اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقيل : إن «غير» بدل من المضمر المجرور في «عليهم» ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه ، وينوى بالأول الطّرح ؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد ، ألا ترى أن التقدير يصير : «صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم».

و «المغضوب» خفض بالإضافة ، وهو اسم مفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، ف «عليهم» الأولى منصوبة المحلّ ، والثانية مرفوعته ، و «أل» فيه موصولة ، والتقدير : «غير الذين غضب عليهم».

والصحيح في «أل» الموصولة أنها اسم لا حرف.

واعلم أن لفظ «غير» مفرد مذكر أبدا ، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه ، نقول : «قامت غيرك» ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل ، وهو مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة ، وكذلك أخواتها ، أعني نحو : «مثل وشبه وشبيه وخدن وترب».

وقد يستثنى بها حملا على «إلّا» كما يوصف ب «إلّا» حملا عليها ، وقد يراد بها النفي ك «لا» ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها ، كما يجوز في «لا» تقول : «أنا زيدا غير ضارب» أي : غير ضارب زيدا ؛ ومنه قول الشاعر : [البسيط]

٨٤ ـ إنّ امرءا خصّني عمدا مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (١)

تقديره : غير مكفور عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النّفي.

لو قلت : «جاء القوم زيدا غير ضارب» ، تزيد : غير ضارب زيدا لم يجز ؛ لأنها ليست بمعنى «لا» التي يجوز فيها ذلك على الصّحيح من الأقوال في «لا».

وفيها قول ثان يمنع ذلك مطلقا.

وقول ثالث : يفصل بين أن تكون جواب قسم ، فيمتنع فيها ذلك ، وبين ألّا يكون فيجوز.

وهي من الألفاظ اللّازمة للإضافة لفظا وتقديرا ، فإدخال الألف واللام عليها خطأ.

واختلفوا هل يجوز دخول «أل» على «غير وبعض وكل» والصحيح جوازه.

قال البغوي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «غير» ها هنا بمعنى «لا» ، و «لا» بمعنى «غير» ، ولذلك جاز العطف عليها ، كما يقال : «فلان غير محسن ولا مجمل» ، فإذا كان «غير»

__________________

(١) البيت لأبي زبيد الطائي ينظر : الدرر : ٢ / ١٨٣ ، صناعة الإعراب : ١ / ٣٧٥ ، شرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٣٢ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٩٥٣ ، الكتاب : ٢ / ١٣٤ ، لسان العرب ، (خصص) ، شرح الأشموني : ٢ / ٣٣٠ ، وشرح عمدة الحافظ : ص ٢٢٣ ، شرح المفصل : ٨ / ٦٥ ، مغني اللبيب : ٢ / ٦٧٦ ، الإنصاف : ١ / ٤٠٤ ، الهمع : ١ / ١٤٩ ، ٩٠٧ ، رصف المباني : ١٢٢ ، الدر : ١ / ٨٣.

٢٢١

بمعنى «لا» ، فلا يجوز العطف عليها ب «لا» ؛ لا يجوز في الكلام : «عندي سوى عبد الله ولا زيد».

وقرىء (١) : «غير» نصبا ، فقيل : حال من «الّذين» وهو ضعيف ؛ لمجيئه من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك ، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، وقيل : من الضمير في «عليهم».

وقيل على الاستثناء المنقطع ، ومنعه الفرّاء ؛ قال : لأن «لا» لا تزاد إلّا إذا تقدمها نفي ، كقول الشاعر : [البسيط]

٨٥ ـ ما كان يرضى رسول الله فعلهما

والطّيّبان أبو بكر ولا عمر (٢)

وأجابوا بأن «لا» صلة زائدة مثلها في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: ١٢] ؛ وقول الشّاعر : [الرجز]

٨٦ ـ فما ألوم البيض ألّا تسخرا (٣)

وقول الآخر : [الطويل]

٨٧ ـ ويلحينني في اللهو ألّا أحبّه

وللهو داع دائب غير غافل (٤)

وقول الآخر : [الطويل]

٨٨ ـ أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود نائله (٥)

ف «لا» في هذه المواضع كلها صلة.

وفي هذا الجواب نظر ؛ لأن الفرّاء لم يقل : إنها غير زائدة ، وقولهم : إن «لا» زائدة في الآية ، وتنظيرهم بالمواضع المتقدّمة لا تفيد ، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا : وجدت

__________________

(١) قرأ بها ابن كثير. رواها عنه الخليل بن أحمد ، وهي قراءة عمر وابن مسعود وعلي وعبد الله بن الزبير.

انظر الشواذ : ١ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٧٦ ، والبحر المحيط : ١ / ١٤٨ ، وإتحاف : ١ / ٣٦٨.

(٢) البيت لجرير. ينظر ديوانه : ٢٦٣ ، نقائض جرير والأخطل : ١٧٤ ، الأضداد لابن الأنباري : ١٨٦ ، الطبري : ١ / ١١٣ ، البحر المحيط : ١ / ١٤٩ ، الدر : ١ / ٨٤.

(٣) البيت لأبي النجم العجلي. ينظر مجاز القرآن : ١ / ٢٦ ، الجمهرة : ٣ / ٣٣٤ ، الصحاح واللسان والتاج : (قفندر) ، الخزانة : ١ / ٤٨ ، الأمالي لابن الشجري : ٢ / ٢٣١ ، الخصائص : ٢ / ٢٨٣ ، الأضداد لابن الأنباري : ١٨٥ ، الطبري : ١ / ١١٢ ، المحرر الوجيز : ١ / ٧٧ ، البحر المحيط : ١ / ١٤٩ ، الدر : ١ / ٨٤.

(٤) البيت للأحوص : ينظر ديوانه : ١٧٩ ، الأزهية : ١٥٦ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٣٤ ، تذكرة النحاة : ٥٧٠ ، الجنى الداني : ٣٠٢ ، الصاحبي في فقه اللغة : ١٦٧ ، مغني اللبيب : ١ / ٢٤٨ ، الكامل : ١ / ٤٩ ، الأضداد : ١٨٦ ، الطبري : ١ / ١١٢ ، المحرر الوجيز : ١ / ٧٨ ، الدر : ١ / ٨٤.

(٥) ينظر البيت في الخصائص : ٢ / ٣٥ ، مغني اللبيب : ١ / ٢٤٨ ، الأمالي الشجرية : ٢ / ٢٢٨ ، شرح شواهد المغني : ٢ / ٦٣٤ ، الحجة : ١ / ١٢٥ ، اللسان (لا) ، البحر : ١ / ١٥٠ ، الدر : ١ / ٨٤.

٢٢٢

«لا» زائدة من غير تقدّم نفي ، كهذه المواضع المتقدمة.

ويحتمل أن تكون «لا» في قوله : «لا البخل» مفعولا به ل «أبى» ، ويكون نصب «البخل» على أنه بدل من «لا» أي : أبى جوده قول لا ، وقول : لا هو البخل ، ويؤيد هذا قوله : «واستعجلت به نعم» فجعل «نعم» فاعل «استعجلت» ، فهو من الإسناد اللّفظي ، أي : إلى جود هذا اللّفظ ، واستعجل به هذا اللفظ.

وقيل : إن نصب «غير» بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل ، وقدّر بعضهم بعد «غير» محذوفا قال : التقدير : «غير صراط المغضوب» ، وأطلق هذا التّقدير ، فلم يقيده بجرّ «غير» ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلّا مع نصبها ، وتكون صفة لقوله تعالى : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهذا ضعيف ؛ لأنه متى اجتمع البدل (١) والوصف قدم الوصف ، فالأولى أن تكون صفة ل (صِراطَ الَّذِينَ) ، ويجوز أن تكون بدلا من (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، أو من (صِراطَ الَّذِينَ)(٢) إلا أنه يلزم منه تكرار البدل ، وفي جوازه نظر ، وليس في المسألة نقل ، إلّا أنهم قد ذكروا ذلك في بدل البداء خاصّة ، أو حالا من «الصراط» الأول أو الثاني.

واعلم أنّه حيث جعلنا «غير» صفة فلا بد من القول (٣) بتعريف «غير» ، أو إبهام الموصوف ، وجريانه مجرى النكرة ، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ «غير».

و «لا» في قوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ) زائدة لتأكيد معنى النّفي المفهوم من «غير» لئلا يتوهّم عطف «الضّالين» على «الذين أنعمت».

وقال الكوفيون : هي بمعنى «غير» وهذا قريب من كونها زائدة ، فإنه لو صرح ب «غير» كانت للتأكيد أيضا ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطّاب وأبيّ رضي الله عنهما.

و «الضّالين» مجرور عطفا على «المغضوب» ، وقرىء شاذا (٤) «الضّألّين» بهمز الألف ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٨٩ ـ وللأرض أمّا سودها فتجلّلت

بياضا ، وأمّا بيضها فادهأمّت (٥)

__________________

(١) في أ : الموصوف.

(٢) زاد في أ : ويجوز أن تكون بدلا من «الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

(٣) في أ : التقدير.

(٤) قرأ بها أيوب السختياني. انظر الكشاف : ١ / ١٧ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٧٨ ، والبحر المحيط : ١ / ١٥١.

(٥) البيت لكثير وهو في ديوانه : ١١٣ ، ينظر ابن يعيش : ١٠ / ١٢ ، المحتسب : ١ / ٤٧ ، المخصص : ١٥ / ١٦٦ ، الممتع : ٣٢٢ ، رصف المباني : ٥٧ ، المقرب : ٢ / ١٦٠ ، شرح الشافية : ٣ / ٢٠٥ ، المحرر الوجيز : ١ / ٧٨ ، البحر المحيط : ١ / ١٥١ ، الدر : ١ / ٨٥ ، الصناعة : ١ / ٨٤ ، الممتع : ١ / ٣٢٢ ، الهمع : ٢ / ١٩٩ ، الدرر : ٢ / ٢٣٠.

٢٢٣

قال الزّمخشري : «وفعلوا ذلك ، للجدّ في الهرب من التقاء السّاكنين».

وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٩٠ ـ وخندف هامة هذا العألم (١)

بهمز «العألم».

وقال آخر : [البسيط]

٩١ ـ ولّى نعام بني صفوان زوزأة

 ........... (٢)

بهمز ألف «زورأة» ، والظّاهر أنها لغة مطّردة ؛ فإنهم قالوا في قراءة (٣) ابن ذكوان (٤) : «منسأته» بهمز ساكنة : إنّ أصلها ألف ، فقلبت همزة ساكنة.

فإن قيل : لم أتى بصلة «الذين» فعلا ماضيا؟

قيل : ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله ـ تبارك وتعالى ـ عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة «أل» اسما ليشمل سائر الأزمان ، وجاء مبنيّا للمفعول ؛ تحسينا للفظ ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية ، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطّف ، وترفّق لطلب الإحسان ، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.

والإنعام : إيصال الإحسان إلى الغير ، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحسان من العقلاء ، فلا يقال : أنعم فلان على فرسه ، ولا حماره.

__________________

(١) البيت للعجاج ينظر ديوانه : ١ / ٢٩٩ ، الممتع : ٣٢٤ ، سر الصناعة : ١ / ١٠١ ، رصف المباني : ٥٦ ، شرح المفصل لابن يعيش : ١٠ / ١٣ ، اللسان (علم) ، ضرائر الشعر : ٢٢٣ ، المقرب : ٢ / ٥١٧ ، إعراب ثلاثين سورة : ٢٢ ، شرح الشافية للرضي : (٣ / ٢٠٥) ، الجامع لأحكام القرآن : ٩٧ ، روح المعاني : ١ / ٩٦ ، الدر : ١ / ٨٥.

(٢) صدر بيت لزيد بن كثوة وعجزه :

 ...........

لما رأى أسدا في الغاب قد وثبا

ينظر الخصائص : ٣ / ١٤٥ ، الممتع : ٣٢٥ ، المحتسب : ١ / ٣١٠ ، سر الصناعة : ١ / ١٠٢ ، المقرب : ١٦٠ ، اللسان (زوى) الدر : ١ / ٨٥.

(٣) ستأتي في «سبأ» آية (١٤).

(٤) عبد الله بن أحمد بن بشر ويقال بشير بن ذكوان بن عمرو بن حسان بن داود بن حسنون بن سعد بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر أبو عمرو وأبو محمد القرشي الفهري الدمشقي الإمام الأستاذ الشهير الراوي الثقة شيخ الإقراء بالشام وإمام جامع دمشق. ولد يوم عاشوراء سنة ثلاث وسبعين ومائة وتوفي في يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شوال وقيل سبع خلون منه سنة اثنين وأربعين ومائتين قال أبو زرعة الدمشقي لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمان ابن ذكوان أقرأ عندي منه وقال الوليد بن عتبة الدمشقي ما بالعراق أقرأ من ابن ذكوان. ينظر الغاية : ١ / ٤٠٤ (١٧٢٠).

٢٢٤

والغضب : ثوران دم القلب إرادة الانتقام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «اتّقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ، ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» (١).

وإذا وصف به الباري ـ تبارك وتعالى ـ فالمراد به الانتقام لا غيره.

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : هنا قاعدة كلية ، وهي أن جميع الأعراض النّفسانية ـ أعني الرحمة ، والفرح ، والسّرور ، والغضب ، والحياء ، والعتوّ ، والتكبر ، والاستهزاء ـ لها أوائل ولها غايات.

ومثاله : الغضب : فإنّ أوله غليان دم القلب ، وغايته : إرادة إيصال الضّرر إلى [المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضا الحياء](٢) له أول وهو انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

ويقال : فلان غضبّة : إذا كان سريع الغضب.

ويقال : غضبت لفلان إذا كان حيّا وغضبت به إذا كان ميتا.

وقيل : الغضب تغيّر القلب لمكروه.

وقيل : إن أريد بالغضب العقوبة كان صفة فعل ، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذات.

والضلال : الخفاء والغيبوبة.

وقيل : الهلاك ، فمن الأول قولهم : ضلّ الماء في اللبن.

[وقال القائل](١) : [الوافر]

٩٢ ـ ألم تسأل فتخبرك الدّيار

عن الحيّ المضلّل أين ساروا؟ (٣)

«والضّلضلة» : حجر أملس يرده السّيل في الوادي.

ومن الثاني : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠]. وقيل : الضّلال : العدول عن الطريق المستقيم ، وقد يعبّر به عن النّسيان كقوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) [البقرة : ٢٨٢] بدليل قوله : (فَتُذَكِّرَ) [البقرة : ٢٨٢].

التفسير : قيل : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم اليهود.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في السنن مطولا (٤ / ٤٨٣) كتاب الفتن (٣٤) باب ما جاء ما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ... (٢٦) حديث رقم (٢١٩١) وقال حديث حسن صحيح ـ وأبو داود الطيالسي في المسند ص (٢٨٦) ـ وأحمد في المسند (٣ / ٦١) ـ والحاكم في المستدرك (٤ / ٥٠٥).

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن : ١ / ١٠٥ ، الدر المصون : ١ / ٨٦.

٢٢٥

وقيل : «الضالون» هم النصارى ؛ لأن الله ـ تعالى ـ حكم على اليهود بالغضب فقال تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة : ٦٠] ، وحكم على النصارى بالضّلال فقال تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٧٧].

وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصّانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز من دينهم أولى.

وقيل : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) : هم الكفّار ، و «الضالون» : هم المنافقون.

وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بالبدعة ، «والضّالين» عن السّنّة.

والأولى أن يحمل (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) على كل من أخطأ في الاعتقاد ؛ لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل.

فصل في عصمة الأنبياء والملائكة

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) يدلّ على أن أحدا من الملائكة ، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما أقدم على عمل مخالف قول الدين ، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله ؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضلّ عن الحق ، لقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فصل في إضافة الغضب لله

قالت المعتزلة : غضب الله ـ تعالى ـ عليهم يدلّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم ، وإلّا لكان الغضب عليهم ظلما من الله ـ تعالى ـ عليهم.

وقال أصحابنا ـ رحمهم‌الله تعالى ـ : لما ذكر غضب الله عليهم ، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله ـ تعالى ـ عليهم علّة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله ـ تعالى ـ مؤثرة في صفة العبد.

أما لو قلنا : إن كونهم ضالين يوجب غضب الله ـ تعالى ـ عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك محال.

فصل

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق :

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ١ / ٢١١.

٢٢٦

أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

وأهل البغي والعدوان ، وهم المراد بقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).

وأهل الجهل في دين الله ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ).

فإن قيل : لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة؟

قلنا : لأن كل أحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفسق ، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك.

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ها هنا سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولّد عن علمه بصدور القبيح والجناية (١) عنه ، فهذا العلم إما أن يقال : إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان قديما فلم خلقه ، ولم أخرجه من العدم إلى الوجود ، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدّائم ، ولأنه من كان غضبان على الشّيء كيف [يعقل](٢) إقدامه على إيجاده وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثا لكان الباري ـ تعالى ـ محلّا للحوادث ، إلّا أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ، وتسلسل ، وهو محال.

والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

سؤال آخر

وهو أن من أنعم الله ـ تعالى ـ عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه ، وأن يكون من الضّالين ، فلما ذكر قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)؟

والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرّجاء والخوف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (٣) ، فقوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يوجب الرّجاء الكامل ، وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يوجب الخوف الكامل ، وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حدّ الكمال.

سؤال آخر

ما الحكمة في أنه ـ تعالى ـ جعل المقبولين طائفة واحدة ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضّالين؟

__________________

(١) في أ : الخيانة.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ١٣٣ والأسرار المرفوعة لعلي القاري ٢٩٦ ـ وتنزيه الشريعة لابن عراق ٢ / ٤٠٢.

٢٢٧

فالجواب : أنّ الذين كملت نعم الله ـ تعالى ـ عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحقّ لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المرادون بقوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفسقة ، وهم المغضوب عليهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) [النساء : ٩٣].

وإن اختلّ قيد العلم فهم الضّالون لقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢].

فصل في حروف لم ترد في هذه السورة

قالوا : إنّ هذه السورة لم يحصل (١) فيها سبعة من الحروف ، وهو الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف مشعرة بالعذاب ، فالثاء أوّل حروف الثبور.

والجيم أوّل حروف جهنم.

والخاء أول حروف الخزي.

والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق ، والزّقوم والشّقاوة.

والظّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب ، ويدل أيضا على لظى الظاء.

والفاء أول حروف الفراق قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤].

قلنا : فائدته أنه ـ تعالى ـ وصف جهنّم بأن (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : ٤٤] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العذاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة ، وآمن بها ، وعرف حقائقها أمن من دركات جهنم السّبعة.

القول في «آمين» : ليست من القرآن إجماعا ، ومعناها : اللهم اسمع واستجب.

وقال ابن عباس وقتادة ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : معناه كذلك يكون ، فهي اسم فعل مبنيّ على الفتح.

وقيل : ليس باسم فعل ، بل هو من أسماء الباري تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين :

أحدهما : أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبنى على الضّمّ ، لأنه منادى مفرد معرفة.

__________________

(١) في أ : يجعل.

٢٢٨

والثاني : أن أسماء الله ـ تعالى ـ توقيفية.

ووجه الفارسي قول من جعله اسما لله ـ تعالى ـ على معنى : أن فيه ضميرا يعود على الله تعالى ؛ لأنه اسم فعل ، وهو توجيه حسن نقله صاحب «المغرب».

وفي «آمين» لغتان : المدّ ، والقصر ، فمن الأول قول القائل : [البسيط]

٩٣ ـ آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتّى أبلّغها ألفين آمينا (١)

وقال الآخر : [البسيط]

٩٤ ـ يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال : آمينا (٢)

ومن الثاني قوله : [الطويل]

٩٥ ـ تباعد عنّي فطحل إذ رأيته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا (٣)

وقيل : الممدود اسم أعجميّ ، لأنه بزنة قابيل وهابيل.

وهل يجوز تشديد الميم؟

المشهور أنه خطأ ، نقله الجوهريّ (٤) ـ رحمه‌الله تعالى ـ ، ولكنه قد روي عن الحسن وجعفر الصّادق ـ رضي الله تعالى عنهما ـ التشديد ، وهو قول الحسين بن الفضل ، من أمّ : إذا قصد ، أي : نحن قاصدون نحوك.

ومنه : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢].

__________________

(١) ينظر البيت في اللسان (أمن) المحرر الوجيز : ١ / ٨٠ ، القرطبي : ١ / ٩٠ ، الدر : ١ / ٨٧.

(٢) البيت للمجنون ينظر ديوانه : ص ٢١٩ ، ولعمر بن أبي ربيعة ينظر لسان العرب (أمن) ، وليس في ديوانه ، إصلاح المنطق : ص ١٧٩ ، وإنباه الرواة : ٣ / ٢٨٢ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٨٥ ، وشرح المفصل : ٤ / ٣٤ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٥١ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢٥٩ ، الكشاف : ١ / ١٧١ ، شذور الذهب : ١٥٧ ، معاني الزجاج : ١ / ١٧ ، الصحاح (أمن) البيان في غريب إعراب القرآن : ١ / ٤٢ ، مقاييس اللغة : ١ / ١٣٥ ، القرطبي : ١ / ٩٠ ، الدر : ١ / ٨٧.

(٣) البيت لجبير بن الأضبط. ينظر تهذيب إصلاح المنطق : ٢ / ٤٢ ، إصلاح المنطق : ص ١٧٩ ، وشرح الأشموني : ٢ / ٤٨٥ ، وشرح شذور الذهب : ص ١٥٢ ، وشرح المفصل : ٤ / ٣٤ ، ولسان العرب (فحطل) ، (أمن) ومعاني الزجاج : ١ / ١٧ ، الصحاح : ٥ / ٢٠٧٢ ، مقاييس اللغة : ١ / ١٣٥ ، والقرطبي : ١ / ٩٠ ، الدر : ١ / ٨٧.

(٤) إسماعيل بن حماد الجوهري ، أبو نصر : أول من حاول «الطيران» ومات في سبيله ، لغويّ من الأئمة. وخطه يذكر مع خط ابن مقلة. أصله من فاراب ، ودخل العراق صغيرا ، وسافر إلى الحجاز فطاف بالبادية ، وعاد إلى خراسان ، ثمّ أقام في نيسابور ، وصنع جناحين من خشب ، وصعد داره ، فخانه اختراعه فسقط إلى الأرض قتيلا من أشهر كتبه «الصحاح». انظر معجم الأدباء : ٢ / ٣٦٩ ، النجوم الزاهرة : ٤ / ٢٠٧ ، نزهة الألبا : ٤١٨ ، الأعلام : ١ / ٣١٣.

٢٢٩

وقيل : معناه : هو طابع الدعاء.

وقيل : هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفساد ، وظهور ما فيه. وقال النّووي (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ في «التهذيب» : وقال عطية العوفي (٢) : [«آمين»](٣) كلمة عبرانية ، أو سريانية ، وليست عربية.

وقال عبد الرّحمن بن زيد : «آمين» كنز من كنوز العرش لا يعلم أحد تأويله إلّا الله تعالى.

وروي فيها الإمالة مع المدّ عن حمزة والكسائي ، والنون فيها مفتوحة أبدا مثل : أين وكيف.

وقيل : آمين درجة في الجنّة تجب لقائلها.

وقيل : معناه : اللهم آمنا بخير.

وقال بعضهم : بنيت لأنها ليست عربية ، وأنها سم فعل [ك «صه» «ومه» ألا ترى أن معناها : «اللهم استجب ، وأعطنا ما سألناك».

وقالوا : إن مجيء «آمين» دليل على أنها ليست عربية](٤) ؛ إذ ليس في كلام العرب «فاعيل».

فأما «آري» فليس ب «فاعيل» ، بل هو عند جماعة «فاعول».

وعند بعضهم «فاعلي».

وعند بعضهم [«فاعي»](٥) بالنقصان.

وقال بعضهم : إن «أمين» المقصورة لم يجىء عن العرب ، والبيت الذي ينشد مقصورا لا يصح على هذا الوجه إنما هو : [الطويل]

__________________

(١) يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام ، شيخ الإسلام محيي الدين ، أبو زكريا الحزامي النووي ، ولد سنة ٦٣١ ، قرأ القرآن ببلده ، وختم وقد ناهز الاحتلام ، وكان محققا في علمه وفنونه ، مدققا في عمله وشؤونه ، حافظا لحديث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عارفا بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه ، واستنباط فقهه .. في كثير من المناقب يطول ذكرها ، صنف «المنهاج» في شرح مسلم ، و «المجموع» و «الأذكار» وغيرها. مات سنة ٦٧٧. انظر ط. ابن قاضي شهبة : ٢ / ١٥٣ ، ط. السبكي : ٥ / ١٦٥ ، النجوم الزاهرة : ٧ / ٢٨٧.

(٢) عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي الكوفي ، أبو الحسن : من رجال الحديث. كان يعد من شيعة أهل الكوفة. خرج مع ابن الأشعث. فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي : ادع عطية ، فإن سبّ عليّ بن أبي طالب وإلّا فاضربه ٤٠٠ سوط واحلق رأسه ولحيته ، فأبى أن يفعل ، فضربه ابن القاسم الأسواط وحلق رأسه ولحيته. ثم لجأ إلى فارس. واستقر بخراسان بقية أيام الحجاج. وعاد إلى الكوفة وتوفي بها سنة ١١١ ه‍. انظر ذيل المذيل : ٩٥ ، تهذيب التهذيب : ٧ / ٢٢٤ ـ ٢٢٦ ، الأعلام : ٤ / ٢٣٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

٢٣٠

٩٦ ـ ...........

فآمين زاد الله ما بيننا بعدا (١)

روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قال الإمام : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(٢) ، فقولوا : آمين ، فإنّ الملائكة تقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».

فصل في وجوب القراءة في الصلاة

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبة في الصلاة.

وعن الأصمّ (٣) والحسن بن صالح (٤) ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنهما قالا : لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن](٥) قراءة الفاتحة واجبة ، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب ، ونزيد ـ ها هنا ـ وجوها :

الأول : فهو قوله تبارك وتعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨].

والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر الوجوب.

الثاني : عن أبي الدّرداء (٦) ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أفي

__________________

(١) تقدم برقم ٩٥.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٦٦) كتاب الأذان (١٠) باب جهر المأموم بالتأمين (١١٣) حديث رقم (٧٨٢) دون قوله فإن الملائكة تقول آمين وإن الإمام يقول آمين. والنسائي في السنن (٢ / ١٤٤) كتاب الافتتاح (١١) باب جهر الإمام بآمين (٢٣) ـ وابن ماجة في السنن (١ / ٢٧٧) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ـ باب الجهر بآمين ـ وأحمد في المسند (٢ / ٢٣٣ ، ٢٧٠) والدارمي في السنن (١ / ٢٨٤) باب فضل التأمين.

(٣) عبد الرحمن بن كيسان ، أبو بكر الأصم. فقيه معتزلي مفسر. قال ابن المرتضى : كان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم ، خلا أنه كان يخطّىء عليا عليه‌السلام في كثير من أفعاله ويصوّب معاوية في بعض أفعاله. قال القاضي عبد الجبار : كان جليل القدر يكاتبه السلطان. من تصانيفه : «تفسير» وصف بأنه عجيب ، وله الأصول : «مقالات». مات سنة ٢٢٥ ه‍ تقريبا.

ينظر طبقات المعتزلة : ٥٦ ، لسان الميزان : ٣ / ٤٢٧ ، الأعلام : ٣ / ٣٢٣.

(٤) الحسن بن صالح بن حي الهمداني الثوري الكوفي ، أبو عبد الله : من زعماء الفرقة «البترية» من الزيدية. كان فقيها مجتهدا متكلما ، أصله من ثغور همدان. وهو من أقران سفيان الثوري ، ومن رجال الحديث الثقات ، وقد طعن فيه جماعة لما كان يراه من الخروج بالسيف على أئمة الجور. له مصنفات منها كتاب «التوحيد» و «الجامع» في الفقه. ولد سنة ١٠٠ ه‍. وتوفي سنة ١٦٨ ه‍.

انظر تهذيب التهذيب : ٢ / ٢٨٥ ، الفهرست لابن النديم : ١ / ١٧٨ ، والأعلام : ٢ / ١٩٣.

(٥) سقط في أ.

(٦) عويمر بن زيد أو ابن عامر أو ابن مالك بن عبد الله بن قيس بن عابسة بن أمية بن مالك بن عامر بن ـ

٢٣١

الصّلاة قراءة فقال : «نعم» ، فقال السّائل : وجبت ، فأقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الرجل على قوله : «وجبت» (١).

الثالث : عن ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أيقرأ في الصلاة؟

فقال عليه الصلاة والسلام : «أتكون صلاة بغير قراءة» (٢) ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي حامد الإسفرايني (٣).

وحجّة الأصم ـ رحمه‌الله تعالى ـ قوله عليه الصلاة والسلام : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٤) جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست مرئية ، فوجب كونها خارجة عن الصلاة ، والجواب : أنّ الرؤية إذا كانت متعدية إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.

فصل

قال الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة ، فإن ترك منها حرفا واحدا وهو يحسنها لم تصحّ صلاته ، وبه قال الأكثرون.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ : لا تجب قراءة الفاتحة.

لنا وجوه :

الأول : أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصّلاة ، فوجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨] ، ولقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] ، ولقوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١].

__________________

ـ عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي ، أبو الدرداء له ١٧٩ حديثا. من أقواله : ربّ شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا ، أسلم يوم بدر وشهد أحدا. جمع القرآن وولي قضاء دمشق ، وله فضائل جمة. توفي سنة ٣٢ ه‍.

ينظر الخلاصة : ٢ / ٣١٠ (٥٥٠٠) الاصابة : ٤ / ٧٤٧ ـ ٧٤٨. وغاية النهاية : ١ / ٦٠٦ ـ ٦٠٧.

(١) ينظر سنن النسائي : ٢ / ١٤٢ ، كتاب الافتتاح باب اكتفاء المأموم بقراءة الإمام.

(٢) ينظر الدارقطني في السنن : ١ / ٣٢٠ كتاب الصلاة باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة.

(٣) أحمد بن محمد بن أحمد الأسفراييني أبو حامد : من أعلام الشافعية ولد في ٣٤٤ ه‍ رحل إلى بغداد ، فتفقه فيها وعظمت مكانته ، وألف كتبا منها مطول في «أصول الفقه» ومختصر في الفقه سماه «الرونق» توفي في بغداد ٤٠٦ ه‍.

ينظر طبقات الشافعية : ٣ / ٢٤ ، البداية والنهاية : ١٢ / ٢ ، ابن خلكان : ١ / ١٩ ، ياقوت : ١ / ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ، الأعلام : ١ / ٢١١.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٢ / ١١١) كتاب الأذان : (١٠) باب الأذان للمسافر (١٨) حديث رقم (٦٣١) وفي (١٠ / ٤٣٨) كتاب الأدب (٧٨). باب رحمة الناس والبهائم (٢٧) حديث رقم (٦٠٠٨). وأحمد في المسند (٥ / ٥٣). والدارقطني في السنن (١ / ٢٧٣ ، ٣٤٦). والبيهقي في السنن (٢ / ٣٤٥) ـ وذكره ابن حجر في تلخيص الحبير (٢ / ١٢٢) ، وابن عبد البر في التمهيد (٥ / ١١٧) ، (٩ / ٢١٣).

٢٣٢

ويا للعجب من أبي حنيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحد ، في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مسح على النّاصية ، فجعل ذلك القدر من المسح شرطا لصحة الصلاة ، وها هنا نقل أهل العلم نقلا متواترا أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ واظب على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحّة الصّلاة غير موقوفة عليها ، وهذا من العجائب.

الثاني : قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣] ، والصلاة لفظ محلّى بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السّابق ، وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصّلاة إلا الأعمال التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي بها.

وإذا كان كذلك كان قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) جاريا مجرى أمره بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر [الوجوب](١) ، ثم إنّ هذه اللّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلا قاطعا على وجوب قراءة الفاتحة في الصّلاة.

الثالث : أنّ الخلفاء الراشدين ـ رضي الله تعالى عنهم ـ واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدلّ عليه ما روي في «الصّحيحين» أن النّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأبا بكر وعمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ كانوا يستفتحون القراءة ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢) ، وإذا ثبت هذا وجب علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي» (٣).

ولقوله عليه الصلاة والسلام : «اقتدوا باللّذين من بعدي : أبي بكر وعمر» رضي الله عنهما.

والعجب من أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه تمسّك بطلاق الفارّ بأثر عثمان (٤) ـ رضي الله

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح (١ / ٢٩٩) كتاب الصلاة (٤) باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (١٣) حديث رقم (٥٢ / ٣٩٩). والنسائي في السنن كتاب الافتتاح باب رقم (٢٠). وأحمد في المسند (٣ / ٢٠٣ ، ٢٠٥ ، ٢٢٣ ، ٢٥٥ ، ٢٧٣ ، ٢٧٨) ، (٥ / ٥٥).

(٣) أخرجه أبو داود في السنن (٢ / ٦١١) كتاب السنة باب في لزوم السنّة حديث رقم (٤٦٠٧). والترمذي في السنن حديث رقم (٢٦٧٦) ـ وابن ماجه في السنن حديث رقم (٤٢) ـ وأحمد في المسند (٤ / ١٢٦ ، ١٢٧) ـ والطبراني في الكبير (١٨ / ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٧). وابن حبان في الموارد حديث رقم (١٠٢) ـ وذكره المنذري في الترغيب (١ / ٧٨) ـ وابن عبد البر في التمهيد (٨ / ٦٦ ، ١١٦) وابن حجر في فتح الباري (٣ / ٢٩٢).

(٤) عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي أبو عمرو المدني ذو النورين ، وأمير المؤمنين ، ومجهز جيش العسرة وأحد العشرة وأحد الستة ، هاجر الهجرتين ، له مائة وستة وأربعون حديثا ، وعنه أبناؤه أبان وسعيد وعمرو وأنس ومروان بن الحكم وخلق ، وقال ابن سيرين : كان يحيي ـ

٢٣٣

عنه ـ مع أن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ كانا يخالفانه ، ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرث ، فلم يتمسّك بعمل [كل](١) الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على سبيل الإطباق ، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة ، مع أن هذا القول على وفق القرآن ، والإخبار ، والمعقول!

الرابع : أن الأمّة [وإن](١) اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العمل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصّلاة ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنّ من صلّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركا سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] فإن قالوا : إنّ الذين اعتقدوا أنّه لا يجب قراءتها قرءوها لا عن اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد النّدبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها.

فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بيّنّا إطباق الكلّ على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يأت بالقراءة كان تاركا طريقة المؤمنين في هذا العمل فدخل تحت الوعيد ، وهذا القدر يكفينا في الدّليل ، ولا حاجة في تقرير هذا الدّليل إلى ادّعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.

الخامس : قوله عزوجل : «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يقول الله تعالى : حمدني عبدي ...» (٢) ، إلى آخر الحديث.

وجه الاستدلال : أنه ـ تعالى ـ حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلّا بسبب آيات هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب

__________________

ـ الليل كله بركعة ، قتل في سابع ذي الحجة يوم الجمعة سنة خمس وثلاثين. قال عبد الله بن سلام : لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة. رضي الله عنه.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٧ / ١٣٩ (٢٨٩). تقريب التهذيب : ٢ / ١٢ ، تاريخ البخاري الكبير : ٦ / ٢٠٨ ، الجرح والتعديل : ٦ / ١٦٠ ، تاريخ الثقات : ١١٠٩ ، شذرات الذهب : ١ / ١٠ ، ٢٥ ، ٣٠ ، ٣٣ ، ٤٣ ، ٤٥ ، نسب قريش : (١١٠) ، جمهرة أنساب العرب : ٨٣ ، أنساب الأشراف : ٤٤ ، ٤٥.

(١) سقط في أ.

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الترمذي في السنن (٥ / ٥٦٩) كتاب المناقب (٥٠) باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (١٦) حديث رقم (٣٦٦٢) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن.

وابن ماجه في السنن المقدمة حديث رقم (٩٧).

وأحمد في المسند (٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥ ، ٣٩٩ ، ٤٠١ ، ٤٠٢) ، والبيهقي في السنن (٥ / ١٢) ، (٨ / ١٥٣) ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم (٢١٩٣) ـ والطبراني في الكبير (٩ / ٦٨) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٧٥) ـ وذكره الهيثمي في الزوائد : (٩ / ٥٦ ، ٢٩٨) والهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٦٥٦) ، (٣٢٦٤٦) ، (٣٢٦٥٧) ، (٣٣١١٧) ، (٣٣٦٧٩).

٢٣٤

كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم (١) لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط في صحّة الصلاة.

السّادس : قوله عليه الصلاة والسلام : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».

قالوا : حرف النفي دخل على الصّلاة ، ودخل على غير ممكن ، فلا بدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصّلاة ، وليس صرفه إلى الصّحة أولى من صرفه إلى الكمال.

والجواب من وجوه :

الأول : أنه جاء في بعض الرّوايات : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وعلى هذه الرواية فالنّفي ما دخل على الصّلاة ، وإنما دخل على حصولها للرّجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عهدة التّكليف بسببها ، وعلى هذا التّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النّفي على ظاهره.

الثاني : من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة ، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة ؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها ، وإذا ثبت هذا فقولهم : إنه لا يمكن إدخال حرف النّفي على مسمّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزءا من الصّلاة ، وهذا [هو](٢) أول المسألة ، فثبت أن قولنا : يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة ، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما : أقرب إلى الحقيقة ، والثاني : أبعد ؛ فإنه يجب حمل اللّفظ على المجاز الأقرب.

إذا ثبت هذا فنقول : المشابهة بين المعدوم ، وبين الموجود الذي يكون صحيحا [أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحا](٣) ، لكنه لا يكون كاملا ، فكان حمل هذا اللّفظ على نفي الصّحة أولى.

الحجّة السّابعة : عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كلّ صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج ، فهي خداج» (٤) أي غير تمام ، قالوا : الخداج هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز.

__________________

(١) في أ : الموقع.

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الترمذي في السنن (٢ / ٢٥) كتاب أبواب الصلاة باب لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب حديث رقم (٢٤٧) وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجة في السنن (١ / ٢٧٤) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (٥) باب القراءة خلف الإمام (١١) حديث رقم (٨٤٠) ، (٨٤١) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٤٥٧ ، ٤٧٨) ـ وابن أبي شيبة (١ / ٣٦٠) والدارقطني (١ / ٣٢٧) ـ والبيهقي في السنن : (٢ / ٣٨ ، ١٦٧). وذكره السيوطي في الدر المنثور (١ / ٦) ـ والهيثمي في الزوائد : (٢ / ١١٤) والهندي في كنز العمال حديث رقم (١٩٦٦٣) ، (١٩٧٠٠) ، (١٩٧٠٢) ، (١٩٧٠٣) ، (١٩٧٠٤).

٢٣٥

قلنا : بل هذا يدلّ على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصّلاة دائم ، والأصل في الثابت البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصّلاة على صفة الكمال ، فعند الإتيان بها على سبيل النّقصان يوجب ألّا يخرج عن العهدة ، والذي يقوي هذا أنّ عند أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ يصح الصوم في يوم العيد إلّا أنه قال : لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح ؛ لأن الواجب عليه هو الصّوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة.

وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟

الحجّة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في «تعليقه» عن ابن المنذر (١) أنه روى بإسناده عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب».

الحجّة التاسعة : روى رفاعة بن مالك (٢) ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا دخل المسجد فصلّى ، فلما فرغ من صلاته ، ذكر في الخبر أن الرجل قال : علّمني الصّلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إذا توجّهتم إلى القبلة فكبّروا ، واقرءوا بفاتحة الكتاب» (٣) ، وهذا أمر ، والأمر للوجوب.

الحجّة العاشرة : روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بسورة ليس في التّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزّبور مثلها» ، قالوا : نعم ، قال : «فما تقرءونه في صلاتكم»؟ فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين ، قال : «هي هي».

وجه الدليل : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال : «ما تقرءونه في صلاتكم»؟ قالوأ : الحمد لله رب العالمين (٤) ، وهذا يدل على أنه كان مشهورا عند الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنه لا يصلي أحد إلّا بهذه السورة ، فكان هذا إجماعا معلوما عندهم.

__________________

(١) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر ، النيسابوري ، الفقيه ، أحد الأئمة الأعلام ، ومحمد يقتدى بفعله في الحلال والحرام ، صنف كتبا منها : الإشراف في معرفة الخلاف ، والأوسط وهو أصل الإشراف ، والإقناع والتفسير وغير ذلك. سمع محمد بن الحكم ، والربيع بن سليمان ، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا ، مات سنة ٣٢٩.

انظر. ط ابن قاضي شهبة : ١ / ٩٨ ، ط. السبكي : ٢ / ١٢٦ ، تذكرة الحفاظ : ٣ / ٧٨٢.

(٢) رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن عضب بن جشم بن الخزرج الزرقي أبو معاذ المدني ، بدري جليل. له أحاديث ، انفرد له البخاري بثلاثة أحاديث ، وعنه ابناه معاذ وعبيد. مات في أول خلافة معاوية. ينظر تهذيب التهذيب : ٣ / ٢٣٢ ، تقريب التهذيب : ١ / ٢٤١ ، تاريخ البخاري الكبير : ٣ / ٢٩٩ ، الجرح والتعديل : ٣ / ١٥٩ ، أسد الغابة : ٢ / ١٩٧ ، ١٩٨.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير : (٥ / ٣٢) بلفظ إذا توجهت إلى القبلة فكبر ـ وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم ١٩٦٣٠ ، ١٩٦٣١.

(٤) أخرجه الدارقطني في السنن (١ / ٣٣١) باب وجوب قراءة أم الكتاب في الصلاة وخلف الإمام.

٢٣٦

الحجّة الحادية عشرة : التمسّك بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسّر من القرآن واجبة.

فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب ، وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.

وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقصة ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.

واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسّر من القرآن ؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذ لا تكون متيسّرة للكلّ.

الحجّة الثّانية عشرة : الأصل بقاء التكليف ، فالقول بأنّ الصّلاة بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أن يعرف بالنّص (١) أو بالقياس (٢).

__________________

(١) أصل النص في اللغة : الرفع ، ومنه قول عمرو بن دينار : (ما رأيت رجلا أنصّ للحديث من الزهري) ، أي : أرفع له وأسند.

وفي الاصطلاح عند المتقدمين من الحنفية : كون المعنى مسوقا له اللفظ ، وظاهر فيه احتمل التخصيص والتأويل أو لا.

وعند المتأخرين : كون المعنى مسوقا له اللفظ مع احتمال التخصيص والتأويل.

وعند الشافعي ـ رحمه‌الله ـ : النص ما كان قطعيّ الدلالة.

أما حكمه عند الشافعية ، فالعمل به ، لكن لا على جهة القطع ؛ لوجود الاحتمال المرجوح ، فإن رجح بدليل يعضده ، كان مؤولا مصروفا عن الظاهر ، وإن تساوى الاحتمالان ، فالوقف حتى يظهر الدليل.

وأما عند الحنفية ففيه مذهبان :

«الأول» مذهب مشايخ العراق ؛ منهم : أبو الحسن الكرخي ، وأبو بكر الجصاص ، ومذهب القاضي أبي زيد ومن تابعه ، وعامة المعتزلة.

وهو أن الثابت بها ثابت قطعا يقينا ، واجب العمل به ، سواء أكان خاصّا ـ مع قيام احتمال التأويل فيه ـ أم عامّا ـ مع قيام احتمال التخصيص وذلك بناء منهم على أن لا عبرة للاحتمال البعيد ، وهو الذي لا ينشأ عن قرينة.

«المذهب الثاني» وهو مذهب ما وراء النهر ؛ منهم : الإمام أبو منصور الماتريدي ، وبه قال بعض علماء الحديث ، وبعض أصحاب المعتزلة ـ أن حكم النص : وجوب العمل بما وضع له اللفظ لا قطعا ، ووجوب اعتقاد حقّية ما أراد الله ـ تعالى ـ من ذلك الحكم ، وهذا منهم بناء على أن العام ـ وإن خلا عن قرينة التخصيص ـ والخاص ـ وإن خلا عن قرينة التأويل ـ ولكن الاحتمال باق في الجملة ، وذلك ينزله عن درجة القطع ، وإن وجب العمل ، وحاصله : أن ما دخل تحت الاحتمال وإن كان بعيدا لا يوجب العلم ، بل يوجب العمل ؛ كخبر الواحد والقياس. ـ

٢٣٧

أما الأول فباطل.

__________________

ـ فحكم النص هو بعينه حكم الظاهر ، والخلاف الخلاف ، ثم إن النص أكثر وضوحا من الظاهر ، ومعناه اللغوي مشعر بذلك ؛ لأنه مأخوذ من نصصت الدابة : استخرجت منها بالتكلف سيرا فوق المعتاد ، ونصصت الشيء : رفعته.

لكن اختلف في سبب زيادة الوضوح على مذهبين : الأول : مذهب صدر الشريعة ، وآخرين : أن زيادة الوضوح بمجرد السوق ، فإن إطلاق اللفظ على معنى شيء ؛ وسوقه شيء آخر غير لازم للأول.

مثال ذلك : إذا قلت : رأيت فلانا حين جاءني القوم ، كان قولك : جاءني القوم ظاهرا في مجيء القوم ، لكونه غير مقصود بالسوق ، ولو قيل ابتداء : جاءني القوم ، كان نصّا في مجيء القوم ، لكونه مقصودا بالسوق هكذا مثلوا في الكتب ، وعندي أن التمثيل بغير ما في الكتاب والسّنّة غير مناسب ، والأولى التمثيل بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنه نصّ في العجب من عدم اكتفائهم بالكتاب ، ظاهر في إنزال الكتاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «والمذهب الثاني» : مذهب شمس الأئمة ، والقاضي الإمام ، وفخر الإسلام البزدوي ، وهو ما جاء في كشفه صحيفة ٤٧ جزء أول : «وأما النص فما ازداد وضوحا على الظّاهر بمعنى من المتكلم ، لا في نفس الصيغة» وقال شارحه : وليس ازدياد وضوح النص على الظّاهر بمجرد السّوق كما ظنوا ؛ إذ ليس ثمة فرق في فهم المراد بين قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) مع كونه مسوقا في إطلاق النكاح ، وبين قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) مع كونه غير مسوق فيه ، وإن كان يجوز أن يثبت لأحدهما قوة يصلح بها للترجيح عند التعارض ؛ كالخبرين المتساويين في الظهور ، يجوز أن يثبت لأحدهما مزيّة على الآخر بالشهرة ، أو التواتر ، أو غيرهما من المعاني ، بل ازدياده بأن يفهم منه معنى لم يفهم من التّظاهر بقرينة قطعية ، تنضم إليه سباقا أو سياقا تدل على أن قصد المتكلم ذلك المعني بالسوق ، كالتفرقة بين البيع والربا لم تفهم من ظاهر الكلام ، بل بسياقه ، وهو قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) فعرف أن الغرض إثبات التفرّقة بينهما ، وأن تقدير الكلام : «وأحلّ الله البيع وحرّم الرّبا» فأنّى يتماثلان ، ولم يعرف هذا بدون تلك القرينة ، وأيّا كان سبب زيادة الوضوح ، فالزيادة قدر متفق عليه.

وإذا ما كان النص أكثر وضوحا من الظاهر ، فهو أولى عند التعارض ، وهذه الأولوية لا تنافي ما سبق من مماثلة حكم النص لحكم الظاهر ؛ فإن المماثلة بينهما نظرا للقدر المتفق عليه فيهما ، وهو الظهور ، وإن كان النص أولى عند التعارض لما ثبت له من زيادة الوضوح.

في «القاموس المحيط» للفيروز آبادي : قاسه بغيره وعليه يقيسه قيسا وقياسا ، واقتاسه : قدّره على مثاله ، فانقاس ، والمقدار مقياس ...

وقايسته : جاريته في القياس ، ـ وبين الأمرين : قدّرت ، وهو يقتاس بأبيه ؛ واويّ يائيّ.

وفي مادّة «ق وس» ، والقوس الذّراع ؛ لأنه يقاس به المذروع وقاس يقوس قوسا ؛ ك «يقيس قيسا» ... ، ويقتاس ، أي : يقيس ، فلان بأبيه : يسلك سبيله ويقتدي به.

وفي «لسان العرب» لابن منظور : «قاس الشّيء يقيسه قيسا وقياسا ، واقتاسه ، وقيّسه : إذا قدّره على مثاله».

قال الشّاعر : [مشطور السّريع]

فهنّ بالأيدي مقيساته

مقدّرات ومخيطاته

والمقياس : المقدار ، وقاس الشيء يقوسه قوسا : لغة في قاسه يقيسه ، ويقال : قسته ، وقسته أقوسه قوسا وقياسا ، ولا يقال : أقسته بالألف ، والمقياس : ما قيس به ، والقيس والقاس : القدر والقياس : ـ

٢٣٨

[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وقد بينا أنه دليلنا.

__________________

ـ مصدر «قايس» من المفاعلة لا مصدر «قاس» من الثلاثيّ ؛ لأن المساواة من الطرفين ، ومصدر الثاني قيس ، يقال : قاس يقيس قيسا ؛ فعلى هذا ، يكون لكلّ من المصدرين المذكورين فعل يخصّه ، ويكون الأول فعله رباعيّ ، وهو «قايس» ، والثاني ثلاثيّ ، وهو «قاس» ، وفي «القاموس المحيط» للفيروز آباديّ و «لسان العرب» لابن منظور ما يدلّ على أن المصدرين المذكورين أصل لفعل واحد ؛ وعلى هذا ، يقال لغة : قاس الشيء بغيره وعليه ، يقيسه قيسا وقياسا ، واقتاسه : قدّره على مثاله ، وإلى ذلك ذهب الإسنويّ ؛ حيث قال : القياس والقيس مصدران ل «قاس» ، وأكثر الأصوليّين يقولون : إنّ القياس بحسب أصل اللغة ؛ يتعدّى ب «الباء» ، وأن المستعمل في عرف الشرع يتعدّى ب «على» ؛ لتضمّنه معنى البناء والحمل.

والخلاصة : أنه يمكن القول بأنه لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن ما ذكر في كتب اللغة المذكورة يدلّ على أن القياس يتعدّى ب «على» كما يتعدّى ب «الباء» ؛ وعليه : فلا معنى للتضمين ، إلّا أن يقال : إنّ المستعمل من القياس في عرف الشرع لا يكاد يذكر إلّا متعدّيا ب «على».

وتنوّعت آراء الأصوليّين في حكاية معنى القياس لغة : فرأي يرى : أنه هو التقدير والمساواة والمجموع منهما ؛ وعليه ، فيكون لفظ «القياس» على هذا مشتركا لفظيّا بين هذه المعاني الثلاثة ، أي : وضع لكلّ منها بوضع ؛ لأن تعريف المشترك اللّفظيّ هو : ما اتّحد لفظه وتعدّد معناه ووضعه ؛ كما هو مبيّن في باب الاشتراك ، مثال المعنى الأوّل من الثلاثة : قست الثّوب بالذّراع.

ومثال المعنى الثاني : فلان لا يقاس بفلان ، أي : لا يساويه.

ومثال المعنى الثالث : قست النّعل بالنّعل ، أي : قدّرته به ، فساواه ، وهذا ما ذهب إليه الإمام القاضي المحقّق عضد الدّين ؛ أخذا من إيراده الأمثلة الثلاثة.

ورأي يرى : أنه حقيقة في التقدير ، مجاز لغويّ في المساواة ، وذلك باعتبار أنّ التقدير يستدعي شيئين ، يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة ؛ فيكون تقدير الشيء مستلزما للمساواة ، واستعمال لفظ الملزوم في لازمه شائع ، وهذا ما ذهب إليه سيف الدّين الآمديّ في «الإحكام» ؛ وعلاقة المجاز على هذا اللازمية ، والملزوميّة.

ورأي يرى : أنه حقيقة عرفيّة ؛ وعليه جرى محبّ الدّين بن عبد الشّكور الهنديّ ، صاحب «مسلّم الثّبوت».

وعلى هذا القول ، والقول بالمجاز ؛ فالمناسبة بين المعنى اللغوي ، وهو التقدير ، والمعنى الاصطلاحيّ إنما هي باعتبار هذا اللازم ، وهو المساواة ؛ فإن المعنى الاصطلاحي ، إما مساواة خاصّة ، فيكون من أفراد هذا اللازم ، أو يتضمّنها ويبنى عليها. ويرى فريق آخر : أنه هو مشترك معنويّ ، وهو ما اتحد لفظه ومعناه ، كما هو مذكور في «باب الاشتراك» من كتب الأصول ، لأن معنى «القياس» على هذا الرأي : هو التقدير فقط ، وهو كلّيّ تحته فردان ؛ بحيث يطلق لفظ «القياس» عليهما ؛ باعتبار شمول معناه ـ الّذي هو التقدير ـ لهما وصدقه عليهما :

الأوّل : استعلام القدر ، أي طلب معرفة مقدار الشيء ، مثل : قست الثوب بالذّراع.

والثاني : التّسوية في مقدار ؛ مثل : قست النّعل بالنّعل ، سواء كانت التسوية حسّيّة ؛ كالمثالين السابقين ، أم معنوية ؛ كما يقال : فلان لا يقاس بفلان ، أي : لا يساويه ، ومنه قول الشاعر : [البسيط]

خف يا كريم على عرض تدنّسه

مقال كلّ سفيه لا يقاس بكا

ووجه نقل القياس على هذا القول إلى المعنى الاصطلاحي ظاهر ، كما أن نقله إلى المعنى الاصطلاحي ؛ على القول بالاشتراك اللفظيّ ، إنما هو من معنى المساواة ، كما هو واضح. ـ

٢٣٩

__________________

ـ ويرى فريق آخر : أن معناه الاعتبار ؛ كما نصّ على ذلك الزركشيّ في البحر المحيط بعد أن حكى أن المشهور في معنى القياس لغة : هو تقدير شيء على مثال شيء آخر ، وتسويته به ، وفي هذا يقول : وقيل : القياس مصدر قست الشيء ، إذا اعتبرته ، ومنه قيس الرأي ، وامرؤ القيس ، لاعتبار الأمور برأيه ، وقسته ، بضم القاف ، أقوسه قوسا ، ذكر هذه اللغة الجوهريّ في «صحاحه» ، فهذه الصيغة من ذوات الياء والواو.

وفي «البرهان» : القياس في اللغة : التمثيل والتّشبيه.

وقال الماورديّ في «الحاوي» ، والرّويانيّ في كتاب «القضاء» : القياس في اللّغة مأخوذ من المماثلة ؛ يقال : هذا قياس هذا ، أي : مثله.

ويرى ابن السّمعانيّ في «القواطع» : أن القياس مأخوذ من الإصابة ؛ يقال : قست الشيء ، إذا أصبته ؛ لأن القياس يصاب به الحكم.

قال الشيخ محمد أحمد سلامة في رسالته في القياس : وخلاصة ما يؤخذ من كتب الأصول من بيان معنى القياس لغة سبعة معان.

الأول : أن معناه التقدير ، والمساواة من لوازمه.

الثاني : أن معناه التقدير والمساواة ، والمجموع منهما على سبيل الاشتراك اللفظي بين الثلاثة.

الثالث : أن معناه التقدير فقط ، وهو كلّيّ تحته فردان ، استعلام القدر والتسوية ، فهو مشترك اشتراكا معنويا.

الرابع : أنّ معناه الاعتبار.

الخامس : أنّ معناه التمثيل والتّشبيه.

السادس : أنّه المماثلة.

السابع : أنّه الإصابة.

ولا يخفى وجه نقل القياس إلى المعنى الاصطلاحي ، على المعنى الرابع والخامس والسادس ، أما على المعنى السابع فوجه نقله أنّ القياس يصاب به الحكم ، والمعنى المشهور من كلّ ذلك هي الثلاثة الأول ؛ لذلك اقتصر عليها الكمال ابن الهمام ، ورجح المعنى الثالث منها ؛ وهو كونه مشتركا معنويا بين معنيين ؛ استعلام القدر ، والتسوية في مقدار ، ونسب ذلك إلى الأكثر بقوله : ولم يزد الأكثر ك «فخر الإسلام» ، وشمس الأئمة «السرخسيّ» و «حافظ الدين النّسفيّ» وغيرهم على أنّ معنى القياس لغة : التقدير واستعلام القدر ، والتسوية في مقدار ، فردّا مفهوم التقدير مع نفيه كون القياس مشتركا لفظيّا فيهما أو في المجموع ، ونفيه كونه حقيقة في التقدير ، مجازا في المساواة».

وقوّاه شارحه ؛ بأن القياس باعتبار صدق معناه الذي هو التقدير على معنييه ؛ أعني استعلام القدر والتسوية ، من قبيل التواطؤ ، والتواطؤ مقدّم على كلّ من الاشتراك اللفظيّ ، كما هو الرأي الأوّل ، والمجاز ، كما هو الرأي الثاني ، إذا أمكن ، وقد أمكن وهو الراجح ؛ لأن التواطؤ ليس فيه تعدّد وضع ، ولا احتياج إلى قرينة ، لأنّه حقيقة في كل أفراده ، بخلاف المشترك اللّفظيّ ، فإنّ فيه تعدّد الوضع والمعنى ، والاحتياج إلى قرينة تعيّن المراد من أفراده ، وبخلاف المجاز ؛ فإنّه يحتاج ضرورة إلى قرينة لفهم المعنى المراد من اللّفظ.

وما لا يحتاج إلى شيء في فهم معناه ، أولى ممّا يحتاج.

أما تعريفه من جهة الاصطلاح فقد تنوّعت آراء الأصوليّين القائلين بالقياس في مسمّى اسم «القياس»: فذهب بعض الأصوليّين : إلى أنّه «فعل المجتهد». ـ

٢٤٠