اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وشذّ دخول حرف الجر عليها ، قالوا : «على كيف تبيع الأحمرين».

وكونها شرطا قليل ، ولا يجزم بها خلافا للكوفيين ، وإذا أبدل منها اسم ، أو وقع جوابا ، فهو منصوب إن كان بعدها فعل متسلّط عليها نحو كيف قمت؟ أصحيحا أم سقيما؟ وكيف سرت؟ فتقول : راشدا ، وإلا فمرفوعان نحو : كيد زيد؟ أصحيح أم سقيم؟ وإن وقع بعدها اسم مسؤول عنه بها ، فهو مبتدأ ، وهي خبر مقدم ، نحو : كيف زيد؟

وقد يحذف الفعل بعدها ، قال تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا) [التوبة : ٨] أي : كيف توالونهم؟.

وكيف في هذه الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه ، أي : في أي حالة تكفرون؟ وعلى الحال عند الأخفش. أي : على أي حال تكفرون؟ والعامل فيها على القولين «تكفرون» ، وصاحب الحال الضمير في «تكفرون».

ولم يذكر أبو البقاء غير مذهب الأخفش ، ثم قال : والتقدير : معاندين تكفرون؟ وفي هذا التقدير نظر ؛ إذ يذهب معه معنى الاستفهام المقصود به التعجّب ، أو التوبيخ ، أو الإنكار.

قال الزمخشري (١) بعد أن جعل الاستفهام للإنكار : وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها ، وقد علم أن كلّ موجود لا بدّ له من حال ، ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكارا لوجوده على الطريق البرهاني.

وفي الكلام التفات من الغيبة في قوله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخره إلى الخطاب في قوله : «تكفرون» و «كنتم».

وفائدته : أن الإنكار إذا توجّه إلى المخاطب كان أبلغ.

وجاء «تكفرون» مضارعا لا ماضيا ؛ لأن المنكر الدّوام على الكفر ، والمضارع هو المشعر بذلك ، ولئلا يكون ذلك توبيخا لمن آمن بعد كفر. و «كفر» يتعدّى بحرف الجر نحو : «تكفرون بالله» (تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) [آل عمران : ٧٠](كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت : ٤١] وقد يتعدّى بنفسه في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) [هود : ١٨] وذلك لما ضمن معنى جحدوا.

فإن قيل : كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب ، وهم لم يكفروا بالله؟

فالجواب أنهم [لما](٢) لم يسمعوا أمر محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يصدقوه فيما جاء به ، فقد أشركوا ؛ لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله ، ومن يزعم أن القرآن من كلام البشر ، فقد أشرك بالله ، وصار ناقضا للعهد.

__________________

(١) ينظر الكشاف : ١ / ١٢١.

(٢) سقط في ب.

٤٨١

فصل في الرد على المعتزلة

قال المعتزلة : هذه الآية تدلّ على أن الكفر من قبل العباد من وجوه :

أحدها : أنه ـ تعالى ـ لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول : «كيف تكفرون بالله» موبخا لهم ، كما لا يجوز أن يقول : كيف تسودّون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك كله من خلقه فيهم.

وثانيها : إذا كان خلقهم أولا للشقاء والنار ، وما أراد بخلقهم إلّا الكفر (١) وإرادة الوقوع في النّار ، فكيف يصح أن يقول موبخا لهم : «كيف تكفرون»؟.

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ إذا قال للعبيد كيف تكفرون بالله ، فهذا الكلام إما أن يكون موجها للحجّة على العبد ، وطلبا للجواب منه ، أو ليس كذلك ، فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة ، فيكون هذا الخطاب عبثا ، وإن ذكره لتوجيه الحجّة على العبد ، فللعبد أن يقول : حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر.

فالأول : أنك علمت بالكفر منّي ، والعلم بالكفر يوجب الكفر.

والثاني : أنك أردت الكفر مني ، وهذه الإرادة موجبة له.

والرابع : أنك خلقت فيّ قدرة موجبة للكفر.

والخامس : أنك خلقت فيّ إرادة موجبة للكفر.

والسادس : أنك خلقت فيّ قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر.

ثم لما حصلت هذه الأسباب السّتة في حصول الكفر ، فالإيمان متوقّف على حصول هذه الأسباب السّتة في طرف الإيمان ، وهي بأسرها كانت مفقودة ، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سببا واحد منها مستقل [بالمنع من الإيمان](٢) ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال : كيف تكفرون بالله؟ وآيات أخر تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.

والجواب عن هذا أنّ الله ـ سبحانه ـ علم أنه لا يكون ، فلو وجد [لانقلب عليه](٣) جهلا ، وهو محال ، ووقوعه محال ، وأيضا فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدرا للإيمان على التعيين إلّا لمرجح ، وذلك المرجّح إن كان من العبد عاد السؤال ، وإن كان من الله ، فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر ، وإذا حصل ذلك المرجح وجب ، وعلى هذا يعقل قوله : «كيف تكفرون» قاله ابن الخطيب.

قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) «الواو» : «واو» الحال ، وعلامتها أن يصلح موضعها

__________________

(١) في أ : للكفر.

(٢) في أ : بالإيمان.

(٣) في أ : ينقلب.

٤٨٢

«إذ». [والجملة في](١) موضع نصب على الحال ، ولا بد من إضمار «قد» ليصح وقوع الماضي حالا.

وقال الزمخشري (٢) : فإن قلت : كيف صح أن يكون حالا ، وهو ماض؟

قلت : لم تدخل «الواو» على «كنتم أمواتا» وحده ، ولكن على جملة قوله : «كنتم أمواتا» إلى «ترجعون» كأنه قيل : كيف تكفرون بالله ، وقصتكم (٣) هذه ، وحالكم أنكم كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم أحياء ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ثم يحييكم بعد الموت ، ثم يحاسبكم؟.

ثم قال : فإن قلت : بعض القصّة ماض ، وبعضها مستقبل ، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه ، فما الحاضر الذي وقع حالا؟

قلت : هو العلم بالقصّة كأنه قيل : كيف تكفرون ، وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها؟.

قال أبو حيان ما معناه : هذا تكلّف ، يعني تأويله هذه الجملة بالجملة الاسمية. قال : والذي حمله على ذاك اعتقاده أن الجمل مندرجة في حكم الجملة الأولى ، قال : ولا يتعيّن ، بل يكون قوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وما بعده جملا مستأنفة أخبر بها ـ تعالى ـ لا داخلة تحت الحال ، ولذلك غاير بينها وبين ما قبلها من الجمل بحرف العطف ، وصيغة الفعل السّابقين لها في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

و «الفاء» في قوله «فأحياكم» على بابها من التّعقيب ، و «ثمّ» على بابها من التّراخي ؛ لأن المراد بالموت الأول العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثاني الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث ، فجاءت الفاء ، و «ثم» على بابهما من التّعقيب والتراخي على هذا التفسير ، وهو أحسن الأقوال.

ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد (٤) ، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن البعث.

قال ابن عطية : وهذا القول هو المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما ، وإذا أذعنت نفوس الكفّار لكونهم أمواتا معدومين ، ثم الإحياء في الدنيا ، ثم الإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجّة عليها ، والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا.

__________________

(١) في أ : وجملة قسم.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ١٢١.

(٣) في أ : وقضيتكم.

(٤) ذكر هذه الآثار السيوطي في الدر المنثور : ١ / ٨٨.

٤٨٣

وقيل : لم يعتدّ بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ، ثم أحياه في الدنيا.

وقيل : كنتم أمواتا في ظهر آدم ، ثم أخرجكم من ظهره كالذّرّ ، ثم يميتكم موت الدنيا ، ثم يبعثكم.

وقيل : كنتم أمواتا ـ أي نطفا ـ في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم في القبر للمسألة ، ثم يميتكم في القبر ، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر وهي الحياة التي ليس بعدها موت.

قال القرطبي : فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات ، وثلاث إحياءات ، وكونهم موتى في ظهر ابن آدم ، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال ، وأرحام النساء ، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات.

وقد قيل : إن الله ـ تعالى ـ أوجدهم قبل خلق آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كالهباء ، ثم أماتهم ، فيكون على هذا خمس موتات ، وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذا دخلوا النّار ، لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النّار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشّفاعة ، فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثّوا على أنهار الجنّة ثم قيل : يا أهل الجنّة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبّة تكون في حميل السّيل» (١) الحديث.

قال : فقوله : «فأماتهم الله» حقيقة في الموت ، لأنه أكّده بالمصدر ، وذلك تكريما لهم.

وقيل : يجوز أن يكون «أماتهم» عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم ، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة ، والأول أصح ، وقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بالمصدر لم يكن مجازا ، وإنما هو على الحقيقة ، كقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقيل : المعنى : وكنتم أمواتا بالخمول ، فأحياكم بأن ذكرتم ، وشرفتم بهذا الدين ، والنبي الذي جاءكم ، ثم يميتكم فيموت ذكركم ، ثم يحييكم للبعث.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح : ١ / ١٧٢ ـ ١٧٣ كتاب الإيمان (١) باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار (٨٢) حديث رقم (٣٠٦ / ١٨٥).

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٤٤١) كتاب الزهد باب ذكر الشفاعة حديث رقم (٤٣٠٩) ـ وأحمد في المسند (٣ / ٥ ، ١١).

والدارمي في السنن ٢ / ٣٣٢ ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٦١٩) وابن عساكر ٦ / ١١٠ ـ وذكره القرطبي في التفسير ١ / ٢٥٠ ، ٥ / ٥٤ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٩٥٢٩.

٤٨٤

فصل في أوجه ورود لفظ الموت

قال أبو العبّاس المقرىء : ورد لفظ «الموت» على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى «النّطفة» كهذه الآية.

الثاني : بمعنى «الكفر» قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] ومثله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر : ٢٢].

الثالث : بمعنى «الأرض التي لا نبات لها» ، قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣].

الرابع : بمعنى «الضّم» قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢٠ ، ٢١].

الخامس : بمعنى «مفارقة الروح الجسد».

فصل في أوجه ورود لفظ الحياة

الأول : بمعنى دخول الرّوح في الجسد كهذه الآية.

الثاني : بمعنى «الإسلام» قال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] أي : هديناه إلى الإسلام.

الثالث : بمعنى «صفاء القلب» قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد : ١٧] أي يصفي القلوب بعد سواداها.

الرابع : بمعنى «الإنبات» قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) أي : أنبتناها.

الخامس : بمعنى «حياة الأنفس» قال تعالى : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤].

السادس : بمعنى «العيش» قال تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] أي: لنرزقنّه عيشا طيبا.

فصل في إثبات عذاب القبر

قال ابن الخطيب : احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر ، قالوا : لأنه ـ تعالى ـ بين أنه يحييهم مرّة في الدنيا ، وأخرى في الآخرة ، ولم يذكر حياة القبر ، ويؤيده قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٥ ، ١٦] ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين ، قالوا : ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] ؛ لأنه قول الكفار ، ولأنّ كثيرا من الناس أثبتوا حياة الذّر في صلب آدم حين استخرجهم وقال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣٢]

٤٨٥

وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر ، فالجواب لم يلزم من عدم الفكر في هذه الآية ألا تكون حاصلة ، وأيضا فلقائل أن يقول : إن الله ـ تعالى ـ ذكر حياة القبر في هذا الآية ؛ لأن قوله : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ليس هو الحياة الدائمة ، وإلا لما صح أن يقول : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ؛ لأن كلمة «ثمّ» تقتضي التّراخي ، والرجوع إلى الله ـ تعالى ـ حاصل عقب الحياة الدّائمة من غير تراخ ، فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلا على حياة القبر كان قريبا.

قوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الضمير في «إليه» لله تعالى ، وهذا ظاهر ؛ لأنه كالضمائر قبله ، وثمّ مضاف محذوف أي : إلى ثوابه وعقابه.

وقيل : على الجزاء على الأعمال.

وقيل : على المكان الذي يتولّى الله فيه الحكم بينكم (١).

وقيل : على الإحياء المدلول عليه ب «أحياكم» ، يعني : أنكم ترجعون إلى الحال الأولى التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئا.

والجمهور على قراءة «ترجعون» مبنيا للمفعول.

وقرأ يحيى (٢) بن يعمر ، وابن أبي إسحاق (٣) ، ومجاهد ، وابن محيصن (٤) ، وسلام ، ويعقوب مبنيا للفاعل حيث جاء.

ووجه القراءتين أن «رجع» يكون قاصرا ومتعديا ، فقراءة الجمهور من المتعدّي ، وهو أرجح ؛ لأن أصلها (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) لأن الإسناد في الأفعال السّابقة لله تعالى ، فناسب أن يكون هذا كذا ، ولكنه بني للمفعول لأجل الفواصل والمقاطع.

و «أموات» جمع «ميّت» وقياسه على فعائل كسيّد وسيائد ، والأولى أن يكون «أموات» جمع «ميت» (٥) مخففا ك «أقوال» في جمع «قول» ، وقد تقدمت هذه المادّة.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) وقرأ بها الفياض بن غزوان.

انظر البحر المحيط : ١ / ٢٧٨ ، والدر المصون : ١ / ١٧١ ، وشرح الطيبة : ٤ / ١٠ ، وإتحاف : ١ / ٣٨٢ ، ٣٨٣.

(٣) عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، النحوي ، البصري جد يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، أحد العشرة ، أخذ القراءة عرضا عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم ، من أوّل من وضع النحو مع أبي الأسود الدؤلي. توفي سنة ١٢٩ ه‍ ، وقيل : غير ذلك. وصلى عليه بلال بن أبي بردة. ينظر غاية النهاية : ١ / ٤١٠ (١٧٤٤).

(٤) سلام بن سليمان الطويل ، أبو المنذر المزني ، مولاهم البصري ، ثم الكوفي ، ثقة جليل ، ومقرىء كبير ، أخذ القراءة عن عاصم بن أبي النجود. ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : صدوق.

مات سنة ١٧١ ه‍. ينظر الغاية : ١ / ٣٠٩ (١٣٦٠).

(٥) سقط في ب.

٤٨٦

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

هذا هو النعمة الثانية التي عمّت المكلفين بأسرهم.

«هو» مبتدأ ، وهو ضمير مرفوع منفصل للغائب المذكر ، والمشهور تخفيف واوه وفتحها ، وقد تشدد ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٣ ـ وإنّ لساني شهدة يشتفى بها

وهوّ على من صبّه الله علقم (١)

وقد تسكن ، وقد تحذف كقوله : [الطويل]

٣٤٤ ـ فبيناه يشري رحله ...

 ........... (٢)

والموصول بعده خبر عنه. و «لكم» متعلّق ب «خلق» ، ومعناها السّببية ، أي : لأجلكم ، وقيل : للملك والإباحة ، فيكون تمليكا خاصا بما ينتفع به.

وقيل : للاختصاص ، و «ما» موصولة ، و «في الأرض» صلتها ، وهي في محلّ نصب مفعول به ، و «جميعا» حال من المفعول بمعنى «كلّ» ، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزّمان ، وهذا هو الفارق بين قولك : جاءوا جميعا و «جاءوا معا» فإنّ «مع» تقتضى المصاحبة في الزمان ، بخلاف «جميع» قيل : وهي ـ هنا ـ حال مؤكدة ، لأن قوله : (ما فِي الْأَرْضِ) عام.

فصل في بيان أن الأصل في المنافع الإباحة

استدلّ الفقهاء بهذه الآية على أنّ الأصل في المنافع الإباحة.

وقيل : إنها تدلّ على حرمة أكل الطّين ، لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض ، وفيه نظر ؛ لأن تخصيص الشيء بالذّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عداه ،

__________________

(١) البيت لرجل من همدان ينظر في شرح التصريح : ١ / ١٤٨ ، والمقاصد النحوية : ١ / ٤٥١ ، تخليص الشواهد : ص ١٦٥ ، وأوضح المسالك : ١ / ١٧٧ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٢٦٦ ، والجنى الداني : ص ٤٧٤ ، وشرح الأشموني : ١ / ٨١ ، والدرر : ٦ / ٢٣٩ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٤٢ ، وشرح المفصل : ٣ / ٩٦ ، ولسان العرب (ها) ، ومغني اللبيب : ٢ / ٤٣٤ ، وهمع الهوامع : ١ / ٦١ ، ٢ / ١٥٧ ، والدر المصون : ١ / ١٧١.

(٢) جزء من صدر بيت للعجير السلولي وتمام البيت :

 ... قال قائل

لمن جمل رخو الملاط نجيب

ينظر خزانة الأدب : ٥ / ٢٥٧ ، ٢٦٠ ، ٩ / ٤٧٣ ، والدرر : ١ / ١٨٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٣٣٢ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٨٤ ، ولسان العرب «هربد» ، «ها» ، والإنصاف : ص ٥١٢ ، والخصائص : ١ / ٦٩ ، ورصف المباني : ص ١٦ ، وشرح المفصل : ١ / ٦٨ ، ٣ / ٩٦ ، والدر المصون : ١ / ١٧١.

٤٨٧

وأيضا فالمعادن داخلة في ذلك ، وكذلك عروق الأرض ، وما يجري مجرى البعض لها.

وقد تقدّم تفسير الخلق ، وتقدير الآية كأنه ـ سبحانه وتعالى ـ قال : كيف تكفرون بالله ، وكنتم أمواتا فأحياكم؟ وكيف تكفرون بالله ، وقد خلق لكم ما في الأرض جميعا؟

أو يقال : كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة ، وقد أحياكم بعد موتكم ، وقد خلق لكم كل ما في الأرض ، فكيف يعجز عن إعادتكم؟.

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ).

أصل «ثم» أن تقتضي تراخيا زمانيا ، ولا زمان هنا ، فقيل : إشارة إلى التراخي بين رتبتي خلق الأرض والسماء.

وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال أخر من جعل الجبال والبركة ، وتقدير الأقوات ، كما أشار إليه في الآية الأخرى عطف ب «ثم» ؛ إذ بين خلق الأرض والاستواء إلى السماء تراخ.

و «استوى» : معناه لغة : استقام واعتدل ، من استوى العود.

وقيل : علا وارتفع ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٤٥ ـ فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة

وقد حلّق النّجم اليمانيّ فاستوى (١)

وقال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [المؤمنون : ٢٨].

ومعناه هنا : قصد وعمل. وفاعل «استوى» ضمير يعود على الله.

وقيل : يعود على الدّخان نقله ابن عطية.

وهو غلط لوجهين :

أحدهما : عدم ما يدلّ عليه.

والثاني : أنه يرده قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١].

و «إلى» حرف انتهاء على بابها.

وقيل : هي بمعنى «على» ؛ فتكون في المعنى كقول الشاعر : [الرجز]

٣٤٦ ـ قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (٢)

ومثله قوله الآخر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر البيت في القرطبي : (١ / ٢٥٤) ، الدر المصون : (١ / ١٧٢).

(٢) ينظر البيت في رصف المباني : (٤٣١) ، اللسان : (سوا) ، البحر : (١ / ٢٨٠) ، القرطبي : (١ / ١٧٦) ، الزجاجي : (١ / ٥٠٩) ، مجمع البيان : (١ / ١٥٧) ، ديوان الحماسة للمرزوقي : (٣ / ١٥٤١) ، الدر المصون : (١ / ١٧٢).

٤٨٨

٣٤٧ ـ فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر (١)

وقيل : ثمّ مضاف محذوف ضميره هو الفاعل ، أي : استوى أمره ، و «إلى السّماء» متعلّق ب «استوى» ، والضمير في «فسوّاهنّ» يعود على السّماء ، إما لأنها جمع «سماوة» كما تقدم ، وإما لأنها اسم جنس يطلق على الجمع.

وقال الزمخشري : «هنّ» ضمير مبهم ، و «سبع سماوات» تفسيره ، كقولهم : «ربّه رجلا» ، وقد رد عليه هذا بأنه ليس من [المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده ؛ لأن النحويين حصروا ذلك في سبع مواضع](٢) :

ضمير الشأن ، والمجرور ب «رب» ، والمرفوع ب «نعم وبئس» ، وما جرى مجراهما ، وبأول المتنازعين ، والمفسر بخبره ، وبالمبدل منه.

ثم قال هذا المعترض : إلا أن يتخيل فيه أن يكون «سبع سماوات» بدلا ، وهو الذي يقتضيه تشبيهه ب «ربّه رجلا» فإنه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليا ، فيكون أخبرنا بإخبارين :

أحدهما : أنه استوى إلى السماء.

والثاني : أنه سوى سبع سماوات.

وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو المستوي بعينه.

ومعنى تسويتهنّ : تعديل خلقهن ، وإخلاؤه من العوج ، والفطور وإتمام خلقهن.

قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ) في نصبه خمسة أوجه :

أحسنها : أنه بدل من الضمير في «فسوّاهنّ» العائد على «السّماء» كقولك : أخوك مررت به زيد.

الثاني : أنه بدل من الضمير أيضا ، ولكن هذا الضمير يفسره ما بعده ، وهذا يضعف بما ضعف به قول الزمخشري المتقدّم.

الثالث : أنه مفعول به ، والأصل : فسوّى منهن سبع سموات ، وشبهوه بقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٥٥] أي : من قومه قاله أبو البقاء وغيره ، وهذا ضعيف لوجهين :

أحدهما : بالنسبة إلى اللفظ.

والثاني : بالنسبة إلى المعنى.

__________________

(١) ينظر البيت في القرطبي : (٣ / ٢٧٨) ، مجمع البيان : (١ / ١٥٧) ، البحر : (١ / ٢٨٠) ، الدر المصون : (١ / ١٧٢).

(٢) سقط في أ.

٤٨٩

أما الأول فلأنه ليس من الأفعال المتعدية لاثنين.

أحدهما : بإسقاط الخافض ؛ لأنها محصورة في «أمر» و «اختار» وأخواتهما.

الثاني : أنه يقتضي أن يكون ثمّ سماوات كثيرة ، سوى من جملتها سبعا ، وليس كذلك.

الرابع : أن «سوى» بمعنى «صيّر» ، فيتعدّى لاثنين ، فيكون «سبع» مفعولا ثانيا ، وهذا لم يثبت أيضا ، أعني جعل «سوّى» مثل «صيّر».

فصل في هيئة السماوات السبع

اعلم أن القرآن ـ هاهنا ـ قد دلّ على سبع سماوات.

وقال أصحاب الهيئة : أقربها إلينا كرة القمر ، وفوقها كرة عطارد ، ثم كرة الزّهرة ، ثم كرة الشّمس ، ثم كرة المرّيخ ، ثم كرة المشتري ، ثم كرة زحل ، قالوا : لأن الكوكب الأسفل إذا مرّ بين أبصارنا ، وبين الكوكب الأعلى ، فإنهما يصيران ككوكب واحد ، ويتميز السّاتر عن المستور بلونه الغالب كحمرة المريخ ، وصفرة عطارد ، وبياض الزهرة ، وزرقة المشتري ، وكدرة زحل ، وكلّ كوكب فإنه يكسف الكوكب الذي فوقه.

فصل في الاستدلال على سبق خلق السماوات على الأرض

قال [بعض الملاحدة](١) : هذه الآية تدلّ على أن خلق الأرض قبل خلق السّماء ، وكذا قوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] إلى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) وقال في سورة «النازعات» : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] إلى أن قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء ، وذكروا في الجواب وجوها :

أحدها : يجوز أن يكون خلق الأرض قبل السماء إلّا أنه ما دحاها حتى خلق السماء ؛ لأن التدحية هي البسط.

ولقائل أن يقول : هذا مشكل من وجهين :

الأول : أن الأرض جسم عظيم ، فامتنع انفكاك خلقها عن التّدحية ، وإذا كانت التّدحية متأخّرة عن خلق السماء كان خلقها لا محالة متأخرا عن خلق السماء.

الثاني : أن قوله : (خَلَقَ لَكُمْ الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) يدلّ على أن خلق الأرض ، وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء ، وخلق هذه الأشياء في الأرض لا يمكن إلّا إذا كانت مدحوة ، فهذه الآية تدلّ على كونها مدحوة قبل خلق السّماء ، فيعود التّناقض.

__________________

(١) سقط في أ.

٤٩٠

والجواب الثاني : أن قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدّمة على خلق الأرض ، وعلى هذا التّقدير يزول التناقض.

ولقائل أن يقول : قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) يقتضي أن يكون خلق السماء ، وتسويتها مقدما على تدحية الأرض ، ولكن تدحية الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض ، وحينئذ يعود السؤال.

والجواب الثالث وهو الصحيح أن قوله : «ثمّ» ليس للترتيب هاهنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم ، على مثل قول الرّجل لغيره : أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ، ثم وقعت الخصوم عنك ، ولعلّ بعض ما أخره في الذكر قد تقدّم فكذا هاهنا ، والله أعلم.

فإن قيل : هل يدلّ التنصيص على سبع سموات على نفي العدد الزائد؟

قال ابن الخطيب (١) : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدلّ على نفي الزائد.

فصل في إثبات سبع أرضين

ورد في التنزيل أن السموات سبع ، ولم يأت في التنزيل أن الأرضين سبع إلّا قوله (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] وهو محتمل للتأويل ، لكنه وردت أحاديث كثيرة صحيحة تدلّ على أن الأرضين سبع كما روي في «الصحيحين» عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» (٢) إلى غير ذلك.

وروى أبو الضحى ـ واسمه مسلم ـ عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) قال : سبع أرضين في كل أرض نبيّ كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى» قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عبّاس صحيح (٣) وهو شاذّ لا أعلم لأبي الضّحى عليه دليلا (٤).

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ١٤٦.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (٤ / ٢٢٣) كتاب بدء الخلق باب في سبع أرضين حديث رقم (٣١٩٥) ، (٣ / ٢٦١) كتاب المظالم باب إثم من ظلم شيئا حديث رقم ٤٥٣ ، ٢٤٥٢.

ومسلم في الصحيح (٣ / ١٢٣١ ـ ١٢٣٢) كتاب المساقاة (٢٢) باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (٣٠) حديث رقم (١٢٤٢ / ١٦١٢) وأحمد في المسند ٦ / ٦٤ ، ٧٩ ، ٢٥٢ وذكره المنذري في الترغيب ٣ / ١٥ ـ وابن كثير في التفسير : ٨ / ١٨٢ والهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٠٣٦٢).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في «الشعب» و «الأسماء والصفات» وقال السيوطي : قال البيهقي : هذا إسناد صحيح لكنه شاذ ولا أعلم لأبي الضحى متابعا عليه.

(٤) في أ : مخالفا.

٤٩١

و «السماء» تكون جمعا ل «سماوة» في قول الأخفش ، و «سماءة» في قول الزّجاج ، وجمع الجمع «سماوات» و «سماءات» ، فجاء «سواهن» إما على أن «السّماء» جمع ، وإما على أنها مفرد اسم جنس ، وقد تقدّم الكلام على «السّماء» في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩].

قوله : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو : مبتدأ ، و «عليم» خبره ، والجار قبله يتعلّق به.

واعلم أنه يجوز تسكين هاء «هو» و «هي» بعد «الواو» و «الفاء» و «لام» الابتداء و «ثمّ» ؛ نحو : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) [البقرة : ٧٤](ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [القصص : ٦١](لَهُوَ الْغَنِيُ) [الحج : ٦٤](لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤] وقرأ بها الكسائي وقالون عن نافع ، تشبيها ل «هو» ب «عضد» ول «هي» ب «كتف» ، فكما يجوز تسكين عين «عضد» و «كتف» يجوز تسكين هاء «هو» ، و «هي» بعد الأحرف المذكورة ؛ إجراء للمنفصل مجرى المتّصل ؛ لكثرة دورها معها ، وقد تسكن بعد كاف الجر ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٨ ـ فقلت لهم : ما هنّ كهي فكيف لي

سلوّ ولا أنفكّ صبّا متيّما (١)

وبعد همزة الاستفهام ؛ كقوله : [البسيط]

٣٤٩ ـ فقمت للطّيف مرتاعا فأرّقني

فقلت : أهي سرت أم عادني حلم (٢)

وبعد «لكن» في قراءة ابن (٣) حمدون (٤) : (لكِنَّا هُوَ اللهُ) [الكهف : ٣٨] وكذا في قوله : (يُمِلَّ هُوَ) [البقرة : ٢٨٢]. فإن قيل : عليم «فعيل» من «علم» ، و «علم» متعدّ بنفسه ، فكيف تعدّى ب «الباء» ، وكان من حقه إذا تقدم مفعوله أن يتعدّى إليه بنفسه أو ب

__________________

(١) ينظر همع الهوامع : (١ / ٦١) ، الدرر : (١ / ٣٧) ، الدر المصون : (١ / ١٧٣).

(٢) البيت لزياد بن منقذ ينظر في خزانة الأدب : ٥ / ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، والدرر : ١ / ١٩٠ ، وشرح التصريح : ٢ / ١٤٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ١٣٩٦ ، ١٤٠٢ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٩٠ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٣٤ ، ومعجم البلدان : ١ / ٢٥٦ (أميلح) ، والمقاصد النحوية : ١ / ٢٥٩ ، ٤ / ١٣٧ ، أوضح المسالك : ٣ / ٣٧٠ ، والخصائص : ١ / ٣٠٥ ، ٢ / ٣٣٠ ، وشرح المفصل : ٩ / ١٣٩ ، ولسان العرب (هيا) ، ومغني اللبيب : ١ / ٤١ ، وأمالي ابن الحاجب : ١ / ٤٥٦ ، الأشباه والنظائر ٢ / ١٢٧ ، همع الهوامع : ٢ / ١٣٢ ، الدر المصون : ١ / ١٧٣.

(٣) قرأ بها زيد بن علي ، وعمران بن عثمان أبو البرهسم الزبيدي.

انظر غاية النهاية : ١ / ٦٠٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١١٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٨٩ ، والدر المصون : ١ / ١٧٧.

(٤) محمد بن حمدون أبو الحسن الواسطي الحذّاء ، وهم فيه صاحب «التجريد» فسمّاه عليّا ، ووهم فيه الهذلي فسمّاه عبد الله ، ثقة ضابط ، على قنبل ـ وراجع ابن عون ، وسمع الحروف من شعيب بن أيوب الصريفيني ، قرأ عليه أبو أحمد السامري عرضا ، وروى عنه القراءة أبو بكر بن مجاهد. كان من أهل الثقة والإتقان والضبط ، توفي سنة ٣١٠ ه‍. ينظر الغاية : ٢ / ١٣٥ (٢٩٨٣).

٤٩٢

«اللام» المقوية ، وإذا تأخر أن يتعدى إليه بنفسه فقط؟.

فالجواب : أن أمثله المبالغة خالفت أفعالها ، وأسماء فاعليها لمعنى وهو شبهها ب «أفعل» التفضيل بجامع ما فيها من معنى المبالغة ، و «أفعل» التفضيل له حكم في التعدّي ، فأعطيت أمثلة المبالغة ذلك الحكم ، وهو أنها لا تخلو من أن تكون من فعل متعدّ بنفسه أو لا.

فإن كان الأول فإما أن يفهم علما أو جهلا أو لا.

فإن كان الأول تعدت بالباء نحو : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) [النجم : ٣٢](وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الحديد : ٦] و «زيد جهول بك» و «أنت أجهل به» وإن كان الثّاني تعدّت ب «اللام» نحو : «أنا أضرب لزيد منك» و «أنا ضراب له» ، ومنه : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ، وإن كانت من متعدّ بحرف جرّ تعدّت هي بذلك الحرف نحو : «أنا أصبر على كذا» و «أنا صبور عليه» ، و «أزهد فيه منك» ، و «زهيد فيه».

فصل في إثبات العلم لله سبحانه بخلقه

هذه الآية تدلّ على أنه لا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها ، وللسماوات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلّياتها ، وذلك يدلّ على أمور :

أحدها : أن يفسد قول الفلاسفة الّذين قالوا : إنه لا يعلم الجزئيات ، ويدلّ على صحّة قول المتكلمين فإنهم قالوا : إنه ـ تعالى ـ فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإتقان ، وكل فاعل على هذا الوجه ، فإنه لا بد وأن يكون عالما بما فعله كما ذكر في هذه الآية.

وثانيها : يدل على فساد قول المعتزلة ، وذلك لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ بين أن الخالق للشّيء على سبيل التقدير والتحديد ، لا بد وأن يكون عالما به وبتفاصيله ، لأن خالقه قد خصّه بقدر دون قدر ، والتخصيص بقدر معين لا بدّ وأن يكون بإرادة ، وإلا فقد حصل الرّجحان من غير مرجّح ، والإرادة مشروطة بالعلم ، فثبت أن خالق الشّيء لا بد وأن يكون عالما به على سبيل التفصيل.

فلو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها ، وبتفاصيلها في العدد والكميّة والكيفية ، فلمّا لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد لأفعال نفسه.

وثالثها : قالت المعتزلة : إذا جمع بين هذه الآية وبين قوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] ظهر أنه ـ تعالى ـ عالم بذاته.

والجواب : قوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) عام ، وقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] خاصّ والخاص مقدّم على العام.

٤٩٣

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٠)

هذه الآية دالّة على كيفية تنظيم الله ـ تعالى ـ لآدم عليه الصّلاة والسلام ، فيكون ذلك إنعاما عامّا على جميع بني آدم ، فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامّة التي أوردها.

«إذ» ظرف زمان ماض ، يخلص المضارع للمضي ، وبني لشبهه بالحرف في الوضع والافتقار ، وتليه الجمل مطلقا.

قال المبرد : إذا جاء «إذ» مع المستقبل كان معناه ماضيا كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) [الأنفال : ٣٠] يريد : إذ مكروا ، وإذا جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] وقد يبقى على مضيّه كهذه الآية.

وإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم ، وتأخير الفعل نحو : «إذ زيد قام» ، ولا يتصرّف إلا بإضافة الزمن إليه ، نحو : «يومئذ» و «حينئذ» ، ولا يكون مفعولا به ، وإن قال به أكثر المعربين ، فإنهم يقدرون «ذكر وقت كذا» ، ولا ظرف مكان ، ولا زائدا ، ولا حرفا للتعليل ، ولا للمفاجأة خلافا لمن زعم ذلك.

وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم ، ويعوض منها تنوين كقوله : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة : ٨٤] وليس كسرته ـ والحالة هذه ـ كسرة إعراب ، ولا تنوينه تنوين صرف خلافا للأخفش ، بل الكسر لالتقاء السّاكنين ، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر ، ولا إضافة ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٣٥٠ ـ نهيتك عن طلابك أمّ عمرو

بعاقبة وأنت إذ صحيح (١)

وللأخفش أن يقول : أصله : «وأنت حينئذ» فلما حذف المضاف بقي المضاف إليه على حاله ، ولم يقم مقامه نحو : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] بالجر ، إلا أنه ضعيف.

و (قالَ رَبُّكَ) : جملة فعلية في محلّ خفض بإضافة الظرف إليها ، واعلم أنّ «إذ» فيه تسعة أوجه ، أحسنها أنه منصوب ب (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) أي : قالوا ذلك القول وقت قول الله عزوجل (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وهذا أسهل الأوجه.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوان الهذليين : (١ / ٦٨) ، ابن يعيش : (٣ / ٢٩) ، (٩ / ٣١) ، الخصائص : (٢ / ٣٧٦) ، مغني اللبيب : (١ / ٨٦) ، الجنى الذاتي : (١٨٧) ، شرح الأشموني : (١ / ٥٦) ، خزانة الأدب : (٦ / ٥٣٩ ، ٥٤٣ ، ٥٤٤) ، اللسان : شلل ، الدر المصون : (١ / ١٧٤).

٤٩٤

الثاني : أنه منصوب ب «اذكر» مقدرا ، وقد تقدم أنه لا يتصرّف ، فلا يقع مفعولا.

الثالث : أنه منصوب ب «خلقكم» المتقدّم في قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] والواو زائدة. وهذا ليس بشيء لطول الفصل.

الرابع : أنه منصوب ب «قال» بعده ، وهذا فاسد ؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف.

الخامس : أنه زائد ، ويعزى لأبي عبيدة.

السادس : أنه بمعنى «قد».

السابع : أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : ابتداء خلقكم وقت قول ربك.

الثامن : أنه منصوب بفعل لائق تقديره : ابتدأ خلقكم وقت قوله ذلك.

وهذان ضعيفان ، لأن وقت ابتداء الخلق ليس وقت القول ، وأيضا فإنه لا يتصرف.

التاسع : أنه منصوب ب «أحياكم» مقدرا ، وهذا مردود باختلاف الوقتين أيضا.

و «للملائكة» متعلّق ب «قال» واللّام للتبليغ. و «ملائكة» جمع «ملك» ، واختلف في «ملك» على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه ، هل هي أصلية أو زائدة؟

والقائلون بأصالتها اختلفوا.

فقال بعضهم : «ملك» وزنه «فعل» من الملك ، وشذّ جمعه على «فعائلة» ، فالشذوذ في جمعه فقط.

وقال بعضهم : بل أصله «ملأك» ، والهمزة فيه زائدة ك «شمأل» ، ثم نقلت حركة الهمزة

إلى «اللام» ، وحذفت الهمزة تخفيفا ، والجمع جاء على أصل الزيادة ، فهذان قولان عند هؤلاء.

والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضا :

فمنهم من قال : هو مشتقّ من «ألك» أي : أرسل ، ففاؤه همزة ، وعينه لام ؛ ويدلّ عليه قوله : [المنسرح]

٣٥١ ـ أبلغ أبا دختنوس مألكة

عن الّذي قد يقال ملكذب (١)

وقال الآخر : [الرمل]

٣٥٢ ـ وغلام أرسلته أمّه

بألوك فبذلنا ما سأل (٢)

وقال آخر : [الرمل]

__________________

(١) ينظر الخصائص : (١ / ٣١١) (٣ / ٣٧٥) الأمالي الشجرية : (١ / ٩٧ ، ٣٨٦) ، المفصل : (٨ / ٣٥) ، (٩ / ١٠٠ ، ١١٦) ، اللسان ألك ، الدر المصون : (١ / ١٧٥).

(٢) ينظر ديوان لبيد : (١٧٨) ، الخصائص : (٣ / ٢٧٥) ، المنصف : (٢ / ١١٤) ، التبيان : (١ / ٤٦) ، مجمع البيان : (١ / ١٥٩) ، ابن الجوزي : (١ / ٥٨) ، القرطبي : (١ / ٢٦٢) ، الطبري : (١ / ٤٤٦) ، اللسان : ألك ، الدر المصون : (١ / ١٧٥).

٤٩٥

٣٥٣ ـ أبلغ النّعمان عنّي مألكا

أنّه قد طال حبسي وانتظاري (١)

فأصل ملك : مألك ، ثم قلبت العين إلى موضع «الفاء» ، و «الفاء» إلى موضع «العين» على وزن «معفل» ثم نقلت حركة «الهمزة» إلى «اللام» ، وحذفت «الهمزة» تخفيفا ، فيكون وزن ملك : «معلا» بحذف الفاء.

ومنهم من قال : هو مشتقّ من «لأك» أي : أرسل أيضا ، ففاؤه لام ، وعينه همزة ، ثم نقلت حركة الهمزة ، وحذفت كما تقدّم ، ويدلّ على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال : [الطويل]

٣٥٤ ـ فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السّماء يصوب (٢)

ثم جاء الجمع على الأصل ، فردّت الهمزة على كلا القولين ، فوزن «ملائكة» على هذا القول «مفاعلة» ، وعلى القول الذي قبله «معافلة» بالقلب.

وقيل : هو مشتقّ من : «لاكه ـ يلوكه» إذا «أداره ـ يديره» ؛ لأن الملك يدير الرسالة في فيه ، فأصل ملك : ملوك ، فنقلت حركة «الواو» إلى «اللام» الساكنة قبلها ، فتحرك حرف العلّة ، وانفتح ما قبله فقلب «ألفا» ، فصار : ملاكا مثل : «مقام» ، ثم حذفت الألف تخفيفا ، فوزنه : «مفل» بحذف العين ، وأصل «ملائكة» : «ملاوكة» ، فقلبت «الواو همزة» ، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة نحو : «عجائز» و «رسائل» ، على أنه قد جاء ذلك في الأصل قليلا قالوا : «مصائب» ومنائر» ، وقرىء شاذّا : معائش [الأعراف : ١٠] بالهمز ، فهذه خمسة أقوال.

السّادس : قال النضر بن شميل (٣) : لا اشتقاق ل «الملك» عند العرب «والهاء» في «ملائكة» لتأنيث الجمع ، نحو : «صلادمة».

وقيل : للمبالغة ك «علّامة» و «نسّابة» ، وليس بشيء ، وقد تحذف هذه الهاء شذوذا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٥٥ ـ أبا خالد صلّت عليك الملائك (٤)

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد ينظر ديوانه : ص ٩٣ ، خزانة الأدب : ٨ / ٥١٣ ، الاشتقاق : ص ٢٦ ، والأغاني : ٢ / ٩٤ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٥٨ ، الشعر والشعراء : ١ / ٢٣٥ ، والمنصف : ٢ / ١٠٤ ، جمهرة اللغة ص ٩٨٢ ، الممتع في التصريف : ١ / ١١٩ ، المحتسب : ١ / ٤٤ ، مجمع البيان : ١ / ١٥٩ ، الزجاج : ١ / ٨٠ ، القرطبي : ١ / ٢٦٢ ، الطبري : ١ / ٤٢٦ ، الدر المصون : ١ / ١٧٥.

(٢) تقدم.

(٣) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني التميمي ، أبو الحسن : أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة ، ولد ب «مرو» (من بلاد خراسان) سنة ١٢٢ ه‍. من مصنفاته : «الصفات» كبير ، في صفات الإنسان والبيوت والجبال والإبل والغنم والطير والكواكب والزروع ، و «كتاب السلاح» و «المعاني» و «غريب الحديث» و «الأنواء». وتوفي ب «مرو» سنة ٢٠٣ ه‍.

ينظر الأعلام : ٣٣٨ ، وفيات الأعيان : ٢ / ١٦١ ، غاية النهاية : ٢ / ٣٤١.

(٤) لم نهتد إلى قائله ولا إلى تمامه ، وينظر المنصف : ٢ / ١٠٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٨٤ ، الدرر : (١ / ٢٥١) ، الدر المصون : (١ / ١٧٦).

٤٩٦

فصل في ماهية الملائكة

اختلفوا في ماهيّة الملائكة ، وحقيقتهم ، والضابط فيه أن يقال : إن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها ، وهي إما متحيّزة ، أو ليست بمتحيّزة ، فإن كانت متحيّزة فهاهنا أقوال :

أحدها : أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكّل بأشكال مختلفة مسكنها السموات ، وهذا قول أكثر المسلمين.

الثاني : قول طوائف من عبدة الأوثان : أن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد ، والإنحاس ، فالمسعدات منها ملائكة الرّحمة ، والمنحسات منها ملائكة العذاب.

الثالث : قول معظم المجوس ، والثنوية : وهو أن هذا العالم مركّب من أصلين أزليين ، وهما النور والظّلمة ، وهما في الحقيقة جوهران شفّافان مختاران قادران ، متضادا النّفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النّور فاضل خيّر ، نقيّ طيّب الريح ، كريم النفس يسر ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويحيا ولا يبلى ، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك.

ثم إنّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء ، وهم الملائكة لا على سبيل التّناكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم ، والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء ، وهم الشياطين على سبيل تولّد السّفه من السفيه لا على سبيل التناكح.

القول الثاني : وهو أنها ذوات قائمة بأنفسها ، وليست بمتحيّزة ، ولا بأجسام. فهاهنا قولان :

الأول : قول طوائف من النّصارى ، وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس النّاطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية ، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.

والثاني : قول الفلاسفة وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ألبتة ، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس النّاطقة البشرية ، وأنها أكمل قوة منها ، وأكثر علما منها ، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشّمس بالنسبة إلى الأضواء ، ثم إنّ هذه الجواهر على قسمين : منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة الله ، ومحبته ومشتغلة بطاعته ، وهذا القسم هم الملائكة المقرّبون ، ونسبتهم إلى الملائكة الّذين يدبرون السّماوات ، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا النّاطقة ، فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ، ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة ، وهي الملائكة الأرضية المدبّرة لأحوال هذا العالم السفليّ ، ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة ، وإن كانت شريرة فهم الشياطين.

٤٩٧

فصل في شرح كثرتهم

قال عليه الصلاة والسلام : «أطّت السّماء وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد ، أو راكع» (١).

[وروي أن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البرّ ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر ، وهؤلاء كلّهم عشر ملائكة الأرض الموكّلين بها ، وكلّ هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السّماء الثانية وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السّماء السّابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السّرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف ، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السّماوات والأرضون وما فيها وما بينها ، فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا ، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد ، أو راكع](٢) وقائم ، لهم زجل بالتسبيح والتّقديس ، ثم كلّ هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ، ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللّوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه‌السلام ، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه‌السلام ، ولا يحصي أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى ، على ما قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١].

وروي في بعض كتب التّذكير أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين عرج به رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض ، فسأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى أين يذهبون؟ فقال جبريل عليه‌السلام : لا أدري إلّا أنّي أراهم مذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ، ثم سأل واحدا منهم وقيل له : مذ كم خلقت؟ فقال : لا أدري غير أن الله ـ تعالى ـ يخلق كوكبا في كلّ أربعمائة ألف سنة ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجلّ كماله.

فصل فيمن قيل له من الملائكة : «إني جاعل»

اختلفوا في الملائكة الّذين قال لهم : «إنّي جاعل لهم» كلّ الملائكة ، أو بعضهم؟ فروى الضّحّاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين [كانوا محاربين] مع «إبليس» ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لما أسكن الجنّ الأرض ، فأفسدوا فيها ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في السنن (٤ / ٤٨١ ـ ٤٨٢) كتاب الزهد (٣٧) باب (٩) قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا حديث رقم (٢٣١٢) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وابن ماجه في السنن ٢ / ١٤٠٢ كتاب الزهد (٣٧) باب الحزن والبكاء (١٩) حديث رقم ٤١٩٠ ـ وأحمد في المسند (٥ / ١٧٢ ، ١٧٣) وذكره المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير ١ / ٥٣٦.

(٢) سقط في أ.

٤٩٨

وسفكوا الدّماء ، وقتل بعضهم بعضا ، بعث الله «إبليس» في جند من الملائكة ، فقتلهم «إبليس» بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض ، وألحقوهم بجزائر البحر ، وشعوب الجبال ، وسكنوا الأرض ، وخفّف الله عنهم العبادة ، وأعطى «إبليس» ملك الأرض ، وملك سماء الدنيا ، وخزانة الجنّة ، فكان يعبد الله تارة في الأرض ، وتارة في السماء ، وتارة في الجنة ، فأخذه العجب وقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال تعالى لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

وقال أكثر الصحابة والتابعين إنه قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم.

فإن قيل : ما الفائدة في أن الله قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) مع أنه منزّه عن الحاجة إلى المشهورة؟.

فالجواب من وجهين :

الأوّل : أنه ـ تعالى ـ علم أنهم إذا اطّلعوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السّؤال ، فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب ، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السّؤال ، ويسمعوا ذلك الجواب.

والثاني : أنه ـ تعالى ـ علم عباده المشورة.

قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) هذه الجملة معمول القول ، فهي في محل نصب به ، وكسرت «إنّ» هنا ، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظّنّ محكية به ، فإن كان بمعنى الظّن جرى فيها وجهان : الفتح والكسر ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٣٥٦ ـ إذا قلت أنّي آيب أهل بلدة

نزعت بها عنه الوليّة بالهجر (١)

وكان ينبغي أن يفتح ليس إلّا ؛ نظرا لمعنى الظن ، لكن قد يقال جاز الكسر مراعاة لصورة القول. و «إن» على ثلاثة أقسام :

قسم يجب فيه كسرها ، وقسم يجب فيه فتحها ، وقسم يجوز فيه الوجهان.

والضابط الكليّ في ذلك : أن كلّ موضع سدّ مسدّها المصدر ، وجب فيه فتحها ؛ نحو : «بلغني أنك قائم» ، وكلّ موضع لم يسدّ مسدّها ، وجب فيه كسرها ؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأة وصلة وحالا ، وكل موضع جاز أن يسدّ مسدّها ، جاز الوجهان ؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء ، و «إذا» الفجائية.

__________________

(١) البيت للحطيئة ينظر ديوانه : ص ٢٢٥ ، وتخليص الشواهد : ص ٤٥٩ ، خزانة الأدب : ٢ / ٤٤٠ ، شرح التصريح : ١ / ٢٦٢ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤٣٢ ، أوضح المسالك : ٢ / ٧٢ ، شرح الأشموني : ١ / ١٦٥ ، الدر المصون : ١ / ١٧٦.

٤٩٩

و «جاعل» فيه قولان :

أحدهما : أنه بمعنى «خالق» فيكون «خليفة» مفعولا به و «في الأرض» فيه حينئذ قولان :

أحدهما : وهو الواضح ـ أنه متعلّق ب «جاعل» والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من النكرة بعده.

القول الثاني : أنه بمعنى «مصيّر» ذكره الزّمخشري ، فيكون «خليفة» هو المفعول الأول ، و «في الأرض» هو الثّاني قدم عليه ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر.

والأرض قيل : إنها «مكة» ، روى ابن سابط (١) عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «دحيت الأرض من مكّة» ولذلك سميت «أم القرى» ، قال : وقبر نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب بين «زمزم» والمقام (٢).

والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب.

و «خليفة» يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أي : يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ ، وهذا أصح ، لدخول تاء التأنيث عليه.

وقيل : بمعنى «مفعول» أي : يخلف كل جيل من تقدمه ، وليس دخول «التّاء» حينئذ قياسا ، إلّا أن يقال : إن «خليفة» جرى مجرى الجوامد ك «النّطيحة» و «الذّبيحة». وإنما وحّد «خليفة» وإن كان المراد الجمع ؛ لأنه أريد به آدم وذرّيته ، ولكن استغني بذكره كما يستغنى بذكر أبي القبيلة نحو : «مضر» و «ربيعة» وقيل : المعنى على الجنس.

وقال «ابن الخطيب» : الخليفة : اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى.

و «الخلف» ـ بالتحريك ـ من الصّالحين ، وبتسكينها من الطّالحين.

واختلفوا في أنه لم سمّاه ـ أي : خليفة ـ على وجهين :

فروي عن «ابن عباس» أنه ـ تعالى ـ لما نفى الجنّ من الأرض ، وأسكنها آدم كان

__________________

(١) عبد الرحمن بن سابط القرشي الجمحي المكي أرسل وعن عمر ومعاذ ومرسلا ، وعن عائشة بواسطة في فرد حديث وسعد وجابر ، وعنه علقمة بن مرثد وابن جريج والليث وخلق ، وثقه ابن معين وقال : لم يسمع من أبي أمامة والدارقطني وجماعة ، قال ابن سعد : مات بمكة سنة ثماني عشرة ومائة.

ينظر الخلاصة : ٢ / ١٣٣ (٤٠٩٦) ، تقريب التهذيب : ١ / ٤٨٠ (٩٤٣) ، تاريخ البخاري الكبير : ٥ / ٢٩٤ ، ٣٠١ ، ٩ / ٦٥ ، تاريخ البخاري الصغير : ١ / ٢٨٥.

(٢) أخرجه الطبري في التفسير : (١ / ٤٤٨).

وذكره ابن كثير في التفسير : ١ / ١٠٠ وعزاه لابن أبي حاتم وذكره السيوطي في الدر المنثور : (١ / ٤٦) وزاد نسبته لابن عساكر عن ابن سابط.

٥٠٠