اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وثالثها : أن نقول ليس التّشبيه في أنّ للمنافق نورا ، بل وجه التّشبيه بالمستوقد أنه لما زال النّور عنه تحيّروا تحيّر من كان في نور ثم زال عنه أشدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة ، لكنه ـ تعالى ـ ذكر النور في مستوقد النّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظّلمة الشديدة ، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة.

ورابعها : قال مجاهد : إنّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به ، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنّفاق ، ومن قال بهذا قال : إن المثل إنما عطف على قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] فالنار مثل لقولهم : «آمنا» وذهابه مثل لقولهم للكفّار «إنا معكم».

فإن قيل : كيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلا بالنور ، وهو حين تكلّم بها أبطن خلافها؟

قلنا : لو ضم إلى القول اعتقادا له وعملا به لأتم النور لنفسه ، لكنه لمّا لم يفعل لم يتم نوره ، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نورا ؛ لأنه قول حقّ في نفسه.

وخامسها : يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان ، وإنما سمى نورا ؛ لأنه يتزين به ظاهرا فيهم ، ويصير ممدوحا بسببه فيما بينهم ، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره ، فيظهر له اسم النّفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان ، فيبقى في ظلمات لا يبصر ؛ إذ النّور الذي كان له قبل كشف الله أمره قد زال.

وسادسها : أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضّلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضّلالة التي اشتروها ، وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في ظلمات.

وسابعها : يجوز أن يكون المستوقد ـ هاهنا ـ مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى ، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، فإنّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤].

وثامنها : قال سعيد بن جبير : نزلت في اليهود ، وانتظارهم لخروج النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لإيقاد النّار ، وكفرهم به بعد ظهوره ، كزوال ذلك النور ؛ قاله محمد بن كعب ، وعطاء.

والموقود ـ هنا ـ هو سطوع النّار وارتفاع لهبها.

والنّار : جوهر لطيف مضيء حام محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ؛ لأن فيها حركة واضطرابا ، والنور مشتق منها ، وهو ضوؤها ، والمنار العلامة ، والمنارة هي الشّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضا للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة ، ومنه النّورة لأنها

٣٨١

تطهر البدن ، والإضاءة فرط الإنارة ، ويؤيده قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥].

وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول : دار حوله وحواليه.

والحول : السّنة ؛ لأنها تحول ، وحال عن العهد أي : تغير ، ومنه حال لونه.

والحوالة : انقلاب الحقّ من شخص إلى شخص ، والمحاولة : طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له ، والحول : انقلاب العين ، والحول : الانقلاب قال تعالى : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف : ١٠٨].

والظّلمة : عدم النّور عما من شأنه أن يستنير ، والظّلم في الأصل عبارة عن النّقصان قال تعالى : (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أي : لم تنقص.

والظّلم : الثلج ، لأنه ينقص سريعا. والظّلم : ماء آسن وطلاوته وبياضه تشبيها له بالثلج.

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(١٨)

الجمهور على رفعها على أنّها خبر مبتدأ محذوف ، هم صم بكم ، ويجيء فيه الخلاف المشهور في تعدّد الخبر ، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل ، ومن منع ذلك قال : هذه الأخبار ، وإن تعدّدت لفظا ، فهي متحدة معنى ؛ لأن المعنى : هم غير قائلين للحق بسبب عماهم وصممهم ، فيكون من باب : «هذا حلو حامض» أي : مزّ ، وهذا أعسر أيسر أي : أضبط ، وقول الشاعر : [الطويل]

٢٣٧ ـ ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي

بأخرى الأعادي ، فهو يقظان هاجع (١)

أي : متحرّز.

أو يقدر لكل خبر مبتدأ تقديره : هم صمّ ، هم بكم ، هم عمي.

والمعنى : أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة ، ولو لا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ ، كقولك : الزيدون فقهاء شعراء كاتبون ، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء ، وبعضهم شعراء ، وبعضهم كاتبون ، وأنهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة ، بل بعضهم اختصّ بالفقه ، والبعض الآخر اختصّ بالشعر ، والآخر بالكتابة.

وقرأ بعضهم (٢) «صمّا بكما عميا» بالنصب ، وفيه ثلاثة أوجه :

__________________

(١) البيت لحميد بن ثور ينظر ديوانه : ص ١٠٥ ، وأمالي المرتضى : ٢ / ٢١٣ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٢٩٢ ، والشعر والشعراء : ١ / ٣٩٨ ، والمقاصد النحوية : ٢ / ٥٦٢ ، تخليص الشواهد : ص ٢١٤ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٠٦ ، وشرح ابن عقيل : ص ١٣٢ ، الدر المصون : ١ / ١٣٤.

(٢) وهي قراءة عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٠١ ، والبحر المحيط : ١ / ٢١٧ ، والقرطبي : ١ / ١٤٩.

٣٨٢

أحدها : أنه حال ، وفيه وجهان :

أحدهما : هو حال من الضمير المنصوب في «تركهم».

والثاني : من المرفوع في «لا يبصرون».

الثاني : النّصب على الذّم كقوله : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) [المسد : ٤] وقول الآخر :

٢٣٨ ـ سقوني الخمر ثمّ تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور (١)

أي : أذم عداة الله.

الثالث : أن يكون منصوبا ب «ترك» ، أي : صمّا بكما عميا.

والصّمم : داء يمنع من السّماع ، وأصله من الصّلابة ، يقال : قناة صمّاء : أي : صلبة.

وقيل : أصله من الانسداد ، ومنه : صممت القارورة أي : سددتها.

والبكم : داء يمنع الكلام.

وقيل : هو عدم الفهم.

وقيل : الأبكم من ولد أخرس.

وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها.

وقيل : بل الأولى دعاء عليهم بالصّمم ، ولا حاجة إلى ذلك.

وقال أبو البقاء : وقيل : فهم لا يرجعون حال ، وهو خطأ ؛ لأن «الفاء» ترتب ، والأحوال لا ترتيب فيها.

و «رجع» يكون قاصرا ومتعديا باعتبارين ، وهذيل تقول : «أرجعه غيره» ، فإذا كان بمعنى «عاد» كان لازما ، وإذا كان بمعنى «أعاد» كان متعديا ، والآية الكريمة تحتمل التّقديرين ، فإن جعلناه متعديا ، فالمفعول محذوف ، تقديره : لا يرجعون جوابا ، مثل قوله : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) [الطارق : ٨] ، وزعم بعضهم أنه يضمّن معنى «صار» ، فيرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وجعل منه قوله عليه الصلاة والسلام : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (٢).

__________________

(١) البيت لعروة بن الورد ينظر ديوانه : ص ٥٨ ، الأغاني : ٣ / ٣٦ ، ٣٨ ، الكتاب : ٢ / ٧٠ ، لسان العرب (نسأ) ، أمالي المرتضى : ١ / ٢٠٦ ، مجالس ثعلب : ٢ / ٤١٧ ، وشرح أبيات سيبويه : (١١٧) ، القرطبي : (١ / ١٣٩) ، الدر المصون : (١ / ١٣٤).

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (١ / ٦٨) كتاب العلم باب الانصات للعلماء حديث رقم (١٢١) ، (٣ / ٤) كتاب الحج باب الخطبة أيام منى حديث رقم (١٧٣٩) ، (١٧٤١) ، (٦ / ١٤) كتاب المغازي باب حجة الوداع حديث رقم (٤٤٠٥) ومسلم في الصحيح (١ / ٨١ ـ ٨٢) كتاب الإيمان (١) باب بيان معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا (٢٩) حديث رقم (١١٨ / ٦٥). ـ

٣٨٣

ومن منع جريانه مجرى «صار» جعل المنصوب حالا.

فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم

لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون ، وينطقون ، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلّا تشبيه حالهم لشدة تمسّكهم بالعناد ، وإعراضهم عن سماع القرآن ، وما يظهره الرسول من الأدلّة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب ، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة ، ولم يبصر طريق الرشد ، فهو بمنزلة الأعمى.

وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : من التمسّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبدا.

وقيل : لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضّلالة بعد أن اشتروها.

وقيل : أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟

قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

اعلم أنّ هذا مثل ثان للمنافقين ، وكيفية المشابهة من وجوه :

أحدها : أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق ، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل ، وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت ، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فإذا أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة ، فوقفوا متحيّرين ؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه

__________________

وأبو داود في السنن حديث رقم (٤٦٨٦).

والترمذي في السنن حديث رقم (٢١٩٣).

والنسائي في السنن (٧ / ١٢٦ ، ١٢٧).

وابن ماجه في السنن حديث رقم (٣٩٤٢) ، (٣٩٤٣).

وأحمد في المسند (١ / ٢٣٠ ، ٤٠٢) ، (٢ / ١٠٤) ـ والبيهقي في السنن (٥ / ١٤٠ ، ١٦٦) ، (٦ / ٩٢) ، (٨ / ١٨٩).

والطبراني في الكبير (٢ / ٣٤٨ ، ٣٨٣) ، (٨ / ١٦١) ، (١٠ / ١٩٢) ، (١٢ / ٢٨٢ ، ٣٥٩ ، ٣٦٢ ، ٤١٦) ـ وابن عدي في الكامل (٧ / ٢٥٩٣) والحاكم في المستدرك (١ / ٩٣) ـ وذكره المنذري في الترغيب (١ / ١٣٢) ـ وابن حجر في فتح الباري (١ / ٢١٧) ، (١٠ / ٥٥٣) ، (١٢ / ١٩١) ، (١٣ / ٢٦) ـ والسيوطي في الدر المنثور (٣ / ٢٠ ، ٢٣٥).

٣٨٤

تشتدّ حيرته ، وتعظم الظّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة ، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدّين بهؤلاء الذين وصفهم ، إذا كانوا لا يرون طريقا ، ولا يهتدون.

وثانيها : أن المطر وإن كان نافعا إلّا أنه لما وجد في هذه الصّورة مع هذه الأحوال الضّارة صار النفع به زائلا ، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافقين لو وافقه الباطن ، فإذا فقد منه الإخلاص ، وحصل معه النفاق كان ضررا في الدّين.

وثالثها : أن من هذا حاله ، فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات ، وحصول أنواع المخافة ، فحصلت في المنافقين نهاية الحيرة في الدين ، ونهاية الخوف في الدنيا ؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل ، فلا يزال الخوف في قلبه مع النفاق.

ورابعها : المراد من الصّيّب هو الإيمان والقرآن ، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشّاقة على المنافقين من التكاليف كالصّلاة والصوم وترك الرّياسات ، والجهاد مع الآباء والأمّهات ، وترك الأديان القديمة ، والانقياد لمحمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مع شدّة استنكافهم عن الانقياد ، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصّيّب (١) الذي [هو](٢) أشدّ الأشياء نفعا بسبب هذه الأمور المقارنة ، كذلك هؤلاء. والمراد من قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أنّه متى حصل لهم شيء من المنافع ، وهي عصمة أموالهم ودمائهم ، وحصول الغنائم ، فإنهم يرغبون في الدّين.

قوله : (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي متى لم يجدوا شيئا من تلك المنافع ، فحينئذ يكرهون الإيمان ، ولا يرغبون فيه.

فصل في «أو»

في «أو» خمسة أقوال :

أظهرها : أنها للتفصيل بمعنى : أنّ الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المستوقد ، ومنهم من يشبههم بأصحاب (٣) صيّب هذه صفته.

قال ابن الخطيب : «والثاني أبلغ ؛ لأنه أدلّ على فرط الحيرة».

والثاني : أنها للإبهام ، أي : أن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.

والثالث : أنها للشّك ، بمعنى : أنّ الناظر يشكّ في تشبيههم.

الرابع : أنها للإباحة.

الخامس : أنها للتخيير ، قالوا : لأن أصلها تساوي شيئين فصاعدا في الشك ، ثم اتسع فيها ، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك : «جالس الحسن أو ابن سيرين»

__________________

(١) في أ : المصب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : بحال.

٣٨٥

يريد أنهما سيّان ، وأن يجالس أيهما شاء ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤] أي : الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما ، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين :

أحدهما : كونها بمعنى «الواو» ؛ وأنشدوا : [البسيط]

٢٣٩ ـ نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر (١)

وقال تعالى : (تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) [النور : ٦١].

وقال : [الطويل]

٢٤٠ ـ وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها (٢)

قال ابن الخطيب (٣) : وهذه الوجوه مطردة في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤].

المعنى الثاني : كونها بمعنى : «بل» ؛ قال تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] وأنشدوا : [الطويل]

٢٤١ ـ بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى

وصورتها أو أنت في العين أملح (٤)

أي : بل أنت.

و «كصيب» معطوف على «كمثل» ، فهو في محل رفع ، ولا بد من حذف مضافين ؛ ليصح المعنى ، التقدير يراد : «أو كمثل ذوي صيّب» ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ؛ لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصّيّب لا بالصيب نفسه.

__________________

(١) البيت لجرير ينظر ديوانه : ص ٤١٦ ، الأزهية : ص ١١٤ ، خزانة الأدب : ١١ / ٦٩ ، والدرر : ٦ / ١١٨ ، شرح التصريح : ١ / ٢٨٣ ، شرح شواهد المغني : ١ / ١٩٦ ، مغني اللبيب : ١ / ٦٢ ، ٧٠ ، المقاصد النحوية : ٢ / ٤٨٥ ، ٤ / ١٤٥ ، وأوضح المسالك : ٢ / ١٢٤ ، والجنى الداني : ص ٢٣٠ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٧٨ ، وشرح ابن عقيل : ص ٤٩٩ ، وشرح عمدة الحافظ : ٦٢٧ ، شرح قطر الندى : ص ١٨٤ ، همع الهوامع : ٢ / ١٣٤ ، النكت والعيون : ١ / ١٤٥ ، الدر المصون : ١ / ١٣٥.

(٢) البيت لتوية بن الحمير ينظر خزانة الأدب : ١١ / ١٨ ، مغني اللبيب : ١ / ٦٢ ، شرح شواهد المغني : ١ / ١٩٤ ، الأزهية : ص ١١٤ ، أمالي المرتضى : ٢ / ٥٧ ، الدرر : ٦ / ١١٧ ، وبلا نسبة ورد في همع الهوامع : ٢ / ١٣٤ ، لسان العرب (أوا) رصف المباني : ص ١٣٢ ، ٤٢٧.

(٣) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٧١.

(٤) البيت لذي الرمة. ينظر ملحقات ديوانه : (٨٥٧) ، والخصائص : (٢ / ٤٥٨) ، والإنصاف : (٤٧٨) ، المحتسب : (١ / ٩٩) ، الخزانة : (٤ / ٤٢٣) ومعاني القرآن : (١ / ٧٢) ، والأزهية : (١٢١) ، وحروف المعاني : (٥٢) ، واللسان (أوى). وشرح جمل الزجاجي : (١ / ٢٣٥) والأضداد (٢٨٢) ، والدر المصون : (١ / ١٣٥).

٣٨٦

و «الصّيب» المطر سمي بذلك لنزوله ، يقال : صاب يصوب إذا نزل ؛ ومنه : صوّب رأسه : إذا خفضه ؛ قال [الطويل]

٢٤٢ ـ فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السّماء يصوب (١)

وقال آخر : [الطويل]

٢٤٣ ـ فلا تعدلي بيني وبين مغمّر

سقتك روايا المزن حيث تصوب (٢)

وقيل : إنه من صاب يصوب : إذا قصد ، ولا يقال : صيّب إلا للمطر الجواد ، كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول : «اللهم اجعله صيّبا هنيئا» (٣) أي : مطرا جوادا ، ويقال أيضا للسحاب : صيّب ؛ قال الشماخ : [الطويل]

٢٤٤ ـ ...........

وأسحم دان صادق الرّعد صيّب (٤)

وتنكير «صيب» يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائل كما نكرت «النّار» في التمثيل الأول.

وقرىء «كصائب» ، والصّيب أبلغ.

__________________

(١) البيت لعلقمة الفحل ينظر صلة ديوانه ص : ١١٨ ، ولمتمم بن نويرة ينظر ديوانه : ص ٨٧ ، وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٢٢٢ ، أو لرجل من عبد القيس أو لأبي وجزة ، أو لعلقمة في المقاصد النحوية : ٤ / ٥٣٢ ، وينظر لسان العرب (صوب) ، (ألك) ، (لأك) ، (ملك) ، والكتاب : ٤ / ٣٨٠ ، وشرح شواهد الشافية : ص ٢٨٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٢ / ٣٤٦ ، وجمهرة اللغة : ص ٩٨٢ ، وأمالي ابن الحاجب : ص ٨٤٣ ، والأشباه والنظائر : ٨ / ٦٩ ، والاشتقاق : ص ٢٦ ، وإصلاح المنطق : ص ٧١ ، والمنصف : ٢ / ١٠٢ ، والمفضليات : (٣٩٤) ، جمل الزجاجي (٦٠) ، ومعاني الزجاج (١ / ٨٠) ، مجاز القرآن (١ / ٣٣) والتهذيب (ألك) ، الطبري (١ / ١٨٢) ، القرطبي : (١ / ١٨٢) ، المحرر الوجيز : (١ / ١١٦) ، والأمالي الشجرية : (٢ / ٢٠ ، ٢٩٢) ، والدر المصون : (١ / ١٣٥).

(٢) البيت لعلقمة. ينظر ديوانه : (٣٤) ، أمالي ابن الشجري : (٢ / ٢٠) ، والمفضليات : (٣٩٢) ، القرطبي : (١ / ١٥١) ، النكت والعيون : (١ / ٨١) ، والدر المصون : (١ / ١٣٥).

(٣) أخرجه النسائي في السنن (٣ / ١٦٤) عن عائشة ولفظه اللهم اجعله صيبا نافعا كتاب الاستسقاء (١٧) باب القول عند المطر (١٥) حديث رقم (١٥٢٣).

وابن ماجه في السنن (٢ / ١٢٨٠) كتاب الدعاء باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر حديث رقم (٣٨٩٠).

وأحمد في المسند (٦ / ٩٠) ـ وابن أبي شيبة (١٠ / ٢١٩) وابن عساكر (٢ / ٤٠٩).

وذكره الزبيدي في الاتحاف (٥ / ١٠٤) والهندي في كنز العمال حديث رقم (٢٣٥٥١).

(٤) عجز بيت للشماخ ينظر ديوانه : (٤٣٢) ، وذكره الشيخ محمد عليان المرزوقي في حاشيته على تفسير الكشاف وذكر صدره :

عفا آية نسج الجنوب مع الصبا

وقيل للنابغة الذبياني ، وقيل للهيثم بن خوار. ينظر الكشاف : ١ / ٨١ ، البحر المحيط : ١ / ٢١٨ ، والرازي : ٢ / ١٧٢.

٣٨٧

واختلف في وزن «صيّب».

فقد ذهب البصرون أنه «فيعل» ، والأصل : صيوب أدغم ك «ميّت» و «هيّن» ، والأصل : ميوت وهيون.

وقال بعض الكوفيين : وزنه «فعيل» والأصل : صويب بزنة طويل.

قال النحاس : وهذا خطأ ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يعلّ كطويل ، وكذا قال أبو البقاء.

وقيل وزنه : «فعيل» فقلب وأدغم.

واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) استئنافية ، ومن قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين ، أعني قوله : «كمثل» و «كصيّب» وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر : [الوافر]

٢٤٥ ـ لعمرك والخطوب مغيّرات

وفي طول المعاشرة التّقالي

لقد باليت مظعن أمّ أوفى

ولكن أمّ أوفى لا تبالي (١)

ففصل بين القسم ، وهو «لعمرك» وبين جوابه ، وهو «لقد باليت» (٢) بجملتين إحداهما : «والخطوب مغيرات».

والثانية : «وفي طول المعاشرة التّقالي».

و «من السماء» يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يتعلّق ب «صيب» ؛ لأنه يعمل عمل الفعل ، والتقدير : كمطر يصوب من السماء ، و «من» لابتداء الغاية.

والثّاني : أن يكون في محلّ جر صفة ل «صيب» ، فيتعلّق بمحذوف ، وتكون «من» للتبعيض ، ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره : كصيّب كائن من أمطار السّماء.

والسماء : هذه المطلّة ، وهي في الأصل كل ما علاك من سقف ونحوه ، مشتقة من السّمو ، وهو الارتفاع ، والأصل : سماو ، وإنما قلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة وهو بدل مطّرد ، نحو : «كساء ورداء» ، بخلاف «سقاية وشقاوة» لعدم تطرف حرف العلّة ، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحّت ؛ نحو : «سماوة».

قال الشاعر : [الرجز]

__________________

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه : ٣٤٢ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٨٢١ ، واللامات : ٨٤ ، مغني اللبيب : ٢ / ٣٩٥ ، والدر المصون : (١ / ١٣٦).

(٢) في أ : بالبيت.

٣٨٨

٢٤٦ ـ طيّ اللّيالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتّى احقوقفا (١)

والسماء مؤنث قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] وقد تذكّر ؛ قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] ؛ وأنشد : [الوافر]

٢٤٧ ـ ولو رفع السّماء إليه قوما

لحقنا بالسّماء مع السّحاب (٢)

فأعاد الضّمير من قوله : «إليه» على «السّماء» مذكّرا ، ويجمع على «سماوات ، وأسمية ، وسميّ» ، والأصل «فعول» ، إلا أنه أعلّ إعلال «عصيّ» بقلب الواوين ياءين ، وهو قلب مطّرد في الجمع ، ويقلّ في المفرد نحو : عتا ـ عتيّا ، كما شذ التصحيح في الجمع قالوا : «إنكم لتنظرون في نحوّ كثيرة» ، وجمع أيضا على «سماء» ، ولكن مفرده «سماوة» ، فيكون من باب تمرة وتمر ، ويدلّ على ذلك قوله : [الطويل]

٢٤ ـ ...........

 ... فوق سبع سمائيا(٣)

ووجه الدّلالة أنه ميّز به «سبع» ولا تميّز هي وأخواتها إلّا بجمع مجرور.

وفي قوله : «من السّماء» ردّ على من قال : إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء ، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء ، ثم ينزل مرة أخرى ، فذاك هو المطر ، فأبطل الله هذا المذهب بأن بيّن أن الصّيب نزل من السّماء ، وقال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [الفرقان : ٤٨].

وقال : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣].

قوله : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة : ١٩] يحتمل أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون صفة ل «صيّب».

__________________

(١) البيت للعجاج. ينظر ديوانه : (٢ / ٢٣٢) ، والكتاب : (١ / ٣٥٩) ، والتهذيب واللسان (حقف) ، مجاز القرآن : (١ / ٣٠) ، وغريب القرآن : (٢١٠) ، والبحر المحيط : (١ / ٢١٨) ، والدر المصون : (١ / ١٣٦).

(٢) ينظر البيت في إعراب ثلاثين سورة (٩٨) ، البحر : (١ / ٢١٩) ، الدر المصون : (١ / ١٣٦) ، روح المعاني : (١ / ١٧١).

(٣) جزء من عجز بيت لأمية بن أبي الصلت وتمام البيت :

له ما رأت عين البصير وفوقه

سماء الإله ...

ينظر ديوانه : (٧٠) ، والكتاب : ٢ / ٥٩ ، والمقتضب : (١ / ١٤٤) ، الخصائص : (١ / ٢١١) ، الخزانة : (١ / ١١٨) ، والمخصص : ٩ / ٣ ، والمنصف : (٢ / ٦٦ ، ٦٨) ، واللسان (سما) ، والمذكر والمؤنث للمبرد : ١٢١٠ والأصول : ٢ / ٩٣ ، وما ينصرف وما لا ينصرف : ١١٥ ، والسيرافي : ١ / ١٣٨.

والشاهد فيه ـ سمائيا ـ ؛ حيث حرك الياء في الجر ضرورة ، ويضاف إلى هذا ضرورتان أخريان : جمع «سماء» على «فعائل» ؛ كشمال وشمائل ، والمستعمل فيها «سماوات» ، والأخرى : أنه لم يغيرها إلى الفتح والقلب ، فيقول : «سمايا» ؛ كما يقال : خطايا.

٣٨٩

الثاني : أن يكون حالا منه ، وإن كان نكرة لتخصصه ، إما بالعمل في الجار بعده ، أو بصفة بالجار بعده.

الثالث : أن يكون حالا من الضمير المستكنّ في «من السماء» إذا قيل : إنه صفة ل «صيّب» ، فيتعلّق في التقادير الثلاثة بمحذوف ، إلّا أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور ، وعلى القولين الأخيرين في محلّ نصب على الحال.

و «ظلمات» على جميع هذه الأقوال فاعل به ؛ لأنّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف ، أو ذي حال ، أو ذي خبر ، أو على نفي ، أو استفهام عملا عمل الفعل ، والأخفش يعملهما مطلقا كالوصف ، وسيأتي تحرير ذلك.

الرابع : أن يكون خبرا مقدما ، و «ظلمات» مبتدأ ، والجملة تحتمل وجهين :

الأول : الجر على أنها صفة ل «صيب».

والثاني : النّصب على الحال ، وصاحب الحال يحتمل أن يكون «كصيب» ، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه ، وأن يكون الضّمير المستكن في «من السّماء» إذا جعل وصفا ل «صيّب» ، والضمير في «فيه» ضمير «الصيب» ، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالا ، ورفع «ظلمات» على الفاعلية به أرجح من جعل (فِيهِ ظُلُماتٌ) جملة برأسها في محلّ صفة أو حال ؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة ، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين.

و «رعد وبرق» : معطوفان على «ظلمات» بالاعتبارين المتقدّمين ، وهما في الأصل مصدران تقول : رعدت السماء ترعد رعدا ، وبرقت برقا.

قال أبو البقاء : وهما على ذلك موحّدتان هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرّاعد والبارق ، نحو : رجل عدل.

والظاهر أنهما في الآية ليس المراد بهما المصدر ، بل جعلا اسما [للهز واللمعان].

والبرق : اللّمعان ، وهو مقصود الآية ، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فاعل.

وقال علي وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وأكثر المفسرين : الرعد : اسم ملك يسوق السّحاب ، والبرق : لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب.

وقيل : الرعد صوت انضغاط السّحاب.

وقيل : تسبيح الملك.

وقيل : الرعد نطق الملك ، والبرق ضحكه.

وقال مجاهد : الرعد اسم الملك ؛ ويقال لصوته أيضا : رعد ، والبرق اسم ملك يسوق السحاب.

وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك يزجي السحاب ، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النّار فهي الصواعق.

٣٩٠

وقيل : الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب. فإن قيل : لم جمع «الظّلمات» ، وأفرد «الرعد والبرق»؟

فالجواب : أن في «ظلمات» اجتمع أنواع من الظّلمة ، وهي ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة تكاثف المطر ، وأما الرعد والبرق فكلّ واحد منهما نوع واحد.

ونكرت ؛ لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : فيه ظلمات داجية ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف.

(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل : ما حالهم؟ فقيل : يجعلون.

وقيل : بل لها محلّ ، ثم اختلف فيه فقيل : جرّ ؛ لأنها صفة للمجرور ، أي : أصحاب صيب جاعلين ، والضمير محذوف.

أو نابت الألف واللام منابه ، تقديره : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه.

وقيل : محلّها نصب على الحال من الضمير في «فيه».

والكلام في العائد كما تقدّم ، والجعل ـ هنا ـ بمعنى الإلقاء ، ويكون بمعنى الخلق ، فيتعدّى لواحد ، ويكون بمعنى «صيّر» أو «سمى» ، فيتعدى لاثنين ، ويكون للشروع ، فيعمل عمل «عسى».

و «أصابعهم» جمع إصبع ، وفيها عشر لغات : بتثليث الهمزة مع تثليث الباء ، والعاشرة «أصبوع» بضم الهمزة.

والواو في «يجعلون» تعود للمضاف المحذوف ، كما تقدم إيضاحه.

واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران :

أحدهما : أن يلتفت إليه.

والثاني : ألا يلتفت إليه ، وقد جمع الأمران في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ، والتقدير : وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله : (أَهْلَكْناها فَجاءَها) ، ورعاه في قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) وذكر الأصابع ، وإن كان المجعول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكلّ كما في قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ، و (فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) كلاهما متعلّق بالجعل ، و «من» معناها التعليل.

و «الصّواعق» : جمع صاعقة ، وهي الضّجّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار.

ويقال : «ساعقة» بالسّين ، و «صاعقة» ، و «صاقعة» بتقديم القاف ؛ وأنشد : [الطويل]

٣٩١

٢٤٩ ـ ألم تر أنّ المجرمين أصابهم

صواقع لا بل هنّ فوق الصّواقع (١)

ومثله قول الآخر : [الرجز]

٢٥٠ ـ يحكون بالمصقولة القواطع

تشقّق اليدين بالصّواقع (٢)

وهي قراءة الحسن.

قال النّحّاس : وهي لغة «تميم» ، وبعض «بني ربيعة» ، فيحتمل أن تكون «صاقعة» مقلوبة من «صاعقة» ، ويحتمل ألّا تكون ، وهو الأظهر لثبوتها لغة مستقلة كما تقدم.

ويقال : «صقعة» أيضا ، وقد قرأ بها الكسائي (٣) في «الذاريات».

يقال : صعق زيد ، وأصعقه غيره قال : [لطويل]

٢٥١ ـ ترى النّعرات الزّرق تحت لبانه

أحاد ومثنى أصعقتها صواهله (٤)

وقيل : «الصّاعقة» [قصف رعد ينقض منها شعلة](٥) من نار لطيفة قوية لا تمرّ بشيء إلّا أتت عليه إلّا أنها مع قوتها سريعة الخمود.

وقيل : الصاعقة : قطعة عذاب ينزلها الله على من يشاء ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سمع صوت الرّعد والصواعق قال : «اللهمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» (٦).

قوله : (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي : مخافة الهلاك ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول من أجله ناصبه «يجعلون» ، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله ؛ لأن الفعل يعلّل بعلل.

__________________

(١) ينظر البيت في لسان العرب منسوبا لابن أحمر (صقع) ، البحر المحيط : (١ / ٢٢٠) ، روح المعاني : (١ / ١٧٤) ، والدر المصون : (١ / ١٣٨).

(٢) نسبه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (١ / ١٥٣) لأبي النجم وهو في البحر المحيط (١ / ٢٢٠) ، والدرر المصون (١ / ١٣٨).

(٣) ستأتي في الذاريات آية (٤٤).

(٤) البيت لابن مقبل في ديوانه ٢٥٢ ، وإصلاح المنطق ٢٠٥ ، وتذكرة النحاة ١ / ٩٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ٥٢٩ ، والمعاني الكبير ٦٠٦ ، وتذكرة النحاة ٦٨٤ ، والصاحبي في فقه اللغة ١٤٠ ، ولسان العرب [فرد] ، [نعر] ، [صعق] ، مجالس ثعلب ١٥٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٦ ، الدرر (١ / ٧) ، القرطبي (١ / ١٥٣) ، والدر المصون (١ / ١٣٨).

(٥) في ب : الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة.

(٦) أخرجه الترمذي في السنن (٥ / ٤٦٩) كتاب الدعوات (٤٩) باب ما يقول إذا سمع الرعد (٥٠) حديث رقم (٣٤٥٠) وقال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص ٢٦٩ ، باب ما يقول إذا سمع الرعد والصواعق. وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم (١٨٠٣٥).

٣٩٢

الثاني : أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذرا مثل حذر الموت. و «الحذر» و «الحذار» مصدران ل «حذر» أي : خاف خوفا شديدا.

واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام :

قسم يكثر نصبه ، وهو ما كان غير معرف ب «أل» ولا مضاف نحو : «جئت إكراما لك».

وقسم عكسه ، وهو ما كان معرّفا ب «أل» ؛ ومن مجيئه منصوبا قول الشاعر : [الرجز]

٢٥٢ ـ لا أقعد الجبن عن الهيجاء

ولو توالت زمر الأعداء (١)

وقسم يستوي فيه الأمران ، وهو المضاف كالآية الكريمة ، ويكون معرفة ونكرة ، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله : [الطويل]

٢٥٣ ـ وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأعرض عن شتم اللّئيم تكرّما (٢)

و «حذر الموت» مصدر مضاف إلى المفعول ، وفاعله محذوف ، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده.

والثاني : فعل ما لم يسم فاعله.

والثالث : فاعل «أفعل» في التعجّب على الصحيح ، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافا للكوفيين.

والموت : ضد الحياة ؛ يقال : مات يموت ويمات ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٢٥٤ ـ بنيّتي سيّدة البنات

عيشي ولا يؤمن أن تماتي (٣)

وعلى هذه اللّغة قريء «متنا» و «متّ» ـ بكسر الميم ـ ك «خفنا» و «خفت» ، فوزن «مات» على اللغة الأولى : «فعل» بفتح العين ، وعلى الثانية : «فعل» بكسرها ، و «الموات» : بالضمّ الموت أيضا ، وبالفتح : ما لا روح فيه ، والموتان بالتحريك ضد

__________________

(١) ينظر الهمع : (١ / ١٩٥) ، الأشموني : (٢ / ١٢٥) ، والعيني : (٣ / ٦٩) ، الدرر : (١ / ١٦٧) ، شرح الكافية الشافية : (٢ / ٦٧٢) وشرح ابن عقيل : (٢ / ١٨٧) وشرح الألفية لابن الناظم : (٢٧٢) وشرح الألفية للمرادي : (٢ / ٨٨) والتصريح : (١ / ٣٣٦) ، الدر المصون : (١ / ١٣٨).

(٢) ينظر ديوانه : ص ٢٢٤ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٥ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٩٥٢ ، الكتاب : ١ / ٣٦٨ ، وشرح المفصل : ٢ / ٥٤ ، واللمع : ص ١٤١ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٧٥ ، ونوادر أبي زيد : ص ١١٠ ، أسرار العربية : ص ١٨٧ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١١٥ ، ولسان العرب (عوز) ، (خصص) ، والعيني : (٣ / ٧٥) ، والأشموني : (٢ / ١٨٩) ، والكشاف : (١ / ٨٥) ، وروح المعاني : (١ / ١٧٤) ، والدر المصون : (١ / ١٣٨).

(٣) ينظر البيت في اللسان (موت) ، القرطبي : (١ / ١٥٣) ، والدر المصون : (١ / ١٣٩).

٣٩٣

الحيوان ؛ ومنه قولهم : «اشتر الموتان ، ولا تشتر الحيوان» ، أي : اشتر الأرضين ، ولا تشتر الرّقيق ، فإنه في معرض الهلاك ؛ و «الموتان» بضمّ «الميم» : وقوع الموت في الماشية ، وموّت فلان بالتشديد للمبالغة ؛ قال : [الوافر]

٢٥٥ ـ فعروة مات موتا مستريحا

فها أنا ذا أموّت كلّ يوم (١)

و «المستميت» : الأمر المسترسل ؛ قال رؤبة : [الرجز]

٢٥٦ ـ وزبد البحر له كتيت

واللّيل فوق الماء مستميت (٢)

قوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩].

وهو مجاز أي : لا يفوتونه. فقيل : عالم بهم ، كما قال : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق : ١٢].

وقيل : جامعهم وقدرته مستولية عليهم ؛ كما قال : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠].

وقال مجاهد : «يجمعهم فيعذبهم» (٣).

وقيل : يهلكهم ، قال تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف : ٦٦] أي : تهلكوا جميعا.

وقيل : «ثمّ» مضاف محذوف ، أي : عقابه محيط بهم.

وقال أبو عمرو ، والكسائيّ : «الكافرين» [بالإمالة](٤) ولا يميلان (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١] ، وهذه الجملة (٥) مبتدأ وخبر.

وأصل «محيط» : «محوط» ؛ لأنه من حاط يحوط فأعلّ كإعلال «نستعين».

والإحاطة : حصر الشيء من جميع جهاته ، وهذه الجملة قال الزمخشريّ : «هي اعتراض لا محلّ لها من الإعراب» كأنه يعني بذلك أن جملة قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) ، وجملة قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ) شيء واحد ؛ لأنهما من قصّة واحدة ؛ فوقع ما بينهما اعتراضا.

«يكاد» مضارع «كاد» ، وهي لمقاربة الفعل ، تعمل عمل «كان» إلّا أن خبرها لا يكون إلّا مضارعا ، وشذّ مجيئه اسما صريحا ؛ قال : [الطويل]

__________________

(١) ينظر اللسان : (موت) ، والدر المصون : ١ / ١٣٩.

(٢) ينظر البيت في ديوانه : (٢٦) ، القرطبي : (١ / ١٥٤) ، الدر المصون : ١ / ١٣٩ ، واللسان (موت).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٧٢) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد.

(٤) في ب : في محل النصب والخفض.

(٥) في أ : الجملة من.

٣٩٤

٢٥٧ ـ فأبت إلى فهم وما كدت آيبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (١)

والأكثر في خبرها تجرّده من «أن» ، عكس «عسى» ، وقد شذّ اقترانه بها ؛ قال رؤبة : [الرجز]

٢٥٨ ـ قد كاد من طول البلى أن يمحصا (٢)

لأنها لمقاربة الفعل ، و «أن» تخلص للاستقبال ، فتنافيا.

واعلم أن خبرها ـ إذا كانت هي مثبتة ـ منفيّ في المعنى ، لأنها للمقاربة.

فإذا (٣) قلت : «كاد زيد يفعل» كان معناه : قارب الفعل إلّا أنه لم يفعل ، فإذا نفيت ، انتفى خبرها بطريق الأولى ؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى ؛ ولهذا كان قوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] أبلغ من أن لو قيل : لم يرها ، لأنه لم يقارب الرّؤية ، فكيف له بها؟

وزعم جماعة منهم ابن جنّي ، وأبو البقاء ، وابن عطية أن نفيها إثبات ، وإثباتها نفي ؛ حتى ألغز بعضهم فيها ؛ فقال : [الطويل]

٢٥٩ ـ أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا نفيت ـ والله أعلم ـ أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود (٤)

وحكوا عن ذي الرّمّة أنه لما أنشد قوله : [الطويل]

٢٦٠ ـ إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٥)

عيب عليه ؛ لأنه قال : «لم يكد يبرح» ، فيكون قد برح ، فغيّره إلى قوله : «لم يزل» ، أو ما هو بمعناه.

__________________

(١) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص ٩١ ينظر الخصائص : ١ / ٣٩١ ، خزانة الأدب : ٨ / ٣٧٤ ، ٣٧٥ ، ٣٧٦ ، الأغاني : ٢١ / ١٥٩ ، الدرر : ٢ / ١٥٠ ، شرح التصريح : ١ / ٢٠٣ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ص ٨٣ ، شرح شواهد الإيضاح : ص ٦٢٩ ، ولسان العرب (كيد) ، المقاصد النحوية : ٢ / ١٦٥ ، الإنصاف : ٢ / ٥٤٤ ، وأوضح المسالك : ١ / ٣٠٢ ، رصف المباني : ص ١٩٠ ، شرح ابن عقيل : ص ١٦٤ ، شرح عمدة الحافظ : ص ٨٢٢ ، شرح المفصل : ٧ / ١٣ ، همع الهوامع : ١ / ١٣٠ ، وشواهد الكتاب : (١ / ٤٧٨) ، والدر المصون : (١ / ١٣٩).

(٢) ينظر البيت في ملحق ديوانه : (٧٢) ، والكتاب : ١ / ٤٧٨ ، وابن يعيش : ٧ / ١٢١ ، والخزانة : ٤ / ٩٠ ، واللسان (مصح) ، والدر المصون : ١ / ١٣٩.

(٣) في ب : فإن.

(٤) البيتان لأبي العلاء المعري. ينظر الهمع : (١ / ١٣٢) ، الأشموني : (١ / ٢٦٨) ، الدرر : (١٠ / ١١٠) ، والدر المصون : (١ / ١٤٠).

(٥) ينظر البيت في ديوانه : (١١٩٢). شرح المفصل : (٧ / ١٢٤) ، الأشموني : (١٠ / ٢٦٨) ، الخزانة : (٤ / ١٧٤) ، والدر المصون : (١ / ١٤٠).

٣٩٥

والذي غرّ هؤلاء قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] قالوا : «فهي هنا منفية» ، وخبرها مثبت في المعنى ؛ لأن الذبح وقع لقوله : «فذبحوها» ، والجواب عن هذه الآية من وجهين :

أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين ، أي : ذبحوها في وقت ، وما كادوا يفعلون في وقت آخر.

والثاني : أنه عبّر بنفي مقاربة الفعل عن شدّة تعنّتهم ، وعسرهم في الفعل.

وأما ما حكوه عن ذي الرّمّة ، فقد غلّط الجمهور ذا الرمّة في رجوعه عن قوله الأوّل ، وقالوا : «هو أبلغ وأحسن مما [غيّره إليه](١)».

واعلم أن خبر «كاد» وأخواتها ـ غير «عسى» ـ لا يكون فاعله إلّا ضميرا عائدا على اسمها ؛ لأنها للمقاربة أو للشّروع ، بخلاف «عسى» ، فإنها للترجّي ؛ تقول : «عسى زيد أن يقوم أبوه» ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأما قوله : [الطويل]

٢٦١ ـ وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه (٢)

فأتى بالفاعل ظاهرا ، فقد حمله بعضهم على الشّذوذ ، وينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك ؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرّبع ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتّى كاد يكلّمني ؛ ولكنه عبّر [عنه](٣) بمجموع أجزائه.

وأما قول الآخر : [البسيط]

٢٦٢ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر

وكنت أمشي على رجلين معتدلا

فصرت أمشي على أخرى من الشّجر (٤)

__________________

(١) في أ : عبر به.

(٢) البيتان لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ٨٢١ ، والكتاب : ٤ / ٥٩ ، ولسان العرب (سقى) ، (شكا) ، والمقاصد النحوية : ٢ / ١٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٣٦٤ ، وشرح التصريح : ١ / ٢٠٤ ، والدرر : ٢ / ١٥٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ١ / ٩١ ، ٩٢ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٥٨٣ ، وشرح شواهد الشافية : ص ٤١ ، وأدب الكاتب : ص ٤٦٢ ، والممتع في التصريف : ص ١٨٧ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك : ١ / ٣٠٧ ، وشرح الأشموني : ١ / ١٣٠ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٢٢٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٣١ ، والدر المصون : ١ / ١٤٠.

(٣) سقط في أ.

(٤) البيتان لعمرو بن أحمر ينظر ملحق ديوانه : ص ٧٢ ، خزانة الأدب : ٩ / ٣٥٩ ، ٣٦٢ ، ولأبي حية النمري في الحيوان : ٦ / ٤٨٣ ، شرح التصريح : ١ / ٢٠٤ ، شرح شواهد الإيضاح : ص ٧٤ والمقاصد النحوية : ٢ / ١٧٣ ، ولابن أحمر أو لأبي حية النمري في الدرر : ٢ / ١٣٣ ، ولأبي حية أو للحكم بن عبدل في شرح شواهد المغني : ٢ / ٩١١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك : ١ / ٣٠٥ ، شرح الأشموني : ـ

٣٩٦

فأتى [بفاعل](١) [خبر](٢) جعل ظاهرا ، فقد أجيب عنه بوجهين :

أحدهما : أنه على حذف مضاف ، تقديره : وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني.

والثاني : أنه من باب (٣) إقامة السّبب مقام المسبّب ، فإن نهوضه كذا متسبّب عن إثقال ثوبه إيّاه ، والمعنى : وقد جعلت أنهض نهض الشارب الثّمل لإثقال ثوبي إيّاي.

ووزن «كاد كود» بكسر العين ، وهي من ذوات الواو ؛ ك «خاف» يخاف ، وفيها لغة أخرى : فتح عينها ، فعلى هذه اللّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء المتكلّم وأخواتها ، فتقول : «دت ، وكدنا» ؛ مثل : قلت ، وقلنا ، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر ، كقوله : [الطويل]

٢٦٣ ـ وكيد ضباع القفّ يأكلن جثّتي

وكيد خراش عند ذلك ييتم (٤)

ولا يجوز زيادتها خلافا [للأخفش](٥) ، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في «كاد» الناقصة.

أمّا «كاد» التامة بمعنى «مكر» فوزنها فعل بفتح العين من ذوات «الياء» ؛ بدليل قوله : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ) [الطارق : ١٥ ، ١٦].

و «البرق» اسمها ، و «يخطف» خبرها ويقال : خطف يخطف [بكسر عين الماضي ، وفتح المضارع ، وخطف يخطف](٦) عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة ، والمشهور منها الأولى.

الثانية : يخطف بكسر الطاء ، قرأها مجاهد (٧).

الثالثة : عن الحسن بفتح «الياء والخاء والطاء» ، مع تشديد «الطاء» ، والأصل : «يختطف» ، فأبدلت «تاء» الافتعال «طاء» للإدغام.

__________________

ـ ١ / ١٣٠ ، شرح التصريح : ١ / ٢٠٦ ، ومغني اللبيب : ٢ / ٥٧٩ ، المقرب : ١ / ١٠١ وأمالي القالي : (٢ / ١٦٣) ، الخصائص : (١ / ٢٠٧) ، والشذور : (١٩٠) والدر المصون : (١ / ١٤٠).

(١) في أ : بها على.

(٢) زيادة يستقيم بها المعنى.

(٣) في أ : أنه مسبب.

(٤) البيت لأبي خراش الهذلي. ينظر ديوان الهذليين : (٢ / ١٤٨) ، وشرح المفصل : (١٠ / ٧٢) ، والمنصف : (١ / ٢٥٢) ، والممتع : (٤٣٩) ، والدر المصون : (١ / ١٤١).

(٥) في أ : خلافا لمن يقول.

(٦) سقط في أ.

(٧) وهي قراءة علي بن الحسين ويحيى بن زيد.

قال ابن عطية : ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء ، وذلك وهم. انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٠٣ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٢٧ ، والدر المصون : ١ / ١٤١.

٣٩٧

الرابعة : كذلك ، إلّا أنه بكسر (١) الطاء على [أنه](٢) أصل التقاء السّاكنين.

الخامسة : كذلك ، إلا أنه بكسر «الخاء» إتباعا لكسرة الطاء.

السّادسة : كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضا إتباعا للخاء.

السابعة : «يختطف» على الأصل.

الثامنة : يخطّف بفتح الياء ، وسكون الخاء ، وتشديد الطاء [وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين.

التاسعة : بضمّ الياء ، وفتح الخاء ، وتشديد الطاء](٣) مكسورة ، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.

العاشرة : «يتخطّف» عن أبيّ من قوله : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

و «الخطف» : أخذ شيء بسرعة ، وهذه الجملة ـ أعني قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ) لا محلّ لها ، لأنه استئناف كأنه قيل : كيف يكون حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل : يكاد يخطف ، ويحتمل أن تكون في محلّ جر صفة ل «ذوي» المحذوفة ، التقدير : كذوي صيّب كائد البرق يخطف.

قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ).

«كلّ» نصب على الظرف ؛ لأنها أضيفت إلى «ما» الظرفية ، والعامل فيها جوابها ، وهو «مشوا».

وقيل : «ما» نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضا ، والعائد محذوف تقديره : كل وقت أضاء لهم فيه ، ف «أضاء» على الأول لا محلّ له ؛ لكونه صلة ، ومحلّه الجر على الثاني.

و «أضاء» يجوز أن يكون لازما.

وقال المبرّد : «هو متعدّ ، ومفعوله محذوف أي : أضاء لهم البرق الطريق» ، ف «الهاء» في «فيه» تعود على البرق في قول الجمهور ، وعلى الطّريق المحذوف في قول المبرّد.

و «فيه» متعلّق ب «مشوا» ، و «في» على بابها أي : إنه محيط بهم.

وقيل : بمعنى الباء ، ولا بد من حذف على القولين : أي : مشوا في ضوئه : أي بضوئه ، ولا محل لجملة قوله : «مشوا» ؛ لأنها مستأنفة ، كأنه جواب لمن يقول : كيف يمضون (٤) في حالتي ظهور البرق وخفائه؟

والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصّيّب ، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل بما يأتون ، وما يذرون.

__________________

(١) في أ : كسر.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : يصنعون.

٣٩٨

واعلم أن «كلّ» من ألفاظ العموم (١) ، وهو اسم جمع لازم للإضافة ، وقد يحذف ما يضاف إليه ، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض ، أو تنوين صرف؟ قولان :

والمضاف إليه «كل» إن كان معرفة وحذف ، بقيت على تعريفها ، فلهذا انتصب (٢) عنها الحال ، ولا يدخلها الألف واللام ، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم ، وربما انتصب حالا ، وأصلها أن تستعمل توكيدا ك «أجمع» ، والأحسن استعمالها مبتدأ ، وليس كونها مفعولا بها مقصورا على السماع ، ولا مختصّا بالشعر ، خلافا لزاعم ذلك.

وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية ، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره ، تقول : «كل رجال أتوك ، فأكرمهم» ، ولا يجوز أن تراعي لفظ «كل» فتقول : «كلّ رجال أتاك ، فأكرمه» ، و «كلّ رجل أتاك ، فأكرمه» ولا تقول «كلّ رجل أتوك ، فأكرمهم» ؛ اعتبارا بالمعنى ، فأما قوله : [الكامل]

٢٦٤ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم (٣)

فراعى المعنى ، فهو شاذّ لا يقاس عليه.

وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان ، سواء كانت بالإضافة لفظا ؛ نحو : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥] فراعى لفظ «كل».

أو معنى نحو : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] فراعى لفظها ، وقال : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] فراعى المعنى.

وقول بعضهم : «إن «كلما» تفيد التكرار» ليس ذلك من وضعها ، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه.

فإنك إذا قلت : «كلما جئتني أكرمتك» كان المعنى أكرمك (٤) في كل فرد [فرد](٥) من جيئاتك إليّ.

__________________

(١) (كلا) ، (كلتا) والخبر عنها يكون مفردا ، ومن خصائصها : أنها لا تعرب إلا إذا أضيفت إلى مضمر ، بخلاف «كل» فإنها تعرب مطلقا.

(٢) في أ : ينتصب.

(٣) البيت لعنترة. ينظر ديوانه : ص ١٩٦ ، وجمهرة اللغة : ص ٨٢ ، ٤٩٧ ، ولسان العرب (ثرر) ، (حرر) ، (حدق) ؛ ومغني اللبيب : ١ / ١٩٨ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٣٨٠ ، والدرر : ٥ / ١٣٦ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٤٨٠ ، ٢ / ٥٤١ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ١٨١ ، جمهرة اللغة : ص ٤٢٥ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣١٠ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٧٤ ، وشرح التبريزي على المعلقات : (٣٣١) ، والدر المصون : (١ / ١٤٢).

(٤) في أ : أكرمتك.

(٥) سقط في أ.

٣٩٩

وقرأ ابن أبي عبلة (١) «ضاء» ثلاثيا ، وهي تدل على أن الرباعي لازم.

وقرىء (٢) : «وإذا أظلم» مبنيا للمفعول ، وجعله (٣) الزمخشري دالّا على أن «أظلم» متعدّ ، واستأنس أيضا بقول حبيب : [الطويل]

٢٦٥ ـ هما أظلما حاليّ ثمّت أجليا

ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب (٤)

ولا دليل في الآية ؛ لاحتمال أنّ أصله : «وإذا أظلم اللّيل عليهم» ، فلما بني للمفعول حذف الليل ، وقام «عليهم» مقامه ، وأما بيت حبيب فمولّد.

وإنما صدرت الجملة الأولى ب «كلّما» والثانية ب «إذا» ، قال الزمخشري : «لأنهم حراص على وجود ما همّهم به ، معقود من إمكان المشي وتأتّيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقّف والتّحبّس» (٥) وهذا هو الظاهر ، إلّا أن من النحويين من زعم أن «إذا» تفيد التكرار أيضا ؛ وأنشد : [البسط]

٢٦٦ ـ إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي

أقبلت (٦) نحو سقاء القوم أبترد (٧)

قال : «معناها معنى «كلما»».

قوله : «قاموا» أي وقفوا أو ثبتوا (٨) في مكانهم ، ومنه : «قامت السوق».

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ).

«لو» حرف لما كان سيقع (٩) لوقوع غيره ، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره ، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩].

وفي قوله عليه‌السلام : «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه» (١٠) وعدم

__________________

(١) انظر البحر المحيط : ١ / ٢٢٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٠٤ ، والدر المصون : ١ / ١٤٢.

(٢) قرأ بها يزيد بن قطيب والضحاك.

انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٠٤ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٢٨ ، والكشاف : ١ / ٨٦.

(٣) في أ : وجعلها.

(٤) ينظر ديوانه : (١ / ١٥٧) ، الكشاف : (١ / ٨٦) ، والدر المصون : (١ / ١٤٢).

(٥) في أ : التحسن.

(٦) في أ : وردت.

(٧) ينظر روح المعاني : (١ / ١٧٥) ، الدر المصون : (١ / ١٤٣) ، اللسان (برد).

(٨) في ب : وتلبثوا.

(٩) في ب : ليقع.

(١٠) الحديث ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٤٤٦) وقال : اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر البهاء السبكي أنه لم يظفر به بعد البحث وكذا كثير من أهل اللغة لكن نقل في المقاصد عن الحافظ ابن حجر أنه ظفر به في مشكل ـ

٤٠٠