اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

والآخرة تأنيث آخر المقابل ل «أول» ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء ، والتقدير : الدار الآخرة ، أو النشأة الآخرة ، وقد صرح بهذين الموصوفين ، قال تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [الأنعام : ٣٢] وقال : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠].

و «يوقنون» من أيقن بمعنى : استيقن ، وقد تقدّم أن «أفعل» [يأتي](١) بمعنى : «استفعل» أي : يستيقنون أنها كائنة ، من الإيقان وهو العلم.

وقيل : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكّا فيه ، فلذلك لا تقول : تيقّنت وجود نفسي ، وتيقنت أن السماء فوقي ، ويقال ذلك في العلم الحادث ، سواء أكان ذلك العلم ضروريا أو استدلاليا.

وقيل : الإيقان واليقين علم من استدلال ، ولذلك لا يسمى الله موقنا ولا علمه يقينا ، إذ ليس علمه عن استدلال.

وقرىء (٢) : «يؤقنون» بهمز الواو ، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين ، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط :

منها ألّا تكون الحركة عارضة ، وألّا يمكن تخفيفها ، وألّا يكون مدغما فيها ، وألّا تكون زائدة ؛ على خلاف في هذا الأخير ، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة «آل عمران» عند قوله : (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) [آل عمران : ١٥٣] ، فأجروا الواو السّاكنة المضموم ما قبلها مجرى المضمومة نفسها ؛ لما ذكرت لك ، ومثل هذه القراءة قراءة قنبل : «بالسّؤق» [ص : ٣٣] و «على سؤقه» [الفتح : ٢٩] وقال الشاعر : [الوافر]

١٣٥ ـ أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى

وجعدة إذ أضاءهما الوقود (٣)

بهمز «المؤقدين».

وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدّد والحدوث ، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك.

وجاء ب «أنزل» ماضيا ، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليبا للحاضر المنزول

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قرأ بها أبو حية النمري. انظر الشواذ : (١٠) ، البحر المحيط : ١ / ١٦٧.

(٣) البيت لجرير. ينظر ديوانه : (٢٨٨) ، المحتسب : (١ / ٤٧) ، الخصائص : (٢ / ١٧٥) ، المغني : (٢ / ٦٨٤) ، الكشاف : (١ / ٤٣) ، شرح الشافية للرضي : (٣ / ٢٠٦) ، والمقرب : (٥٢٠) ، والممتع : (١ / ٩١ ، ٣٤٢) ، (٢ / ٥٦٥) ، البحر : (١ / ١٦٧) ، الدر : (١ / ١٠١) والأشباه والنظائر : ٢ / ١٢ ، ٨ / ٧٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٩٦٢ ، والمحتسب : ١ / ٤٧ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٧٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ص ٢٠٦.

٣٠١

على ما لم ينزل ؛ لأنه لا بدّ من وقوعه ، فكأنه نزل من باب قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل :

١]. بل أقرب منه ؛ لنزول بعضه.

فصل فيما استحق به المؤمنون المدح

قال ابن الخطيب (١) : إنه ـ تعالى ـ مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة ، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط ، بل لا يستحق المدح إلّا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب ، والسؤال ، وإدخال المؤمنين الجنّة ، والكافرين النار.

روي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : «يا عجبا كل العجب من الشّاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجبا ممن يعرف النّشأة الأولى ثم ينكر النّشأة الآخرة ، وعجبا ممن ينكر البعث والنشور ، وهو [في](٢) كل يوم وليلة يموت ويحيا ـ يعني النوم واليقظة ـ وعجبا ممن يؤمن بالجنّة ، وما فيها من النعيم ، ثم يسعى لدار الغرور ؛ وعجبا من المتكبر الفخور ، وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة» (٣).

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

«أولئك» مبتدأ ، خبره الجار والمجرور بعده أي : كائنون على هدى ، وهذه الجملة : إما مستأنفة ، وإما خبر عن قوله : الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية ، ويجوز أن يكون «أولئك» وحده خبرا عن (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) أيضا إما الأولى أو الثانية ، ويكون (عَلى هُدىً) في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال ، هذا كله إذا أعربنا (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ ، فلا يخفى حكمه مما تقدم.

ويجوز أن يكون (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) مبتدأ و «أولئك» بدل أو بيان ، و (عَلى هُدىً) الخبر.

و «أولئك» : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذّكور والإناث ، وهو مبني على الكسر ؛ لشبهه بالحرف في الافتقار.

وقيل : «أولاء» كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو : «هم» و «الكاف» للخطاب ، كما في حرف «ذلك» ، وفيه لغتان : المد والقصر ، ولكن الممدود للبعيد ، وقد يقال : «أولالك» قال : [الطويل]

١٣٦ ـ أولالك قومي لم يكونوا أشابة

وهل يعظ الضّلّيل إلّا أولالكا (٤)

وعند بعضهم : المقصور للقريب والممدود للمتوسّط ، و «أولالك» للبعيد ، وفيه

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٣١.

(٢) سقط في أ.

(٣) الحديث ذكره الرازي في «تفسيره» : (٢ / ٣١) ولا أراه يصح.

(٤) البيت للأعشى ينظر شرح المفصل : ١٠ / ٦ ، ونوادر أبي زيد : ص ١٥٤ ، وإصلاح المنطق : ص ـ

٣٠٢

لغات كثيرة ، وكتبوا «أولئك» بزيادة «واو» قبل «اللام».

قيل : للفرق بينها وبين «إليك».

و «الهدى» الرشد والبيان والبصيرة.

و «من ربّهم» في محل جر صفة ل «هدى» ، و «من» لابتداء الغاية ، ونكر «هدى» ليفيد إبهامه التّعظيم كقوله : [الطويل]

١٣٧ ـ فلا وأبي الطّير المربّة بالضّحى

على خالد لقد وقعت على لحم (١)

وروي «من ربهم» بغير غنّة ، وهو المشهور ، وبغنّة ، ويروى عن أبي عمرو ، و «أولئك» مبتدأ ، و «هم» مبتدأ ثان ، و «المفلحون» خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون «هم» فصلا أو بدلا ، و «المفلحون» الخبر.

وفائدة الفصل : الفرق بين الخبر والتابع ، ولهذا سمي فصلا ، ويفيد ـ أيضا ـ التوكيد.

قال ابن الخطيب : يفيد فائدتين :

إحداهما : الدلالة على أن «الوارد» بعده خبر لا صفة.

والثاني : حصر الخبر في المبتدأ ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلّا في الإنسان.

وقد تقدم أنه يجوز أن يكون «أولئك» الأولى ، أو الثّانية خبرا عن «الذين يؤمنون» ، وتقدم تضعيف هذين القولين. وكرر «أولئك» تنبيها على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح ، فجعلت كل واحدة من الأثرتين في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها ، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] لأن الخبرين ـ هنا ـ متغايران ، فاقتضى ذلك العطف ، وأما تلك الآية الكريمة ، فإن الخبرين فيها شيء واحد ؛ لأن التسجيل (٢) عليهم بالغفلة ، وتشبيههم بالأنعام (٣) معنى واحد ، فكانت عن العطف بمعزل.

قال الزمخشري : وفي اسم الإشارة الذي هو «أولئك» إيذان بأن ما يراد عقبه ،

__________________

ـ ٣٨٢ ، والدرر : ١ / ٢٣٥ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٣٢٢ ، وشرح التصريح : ١ / ١٢٩ ، والصاحبي في فقه اللغة : ص ٤٨ ، واللامات : ص ١٣٢ ، والمنصف : ١ / ١٦٦ ، ٣ / ٢٦ ، وهمع الهوامع : ١ / ٧٦ ، الدر المصون : ١ / ١٠١.

(١) البيت لأبي خراش الهذلي ينظر في خزانة الأدب : ٥ / ٧٥ ، ٧٦ ، ٧٨ ، ٨١ ، ١١ / ٤٧ ، وشرح أشعار الهذليين : ٣ / ١٢٢٦ ، ومجالس ثعلب : ص ١٥١ ، ٢١٢ ، ولأبي ذؤيب الهذلي في خزانة الأدب : ٥ / ٨٥ ، ٦ / ٢٠٨ ، الكشاف : ١ / ٤٥ ، الدر : ١ / ١٠١.

(٢) في أ : التمثيل.

(٣) في أ : بالبهائم.

٣٠٣

والمذكورين قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم ، كقول حاتم : [الطويل]

١٣٨ ـ ولله صعلوك ...

 ........... (١)

ثم عدّد له فاضلة ، ثم عقّب تعديدها بقوله : [الطويل]

١٣٩ ـ فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمّما (٢)

و «الفلاح» أصله : الشقّ ؛ ومنه قوله : [الرجز]

١٤٠ ـ إنّ الحديد بالحديد يفلح (٣)

ومنه قول بكر بن النّطاح (٤) : [الكامل]

١٤١ ـ لا تبعثنّ إلى ربيعة غيرها

إنّ الحديد بغيره لا يفلح (٥)

ويعبر به عن الفوز ، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية ؛ ويراد به البقاء قال : [الرجز]

١٤٢ ـ لو أنّ حيّا مدرك الفلاح

أدركه ملاعب الرّماح (٦)

وقال : [الطويل]

١٤٣ ـ نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا

ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير (٧)

وقال : [المنسرح]

__________________

(١) جزء بيت وتمامه :

 ... يساور همه

ويمضي على الأحداث والدهر مقدما

ينظر ديوانه : (٤٥) ، والخزانة : ٣ / ١٢٥ ، الكشاف : ١ / ٤٤ ، والدر المصون : ١ / ١٠٢.

(٢) ينظر البيت في الخزانة : ٣ / ١٢٥ ، والكشاف : ١ / ٤٤ ، والدر المصون : ١ / ١٠٢.

(٣) عجز بيت وصدره :

قد علمت خيلك أني الصحصح

ينظر اللسان : (فلح) ، مجمع الأمثال : ١ / ٨ ، والدر المصون : ١ / ١٠٢.

(٤) بكر بن النطاح الحنفي ، أبو وائل ، شاعر غزل ، من فرسان بني حنيفة ، من أهل اليمامة ، انتقل إلى بغداد في زمن الرشيد ، واتصل بأبي دلف العجلي ، فجعل له رزقا سلطانيا عاش به إلى أن توفي ، ورثاه أبو العتاهية بقوله :

مات النطاح أبو وائل

بكر ، فأضحى الشعر قد ماتا

توفي سنة ١٩٢ ه‍.

انظر فوات الوفيات : ١ / ٧٩ ، البداية والنهاية : ١٠ / ٢٠٨ ، الأعلام : ٢ / ٧١.

(٥) ينظر الدر المصون : ١ / ١٠٢.

(٦) البيت للبيد بن ربيعة. ينظر ديوانه : (٣٣٣) ، المغني : (١ / ٢٧٠) ، (٤٣٥) ، الهمع : (١ / ١٣٩) ، الدرر : (١ / ١١٥) ، القرطبي : (١ / ١٢٧) ، الدر : (١ / ١٠٢).

(٧) البيت للبيد بن ربيعة. ينظر ديوانه : ٥٧ ، مجاز القرآن : ١ / ٣٠ ، القرطبي : ١ / ١٢٧ ، الدر : ١ / ١٠٢.

٣٠٤

١٤٤ ـ لكلّ همّ من الهموم سعه

والمسي والصّبح لا فلاح معه (١)

والمفلج ـ بالجيم ـ مثله ، ومعنى التعريف في «المفلحون» الدلالة على أن المتقين هم الناس أي : أنهم الذين إذا حصلت صفة المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد ، وما جبل عليه من فرط الإقدام؟ إن زيدا هو هو.

فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه

هذه الآية يتمسّك بها الوعيدية والمرجئة.

أما الوعيديّة فمن وجهين :

الأول : أن قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يقتضي الحصر ، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحا ، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصّلاة والزكاة.

الثاني : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة (٢) لذلك

__________________

(١) البيت للأضبط بن قريع. ينظر القرطبي : (١ / ١٢٧) ، المحرر الوجيز : (١ / ١٨٦) ، الدر : (١ / ١٠٢).

(٢) العلّة تأتي بكسر العين وبفتحها :

أما بالكسر : فإنها تأتي بمعنى المرض ، يقال : اعتلّ العليل علة صعبة ؛ من علّ يعل ، واعتلّ ، أي : مرض فهو عليل ، وأما بالفتح : فإنها تأتي بمعنى الضرّة ، وبنو العلات : بنو رجل واحد من أمّهات شتّى ، وإنما سميت الزوجة الثانية علّة ؛ لأنها تعل بعد صاحبتها ؛ من العلل الذي يعنى به : الشربة الثانية عند سقي الإبل ، والأولى منها تسمى النهل.

ويقال : هذا علة لهذا ، أي : سبب ، وفي حديث عائشة : «فكان عبد الرحمن يضرب رجلي بعلة الراحلة» ، أي : بسببها.

أما العلّة عند علماء الأصول ؛ فلها تعريفات كثيرة منها :

الأول : أنه يراد بها :

الوصف المؤثّر في الأحكام لجعل الشارع لا لذاته ، ومما سار على ضرب هذا التعريف الإمام الغزالي ، وبعض الأصوليين. قال حجة الإسلام ـ قدس الله سره ونوّر ضريحه ـ : والعلّة في الأصل : عبارة عما يتأثر المحلّ بوجوده ؛ ولذلك سمي المرض علة ، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق.

وقال أيضا : العلة عبارة عن موجب الحكم ؛ والموجب : ما جعله الشرع موجبا ، مناسبا كان أو لم يكن ، وهي كالعلل العقلية في الإيجاب ، إلا أن إيجابها بجعل الشارع إيّاها موجبة لا بنفسها.

وقال أيضا : والعلّة موجبة ؛ أما العقلية فبذاتها ، وأما الشرعية فبجعل الشرع إياها موجبة ، على معنى إضافة الوجوب إليها ؛ كإضافة وجوب القطع إلى السّرقة ، وإن كنا نعلم أنه إنما يجب بإيجاب الله ـ تعالى ـ.

والثاني : أنه يراد بها : المعرف للحكم ، والذين صاروا إلى هذا التعريف يجعلونها بهذا المعنى ـ علما ـ على الحكم ، فمتى ما وجد المعنى المعلّل به ، عرف الحكم حتى إن بعضهم صرّح بكونها كذلك ؛ فقال : ما جعل علما على حكم النص ، وعنوا بقولهم : «علما» : الأمارة والعلامة ؛ وبهذا تكون العلّة أمارة على وجود الحكم في الفرع والأصل معا ، أو علامة على وجوده في الفرع فقط ؛ كما يرى بعض الأصوليين. ـ

٣٠٥

الحكم ، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة ، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح ، فوجب ألا يحصل الفلاح.

وأما المرجئة : فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفلاح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية ، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحا ، وإن زنى وشرب الخمر وسرق ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة ؛ لأنه لا قائل بالفرق.

قال ابن الخطيب (١) : والجواب أن كل واحد من الاحتجاجين معارض بالآخر ، فيتساقطان.

والجواب عن قول الوعيدية : أن قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يدل على أنهم الكاملون في الفلاح ، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح ، ونحن نقول بموجبه ، فإنه كيف يكون كاملا في الفلاح ، وهو غير جازم بالخلاص من العذاب ، بل يجوز له أن يكون خائفا.

وعن الثاني : أن نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب ، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تعالى.

__________________

ـ كما أنهم أيضا أشاروا إلى أن العلّة غير مؤثر حقيقة ، بل المؤثّر في الحقيقة هو الله ـ تعالى ـ ، ويردّون بذلك على من يقول : إنها هي المؤثّر.

وممن ذهب إلى هذا التعريف : الإمام البيضاوي ، وكثير من علماء الأحناف ، وبعض فقهاء الحنابلة.

والثالث : أن العلة هي الوصف المؤثّر بذاته في الحكم.

وبعبارة أخرى : هي الموجب للحكم بذاته ؛ بناء على جلب المصالح ، أو دفع المفاسد التي قصدها الشارع. وهذا التعريف ذكره الأصوليون عن جماهير المعتزلة.

قال أبو الحسين البصري في المعتمد : وأما العلة في اصطلاح الفقهاء : فهي ما أثّرت حكما شرعيّا ، وإنما يكون الحكم شرعيا إذا كان مستفادا من الشّرع.

ينظر الصحاح للجوهري : ٥ / ١٧٧٣ ، تهذيب اللغة للأزهري : ١ / ١٠٥ ، ترتيب القاموس : ٣ / ٣٥٠ ، لسان العرب : ٤ / ٣٠٧٩ ـ ٣٠٨٠. البحر المحيط للزركشي : ٥ / ١١١ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٣ / ١٨٥ ، نهاية السول للإسنوي : ٤ / ٥٣ ، منهاج العقول للبدخشي : ٣ / ٥٠ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ص ١١٤ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ٢ / ٢٢٢ ، المستصفى للغزالي : ٢ / ٢٨٧ ، ٣٣٥ ، حاشية البناني : ٢ / ٢٣١ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٤ / ٣٢ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني : ص ٤٧ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ٢ / ٢٧٢ ، المعتمد لأبي الحسين : ٢ / ٢٤٦ ، التحرير لابن الهمام : ص ٤٣١ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه : ٣ / ٣٠٢ ، كشف الأسرار للنسفي : ٢ / ٢٨١ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ٢١٧ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني : ٢ / ٦٢ ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين : ص ٢٤٣ ، ميزان الأصول للسمرقندي : ٢ / ٨٢٥ ، إرشاد الفحول للشوكاني : ص ٢١٠ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج : ٣ / ١٤١.

(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٣٣.

٣٠٦

والجواب عن قول المرجئة : أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنيل الثواب ؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي ، واتقاء ترك الواجبات ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٦)

اعلم أن الحروف لا أصل لها في العمل ، لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى ، فاقتضى كونه عاملا.

أما المشابهة في اللفظ فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها ، ولزمت الأسماء كالأفعال ، وتدخل نون الوقاية نحو : «إنّني وكأنّني» كما تدخل على الفعل نحو : «أعطاني وأكرمني» ، وأما المعنى فلأنه (١) يفيد معنى في الاسم ، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل.

روى ابن الأنباري «أن الكنديّ» (٢) المتفلسف ركب إلى المبرد وقال : إني أجد في كلام العرب حشوا ، أجد العرب تقول : «عبد الله قائم» ، ثم يقولون : «إنّ عبد الله قائم» ثم يقولون : «إنّ عبد الله لقائم».

فقال المبرد : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ ، فقولهم : «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه ، وقولهم : «إن عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : «إن عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر لقيامه.

واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر جوابا لسؤال سائل بقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف : ٨٣] إلى أن قال : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ) ، وقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) [الكهف : ١٣] ، وقوله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ) [الشعراء : ٢١٦].

قال عبد القاهر : والتحقيق أنّها للتأكيد ، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم يحتج إلى «إن» ، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف ، فأما دخول اللّام معها في جواب المنكر ، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد.

فإن قيل : فلم لا دخلت «اللام» في خبرها في قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٦] ، وأدخل «اللام» في خبرها في قوله قبل ذلك : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ

__________________

(١) في ب : فلا.

(٢) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي أبو يوسف فيلسوف العرب والإسلام في عصره وأحد أبناء الملوك من كندة نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك ، قال ابن جلجل «ولم يكن في الإسلام غيره احتذى في تواليفه حذو أرسطاطاليس» من كتبه : رسالة في التنجيم ، والقول في النفس. ينظر الأعلام : ٨ / ١٩٥ (١٧٦٩) ، ابن خلكان : ٢ / ٣٠٩ ، هدية العارفين : ٢ / ٥٣٦.

٣٠٧

ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) [المؤمنون : ١٥] ، وهم كانوا يتيقنون الموت ، فلا حاجة إلى التأكيد ، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول «اللام» على البعث أشد ليفيد التأكيد.

فالجواب : أن التأكيد حصل أولا بقوله : (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٣ ـ ١٤].

فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغ في التأكيد من دخول «اللام» على خبر «إن» ، فلذلك استغنى عن دخول «اللام» على خبر «إن» ، وهي تنصب الاسم ، وترفع الخبر خلافا للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها.

وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معا ، وتنصبهما معا ، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل ؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما ، فلم يظهر للعمل أثر ألبتة ، ولأنها أعطيت عمل الفعل ، والفعل لا يرفع الاسمين ، فلا معنى للاشتراك ، والفرع لا يكون أقوى من الأصل.

والثاني ـ أيضا ـ باطل ، لأنه مخالف لعمل الفعل ؛ لأن الفعل لا ينصب شيئا مع خلوه عما يرفعه.

والثالث ـ أيضا ـ باطل لأنه يؤدّي إلى التسوية بين الأصل والفرع ؛ لأن الفعل يعمل في الفاعل أولا بالرفع ؛ ثم في المفعول بالنصب ، فلو جعل الحرف ها هنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع.

ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع ، وهي أنها تنصب الاسم ، وترفع الخبر ، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف ليست أصلية في العمل ؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل.

وتخفّف «إن» فتعمل وتهمل ، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال ، لكن النواسخ غالبا تختص بدخول «لام» الابتداء في خبرها ، أو معمولة المقدم عليها ، أو اسمها المؤخّر ، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفا أو مجرورا ، وتختص ـ أيضا ـ بالعطف على محل اسمها ، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة.

و «الذين» اسمها و «كفروا» صلة وعائد ، و «لا يؤمنون» خبرها ، وما بينهما اعتراض ، و «سواء» مبتدأ ، و «أنذرتهم» وما بعده في قوة التّأويل بمفرد هو الخبر ، والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه ، ولم يحتج هنا إلى رابط ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ ، ويجوز أن يكون «سواء» خبرا مقدما ، و «أنذرتهم» بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره : الإنذار وعدمه سواء.

٣٠٨

قال ابن الخطيب (١) : اتفقوا على أنّ الفعل لا يخبر عنه ؛ لأن قوله : «خرج ضرب» ليس بكلام منتظم ، وقد قدحوا فيه بوجوه :

أحدها : أنّ قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) فعل ، وقد أخبر عنه بقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ، ونظيره (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) فاعل «بدا» هو «يسجننه».

وثانيها : أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلا ، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل.

فإن قيل : المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة ، وتلك الكلمة اسم.

قلنا : فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلا بل اسما كان هذا الخبر كذبا ؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسما أو لا يكون ، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذبا ؛ لأن الاسم لا يكون فعلا ، وإن كان فعلا فقد صار الفعل مخبرا عنه.

وثالثها : إنا إذا قلنا : الفعل لا يخبر عنه ، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه ، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسما لزم أنّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه ، وهذا خطأ ، وإن كان فعلا صار الفعل مخبرا عنه. ثم قال هؤلاء : لما ثبت أنه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجة إلى ترك الظاهر (٢).

أما جمهور النحويين فقالوا : لا يجوز الإخبار عن الفعل ، فلا جرم كان التقدير : سواء عليهم إنذارك وعدمه.

وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم «إن» وخبرها ، وهو «لا يؤمنون» كما تقدم ، ويجوز أن تكون هي نفسها خبرا ل «إن» ، وجملة «لا يؤمنون» في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة ، أو تكون دعاء عليهم بعد الإيمان ـ وهو بعيد ـ أو تكون خبرا بعد خبر على رأي من يجوز ذلك.

ويجوز أن يكون «سواء» وحده خبر «إن» ، و «أأنذرتهم» وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له ، والتقدير : استوى عندهم الإنذار وعدمه.

و «لا يؤمنون» على ما تقدّم من الأوجه أعني : الحال والاستئناف والدعاء والخبرية.

والهمزة في «أأنذرتهم» الأصل فيها الاستفهام ، وهو ـ هنا ـ غير مراد ، إذ المراد التسوية ، و «أنذرتهم» فعل وفاعل ومفعول.

و «أم» ـ هنا ـ عاطفة وتسمى متصلة ، ولكونها متصلة شرطان :

أحدهما : أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظا أو تقديرا.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٣٨.

(٢) سقط في أ.

٣٠٩

والثاني : أن يكون ما بعدها مفردا أو مؤولا بمفرد كهذه الآية ، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم ، وجوابها أحد الشّيئين أو الأشياء ، ولا تجاب ب «نعم» ولا ب «لا» ، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة ، وتقدير ب «بل والهمزة» ، وجوابها «نعم» أو «لا» ولها أحكام أخر (١).

و «لم» حرف جزم معناه نفي الماضي مطلقا خلافا لمن خصّها بالماضي المنقطع ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) [مريم : ٤](لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣]. وهذا لا يتصور فيه الانقطاع ، وهي من خواصّ صيغ المضارع إلّا أنها تجعله ماضيا في المعنى كما تقدم. وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟

__________________

(١) «أم» حرف عطف ، وهي نوعان : متصلة وهي قسمان :

الأول : أن يتقدم عليها همزة التسوية ، نحو : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)[البقرة : ٦].

والثاني : أن يتقدم عليها همزة يطلب بها وبأم التعيين ، نحو : (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)[الأنعام : ١٤٤].

وسميت في القسمين متصلة ؛ لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر ، وتسمى أيضا : «معادلة» ؛ لمعادلتها للهمزة في إفادة التسوية في القسم الأول ، والاستفهام في الثاني.

ويفترق القسمان من أربعة أوجه :

أحدها وثانيها : أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحق جوابا ؛ لأن المعنى معهما ليس على الاستفهام ؛ لأن الكلام معها قابل للتصديق والتكذيب ؛ لأنه خبر ، وليست تلك كذلك ، الاستفهام منها على حقيقته.

والثالث والرابع : أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين ، ولا تكون الجملتان معها إلا في تأويل المفردين ، وتكون الجملتان فعليتين واسميتين ومختلفتين ، نحو : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، و «أم» الأخرى تقع بين المفردين ، وهو الغالب فيها ، نحو : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) وبين جملتين ليستا في تأويلهما.

النوع الثاني : منقطعة وهي ثلاثة أقسام :

مسبوقة بالخبر المحض نحو (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ)[السجدة : ٢ ، ٣].

ومسبوقة بالهمزة لغير الاستفهام ، نحو : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها)[الأعراف : ١٩٥] ؛ إذ الهمزة في ذلك للإنكار ، فهي بمنزلة النفي ، والمتصلة لا تقع بعده.

ومسبوقة باستفهام بغير الهمزة ، نحو : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)[الرعد : ١٦].

ومعنى «أم» المنقطعة الذي لا يفارقها الإضراب ، ثم تارة تكون له مجردا وتارة تضمّن مع ذلك استفهاما إنكاريا.

فمن الأول : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ)[الرعد : ١٦] لأنه لا يدخل الاستفهام على استفهام.

ومن الثاني : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)[الطور : ٣٩] ، تقديره : بل أله البنات ؛ إذ لو قدّرت الإضراب المحض ، لزم المحال. انظر الإتقان : (٢ / ١٦ ـ ١٦٤ ـ ١٦٥).

٣١٠

قولان : أظهرهما الثاني ، وقد يحذف مجزومها كقوله : [الكامل]

١٤٥ ـ إحفظ وديعتك الّتي استودعتها

يوم الأعازب ، إن وصلت ، وإن لم (١)

و «الكفر» أصله : الستر ؛ ومنه : «الليل الكافر» ؛ قال : [الرجز]

١٤٦ ـ فوردت قبل انبلاج الفجر

وابن ذكاء كامن في كفر (٢)

وقال : [الكامل]

١٤٧ ـ فتذكّرا ثقلا رثيدا بعدما

ألقت ذكاء يمينها في كافر (٣)

والكفر ـ هنا ـ الجحود. وقال آخر : [الكامل]

١٤ ـ ...........

في ليلة كفر النّجوم غمامها (٤)

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «الكفر» في القرآن على أربعة أضرب :

الأول : الكفر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ).

الثاني : بمعنى الجحود قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩]. الثالث : بمعنى كفر النّعمة ، قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) [إبراهيم : ٧] أي : بالنعمة ، ومثله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] وقال تعالى : (أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل : ٤٠].

الرابع : البراءة ، قال تعالى : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة : ٤] أي : تبرأنا منكم ، وقوله : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥].

و «سواء» اسم بمعنى الاستواء ، فهو اسم مصدر ، ويوصف على أنه بمعنى مستو ، فيحتمل حينئذ ضميرا ، ويرفع الظاهر ، ومنه قولهم : «مررت برجل سواء والعدم» برفع

__________________

(١) البيت لإبراهيم بن هرمة ينظر ديوانه : ١٩١ ، والمغني : ٣١٠ ، وشرح شواهده : ٦٨٢ ، وخزانة الأدب : ٩ / ٨ ، والعيني : ٤ / ٤٤٣ ، والتصريح : ٢ / ٢٤٧ ، والهمع : ٢ / ٥٦ ، والأشموني : ٤ / ٦ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ٧٣.

(٢) البيت لحميد الأرقط. ينظر إصلاح المنطق : (١٢٦) ، القرطبي : (١ / ١٢٨) ، الدر : (١ / ١٠٤).

(٣) البيت لثعلبة بن صعير العدويّ ، ينظر المحتسب : (٢ / ٢٣٤) ، المفضليات : (٢٥٧) ، الطبري : (١ / ١٤٣) ، المحرر الوجيز : (١ / ٨٧) ، القرطبي : (١ / ١٢٨) ، الدر : (١ / ١٠٤).

(٤) عجز بيت للبيد بن ربيعة وصدره :

يعلو طريقة متنها متواتر

ينظر ديوانه : (٣٠٩) ، القرطبي : ١ / ١٢٨ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٨٧ ، والطبري : ١ / ١٤٣ ، والدر المصون : ١ / ١٠٤.

٣١١

«العدم» على أنه معطوف على الضمير المستكنّ في «سواء» ، وشذ عدم بمعنى : «مثل» ، تقول : «هما سيّان» بمعنى : مثلان ، قال : [البسيط]

١٤٩ ـ من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله سيّان (١)

على أنه قد حكي سواءان. وقال الشاعر : [الطويل]

١٥٠ ـ وليل تقول النّاس في ظلماته

سواء صحيحات العيون وعورها (٢)

ف «سواء» خبر عن جمع هو «صحيحات» ، وأصله : العدل ؛ قال زهير : [الوافر]

١٥١ ـ أرونا سبّة لا عيب فيها

يسوّي بيننا فيها السّواء (٣)

أي : يعدل بيننا العدل. وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك : «قاموا سواء زيد» وإن شاركه لفظا.

ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع المشهورة في «سوى» المستثنى به ، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في «سواء» الذي بمعنى الاستواء.

وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدرية بالهمزة المعادلة ب «أم» كهذه الآية ، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور : ١٦] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد يليه اسم الاستفهام معمولا لما بعده كقول علقمة : [الطويل]

١٥٢ ـ سواء عليه أيّ حين أتيته

أساعة نحس تتّقى أم بأسعد (٤)

ف «أي حين» منصوب ب «أتيته» ، وقد يعرى عن الاستفهام ، وهو الأصل ؛ نحو : [الطويل]

__________________

(١) البيت لكعب بن مالك ينظر ديوانه : ص ٢٨٨ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ١٤٩ ، ١٠٩ ، وله أو لعبد الرحمن بن حسان في خزانة الأدب : ٩ / ٤٩ ، ٥٢ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ١٧٨ ، ولعبد الرحمن بن حسان في خزانة الأدب : ٢ / ٣٦٥ ، ولسان العرب (بجل) ، والمقتضب : ٢ / ٧٢ ، ومغني اللبيب : ١٠ / ٥٦ ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٤٣٣ ، ونوادر أبي زيد : ص ٣١ ، ولحسان بن ثابت في الدرر : ٥ / ٨١ ، والكتاب : ٣ / ٦٥ ، وليس في ديوانه ، والأشباه والنظائر : ٧ / ١١٤ ، وأوضح المسالك : ٤ / ٢١٠ ، والخصائص : ٢ / ٢٨١ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢٨٦ ، وشرح المفصل : ٩ / ٢ ، ٣ ، والمحتسب : ١ / ١٩٣ ، والمقرب : ١ / ٢٧٦ ، والمنصف : ٣ / ١١٨ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٦٠.

(٢) البيت للأعشى ينظر ديوانه : ص ٤٢٣ ، ولمضرس بن ربعي ، الحماسة الشجرية : ٢ / ٧١٠ ، خزانة الأدب : ٥ / ١٨ ، ديوان المعاني : ١ / ٣٤٣ ، لسان العرب (سوج) ، الطبري : (١ / ١٤٤) ، البحر المحيط : (١ / ١٧١) ، والجامع لأحكام القرآن : (١ / ١٨٤) ، الدر المصون : (١ / ١٠٤).

(٣) ينظر ديوانه : (٢٠) ، الحجة : (١ / ١٨٤) ، ومجمع البيان : (١ / ٨٩) ، الدر المصون : (١ / ١٠٤).

(٤) البيت لزهير بن أبي سلمى. ينظر ديوانه : ص (٢٣٢) ، ورصف المباني : ص ٤٦ ، والمقتضب : ٣ / ٢٨٨ ، ومجمع البيان : (١ / ٩٢) ، الدر المصون : ١ / ١٠٥.

٣١٢

١٥ ـ ...........

سواء صحيحات العيون وعورها (١)

فصل في استعمالات «سواء»

وقد ورد لفظ «سواء» على وجوه :

الأول : بمعنى : الاستواء كهذه الآية.

الثاني : بمعنى : العدل ، قال تعالى : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران : ٦٤] أي : عدل ؛ ومثله : (سَواءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة : ١] أي : عدل الطريق.

الثالث : بمعنى : وسط ، قال تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] أي : وسط الجحيم.

الرابع : بمعنى : البيان ؛ قال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] أي : على بيان.

الخامس : بمعنى : شرع ، قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) [النساء : ٨٩] يعني : شرعا.

السادس : بمعنى : قصد ، قال تعالى : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) [القصص : ٢٢] أي : قصد الطريق. و «الإنذار» : التخويف.

وقال بعضهم : هو الإبلاغ ، ولا يكاد يكون إلّا في تخويف يسع زمانه الاحتراز ، فإن لم يسع زمانه الاحتراز ، فهو إشعار لا إنذار ؛ قال : [الكامل]

١٥٤ ـ أنذرت عمرا وهو في مهل

قبل الصّباح فقد عصى عمرو (٢)

ويتعدّى لاثنين ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النبأ : ٤٠] ، (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفا تقديره : أأنذرتهم العذاب أم لم تنذرهم إياه ، والأحسن ألا يقدر له مفعول ، كما تقدم في نظائره.

والهمزة في «أنذر» للتعدية ، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد ؛ لأن التسوية هنا غير مرادة.

فقال ابن عطيّة : لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه الخبر ، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام ؛ لأنّ فيه التسوية التي هي في الاستفهام ، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا : «سواء علي أقمت أم قعدت» ، وإذا قلت مستفهما : «أخرج زيد أم قام»؟ فقد استوى الأمران عندك ، هذان في الخبر ، وهذان في الاستفهام ، وعدم علم أحدهما بعينه ، فلما عمتهما

__________________

(١) تقدم برقم (١٥٠).

(٢) هذا البيت لمضرس بن ربعي. ينظر الجامع لأحكام القرآن : ١ / ١٢٩ ، الدر المصون : ١ / ١٠٥.

٣١٣

التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام ؛ لمشاركته إيّاه في الإبهام ، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاما ، إلّا أن بعضهم ناقشه في قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه «الخبر» بما معناه : أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر ؛ لأنه مقدر بالمفرد كما تقدم ، وعلى هذا فليس هو وحده في معنى الخبر ؛ لأن الخبر جملة ، وهذا في تأويل مفرد ، وهي مناقشة لفظية.

وروي الوقف على قوله : (أَمْ لَمْ) تنذر» والابتداء بقوله : «هم (لا يُؤْمِنُونَ) على أنها جملة من مبتدأ وخبر. وهذا ينبغي ألا يلتفت إليه ، وإن كان قد نقله الهذليّ في «الوقف والابتداء» له.

وقرىء «أأنذرتهم» بهمزتين محقّقتين بينهما ألف ، وبهمزتين محقّقتين بلا ألف بينهما وهي لغة «بني تميم» ، وأن تكون الأولى قوية ، والألف بينهما ، وتخفيف الثانية بين بين ، وهي لغة «الحجاز» وبتقوية الهمزة الأولى ، وتخفيف الثانية ، وبينهما ألف. فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفا وتحقيقا قوله : [الطويل]

١٥٥ ـ أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم (١)؟

وقال آخر : [الطويل]

١٥٦ ـ تطاللت فاستشرفته فعرفته

فقلت له آأنت زيد الأرانب (٢)؟

وروي عن ورش (٣) إبدال الثّانية ألفا محضة.

ونسب الزمخشري هذه القراءة للّحن ، قال : لأنه يؤدّي إلى الجمع بين ساكنين على غير حدّهما ، ولأن تخفيف مثل هذه الهمزة إنما هو بين بين. وهذا منه ليس بصواب ، لثبوت هذه القراءة تواترا.

__________________

(١) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ٧٥٠ ، وأدب الكاتب : ص ٢٢٤ ، والأزهية : ص ٣٦ ، والكتاب : ٣ / ٥٥١ ، ولسان العرب (جلل) ، وشرح المفصل : ١ / ٩٤ ، ٩ / ١١٩ ، وشرح أبيات سيبويه : ٢ / ٢٥٧ ، وشرح شواهد الشافية : ص ٣٤٧ ، والدرر : ٣ / ١٧ ، والخصائص : ٢ / ٤٥٨ ، والأغاني : ١٧ / ٣٠٩ ، وسر صناعة الإعراب : ٢ / ٧٢٣ ، واللمع : ص ١٩٣ ، ٢٧٧ ، ومعجم ما استعجم : ص ٣٨٨ ، والمقتضب : ١ / ١٦٣ ، والإنصاف : ٢ / ٤٨٢ ، وجمهرة اللغة : ص ١٢١٠ ، والجنى الداني : ص ١٧٨ ، ٤١٩ ، وخزانة الأدب : ٥ / ٢٤٧ ، ١١ / ٢٦٧ ، ورصف المباني : ص ٢٦ / ١٣٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب : ٣ / ٦٤ ، وهمع الهوامع : ١ / ١٧٢ ، والكامل : (٣ / ٥٥). والأمالي الشجرية : (١ / ٣٢٠) ، والقرطبي : (١ / ١٢٩) والمخصص : (١٦ / ٤٩) ، والدر المصون : (١ / ١٠٥).

(٢) البيت لذي الرمة. ينظر ملحقات ديوانه : (٨٤٩). اللسان (الهمزة) ، والحجة : (١ / ٢٠٨) ، والجامع لأحكام القرآن : (١ / ١٨٥) ، والدر المصون : ١ / ١٠٦.

(٣) انظر البحر المحيط : ١ / ١٧٥ ، وقال تعقيبا على كلام الزمخشري : «وقراءة ورش صحيحة النقل لا تدفع باختيار المذاهب ...». وكلام الزمخشري في الكشاف : ١ / ٤٨ ، وانظر إتحاف فضلاء البشر : ١ / ٣٧٦.

٣١٤

وقرأ ابن محيصن (١) بهمزة واحدة على لفظ الخبر ، وهمزة الاستفهام مرادة ، ولكن حذفها تخفيفا ، وفي الكلام ما يدلّ عليها ، وهو قوله : «أم لم» ؛ لأن «أم» تعادل الهمزة ، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير.

فصل في المراد بالكافرين في الآية

المراد من (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى مشركي العرب كأبي لهب ؛ وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة وأضرابهم.

وقال الكلبي : «هم رؤساء اليهود والمعاندون» وهو قول ابن عباس. والكفر ـ هنا ـ الجحود ، وهو على أربعة أضرب :

كفر إنكار ، وكفر جحود ، وكفر عناد ، وكفر نفاق :

ف «كفر الإنكار» : هو ألا يعرف الله أصلا ، ولا يعترف به.

وكفر الجحود : هو أن يعرف الله بقلبه ، ولا يقر بلسانه ، ككفر إبليس ؛ قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

وكفر العناد : هو أن يعرف الله بقلبه ، ويعترف بلسانه ، ولا يدين به ؛ ككفر أبي طالب ؛ حيث يقول : [الكامل]

١٥٧ ـ ولقد علمت بأنّ دين محمّد

من خير أديان البريّة دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا (٢)

وكفر النفاق : هو أن يقر باللسان ، ولا يعتقد بالقلب ، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله ـ تعالى ـ بواحد منها ؛ لا يغفر له.

فصل في تحقيق حد الكفر

قال ابن الخطيب : تحقيق القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ذهب إليه ، وقال به ، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة ، أو بالاستدلال ، أو بخبر (٣) الواحد أما الذي علم بالضرورة ، فمن صدق به جميعه ، فهو

__________________

(١) وكذا قرأ بها الزهري وابن كثير.

انظر البحر المحيط : ١ / ١٧٥ ، وحجة القراءات : ٨٦ ، وإتحاف : ١ / ٣٧٦.

(٢) ينظر البيتان في : خزانة الأدب : ٢ / ٧٦ ، ٩ / ٣٩٧ ، ولسان العرب (كفر) ، والمقاصد النحوية : ٤ / ٨ ، وشرح التصريح : ٢ / ٩٦ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٨٧ ، وشرح قطر الندى : ص ٢٤٢ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٣٧٦.

(٣) وإليك بيان معنى خبر الواحد : وهو في الاصطلاح : ما لم يبلغ مبلغ التواتر ، فيصدق على المشهور والعزيز ، والغريب. ـ

٣١٥

مؤمن ، ومن لم يصدق بجميعه ، أو لم يصدق ببعضه ، فهو كافر ، فإذن الكفر عدم تصديق

__________________

ـ والعزيز : ما جاء في طبقة من طبقات رواته ، أو أكثر من طبقة اثنان ، ولم يقلّ في أيّ طبقة من طبقاته عنهما.

والغريب : ما جاء في طبقة من طبقات رواته ، أو أكثر ، واحد تفرّد بالرّواية.

«أقسام خبر الواحد من حيث القبول والرّدّ»

من المعلوم أنّ الحديث سواء كان مرفوعا ، أو موقوفا ، أو مقطوعا ينقسم إلى : متواتر يفيد الحكم ، وآحاد ؛ كما أنّ الآحاد ينقسم إلى : مشهور ، وعزيز ، وغريب ، وكل من هذه الثّلاثة تنقسم إلى : مقبول يفيد الظنّ ، ما لم تكن فيه قرينة تفيد القطع ، وإلى مردود لا يفيد ظنّا ولا قطعا.

«ضابط القبول والرّدّ»

ينقسم الخبر المقبول إلى : خبر صحيح ، وحسن ، وينقسم الصّحيح ، إلى : صحيح لذاته ، وصحيح لغيره ، وأيضا ينقسم الحسن إلى : حسن لذته ، وحسن لغيره.

والمردود هو الضّعيف ، والضّعيف ينقسم إلى أقسام كثيرة تنظر في كتب الحديث والاصطلاح.

وضابط هذا التّقسيم : أنّ صدق الحديث إنّما يترجّح بما يأتي :

١ ـ الاتّصال.

٢ ـ عدالة الرّاوي.

٣ ـ ضبط الرّاوي.

٤ ـ عدم الشّذوذ.

٥ ـ عدم العلّة الخفيّة القادحة.

والضّبط ثلاث درجات :

١ ـ عليا.

٢ ـ وسطى.

٣ ـ دنيا.

فمتى استوفى الحديث كلّ هذه الشروط ، وكان في الدّرجة العليا من الضّبط ـ كان حديثا صحيحا.

ومتى استوفى الحديث كلّ هذه الشّروط ، وكان في الدّرجة الوسطى ، أو الدنيا ـ كان حديثا حسنا.

وإن فقد أحد الشّروط الخمسة السّابقة ، سمّي ضعيفا ، والضّعيف :

من المعلوم أنّ الخبر هو ما يحتمل الصّدق والكذب لذاته ، والصّدق هو مطابقة النّسبة الحكميّة للنّسبة الواقعيّة.

١ ـ قال الجمهور : إذا ترجّح صدق الخبر على كذبه ؛ بأن استوفى شروط القبول ؛ وجب العمل به.

ومما يدلّ على ذلك : إجماع الصحابة والتّابعين ـ رضي الله عنهم ـ على وجوب العمل بأخبار الآحاد ؛

حيث نقل عنهم ـ رضي الله عنهم ـ الاستدلال بخبر الواحد ؛ كما نقل عنهم العمل بها في الوقائع المختلفة ، وتكرّر ذلك وشاع بينهم ، ولم ينكر عليهم أحد ذلك ، ولو كان ، لنقل إلينا ؛ حيث إنّ ذلك يوجب العلم العاديّ باتّفاقهم ؛ كالقول الصّريح.

وصرّح الجبّائيّ وأتباعه من المعتزلة : بأنّ التّعبّد به محال عقلا ، وهذا باطل مردود.

وقال الحافظ ابن حجر : اتّفق العلماء على وجوب العمل بكل ما صحّ ، ولو لم يخرّجه الشّيخان.

وقال ابن القيّم : الذي ندين لله به ، ولا يسعنا غيره أنّ الحديث الصّحيح إذا صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يصحّ عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا ، وعلى الأمة الأخذ به ، وترك ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من النّاس. ـ

٣١٦

الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عليه الصلاة والسلام.

__________________

ـ ينظر الباعث الحثيث : ١ / ٤٣ ، وقواعد التّحديث للقاسمي : ص ٨٧.

منه ما هو معتبر به ، ومنه غير معتبر به.

فإذا فقد الحديث الاتّصال ، أو فقد الضّبط ، أو إذا لم تثبت عدالة الرّاوي ؛ بأن كان مجهول العين ، أو الحال ـ كان الحديث ضعيفا ، لكنّه لم يفقد صفة الاعتبار به ؛ بحيث إذا قوي بغيره ، فإنّه يرتفع من الضّعيف إلى الحسن ، ويسمى حسنا لغيره ؛ كما أنّ الحديث الحسن لذاته إذا تقوّى بغيره وتعدّد ، يرتفع إلى درجة الصّحيح ، ويسمّى صحيحا لغيره.

وإذا كان الضّعف من قبل الطّعن في العدالة ، فإن كان الطّعن بالكذب على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فهو الحديث الموضوع ، لا يصلح لأن يروى إلّا لبيان حاله ، أو كان الطّعن بتهمة الرّاوي بالكذب عليه ـ بأن كان يكذب في أحاديث النّاس ـ ، أو ثبت عليه الفسق المخرج عن العدالة ؛ كالسّرقة ، أو القتل ، أو الغيبة ، أو النّميمة من سائر الكبائر ، أو الإصرار على الصّغائر ـ فهذا الراوي لا يعتدّ بحديثه ، ولا يكتب حديثه ليقوى غيره ، وإنّما يروى حديثه فقط لبيان حاله.

والكذب : هو عدم المطابقة بين النّسبة الحكميّة والنّسبة الواقعيّة ؛ فمثلا : إذا كان الشّيء واقعا ، وأخبرت به ، فإنّ هذا الإخبار يحتمل الصّدق ؛ كما يحتمل الكذب أيضا ، وإنّما يرفع احتمال الكذب فيه الدّليل القطعيّ. والدّليل القطعيّ هو الّذي يرفع احتمال النّقيض عقلا ؛ كما أنّه ليس عندنا في الأخبار ما يرفع احتمال النّقيض فيها ، إلا إذا كان المخبر صادقا بالدّليل العقليّ ، مثل : أخبار الله عزوجل ـ وأخبار رسله ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ كذلك أخبار التواتر.

وإذا كان الإخبار غير هذه الثّلاثة ، فإنّه لا يفيد القطع ؛ لأنّ احتمال الكذب ما زال باقيا.

أما إذا كان الإخبار من مخبر صادق عدل ضابط ، رجّح أن يكون مطابقا للواقع ، وتطرّق إليه احتمال ألّا يكون مطابقا للواقع ؛ لاحتمال النسيان ، أو الغلط ، أو الوهم ، إلى غير ذلك من احتمالات.

ومن ناحية أخرى : فإنّه إذا تقوّى هذا الاحتمال بمعارض راجح ، فإنّ الخبر يصير شاذّا ، ولا يقبل أمّا إذا تعدّدت الطّبقات ، وجب أن تتوفّر في كلّ طبقة منها العدالة ، والضّبط ، وعدم الشّذوذ ، كما يجب أن يثبت الاتّصال ، والعدالة والضّبط ، وعدم المعارض الراجح من جميع الطّبقات.

أمّا إذا قسنا خبر الواحد بغيره من الأخبار التي تساويه في القوّة ، فوجدنا اختلافا من غير ترجيح ، فإنّه لا يكون راجح الصّدق ؛ وعلى ذلك قلنا : إنّ خبر الواحد الذي استوفى شروط القبول الخمسة ـ التي عرضناها سابقا ـ وليس خبرا لله ولا لرسوله ، ولا متواترا ـ يفيد ظنّا لا قطعا.

وترتّب على ذلك أمور هي :

١ ـ جواز وجود المعارض المساوي من غير نسخ.

٢ ـ لا يعارض المتواتر بحال.

٣ ـ ترجيح الأقوى من المتعارضين.

٤ ـ ليس الصّدق مطّردا فيه.

٥ ـ لا يجب تخطئة المجتهد لمخالفته.

خبر الواحد المحققّ بالقرائن.

إذا كانت هناك قرائن خارجية ، تمنع احتمال النّقيض ، فإنّ الأكثرين من الفقهاء رأوا أنّ خبر الواحد لا يفيد القطع ؛ وذلك لأن الذي يفيد القطع القرائن لا الخبر. بينما ذهب إمام الحرمين ، والغزاليّ ، والآمديّ ، والإمام الرازيّ ، وابن الحاجب ، ورواية عن أحمد : إلى أنّه يفيد القطع.

وذهب ابن حجر إلى أنّ الخبر المحتفّ بالقرائن أنواع : ـ

٣١٧

ومثاله من أنكر وجود الصّانع ، أو كونه عالما مختارا ، أو كونه واحدا ، أو كونه منزها عن النّقائص والآفات ، أو أنكر نبوة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ كوجوب الصّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر ، فذلك يكون كافرا.

فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالما بالعلم أو بذاته ، وأنه مرئي أو غير مرئي ، وأنه خالق أعمال العباد أم لا ، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعذر ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلا في ماهيّة الإيمان ، فلا يكون موجبا للكفر ، والدليل عليه أنه لو كان جزءا من ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلّا بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمّة ؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر ، فلمّا لم ينقل ذلك دلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما وقف الإيمان عليها ، ولما لم يكن كذلك وجب ألا تكون معرفتها من الإيمان ، ولا إنكارها موجبا للكفر ، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل ، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد ، فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه ، والله أعلم.

فصل في الردّ على المعتزلة

احتجت المعتزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر : ٩] ، (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] ، (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح : ١] على أن كلام الله محدث ، سواء كان الكلام هذه الحروف ، أو الأصوات ، أو كان شيئا آخر.

__________________

ـ ١ ـ ما يختص بما أخرجه الشّيخان في الصّحيحين ، ممّا لم يبلغ حدّ التواتر ؛ فإنه احتفّ بقرائن كثيرة ، كجلالة الشّيخين في هذا الشّأن ، ومكانتهما في تمييز الصّحيح ، وتلقّي العلماء للصّحيحين بالقبول.

٢ ـ المشهور : إذا كانت له طرق متباينة ، سالمة من ضعف الرّواة والعلل.

٣ ـ ما رواه الأئمّة الحفّاظ المتقنون : حيث لا يكون غريبا مثلا ، يروي الإمام أحمد بن حنبل حديثا ، ويشاركه فيه غيره عن الشّافعيّ ، ويشاركه فيه غيره عن مالك ؛ فإنّه يفيد الحكم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته ، لأن فيهم من الصّفات اللّائقة الموجبة للقبول ، ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم.

ينظر البحر المحيط للزركشي : ٤ / ٢٥٧ ، البرهان لإمام الحرمين : ١ / ٥٩٩ ، سلاسل الذهب للزركشي : ٣١٨ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ٢ / ٣٠ ، نهاية السول للإسنوي : ٣ / ٩٧ ، زوائد الأصول له : ٣٣٦ ، منهاج العقول للبدخشي : ٢ / ٣١٧ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري : ٩٧ ، التحصيل من المحصول للأرموي : ٢ / ١٣٠ ، المنخول للغزالي : ٢٤٥ ، المستصفى له : ١ / ١٤٥ ، حاشية البناني : ٢ / ١٣١ ، الإبهاج لابن السبكي : ٢ / ٢٩٩ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي : ٣ / ٢١٥ ، حاشية العطار على جمع الجوامع : ٢ / ١٥٧ ، المعتمد لأبي الحسين : ٢ / ٩٢ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم : ١ / ١١٢ ، التحرير لابن الهمام : ٣٣١ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه : ٣ / ٣٧ ، كشف الأسرار للنسفي : ٢ / ١٩ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى : ٢ / ٥٥ ، ٥٨ ، شرح المنار لابن ملك : ٧٨ ، ميزان الأصول للسمرقندي : ٢ / ٦٢٩ ، تقريب الوصول للشنقيطي : ١٢١ ، إرشاد الفحول للشوكاني : ٤٦ ، الكوكب المنير للفتوحي : ٢٦٣ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج : ٢ / ٢٧١.

٣١٨

قالوا : لأن الخبر (١) على هذا الوجه لا يكون صدقا إلّا إذا كان مسبوقا بالمخبر عنه ، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير ، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديما ، فيجب أن يكون محدثا.

أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين :

الأول : أن الله ـ تعالى ـ كان في الأزل عالما بأن العالم سيوجد ، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علما بأنه قد حدث في الماضي ، ولم يلزم حدوث علم الله تعالى ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن خبر الله ـ تعالى ـ في الأزل كان خبرا بأنهم سيكفرون ، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبرا عن أنهم قد كفروا ، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟.

الثاني : أن الله ـ تعالى ـ قال : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] ، فلما دخلوا المسجد الحرام ، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى أنهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول ، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) صيغة جمع مع «لام» التعريف ، وهي للاستغراق بظاهره ، ثم إنه لا نزاع في أنه ليس المراد منها هذا الظاهر ؛ لأن كثيرا من الكفار أسلموا ، فعلمنا أن الله ـ تعالى ـ قد تكلّم بالعام وأراد الخاص ، إما لأجل أنّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرة في زمان الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسن ذلك لعدم اللّبس ، وظهور المقصود ، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز ، وإن لم يكن البيان مقرونا به عند من يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق ، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص ، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلا جرم حسن ذلك ، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم. وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف ، والله أعلم.

فصل في المذهب الحق في «تكليف ما لا يطاق»

قال ابن الخطيب (٢) : احتج أهل السّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره : أنه ـ تعالى ـ أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله ـ تعالى ـ الصدق كذبا ، والكذب عند الخصم قبيح ، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة ، وهما محالان على الله تعالى ، والمفضي إلى المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فالتكليف به تكليف بالمحال ، وقد يذكر هذا

__________________

(١) في أ : الخبرية.

(٢) ينظر الفخر الرازي : ٢ / ٣٩.

٣١٩

في صورة العلم ، وهو أنه ـ تعالى ـ لما علم منه أنه لا يؤمن ، فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلا ، وذلك محال ، ويستلزم من المحال محال ، فالأمر واقع بالمحال. ونذكر هذا على وجه ثالث : وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن ؛ لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا ومعدوما معا ، وهذا محال ، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضّدّين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال.

ونذكر هذا على وجه رابع : وهو أنه ـ تعالى ـ كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة [والإيمان يعتبر فيه تصديق الله ـ تعالى ـ في كل ما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط](١) وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط ، وهو مكلّف بالجمع بين النفي والإثبات.

ونذكر هذا على وجه خامس : وهو أنه ـ تعالى ـ عاب الكفّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) [الفتح : ١٥] ، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه.

ثم ها هنا أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة ، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصدا إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون ـ أيضا ـ مخالفة لأمر الله ، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل. فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي هادمة لأصول الاعتزال ، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة ، فيأتي الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٧)

اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بيّن في الآية الأولى أنّهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم.

واعلم أن الختم والكتم أخوان وهو : الاشتياق بالشّيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية ؛ لئلا يتوصّل إليه ، ومنه : الختم على الباب.

«على قلوبهم» متعلّقة ب «ختم» ، و «على سمعهم» يحتمل عطفه على «قلوبهم» ، وهو الظاهر ، للتصريح بذلك ، أعني : نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) [الجاثية : ٢٣] ويحتمل أن يكون خبرا مقدما ، وما بعده عطف عليه.

__________________

(١) سقط في ب.

٣٢٠