، التهذيب : (١١ / ٢٦٣) ، التفتازاني : (٢ / ٧٩٠) ، اللسان : جزأ ، الدر المصون : (١ / ١٧٩).

(٣) البيت لعمر بن أبي ربيعة ينظر ديوانه : ص ٢٦٦ ، وخزانة الأدب : ١١ / ١٢٢ ، ١٢٤ ، ١٢٧ ، ١٣٢ ، والدرر : ٦ / ١٠٠ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ١٥١ ، والكتاب : ٣ / ١٧٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٣١ ، وشرح المفصل : ٨ / ١٥٤ ، ومغني اللبيب : ١ / ١٤ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ١٤٢ ، والأزهية : ص ١٢٧ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب : ص ٣٥ ، والمحتسب : ١ / ٥٠ ، والمقتضب : ٣ / ٢٩٤ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤٩٦ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٦٢٠ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ١٨٤ ، ورصف المباني : ص ٤٥ ، والجنى الداني : ص ٣٥ ، وهمع الهوامع : ٢ / ١٣٢ ، الدر المصون : ١ / ١٧٩.

(٤) البيت للأعشى في ديوانه : ص ١٩٣ ، وأساس البلاغة (سبح) ، الأشباه والنظائر : ٢ / ١٠٩ ، جمهرة اللغة : ص ٢٧٨ ، خزانة الأدب : ١ / ١٨٥ ، ٧ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨ ، الخصائص : ٢ / ٤٣٥ ، الدرر : ٣ / ٧٠ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ١٥٧ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٩٠٥ ، شرح المفصل : ١ / ٣٧ ، ١٢٠ ، الكتاب : ١ / ٣٢٤ ، لسان العرب (سبح) ، خزانة الأدب : ٣ / ٣٨٨ ، ٦ / ٢٨٦ ، والمقتضب : ٣ / ٢١٨ ، المقرب : ١ / ١٤٩ ، همع الهوامع : ١ / ١٩٠ ، ٢ / ٥٢ ، الدر المصون : ١ / ١٧٩.

٥٠٨

وقيل : تقديره : سبحان الله من أجل علقمة ، فظاهر قوله أنه يجوز أن يقال لغير الباري على سبيل التهكّم ، وفيه نظر.

و «التقديس» : التّطهير ، ومنه الأرض المقدّسة ، وبيت المقدس ، وروح القدس ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٣٦٦ ـ فأدركنه يأخذن بالسّاق والنّسا

كما شبرق الولدان ثوب المقدّس (١)

أي : المطهّر لهم.

وقال : «الزمخشري» (٢) : هو من قدس في الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد ، فمعناه قريب من معنى «نسبّح».

ثم اختلفوا على وجوه :

أحدها : نطهرك أي : نصفك بما يليق بك من العلو والعزّة.

وثانيها : قول مجاهد : نطهر أنفسنا من ذنوبنا ابتغاء لمرضاتك.

وثالثها : قول أبي مسلم : نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون خالصة لك.

ورابعها : نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك.

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلّ على مذهبنا من وجوه :

أحدها : قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم ، فلو كانت أفعالا لله ـ تعالى ـ لما حسن التمدّح بذلك ، ولا فضل لذلك على سفك الدماء ؛ إذ كل ذلك من فعل الله تعالى.

وثانيها : إذا كان لا فاحشة ، ولا ظلم ، ولا وجود إلّا بصنعه وخلقه ومشيئته ، فكيف يصح التنزيه والتقديس؟

وثالثها : أن قوله : (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يدلّ على مذهب العدل ، لأنه لو كان خالقا للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر ، فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا ، فلما لم يرض بهذا الجواب سقط هذا المذهب.

ورابعها : لو كان الفساد والقتل من فعل الله ـ تعالى ـ لكان ذلك جاريا مجرى أجسامهم ، وألوانهم ، وكما لا يصح التعجّب من هذه الأشياء ، فكذا من الفساد والقتل.

والجواب : المعارضة بمسألة الداعي والعلم ، والله أعلم.

قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) ينظر ديوان امرىء القيس : (١٠٤) ، القرطبي : (١ / ١٩١) ، اللسان قدس ، الدر المصون : (١ / ١٨٠).

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٢٥.

٥٠٩

أصل «إنّي» : إنّني ، فاجتمع ثلاثة أمثال ، فحذفنا أحدها ، وهل هو «نون» الوقاية ، أو «النون» الوسطى؟

قولان : الصحيح الثاني ، وهذا شبيه (١) بما تقدم في (إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] وبابه ، والجملة في محل نصب بالقول.

و «أعلم» يجوز فيه أن يكون فعلا مضارعا ، وهو الظاهر ، و «ما» مفعول به ، وهي: إما نكرة موصوفة أو موصولة ، وعلى كل تقدير ، فالعائد محذوف لاستكماله الشروط ، أي : تعلمونه.

وقال «المهدي ، ومكّيّ» (٢) وتبعهما «أبو البقاء» (٣) : إن «أعلم» اسم بمعنى «عالم» ؛ كقوله : [الطويل]

٣٦٧ ـ لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل

على أيّنا تعدو المنيّة أوّل (٤)

ف «ما» يجوز فيها أن تكون في محلّ جر بالإضافة ، أو نصب ب «أعلم» ، ولم ينون «أعلم» لعدم انصرافه بإجماع النحاة.

واختلفوا في أفعل إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه نحو : «هؤلاء حواجّ بيت الله».

وهذا مبني على أصلين ضعيفين :

أحدهما : جعل «أفعل» بمعنى «فاعل» من غير تفضيل.

والثاني : أن «أفعل» إذا كانت بمعنى اسم الفاعل عملت عمله ، والجمهور لا يثبتونها.

وقيل : «أعلم» على بابها من كونها للتفضيل ، والمفضل عليه محذوف ، أي : أعلم منكم ، و «ما» منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه «أفعل» أي : علمت ما لا تعلمون ، ولا جائز أن ينصب ب «أفعل» التفضيل ؛ لأنه أضعف من الصفة المشبّهة التي هي أضعف من اسم الفاعل الذي هو أضعف من الفعل في العمل ، وهذا يكون نظير ما أوّلوه من قول الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) في ب : يشبه.

(٢) ينظر المشكل : ١ / ٣٥.

(٣) ينظر الإملاء : ١ / ٢٨.

(٤) البيت لمعن بن أوس في ديوانه : ٣٩ ، خزانة الأدب : ٨ / ٢٤٤ و ٢٤٥ و ٢٨٩ و ٢٩٤ ، شرح التصريح : ٢ / ٥١ ، شرح ديوان لحماسة للمرزوقي : ١١٢٦ ، لسان العرب (كبر) ، (وجل) ، المقاصد النحوية : ٣ / ٤٩٣ ، الأشباه والنظائر : ٨ / ١٤٠ ، وأوضح المسالك : ٣ / ١٦١ ، جمهرة اللغة : ٤٩٣ ، شرح الأشموني : ٢ / ٣٢٢ ، شرح شذور الذهب : ١٣٣ ، شرح قطر الندى : ٢٣ ، شرح المفصل : ٤ / ٨٧ ، القرطبي : ١ / ١٩١ ، والمنصف : ٣ / ٣٥ ، أمالي ابن الشجري : ١ / ٣٢٨ ، والدر المصون : ١ / ١٨٠.

٥١٠

٣٦٨ ـ فلم أر مثل الحيّ حيّا مصبّحا

ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا

أكرّ وأحمى للحقيقة منهم

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (١)

ف «القوانس» منصوب بفعل مقدر أي : ب «ضرب» لا ب «أضرب» ، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد الحذف يتبيّن المفضل عليه ، والناصب ل «ما».

فصل في بيان علام الجواب في الآية

اختلف علماء التأويل في هذا الجواب وهو قوله : «إنّي أعلم ما لا تعلمون» فقيل : إنه جواب لتعجّبهم ، كأنه قال : لا تتعجّبوا من أن فيهم من يفسد ، ويقتل ، فإني أعلم مع هذا أن فيهم صالحين ، ومتّقين ، وأنتم لا تعلمون.

وقيل : إنه جواب لغمّهم كأنه قال : لا تغتمّوا بسبب وجود المفسدين ، فإني أعلم أيضا أن فيهم جمعا من المتّقين ، ومن لو أقسم على لأبرّه. وقيل : إنه طلب الحكمة كأنه قال : إن مصلحتكم أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل. بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم.

وقال «ابن عباس» : كان «إبليس» ـ لعنه الله ـ قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السّماء ، وشرفه ، فاعتقد أن ذلك لمزيّة له ، فاستحب الكفر والمعصية في جانب آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالت الملائكة : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك ، فقال الله لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) ، وقيل : المعنى عام ، أي : أعلم ما لا تعلمون مما كان ، وما يكون ، وما هو كائن.

قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣١)

اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة ، فأجابهم على سبيل الإجمال بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أراد الله تعالى أن يزيدهم بيانا ، وأن يفصّل لهم ذاك المجمل ، فبين تعالى لهم من فضل آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما لم يكن معلوما لهم ، وذلك بأن علم آدم الأسماء

__________________

(١) البيتان للعباس بن مرداس ينظر ديوانه : ص ٦٩ ، والأصمعيات : ص ٢٠٥ ، وحماسة البحتري : ص ٤٨ ، وخزانة الأدب : ٨ / ٣١٩ ، ٣٢١ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٣٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٤٤١ ، ١٧٠٠ ، ولسان العرب (قنس) ، ونوادر أبي زيد : ص ٥٩ ، وخزانة الأدب : ٧ / ٢١٠ والأشباه والنظائر : ١ / ٣٤٤ ، ٤ / ٧٩ ، وأمالي ابن الحاجب : ١ / ٤٦٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٩١ ، ومغني اللبيب : ص ٢ / ٦١٨ ، الكشاف : ٤ / ٤٢٩ ، الدر المصون : ١ / ١٨٠.

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٩٥).

٥١١

كلها ، ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله ، وقصورهم عنه في العلم ، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي.

فصل في إعراب الآية

قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) هذه الجملة يجوز ألّا يكون لها محلّ من الإعراب ، لاستئنافها ، وأن يكون محلها الجر ، لعطفها على «قال ربّك».

و «علم» متعدّية إلى اثنين ، وكانت قبل التضعيف متعدية لواحد ؛ لأنها عرفانية ، فتعدّت بالتضعيف لآخر ، وفرقوا بين «علم» العرفانية واليقينيّة في التعدية ، فإذا أرادوا أن يعدوا اليقينية عدوها بالهمزة ذكر ذلك «أبو علي الشّلوبين».

وفاعل «علم» يعود على الباري تعالى ، و «آدم» مفعوله.

وآدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كنيته أبو البشر ، وقيل : أبو محمد ذكره السّهيلي ، وقيل : كنيته في الأرض أبو البشر ، وكنيته في الجنة أبو محمد.

وأصله بهمزتين ، لأنه «أفعل» إلا أنهم ليّنوا الثانية ، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها «واوا» فقلت : «أوادم» في الجمع ؛ لأنه ليس لها أصل في الياء معروف ، فجعلت الغالب عليها الواو ، عن «الأخفش».

وفي «آدم» ستة أقوال : أرجحها أنه اسم أعجمي لا اشتقاق فيه ، ووزنه «فاعل» كنظائره نحو : «آزر» و «شالخ» ، وإنّما منع من الصّرف للعلمية والعجمة الشخصية.

والثاني : أنه مشتقّ من «الأدمة» ، وهي حمرة تميل إلى السّواد ، واختلفوا في الأدمة ، فزعم «الضّحاك» أنها السّمرة ، وزعم «النّضر» أنها البياض ، وأن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان أبيض ، مأخوذ من قولهم : ناقة أدماء ، إذا كانت بيضاء ، وعلى هذا الاشتقاق جمعه «أدم» و «أوادم» ، ك «حمر» و «أحامر» ، ولا ينصرف بوجه.

الثالث : أنه مشتقّ من أديم الأرض ، وهو وجهها. ومنع من الصّرف على هذين القولين للوزن والعلميّة.

الرابع : أنه مشتقّ من أديم أيضا على هذا الوزن أعني وزن فاعل ، وهذا خطأ ، لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، لأن كونه مشتقّ من الأدمة ، وهو أديم الأرض جمعه «آدمون» فيلزم قائلو هذه المقالة صرفه.

الخامس : أنه عبريّ من الإدام ، وهو التراب.

السّادس : قال «الطبري» : إنه في الأصل فعل رباعي مثل : «أكرم» ، وسمي به لغرض إظهار الشيء حتى تعرف جهته.

والحاصل أن ادّعاء الاشتقاق فيه بعيد ؛ لأن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ولا تصريف.

٥١٢

و «آدم» وإن كان مفعولا لفظا فهو فاعل معنى ، و «الأسماء» مفعول ثان ، والمسألة من باب «أعطى وكسا» ، وله أحكام تأتي إن شاء الله تعالى.

وقرىء (١) : «علّم» مبنيا للمفعول و «آدم» رفع لقيامه مقام الفاعل. و «كلّها» تأكيد للأسماء تابع أبدا ، وقد يلي العوامل كما تقدّم.

وقوله : «الأسماء كلّها» الظاهر أنه لا يحتاج إلى ادّعاء حذف ؛ لأن المعنى : وعلم آدم الأسماء ، ولم يبين لنا أسماء مخصوصة ، بل دلّ قوله : «كلها» على الشّمول ، والحكمة حاصلة بتعلّم الأسماء ، وإن لم يعلم مسمياتها ، أو يكون أطلق الأسماء ، وأراد المسميات ، فعلى هذين الوجهين لا حذف.

وقيل : لا بدّ من حذف ، واختلفوا فيه ، فقيل : تقديره : أسماء المسميات ، فحذف المضاف إليه للعلم.

قال الزمخشري : وعوض منه «اللام» ، كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] ورجّح هذا القول بقوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) ، (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ولم يقل : «أنبئوني بهؤلاء» ، «فلمّا أنبأهم بهم» ولكن في قوله «وعوض منه اللام» نظر ؛ لأن الألف واللام لا تقوم مقام الإضافة عند البصريين. وقيل : تقديره : مسميات الأسماء ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ورجح هذا القول بقوله : «ثمّ عرضهم» لأن الأسماء لا تجمع كذلك ، فدلّ عوده على المسميات ، ونحو هذه الآية قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ) [النور : ٤٠].

تقديره : أو كذي ظلمات ، فالهاء في «يغشاه» تعود على «ذي» المحذوف.

فصل في المراد بالأسماء في الآية

اختلف أهل التّأويل في معنى الأسماء التي علّمها لآدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن جبير : علمه أسماء جميع الأشياء كلّها جليلها وحقيرها(٢).

وروى عاصم بن كليب عن سعد (٣) مولى الحسن بن علي قال : «كنت جالسا عند ابن عباس ، فذكروا اسم الآنية واسم السّوط ، قال ابن عباس : وعلّم آدم الأسماء كلّها».

وروي عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، وقتادة : «علمه أسماء كلّ شيء حتى القصعة

__________________

(١) قرأ بها يزيد اليزيدي واليماني والحسن.

انظر الشواذ : ٤ ، المحرر الوجيز : ١ / ١١٩ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٤ ، والدر المصون : ١ / ١٨١ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٨٤.

(٢) ذكر هذه الآثار السيوطي في «الدر المنثور» ١ / ١٠٠ ـ ١٠١.

(٣) سعيد بن مبروز الطائي ، بالولاء ، أبو البحتري ثائر ، من فقهاء أهل الكوفة. ـ

٥١٣

والقصيعة وحتى الجفنة والمحلب» وعن قتادة قال : علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم تعلم الملائكة (١) ، وسمى كل شيء باسمه ، وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه.

قال النّحّاس : «وهذا أحسن ما روي».

وقال الطبري «علمه أسماء الملائكة وذرّيته» واختار هذا ، ورجّحه بقوله : «ثم عرضهم».

وقال القتيبي «أسماء ما خلق في الأرض».

وقيل : أسماء الأجناس والأنواع.

وقال الربيع بن أنس (٢) : «أسماء الملائكة».

وقيل : أسماء ذرّيته.

وقيل : أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.

وقيل : صنعة كلّ شيء.

وقال أصحاب التأويل : إن الله ـ عزوجل ـ علم آدم جميع اللّغات ، ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد ، واختص كل فرقة منهم بلغة.

فصل في بيان أن اللغات توقيفية أو اصطلاحية؟

قال «الأشعري» و «الجبائي» و «الكعبي» : اللّغات كلها توقيفية ، بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ ، وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعة (٣)

__________________

ـ ثقة في الحديث ، روى عن ابن عباس وطبقته. وثار على الحجّاج مع ابن الأشعث ، فجاء القراء يؤمّرونه عليهم ، فاعتذر بأنّه من الموالي ، ونصحهم بتأمير رجل من العرب ، فأمّروا جهم بن زحر الخثعمي ، ولما كانت وقعة «دير الجماجم» طعنه أحد رجال الحجاج برمح فقتله سنة ٨٢ ه‍.

انظر إيضاحات عن المسائل السياسية : ١٢٢ ، تاريخ الصحافة العربية : ٤ / ٤٢٠ ، الأعلام : ٣ / ٩٩.

(١) انظر «الدر المنثور» (١ / ١٠٠ / ١٠١) للسيوطي و «جامع البيان» للطبري (١ / ٤٨٣ ، ٤٨٤ ، ٤٨٥).

(٢) في ب : خثيم.

(٣) والخلاف في أن اللغات توقيفية ، أو اصطلاحية ، جعله بعضهم مفرّعا على الخلاف في خلق الأفعال ؛ ولهذا كان مذهب «الأشعري» هنا التوقيف ؛ عملا بأصله في مسألة الكلام.

وقال ابن الحاجب في أماليه : يتفرع عليه ما إذا ثبت في لغة العرب لفظ يطلقونه على الباري ـ تعالى ـ.

فإن قلنا : إن الواضع الله لم يحتج إلى إذن من الشرع ؛ لثبوت أن الله ـ تعالى ـ هو الواضع.

وإن قلنا : إن الواضع العرب واحد أو جماعة ، لم يكفنا إطلاق اللفظ ؛ لجواز أن يطلقوا على الباري ـ تعالى ـ ما يمنع الشرع بعد وروده إطلاقه. انتهى.

وهذا مردود ؛ إذ لا يلزم من وضع اللغة الإذن في استعمالها ، ألا ترى أن كلمة «كفر» موضوعة قطعا ، ولا يتعلق بها إثم ولا عقاب ؛ كسائر ما يكون لغوا ولا مهملا.

واعلم أنّ القائلين بالتوقيف احتجّوا بالمنقول والمعقول : ـ

٥١٤

لتلك المعاني : لقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

__________________

ـ أما المنقول : فمن وجوه ثلاثة :

الأول : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

وجه التمسك به : أن الله ـ تعالى ـ صرّح أنه علّم آدم الأسماء كلها ، وعلّم ، أي : أوجد فيه العلم ؛ وذلك لأن التعليم تفعيل ، وهو لإثبات الأثر الثلاثي المشتقّ منه ، بالنقل عن أئمّة اللغة ، فيكون لإثبات العلم بالأسماء في آدم ، ويلزم من ذلك التّوقيف ؛ وذلك لأن الأسماء بأسرها توقيفية ، على ما صرّح به في الآية ، وبيّنا وجه التمسك بها ، فيلزم كون الأفعال والحروف أيضا توقيفية ؛ لوجوه ثلاثة : أحدها : عدم القائل بالفصل ؛ وذلك لأن من الناس من قال : تكون الأسماء والأفعال والحروف توقيفية ، ومنهم من قال : تكون الجميع اصطلاحية ، فالقول بكون الأسماء توقيفية دون الأفعال والحروف قول ثالث ، وهو باطل بالإجماع.

الثاني : أنه يتعذر الإعراب عن جميع المعاني التي في النفس بالأسماء وحدها ، فلا بد من تعلّم الأفعال والحروف ؛ ليحصل التمكن من التعبير عن جميع المعاني ، فتكون الأسماء والأفعال والحروف توقيفية ، وهو المطلوب.

الثالث : هو أن الاسم مشتقّ من السّمة وهي العلامة ، والأفعال والحروف علامات على مسمياتها ، فيلزم من ذلك دخولها تحت قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

أما الأول : فإنه مذهب بعض أئمة العربية ، ونحن نفرع على هذا المذهب.

وأما الثاني : فظاهر ، وأما تخصيص كل واحد من الاسمين باسم خاص ، وهو الفعل والحرف ، فذلك حادث وهو عرف النّحاة ، وأما الوضع الأول فهو ما ذكرناه.

الوجه الثاني من الوجوه النقلية الدالة على التوقيف : قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

وجه التمسك بالآية هو : أن الله ـ تعالى ـ ذمّهم على تسمية بعض الأشياء بما سمّوها به ، ولو لا أن تسمية غيرها من الله توقيف وإلا لما صحّ هذا الذمّ ؛ لكون الكل اصطلاحا منهم.

الثالث من الوجوه النقلية : قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ).

وجه التمسك بها : أن هذه الآية إنما سيقت للدلالة على كمال القدرة الأزلية ، فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون المراد بها : اختلاف تأليفات الألسنة واختلاف صورها ، أو اختلاف اللغات التي تجري على اللسان.

ووجه الحصر :

أن المراد من اللفظ إما الحقيقة أو المجاز قطعا ، الأول : وهو الحقيقة ، والثاني : وهو المجاز ، وقد تعيّن بدليل تبادره إلى الذهن دون غيره من مجازات هذا اللفظ.

وإذا ثبت المراد في أحدهما ، فنقول : لا يجوز حمل اللفظ عليهما ؛ لأنه حمل للفظ على الحقيقة والمجاز معا ، وذلك لا يجوز ؛ على ما سيأتي ، فتعيّن الحمل على أحدهما دون آخر.

وإذا ثبت ذلك ، فنقول : الحمل على اللغات الجارية على الألسنة أولى من الحمل على الألسنة ؛ لأن الاختلاف في اللغات أبلغ ، وأكمل من الاختلاف في الألسنة ؛ وذلك لأن صور الألسنة وأشكالها تتشابه جدّا ، ولا كذلك اللغات ، فتكون دلالة اختلاف اللغات على ما سيقت الآية لأجله أبلغ وآكد ، فتعيّن الحمل عليه.

ونقل «ابن الحاجب» الحمل على اللغات بالاتّفاق ، فصار تقدير الكلام ـ والله أعلم ـ :

٥١٥

وقال «أبو هاشم» : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية ، وأن الوضع لا بد وأن يكون مسبوقا على الاصطلاح ، واحتج بأمور :

أحدها : أنه لو حصل العلم الضروري بأنه ـ تعالى ـ وضع ذلك اللّفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله معلومة بالضرورة ، مع أن ذاته معلومة بالاستدلال ، وذلك محال ، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل ، لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللّغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل ، فالقول بالتوقيف فاسد.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ خاطب الملائكة ، وذلك يوجب تقدّم لغة على ذلك التكلم.

وثالثها : أن قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء ، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التّعليم ، وإذا كان كذلك كانت اللّغات حاصلة قبل ذلك التعليم.

__________________

ـ «ومن آياته ـ خلق اللغات» ، وذلك هو التوقيف.

وأما المعقول فمن وجهين :

الأول : هو أن الاصطلاح لا يتصور ، إلا بأن المصطلح يعرّف غيره ما اصطلح هو عليه ، من الألفاظ التي وضعها ، والمعاني التي وضع لها الألفاظ ، ولا يمكن التّعريف إلا بطريق ، ولا طريق إلا الألفاظ والكتابة وأيّما كان فذلك الطريق لا يفيد لذاته ؛ لما بيّنا أن دلالة الألفاظ ليست ذاتية ، فتعيّن أن يكون الطريق هو : إما الوضع أو الاصطلاح ، والكلام فيه كما في الأول ، فيلزم التسلسل ؛ وهو محال ، أو التوقيف ؛ وهو المطلوب.

الوجه الثاني من وجهي المعقول : هو أن الألفاظ لو كانت اصطلاحية ، لارتفع الأمان عن الشريعة ؛ لأنها لعلها على خلاف الواقع بأن بدّلت وغيّرت ، فلا يحصل لنا الوثوق بشيء من الأحكام المستفادة من الكتاب ؛ لاحتمال أنها كانت في الأصل لمعنى والمراد ذلك المعنى ، ثم غيّرت ونحن نحملها على ما غيّرت إليه دون الأول ؛ لجهلنا به الآن.

ولا يقال : هذا الاحتمال منقدح ، وإن قلنا بكونها توقيفية ؛ لأنّا نمنع ذلك ؛ وذلك لأن طريق التوقيف هو العلم الضروري ؛ بأنّ واضعا وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني ، ودخول التّحريف فيه ممنوع ؛ ولأن الوضع إذا كان من الله ، فالله يصونه عن التغيير والتحريف غالبا.

انظر البرهان لإمام الحرمين : ١ / ١٦٩ ، البحر المحيط للزركشي : ٢ / ٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٧٠ ، سلاسل الذهب للزركشي : ص ١٦٣ ، التمهيد للإسنوي : ص ١٣٥ ، نهاية السول له : ٢ / ١١ ، زوائد الأصول له : ص ٢١١ ، منهاج العقول للبدخشي : ١ / ٢٢٠ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ٤١ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ١ / ١٩٣ ، المنحول للغزالي : ص ٧٠ ، المستصفى له : ١ / ٣١٨ ، حاشية البناني : ١ / ٢٦٩ ، الإبهاج لابن السبكي : ١ / ١٩٤ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٢ / ٦٠ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ١ / ٣٥٢ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ١ / ٤٢ ، التحرير لابن الهمام : ص ١٦ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه : ١ / ٤٩ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ١ / ١١٥ ، تقريب الوصول لابن جزي : ص ٧١ ، نشر البنود للشنقيطي : ١ / ١٠٤ ، فواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري : ١ / ١٧٧ ، شرح الكوكب المنير للفتوحي : ص ٢٨.

٥١٦

ورابعها : أن آدم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ لما تحدّى الملائكة بعلم الأسماء ، فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقا في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات على ذلك التعليم.

فصل في بيان هل كان آدم نبيا قبل المعصية؟

قالت المعتزلة : إن علم آدم الأسماء معجزة دالّة على نبوّته ـ عليه الصلاة والسلام ـ والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حوّاء ، ولا يبعد أيضا أن يكون مبعوثا إلى من توجّه التحدي إليهم من الملائكة ؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول ، كبعثة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إلى لوط ـ عليه الصلاة والسّلام ـ واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة ، فوجب أن يكون معجزا ، وإذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت.

ولقائل أن يقول : لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة ؛ لأن حصول العلم باللّغة لمن علمه الله ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقض للعادة.

وأيضا فإما أن يقال : الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات ، فحينئذ تحصل المعارضة ، ولا تظهر المزية ، وإن لم يعلموا ذلك ، فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر من كون كلّ واحد من تلك الألفاظ اسما لكل واحد من تلك المعاني؟ واعلم أنه يمكن دفع هذا السّؤال من وجهين :

الأول : ربّما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات ، وكان كل صنف جاهلا بلغة الصنف الآخر ، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وإن آدم ـ عليه الصّلاة والسلام ـ لما عدّ عليهم جميع تلك اللّغات بأسرها عرف كل صنف إصابته في تلك اللّغة خاصّة ، فعرفوا بهذه الطريق صدقه إلّا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها ، فكان ذلك معجزا.

الثّاني : لا يمتنع أن يقال : إنه ـ تعالى ـ عرفهم قبل ذلك أنهم إذا سمعوا من آدم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أظهر فعلا خارقا للعادة ، فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ وهما عندنا جائزان.

واحتج من قطع بأنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ما كان نبيا في ذلك الوقت بوجوه :

أحدها : أنه لو كان نبيا في ذلك الزمان لكان قد صدرت منه المعصية بعد النبوة ، وذلك غير جائز.

وثانيها : لو كان رسولا في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثا إلى أحد ، أو لا يكون مبعوثا إلى أحد ، وإما أن يكون مبعوثا إلى الملائكة والإنس والجن ، والأوّل باطل ، لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ، ولا يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف ؛ لأن الرسول متبوع ، والأمّة تبع ، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل ، وأيضا

٥١٧

فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ، ولهذا قال الله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى البشر ، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حوّاء ، وحواء ما عرفت التكليف إلا بواسطة آدم لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] شافههما بهذا التكليف ، وما جعل آدم واسطة ، ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى الجن ؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجنّ ، ولا جائز أيضا أن يكون مبعوثا إلى أحد ، لأن المقصود من جعله رسولا التبليغ ، فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولا فائدة.

وثالثها : قوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) [طه : ١٢٢] دليل على أنه إنما اجتباه ربه بعد الزّلة ، فوجب أن يكون قبل الزّلة غير مجتبى ، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب ألا يكون رسولا ؛ لأن الاجتباء والرسالة متلازمان ، لأن الاجتباء لا معنى له إلّا التخصيص بأنواع التشريفات ، وكل من جعله الله رسولا ، فقد خصّه بذلك لقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ).

«ثم» : حرف للتّراخي كما تقدّم ، والضّمير في «عرضهم» للمسميات المقدّرة ، أو لإطلاق الأسماء وإرادة المسميات ، كما تقدم.

وقيل : يعود على الأسماء. ونقل عن ابن عباس ، ويؤيده قراءة أبيّ (١) «عرضها» ، وقراءة (٢) ابن مسعود (٣) : «عرضهنّ» إلا أن في هذا القول جعل ضمير غير العقلاء كضمير العقلاء أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناء منه أنه أطلق الأسماء ، وأراد المسميات كما تقدم وهو واضح.

و «على الملائكة» متعلّق ب «عرضهم».

قال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص ، لقوله تعالى : (عَرَضَهُمْ) وقوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).

وفي الحديث : «إنّه عرضهم أمثال الذّرّ» (٤).

__________________

(١) انظر الشواذ : ١٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٢٠ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٦ ، والدر المصون : ١ / ١٨٢ ، والقرطبي : ١ / ١٩٥.

(٢) في ب : ومن حرف.

(٣) ينظر تخريج القراءة السابقة.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٧٩ عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر ، في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجنا في جهنم ، يقال له : بولس فتعلوهم نار الأنيار ، ويسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار».

٥١٨

وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء (١).

فصل في بيان أول من تكلم بالعربية

اختلف في أوّل من تكلم بالعربية.

روى كعب الأحبار : أن أول من وضع الكتاب العربي والسّرياني والكتب كلها ، وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه الصلاة والسلام. فإن قيل : روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب قال : أوّل من تكلّم بالعربية جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه الصلاة والسلام ، وألقاها نوح على لسان ابنه سام.

وقد روي أيضا : أن أوّل من تكلّم بالعربية يعرب بن قحطان ، وروي غير ذلك ، والجواب الصحيح أن أول من تكلّم باللغات كلها من البشر آدم عليه الصلاة والسلام ـ والقرآن يشهد له. الآية.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وعلم آدم الأسماء كلّها حتّى القصعة والقصيعة» (٢) وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلّم بالعربية من ولد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إسماعيل عليه الصلاة والسّلام ، وكذلك إن صحّ ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلّم من قبيلته بالعربية.

وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة ، وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل ، على ما تقدم.

قوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).

«الإنباء» الإخبار ، وأصل أنبأ أن يتعدّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر كهذه الآية ، وقد يحذف حرف الجر ، قال تعالى : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) [التحريم : ٣] أي : بهذا ، وقد يتضمّن معنى أعلم اليقينية ، فيتعدّى تعديتها إلى ثلاثة مفاعيل ، ومثل أنبأ : نبّأ وأخبر ، وخبر وحدث.

و «هؤلاء» في محل خفض بالإضافة ، وهو اسم إشارة ، ورتبته دنيا ، ويمدّ ويقصر ؛ كقوله : [الخفيف]

٣٦٩ ـ هؤلى ثمّ هؤلى كلّا اعطي

ت نعالا محذوّة بمثال (٣)

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠١) عن ابن عباس ومجاهد.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٠٠) عن ابن عباس وأخرجه الطبري في تفسيره (١ / ٤٨٣) عن ابن عباس.

(٣) البيت للأعشى في ديوانه : ٦١ ، شرح المفصل : ٣ / ١٣٧ ، المقتضب : ٤ / ٢٧٨ ، البحر المحيط : ١ / ٢٨٥ ، القرطبي : ١ / ١٩٦ ، والدر المصون : ١ / ١٨٢.

٥١٩

والمشهور بناؤه على الكسر ، وقد يضم ، وقد ينوّن مكسورا ، وقد تبدل همزته هاء ، فيقال : هؤلاه ، وقد يقال : هولاء ؛ كقوله : [الوافر]

٣٧٠ ـ تجلّد لا يقل هولاء : هذا

بكى لمّا بكى أسفا عليكا (١)

ولامه عند الفارسي همزة فتكون فاؤه ولامه من مادّة واحدة ، وعند المبرد أصلها ياء ، وإنما قلبت همزة لتطرفها بعد الألف الزّائدة.

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تقدّم نظيره وجوابه محذوف أي : إن كنتم صادقين ، فأنبئوني. والكوفيون والمبرد يرون أن الجواب هو المتقدم ، وهو مردود بقولهم : «أنت ظالم إن فعلت» لأنه لو كان جوابا لوجبت الفاء معه كما تجب معه متأخرا.

وقال ابن عطية : إن كون الجواب محذوفا هو رأي المبرد ، وكونه متقدما هو رأي سيبويه ، وهو وهم ؛ لأن المنقول عن المبرد أن التقدير : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني. وهذه الآية دالة على فضيلة العلم.

قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(٣٣)

«سبحان» : اسم مصدر ، وهو التسبيح ، وقيل : بل هو مصدر ؛ لأنه سمع له فعل ثلاثيّ ، وهو من الأسماء اللّازمة للإضافة ، وقد يفرد ، وإذا أفرد ، منع الصّرف للتعريف ، وزيادة الألف والنون ؛ كقوله : [السريع].

٣٧١ ـ أقول لمّا جاءني فخره

سبحان ... (٢)

وقد جاء منوّنا كقوله : [البسيط]

٣٧٢ ـ سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به

وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد (٣)

فقيل : صرف ضرورة.

وقيل : هو بمنزلة «قبل» و «بعد» ، إن نوي تعريفه بقي على حاله ، وإن نكر أعرب منصرفا ، وهذا البيت يساعد على كونه مصدرا لا اسم مصدر ، لوروده منصرفا.

__________________

(١) ينظر تذكرة النحاة : ص ٥٠٦ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٤٣٧ ، ٤٣٨ ، وشرح المفصل : ٣ / ١٣٦ ، الدر المصون : ١ / ١٨٢.

(٢) تقدم برقم (٣٦٥).

(٣) ينظر ديوان أمية بن أبي الصلت : (٣٠) ، الخزانة : (٢٠ / ٣٧) ، الشجري : (١ / ٣٤٨) ، الدرر : (١ / ١٦٣) ، المقتضب : (٣ / ٢١٧) ، ابن يعيش : (١ / ٣٧ ، ١٢٠) (٤ / ٣٦) ، الهمع : (١ / ١٨٩٠) ، الدر المصون : (١ / ١٨٣).

٥٢٠