اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قال قيس بن الخطيم (١) : [الوافر]

٣٦ ـ نصبنا أمّنا حتّى ازعررّوا

وصاروا بعد ألفتهم شلالا

فسمّيت هذه السورة بأم القرآن ؛ لأن مفزع أهل الإيمان إلى هذه السورة ، كما أن مفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أمّا ، لأن معاد الخلق إليها في حياتهم ومماتهم ، ولأنه يقال : أمّ فلان فلانا إذا قصده.

والرابع : السبع المثاني ، سمّيت بذلك ؛ قيل : لأنّها مثنى نصفها ثناء العبد للربّ ، ونصفها عطاء الرّبّ للعبد.

وقيل : لأنها تثنّى في الصلاة ، فتقرأ في كل ركعة.

وقيل : لأنها مستثناة من سائر الكتب ، قال عليه الصلاة والسلام : «والّذي نفسي بيده ما أنزلت في التّوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزّبور ، ولا في الفرقان (٢) مثل هذه السّورة ، فإنها السّبع المثاني ، والقرآن العظيم».

وقيل : لأنها سبع آيات ، كلّ آية تعدل قراءتها بسبع من القرآن ، فمن قرأ الفاتحة أعطاه الله ـ تعالى ـ ثواب من قرأ كلّ القرآن.

وقيل : لأنها نزلت مرّتين : مرة ب «مكة» ومرة ب «المدينة».

وقيل : لأن آياتها سبع ، وأبواب النيران سبعة ، فمن قرأها غلّقت عنه [أبواب النيران السبعة].

والدّليل عليه ما روي أن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم ـ : «يا محمد ، كنت أخشى العذاب على أمّتك ، فلما نزلت الفاتحة أمنت ، قال : لم يا جبريل؟ قال : لأنّ الله ـ تعالى ـ قال : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : ٤٣ ، ٤٤] ، وآياتها سبع ، فمن قرأها صارت كلّ آية طبقا على كلّ باب من أبواب جهنّم ، فتمر أمتك عليها سالمين».

وقيل : لأنّها إذا قرئت في الصلاة تثنّى بسورة أخرى.

وقيل : سمّيت مثاني ؛ لأنها أثنية على الله تعالى ومدائح له.

__________________

(١) قيس بن الخطيم بن عدي الأوسي ، أبو يزيد : شاعر الأوس ، وأحد صناديدها في الجاهلية. أول ما اشتهر به تتبعه قاتلي أبيه وجده حتى قتلهم وقال في ذلك شعرا. وله في وقعة «بعاث» التي كانت بين الأوس والخزرج ، قبل الهجرة ، أشعار كثيرة. أدرك الإسلام وتريث في قبوله ، فقتل قبل أن يدخل فيه نحو ٢ ق ه. شعره جيد ، وفي الأدباء من يفضله على شعر حسان. له «ديوان». ينظر : الأعلام : ٥ / ٢٠٥ ، الأغاني : ٢ / ١٥٤ ، والإصابة : ت ٧٣٥٠.

(٢) في أ : القرآن.

١٦١

الخامس : «الوافية» كان سفيان بن عيينة (١) ـ رضي الله عنه ـ يسمّيها بهذا الاسم.

وقال الثّعلبيّ : وتفسيرها أنها لا تقبل التّنصيف ، ألا ترى أنّ كلّ سورة من القرآن لو قرىء نصفها في ركعة ، والنصف الثاني في ركعة أخرى لجاز؟ وهذا التّنصيف غير جائز في هذه السورة.

السادس : «الوافية» سمّيت بذلك ؛ قيل : لأن المقصود من كل القرآن الكريم تقدير أمور

أربعة : الإلهيّات ، والمعاد ، والنّبوّات ، وإثبات القضاء والقدر لله ـ تعالى ـ فقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ٢ ـ ٣] يدلّ على الإلهيات.

وقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] يدلّ على المعاد.

وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] يدلّ على نفي الجبر ، والقدرة على إثبات أنّ الكلّ بقضاء الله وقدره.

وقوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] إلى آخرها يدلّ ـ أيضا ـ على إثبات قضاء الله ـ تعالى ـ وقدره.

وعلى النّبوّات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

السابع : «الكافية» لأنها تكفي عن غيرها ، وغيرها لا يكفي عنها ، روى محمود بن الرّبيع (٢) ، عن عبادة بن الصّامت (٣) ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قال رسول الله صلّى الله

__________________

(١) سفيان بن عيينة بن أبي عمر الهلالي مولاهم أبو محمد الأعور الكوفي أحد أئمة الإسلام. عن عمرو بن دينار والزهري ، وزيد بن أسلم وصفوان بن سليم ، وخلق كثير. وعنه شعبة ومسعر من شيوخه وابن المبارك من أقرانه وأحمد وإسحاق ، وابن معين وابن المديني وأمم. قال العجلي : هو أثبتهم في الزهري ، كان حديثه نحو سبعة آلاف. وقال ابن عيينة : سمعت من عمرو بن دينار ما لبث نوح في قومه. وقال ابن وهب : ما رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي : لو لا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز. مات سنة ثمان وتسعين ومائة ، ومولده سنة سبع.

ينظر ترجمته في : تهذيب الكمال ١ / ٥١٤ ، تهذيب التهذيب ٤ / ١١٧ ، تقريب التهذيب : ١ / ٣١٢ ، خلاصة تهذيب الكمال : ١ / ٣٩٧ ، الكاشف : ١ / ٩ ، تاريخ البخاري الكبير : ٤ / ٩٤ ، الجرح والتعديل : ٤ / ٩٧٤ ، ١ / ٣٢ ، ميزان الاعتدال : ٢ / ١٧٠ ، طبقات ابن سعد : ٩ / ٨٣ ، البداية والنهاية : ١٠ / ٢٠٥ ، ٢١٨ ، ٢٣٩ ، ٢٤٤ ، الوافي بالوفيات : ١٥ / ٢٨١ ، الحلية : ٧ / ٢٧٠.

(٢) محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو بن زيد بن عبدة بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج الأنصاري ، أبو محمد المدني ، نزيل بيت المقدس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن عبادة بن الصامت ، وحفظ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مجّ في وجهه من دلو وهو ابن خمس سنين. وعنه أنس أكبر منه والزهري.

قال الواقدي : مات سنة تسع وتسعين.

ينظر : الخلاصة ٣ / ١٤ ، ثقات ابن حبان ٣ / ٣٩٧ ، تهذيب الكمال ٢٧ / ٣٠١ ، الكاشف ت (٥٤١٣) ، والإصابة ت (٨٧١٨).

(٣) عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأنصاري أبو الوليد شهد العقبتين وبدرا ، وهو أحد النقباء ، له مائة وأحد وثمانون حديثا ، اتفقا ـ

١٦٢

عليه وعلى آله وسلّم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم : «أمّ القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضا عنها» (١).

الثامن : «الأساس» قيل : لأنها أول سورة من القرآن ، فهي كالأساس.

وقيل : إنّ أشرف العبادات بعد الإيمان هي الصلاة ، وهذه السورة مشتملة على كلّ ما لا بدّ منه في الإيمان ، والصلاة لا تتمّ إلا بها.

التاسع : «الشّفاء» عن أبي سعيد الخدريّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم : «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ سمّ» (٢).

ومرّ بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ برجل مصروع فقرأ هذه السورة في أذنه ، فبرىء ، فذكروه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هي أمّ القرآن ، وهي شفاء من كلّ داء» (٣).

العاشر : «الصّلاة» قال عليه الصلاة والسلام : يقول الله تعالى : «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين» ، والمراد هذه السورة.

وقيل : لها أسماء غير ذلك.

قيل : اسمها «السّؤال».

وقيل ـ أيضا ـ : اسمها «الشّكر».

وقيل : اسمها ـ أيضا ـ «الدّعاء».

وقيل : «الرّقية» لحديث الملدوغ (٤).

__________________

ـ منها على ستة ، وانفرد البخاري بحديثين ، وكذا مسلم ، وعنه ابنه الوليد ، ومحمود بن الربيع ، وجبير بن نفير ، وأبو إدريس الخولاني وخلق ، وكان ممن جمع القرآن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله محمد بن كعب ، وبعثه عمر إلى الشام ليعلم الناس القرآن والعلم فمات بفلسطين قاله البخاري ، وقال الواقدي : بالرملة سنة أربع وثلاثين.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٢ / ٦٥٥ ، تهذيب التهذيب : ١ / ٣٩٥ (١٢٣) ، خلاصة تهذيب الكمال : ٢ / ٣٣ ، الكاشف : ٢ / ٦٤ ، تاريخ البخاري الكبير : ٦ / ٩٢ ، تاريخ البخاري الصغير : ١ / ٤١ ، ٤٢ ، ٦٥ ، ٦٦ ، الجرح والتعديل : ٦ / ٩٥ ، أسد الغابة : ٣ / ١٦٠ ، تجريد أسماء الصحابة : ١ / ٢٩٤ ، الإصابة : ٣ / ٦٢٤ ، الاستيعاب : ٢ / ٨٠٧ ، الوافي بالوفيات : ١٦ / ٦١٨ ، طبقات ابن سعد : ٩ / ١٧٠.

(١) أخرجه الدارقطني في السنن (١ / ٣٢٢) والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٢٨ ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ١ / ٦ والذهبي في ميزان الاعتدال حديث رقم ٧٤٨٨ ، والهندي في كنز العمال حديث رقم ٢٥٠٧.

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور ١ / ٥ وعزاه لسعيد بن منصور في «السنن» والبيهقي في «الشعب» ، والقرطبي في التفسير ١ / ١١٢ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ١٠٦ ، ١٠٧.

(٣) أخرجه الدارمي في السنن (٢ / ٤٤٥) باب فضل فاتحة الكتاب وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم ٤٩٩ ، ٢٥٠٠.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (١٠ / ١٩٨ ـ ١٩٩) كتاب الطب (٧٦) باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب (٣٤) حديث رقم (٥٧٣٧). ـ

١٦٣

فصل في فضائلها

عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم ـ أنه قال : «فاتحة الكتاب شفاء من السّمّ».

وعن حذيفة بن اليمان (١) ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم ـ : «إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما فيقرأ صبيّ من صبيانهم في المكتب : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] فيسمعه (٢) الله ـ تعالى ـ فيرفع عنهم بسببه العذاب أربع سنين» (٣).

وعن الحسن (٤) ـ رضي الله عنه ـ قال : «أنزل الله ـ تعالى ـ مائة وأربعة كتب : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن ، ثم أودع علوم القرآن في المفصّل ، ثم أودع علوم المفصّل في الفاتحة ، فمن علم تفسير الفاتحة ، كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ، ومن قرأها ، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل ، والزبور ، والفرقان» (٥).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : مرّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله

__________________

ومتفق عليه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه البخاري في الصحيح ١٠ / ٢٠٩ كتاب الطب باب النفث في الرقية (٣٩) حديث رقم (٥٧٤٩) واللفظ له ومسلم في الصحيح ٤ / ١٧٢٨ كتاب السلام باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (٢٣) حديث رقم (٦٦ / ٢٢٠١) ـ وابن حبان في الموارد حديث رقم (١١٣١) ـ والدارقطني في السنن ٣ / ٦٥ ـ والبيهقي في السنن (١ / ٤٣٠) ، (٦ / ١٢٤) ، (٧ / ٢٤٣).

(١) حذيفة بن اليمان ، واسمه «حسيل» مصغرا العبسي ، أبو عبد الله الكوفي ، حليف بني عبد الأشهل ، صحابي جليل من السابقين ، أعلمه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة من الفتن والحوادث. روى عنه أبو الطفيل والأسود بن يزيد وزيد بن وهب وربعي بن حراش. مات سنة ست وثلاثين. وقال عمرو بن علي : بعد قتل عثمان بأربعين ليلة.

(٢) في أ : فيسمع.

(٣) ذكره العجلوني في كشف الخفا : ١ / ٢٥٦.

(٤) الحسن بن أبي الحسن البصري مولى أم سلمة والربيع بنت النضر وزيد بن ثابت أبو سعيد الإمام أحد أئمة الهدى والسنة ، عن جندب بن عبد الله وأنس وعبد الرحمن بن سمرة ومعقل بن يسار قال سعيد : لم يسمع منه وأرسل عن خلق من الصحابة ، وروى عنه أيوب وحميد ويونس وقتادة ومطر الوراق وخلائق قال ابن علية : مات سنة عشر ومائة. قيل : ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر.

ينظر تهذيب الكمال : ١ / ٢٥٥ ، تهذيب التهذيب : ٢ / ٢٦٣ ، تقريب التهذيب : ١ / ١٦٥ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ١ / ٢١٠ ، الكاشف : ١ / ٢٢٠ ، تاريخ البخاري الكبير : ٢ / ٢٨٩ ، الجرح والتعديل : ٣ / ١٧٧ ، ميزان الاعتدال ١ / ٤٨٣.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور (١ / ٢٤) وعزاه للبيهقي في «شعب الإيمان».

١٦٤

وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم ـ على أبيّ بن كعب (١) ـ رضي الله عنه ـ وهو قائم يصلي فصاح به فقال له : تعالى يا أبيّ ، فعجّل أبيّ في صلاته ، ثم جاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم فقال : «ما منعك يا أبيّ أن تجيبني ، إذ دعوتك؟ أليس [الله تعالى يقول](٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤] قال أبيّ ـ رضي الله عنه ـ لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلّا أجبتك ، وإن كنت مصليا ، قال : «أتحبّ أن أعلمك سورة لم تنزل في التّوراة ، وفي الإنجيل ، وفي الزبور ، ولا في الفرقان مثلها»؟ فقال أبيّ ـ رضي الله عنه ـ : نعم يا رسول الله ، قال : «لا تخرج من باب المسجد حتى تتعلّمها ـ والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم يمشي يريد أن يخرج من المسجد ، فلمّا بلغ الباب ليخرج ، قال أبيّ : السّورة يا رسول الله ، فوقف فقال : «نعم كيف تقرأ في صلاتك»؟ فقال أبيّ : [إني أقرأ](٣) أمّ القرآن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم : «والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزّبور ، ولا في القرآن مثلها ، إنّها السّبع المثاني التي آتاني الله عزوجل» (٤).

«القول في النّزول»

ذكروا في كيفية نزول هذه السورة أقوالا :

أحدها : أنّها مكّية ، روى الثّعلبيّ بإسناده عن عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال : «نزلت فاتحة الكتاب ب «مكة» من كنز تحت العرش» ثمّ قال الثّعلبيّ : وعليه أكثر

__________________

(١) أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن يزيد بن معاوية بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني ، سيد القراء ، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها ، له مائة وأربعة وستون حديثا اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة. وعنه ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير. وكان ربعة نحيفا أبيض الرأس واللحية ، وقد أمر الله عزوجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه رضي الله عنه. وكان ممن جمع القرآن ، وله مناقب جمة رحمه‌الله تعالى. وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو اثنتين وثلاثين أو ثلاث وثلاثين. وقال بعضهم : صلى عليه عثمان رضي الله عنه.

وينظر ترجمته في أسد الغابة : ت ٢٣ ، تهذيب التهذيب : ١ / ١٨٧ ، تقريب التهذيب : ١ / ٤٨ ، الإصابة : ١ / ١٦ ، الثقات : ٣ / ٥ ، تاريخ ابن معين : ٤ / ١٥٦ ، الجرح والتعديل : ٢ / ٢٩٠ ، سير أعلام النبلاء : ١٠ / ٣٨٩ ، مشاهير علماء الأمصار : ١٢ ، تلقيح الفهوم : ٣٦٤ ، أسماء الصحابة الرواة : ٢٥.

(٢) في ب : يقول الله تعالى.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الترمذي في السنن (٥ / ١٤٣ ـ ١٤٤) كتاب فضائل القرآن (٤٦) باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب (١) حديث رقم (٢٨٧٥) والنسائي في السنن (٢ / ١٣٩) كتاب الافتتاح باب تأويل قول الله عزوجل ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم رقم (٩١٤) وابن ماجه في السنن (٢ / ٢٤٤) كتاب الأدب حديث رقم (٣٧٨٥) ومالك في الموطأ ص ٨٥.

١٦٥

العلماء ـ رحمهم‌الله تعالى ـ وروى أيضا بإسناده عن عمرو بن شرحبيل (١) ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : أوّل ما نزل من القرآن : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم أسرّ إلى خديجة ـ رضي الله عنها ـ فقال : «لقد خشيت أن يكون خالطني شيء» فقالت : وما ذاك؟ قال : إنّني إذا خلوت سمعت النّداء (اقْرَأْ) [العلق : ١] ، ثمّ ذهب إلى ورقة بن نوفل (٢) ، وسأله عن تلك الواقعة ، فقال له ورقة : إذا أتاك النّداء ، فاثبت له ، فأتاه جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال له : قل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ١ ـ ٢].

وبإسناده عن أبي صالح (٣) ، عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : قام النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم وفخم ب «مكة» فقال : «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، فقالت قريش : رضّ الله فاك (٤).

القول الثّاني : أنّها نزلت ب «المدينة» ، روى الثّعلبيّ بإسناده ، عن مجاهد أنّه قال : «فاتحة الكتاب أنزلت بالمدينة» (٥).

قال الحسين بن الفضل : لكلّ عالم هفوة ، وهذه هفوة مجاهد ؛ لأنّ العلماء ـ رحمهم‌الله تعالى ـ على خلافه.

ويدلّ عليه وجوه :

الأول : أن سورة الحجر مكّية بالاتّفاق ، ومنها قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧] ، وهي فاتحة الكتاب ، وهذا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ آتاه هذه السورة فيما تقدم.

__________________

(١) عمرو بن شرحبيل الهمداني أبو ميسرة الكوفي أحد الفضلاء. عن عمر وعلي. وعنه أبو وائل والقاسم بن مخيمرة مات قديما. ينظر : الخلاصة ٢ / ٢٨٧.

(٢) ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، من قريش : حكيم جاهلي ، اعتزل الأوثان قبل الإسلام ، وامتنع من أكل ذبائحها ، وتنصر ، وقرأ كتب الأديان. وكان يكتب اللغة العربية بالحرف العبراني أدرك أوائل عصر النبوة ولم يدرك الدعوة. وهو ابن عم خديجة أم المؤمنين. ينظر الأعلام : ٨ / ١١٥ ، الروض الأنف : ١ / ١٢٤ ـ ١٢٧ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، والإصابة : ت ٩١٣٣ ، وتاريخ الإسلام : ١ / ٦٨.

(٣) ذكوان المدني أبو صالح السّمّان عن سعد وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وخلق. وعنه بنوه سهيل وعبد الله وصالح وعطاء بن أبي رباح. وسمع منه الأعمش ألف حديث. قال أحمد : ثقة ثقة شهد الدار. قال محمد بن عمر الواقدي : توفي سنة إحدى ومائة.

ينظر ترجمته في : تهذيب التهذيب : ٣ / ٢١٩ ، تقريب التهذيب : ١ / ٢٣٨ ، تاريخ البخاري الكبير : ٣ / ٢٦٠ ، الجرح والتعديل : ٣ / ٤٥ ، طبقات ابن سعد : ٥ / ٢٢٢ ، معجم طبقات الحفاظ : ٨٨.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٩) وعزاه لابن أبي شيبة وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في «دلائل النبوة» والواحدي والثعلبي في تفسيرهما.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٠) وعزاه للثعلبي ووكيع في تفسيرهما.

١٦٦

وهذا ليس فيه دليل ، لأنّ النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد ...» (١) الحديث ، فيكون هذا الإتيان بالنسبة إلى اللّوح المحفوظ ، فإن منع في البعض فلا يمنع (٢) في الشّفاعة.

الثاني : أنه يبعد أن يقال : إنه أقام ب «مكة» بضع سنين بلا فاتحة الكتاب.

الثالث : قال بعض العلماء : هذه السورة نزلت ب «مكة» مرة ، وب «المدينة» مرة أخرى ، فهي مكية مدنية ، ولهذا السبب سمّاها الله ـ تعالى ـ بالسبع المثاني ؛ لأنه ثنّى إنزالها ، وإنما كان كذلك ؛ مبالغة في تشريفها. وأجمعت الأمّة على أن الفاتحة سبع آيات.

وروي شاذّا عن الحسين الجعفيّ (٣) : أنها ست آيات ، وأجمعت الأمة ـ أيضا ـ على أنّها من القرآن.

ونقل القرطبيّ (٤) : أن الفاتحة مثبتة في مصحف ابن مسعود (٥) ـ رضي الله تعالى عنه ـ

__________________

(١) متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

أخرجه البخاري في الصحيح (١ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) كتاب التيمم (٧) باب (١) حديث رقم (٣٣٥) واللفظ له ، ومسلم في الصحيح ١ / ٣٧٠ كتاب المساجد (٥) حديث رقم (٣ / ٥٢١) والنسائي في السنن (١ / ٢٠ ، ٢١١) كتاب الغسل والتيمم ـ والدارمي في السنن (٢ / ٢٢٤) كتاب السير باب الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا.

(٢) في ب : مانع.

(٣) الحسين بن علي بن فتح الإمام الحبر أبو عبد الله ويقال : أبو علي الجعفي ، مولاهم الكوفي الزاهد أحد الأعلام. قال أحمد بن حنبل : ما رأيت أفضل من حسين الجعفي. وقال قتيبة بن سعيد : قالوا لسفيان بن عيينة : قدم حسين الجعفي فوثب قائما وقال : قدم أفضل رجل يكون قط ، وقال موسى بن داود : كنت عند ابن عيينة فأتاه حسين الجعفي ، فقام سفيان فقبل يده ، وكان يقول : الحسين الجعفي هذا أفضل رجل في الأرض ، وروى أبو هشام الرفاعي عن الكسائي قال : قال لي الرشيد : من أقرأ الناس اليوم؟ قلت : حسين الجعفي ، مات في ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين عن أربع وثمانين سنة. ينظر الغاية : ١ / ٢٤٧.

(٤) أحمد بن عمر بن إبراهيم ، أبو العباس الأنصاري القرطبي ، ولد سنة ٥٧٨ ه‍ بقرطبة فقيه مالكي ، من رجال الحديث ، يعرف ب «ابن المزين». كان مدرسا بالاسكندرية. من كتبه : «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» و «اختصار صحيح البخاري» و «مختصر الصحيحين». وتوفي ب «الاسكندرية» سنة ٦٥٦ ه‍.

ينظر : البداية والنهاية ١٣ / ٢١٣ ، نفح الطيب ٢ / ٦٤٣ ، الأعلام : ١ / ١٨٦.

(٥) عبد الله بن مسعود بن غافل بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف ابن حبيب بن شمخ بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي أبو عبد الرحمن الكوفي : أحد السابقين الأولين وصاحب النعلين شهد بدرا والمشاهد وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا. اتفقا على أربعة وستين وانفرد البخاري بأحد وعشرين ومسلم بخمسة وثلاثين. وعنه خلق من الصحابة. ومن التابعين علقمة ومسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار تلقى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة. قال علقمة : كان يشبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هديه ودله وسمته. قال أبو نعيم : مات بالمدينة ستة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة. ـ

١٦٧

وأنّ المعوذتين ليستا من القرآن عنده ، وسيأتي الكلام على ذلك آخر الكلام على الفاتحة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الحمد (١) : الثناء على الجميل سواء كانت نعمة مبتدأة إلى أحد أم لا.

يقال : حمدت الرجل على ما أنعم به ، وحمدته على شجاعته ، ويكون باللسان وحده ، دون عمل الجوارح ، إذ لا يقال : حمدت زيدا أي : عملت له بيدي عملا حسنا ، بخلاف الشكر ؛ فإنه لا يكون إلّا على نعمة مبتدأة إلى الغير.

يقال : شكرته على ما أعطاني ، ولا يقال : شكرته على شجاعته ، ويكون بالقلب ، واللّسان ، والجوارح ؛ قال الله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] وقال الشاعر: [الطويل]

٣٧ ـ أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة

يدي ولساني والضّمير المحجّبا (٢)

فيكون بين الحمد والشّكر عموم وخصوص من وجه.

وقيل : الحمد هو الشكر ؛ بدليل قولهم : «الحمد لله شكرا».

وقيل : بينهما عموم وخصوص مطلق.

والحمد أعمّ من الشّكر.

وقيل : الحمد : الثناء عليه تعالى [بأوصافه ، والشكر : الثناء عليه بأفعاله](٣) فالحامد قسمان : شاكر ومثن بالصفات الجميلة.

وقيل : الحمد مقلوب من المدح ، وليس بسديد ـ وإن كان منقولا عن ثعلب ؛ لأنّ المقلوب (٤) أقلّ استعمالا من المقلوب منه ، وهذان مستويان في الاستعمال ، فليس ادعاء قلب أحدهما من الآخر أولى من العكس ، فكانا مادّتين مستقلّتين.

__________________

ـ وينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٢ / ٧٤٠ ، تهذيب التهذيب : ٦ / ٢٧ (٤٢). تقريب التهذيب : ١ / ٤٥٠ (٦٣٠) ، خلاصة تهذيب الكمال : ٢ / ٩٩. الكاشف : ٢ / ١٣٠ ، تاريخ البخاري الكبير : ٥ / ٢ ، أسد الغابة ٣ / ٣٨٤. تجريد أسماء الصحابة : ١ / ٣٣٤ ، الإصابة : ٢ / ٣٦ ، ٤ / ٢٣٣. الاستيعاب (٣ ـ ٤) ٩٨٧ الوافي بالوفيات ١٧ / ٤٠٦. الحلية : ١ / ٣٧٥. طبقات ابن سعد : ٩ / ١٢٢.

(١) ينظر المفردات للراغب : ١٣٠.

(٢) ينظر الكشاف : ١ / ٨ ، وابن كثير : ١ / ٢٢ ، وغرائب الفرقان : ١ / ٩٢ ، والدر المصون : ١ / ٦٣.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : المنقول.

١٦٨

وأيضا فإنه يمتنع إطلاق المدح حيث يجوز إطلاق الحمد ، فإنه يقال : حمدت الله ـ تعالى ـ ولا يقال : مدحته ، ولو كان مقلوبا لما امتنع ذلك.

ولقائل أن يقول : منع من ذلك مانع ، وهو عدم الإذن في ذلك.

وقال الرّاغب (١) : «الحمد لله» : الثناء بالفضيلة ، وهو أخصّ من المدح ، وأعمّ من الشّكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، وما يكون منه بغير اختيار ، فقد يمدح الإنسان بطول قامته ، وصباحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه ، والحمد يكون في الثّاني دون الأوّل.

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : الفرق بين الحمد والمدح من وجوه :

أحدها : أن المدح قد يحصل للحيّ ، ولغير الحيّ ، ألا ترى أنّ من رأى لؤلؤة في غاية الحسن ، فإنه يمدحها؟ فثبت أنّ المدح أعمّ من الحمد.

الثّاني : أن المدح قد يكون قبل الإحسان ، وقد يكون بعده ، أما الحمد فإنه لا يكون إلّا بعد الإحسان.

الثالث : أنّا المدح قد يكون منهيا عنه ؛ قال عليه الصلاة والسلام : «احثوا التّراب في وجوه المدّاحين» (٢). أما الحمد فإنه مأمور به مطلقا ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من لم يحمد النّاس لم يحمد الله» (٣).

الرابع : أنّ المدح عبارة عن القول الدّالّ على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل.

وأمّا الحمد فهو القول الدّالّ على كونه مختصّا بفضيلة معيّنة ، وهي فضيلة الإنعام والإحسان ، فثبت أنّ المدح أعمّ من الحمد.

وأمّا الفرق بين الحمد والشّكر ، فهو أنّ الحمد يعمّ إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك ، وأما الشّكر ، فهو مختصّ بالإنعام الواصل إليك.

وقال الرّاغب ـ رحمه‌الله ـ : والشكر لا يقال إلّا في مقابلة نعمة ، فكلّ شكر حمد ، وليس كلّ حمد شكرا ، وكل حمد مدح ، وليس كلّ مدح حمدا.

__________________

(١) ينظر المفردات : ١٣٠.

(٢) أخرجه مسلم في الزهد (٣٠٠٢) باب النهي عن المدح. وأبو داود في السنة ٢ / ٦٦٩ ولفظه إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب كتاب الأدب باب في كراهية التمادح حديث رقم ٤٨٠٤ ـ وأحمد في المسند ٦ / ٥ ، ٥٩ ـ وأبو نعيم في الحلية ٦ / ٩٩ ، ١٢٧ ـ والخطيب في التاريخ ٧ / ٣٣٨ وذكره الدولابي في الأسماء والكنى ٢ / ١٣٠ ـ والزبيدي في الإتحاف ٧ / ٥٧٣.

(٣) أخرجه أبو داود في السنن ٢ / ٦٧١ كتاب الأدب باب في شكر المعروف حديث رقم (٤٨١١) ولفظه لا يشكر الله من لا يشكر الناس والترمذي في السنن (٤ / ٣٣٩) كتاب البر والصلة (٢٨) باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك (٣٥) حديث رقم ١٩٥٥ وقال هذا حديث حسن صحيح ـ وأحمد في المسند (٣ / ٣٢) من رواية أبي سعيد الخدري ، (٢ / ٢٥٨) من رواية أبي هريرة.

١٦٩

ويقال : فلان محمود إذا حمد ، ومحمّد وجد محمودا ، ومحمد كثرت خصاله المحمودة.

وأحمد أي : أنّه يفوق غيره في الحمد.

والألف واللام في «الحمد» قيل : للاستغراق.

وقيل : لتعريف الجنس ، واختاره الزّمخشريّ ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٣٨ ـ ...........

إلى الماجد القرم الجواد المحمّد (١)

وقيل : للعهد ، ومنع الزمخشريّ كونها للاستغراق ، ولم يبيّن وجهة ذلك ، ويشبه أن يقال : إنّ المطلوب من العبد إنشاء الحمد ، لا الإخبار به ، وحينئذ يستحيل كونها للاستغراق ، إذ لا يمكن العبد أن ينشىء جميع المحامد منه ومن غيره ، بخلاف كونها للجنس.

والأصل في «الحمد» المصدريّة ؛ فلذلك لا يثنّى ، ولا يجمع.

وحكى ابن الأعرابيّ (٢) جمعه على «أفعل» ؛ وأنشد : [الطويل]

٣٩ ـ وأبيض محمود الثّناء خصصته

بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي (٣)

وقرأ الجمهور (٤) : «الحمد لله» برفع الدّال وكسر لام الجرّ ، ورفعه على الابتداء ، والخبر الجارّ والمجرور بعده يتعلّق بمحذوف وهو الخبر في الحقيقة.

ثم ذلك المحذوف إن شئت قدّرته [اسما ، وهو المختار ، وإن شئت قدّرته](٥) فعلا أي : الحمد مستقرّ لله ، واستقرّ لله.

والدليل على اختيار القول الأوّل : أنّ ذلك يتعيّن في بعض الصور ، فلا أقلّ من

__________________

(١) عجز بيت للأعشى وصدره :

إليك أبيت اللعن كان كلالها

 ...........

ينظر ديوانه : ٥٩ ، اللسان (حمد) القرطبي ١ / ٩٣ ابن يعيش ١ / ٦ ، الدر ١ / ٦٤.

(٢) محمد بن زياد ، المعروف بابن الأعرابي ، راوية ناسب علامة باللغة ولد ١٥٠ ه‍ من أهل الكوفة ، كان أحول ، لم ير أحد في علم الشعر أغزر منه له تصانيف منها أسماء الخيل وفرسانها ، الأنواء ، الفاضل ، البشر وغيرها توفي ٢٣١ ه‍.

ينظر : وفيات الأعيان ١ / ٤٩٢ ، تاريخ بغداد : ٥ / ٢٨٢ ، المقتبس : ٦ / ٣ ـ ٩. نزهة الألبا : ٧ / ٢ ، الأعلام : ٦ / ١٣١.

(٣) ينظر تفسير القرطبي : ١ / ٩٣ ، البحر المحيط : ١ / ١٣١ ، الدر : ١ / ٦٤.

(٤) انظر : إتحاف فضلاء البشر ١ / ٣٦٣ ، والبحر المحيط : ١ / ١٣١ ، والقرطبي : ١ / ١٣٠ ، الشواذ : ص ٩.

(٥) سقط في أ.

١٧٠

ترجيحه في غيرها ، وذلك أنّك إذا قلت : «خرجت فإذا في الدّار زيد» و «أمّا في الدار فزيد» يتعيّن في هاتين الصّورتين [أن يقدر بالاسم](١) ؛ لأنّ «إذا» الفجائية وأمّا التّفصيليّة لا يليهما إلّا المبتدأ. وقد عورض هذا اللّفظ بأنه يتعيّن تقدير الفعل في بعض الصّور ، وهو ما إذا وقع الجارّ والمجرور صلة لموصول ، نحو : الّذي في الدار فليكن راجحا في غيره؟

والجواب : أنّ ما رجحنا به هو من باب المبتدإ ، أو الخبر ، وليس أجنبيّا ، فكان اعتباره أولى ، بخلاف وقوعه صلة ، [والأول غير أجنبيّ](٢).

ولا بدّ من ذكر قاعدة ـ ها هنا ـ لعموم فائدتها ، وهي أنّ الجار والمجرور والظرف إذا وقعا صلة أو صفة ، أو حالا ، أو خبرا تعلقا بمحذوف ، وذلك المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كونا مطلقا ، فأمّا قول الشاعر : [الطويل]

٤٠ ـ لك العزّ إن مولاك عزّ ، وإن يهن

فأنت لدى بحبوحة الهون كائن (٣)

وأما قوله تبارك وتعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : ٤٠] فلم يقصد جعل الظّرف كائنا فلذلك ذكر المتعلّق به ، ثم ذلك المحذوف يجوز تقديره باسم أو فعل إلّا في الصلة ، فإنه يتعيّن أن يكون فعلا (٤). واختلفوا : أيّ التقديرين أولى فيما عدا الصور المستثناة؟

فقوم رجّحوا تقدير الفعل ، [وقوم رجّحوا تقدير الاسم](٥) ، وقد تقدم دليل الفريقين. وقرىء (٦) شاذّا بنصب الدال من «الحمد» ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب على المصدريّة ، ثم حذف العامل ، وناب المصدر منابه ؛ كقولهم في الأخبار : «حمدا ، وشكرا لا كفرا» والتقدير : «أحمد الله حمدا» ، فهو مصدر ناب عن جملة خبريّة.

وقال الطّبريّ (٧) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «إنّ في ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنّه

__________________

(١) في أ : تقدير الاسم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر الدرر : ٢ / ١٨ ، ٥ / ٣١٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ١١١ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٤٦ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٤٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٩٨ ، ٢ / ١٠٨ ، والدر ١ / ٦٤.

(٤) في أ : اسما.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر البحر المحيط : ١ / ١٣١ ، المحرر الوجيز : ١ / ٦٦.

(٧) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ، الإمام العلم صاحب التفسير المشهور ، مولده سنة ٢٢٤ ، أخذ الفقه عن الزعفراني والربيع المرادي ، وذكر الفرغاني عند عد مصنفاته كتاب : لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام ، وهو مذهبه الذي اختاره وجوّده واحتج له ، وهو ثلاثة وثمانون كتابا. مات سنة ٣١٠.

انظر : ط. ابن قاضي شهبة ١ / ـ ١ ، تاريخ بغداد ٢ / ١٦٢ ، تذكرة الحفاظ : ٢ / ٦١٠.

١٧١

قال : «قولوا : الحمد لله» وعلى هذا يجيء قولوا : إيّاك».

فعلى هذه العبارة يكون من المصادر النائبة عن الطّلب لا الخبر ، وهو محتمل للوجهين ، ولكن كونه خبريّا أولى من كونه طلبيا ، ولا يجوز إظهار الناصب ، لئلا يجمع بين البدل والمبدل منه.

والثاني : أنه منصوب على المفعول به ، أي : اقرءوا الحمد ، أو اتلوا الحمد ؛ كقولهم : «اللهمّ ضبعا وذئبا» ، أي : اجمع ضبعا ، والأوّل أحسن ؛ للدّلالة اللفظية.

وقراءة الرفع أمكن ، وأبلغ من قراءة النّصب ، لأنّ الرفع في باب المصادر التي أصلها النّيابة عن أفعالها يدل على الثّبوت والاستقرار ، بخلاف النّصب ، فإنه يدلّ على التجدد والحدوث ، ولذلك قال العلماء ـ رحمهم‌الله ـ : إن جواب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في قوله تعالى حكاية عنه : (قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] أحسن من قول الملائكة : (قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩] امتثالا لقوله تعالى : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) [النساء : ٨٦].

و «لله» على قراءة النصب (١) يتعلّق بمحذوف لا بالمصدر ، لأنّها للبيان ، تقديره : أعني لله ، كقولهم : «سقيا له ورعيا لك» تقديره : «أعني له ولك» ، ويدلّ على أنّ اللام تتعلّق في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر ، أنّهم لم يعملوا المصدر المتعدّي في المجرور باللام ، فينصبوه به فيقولوا : سقيا زيدا ، ولا رعيا عمرا ، فدلّ على أنه ليس معمولا للمصدر ، ولذلك غلط من جعل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) [محمد : ٨] ، من باب الاشتغال ؛ لأنّ «لهم» لا يتعلّق ب «تعسا» كما مرّ.

ويحتمل أن يقال : إن اللام في «سقيا لك» ونحوه مقوية لتعدية العامل ؛ لكونه فرعا فيكون عاملا فيما بعده.

وقرىء (٢) ـ أيضا ـ بكسر الدّال ، ووجهه : أنّها حركة إتباع لكسرة لام الجرّ بعده ، وهي لغة «تميم» ، وبعض «غطفان» ، يتبعون الأوّل للثّاني ؛ للتّجانس. ومنه : [الطويل]

٤١ ـ ...........

اضرب السّاقين أمّك هابل (٣)

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر ابن خالويه : الشواذ (٩) ، الكشاف ١ / ١٠.

(٣) عجز بيت من الطويل ، وتمامه : «وقال اضرب الساقين أمّك هابل» ولم يعرف صدره ولا قائله ، ومنهم من يرويه «الساقين إمّك هابل» فيكون فيه إتباعان ، وانظر الكتاب : ٤ / ١٤٦ ، الخصائص : ٢ / ١٤٥ ، ٣ / ١٤١ ، المحتسب : ١ / ٣٨ ، الدر المصون : ١ / ٦٥ ، شرح شواهد الشافية : ١٧٩ ، القرطبي : ١ / ١٣٦.

١٧٢

بضم نون التّثنية لأجل ضمّة الهمزة ؛ ومثله : [البسيط]

٤٢ ـ ويلمّها في هواء الجوّ طالبة

ولا كهذا الّذي في الأرض مطلوب (١)

الأصل : ويل لأمّها ، فحذف اللّام الأولى ، واستثقل ضمّة الهمزة بعد الكسرة ، فنقلها إلى اللام بعد سلب حركتها ، وحذف الهمزة ، ثم أتّبع اللّام الميم ، فصار اللفظ : «ويلمّها».

ومنهم من لا يتبع ، فيقول : «ويلمّها» بضمّ اللّام ؛ قال : [البسيط]

٤٣ ـ ويلمّها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل (٢)

ويحتمل أن تكون هذه القراءة من رفع ، وأن تكون من نصب ، لأنّ الإعراب مقدّر منع من ظهوره حركة الإتباع.

وقرىء أيضا (٣) : «لله» بضم لام الجرّ ، قالو : وهي إتباع لحركة الدّال ، وفضّلها الزمخشريّ على قراءة كسر الدّال ، معلّلا لذلك بأنّ إتباع حركة الإعراب أحسن من العكس ، وهي لغة بعض «قيس» ، يتبعون الثاني للأوّل نحو : «منحدر ومقبلين» بضم الدّال والقاف لأجل الميم ، وعليه قرىء (٤) : «مردفين» [الأنفال : ٩] بضمّ الراء ؛ إتباعا للميم.

فهذه أربع قراءات في «الحمد لله».

ومعنى لام الجرّ ـ هنا ـ الاستحقاق أي : الحمد مستحقّ لله ـ تعالى ـ ولها معان أخر نذكرها وهي :

الملك : المال لزيد. والاستحقاق : الجل للفرس. والتّمليك : نحو : وهبت لك وشبهه نحو : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) [الشورى : ١١] لتسكنوا إليها.

والنسب : نحو : لزيد عمّ.

والتعليل : نحو : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء : ١٠٥] ، والتبليغ : نحو : قلت لك.

والتبليغ : نحو : قلت لك.

وللتعجّب في القسم خاصّة ؛ كقوله : [البسيط]

__________________

(١) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ص ٢٢٧ ، وخزانة الأدب : ٤ / ٩٠ ، ٩١ ، ٩٢ ، والكتاب : ٢ / ٢٩٤ ، وشرح المفصل : ٢ / ١١٤ ، وسر صناعة الإعراب : ص ٢٣٥ ، وجمهرة اللغة : ص ٩٩٨ ، ولسان العرب (ويا) ، ورصف المباني : ص ٤٣ ، والكتاب : ٢ / ٢٩٤ ، ٤ / ١٤٧ ، وتفسير القرطبي : ١ / ٩٦ ، ويروى «ويلمها» ، بالضم ، ونسبته في الكتاب إلى النعمان بن بشير.

(٢) البيت لكعب بن زهير ينظر ديوانه : ١٣٠ ، تهذيب اللغة ٣ / ١٩٩ ، اللسان (ولع) ، خزانة الأدب : ١١ / ٣١٠ ، ٣١١ ، الدر المصون : ١ / ٦٦.

(٣) انظر الكشاف : ١ / ١٠ ، والمحرر الوجيز : ١ / ٦٦.

(٤) ستأتي في سورة الأنفال.

١٧٣

٤٤ ـ لله يبقى على الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ به الظّيّان والآس (١)

والتّبيين نحو قوله تعالى : (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣].

والصيرورة : نحو قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

والظرفية إمّا بمعنى «في» : كقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ، أو بمعنى «عند» : كقولهم : «كتبته لخمس» ، أي : عند خمس ، أو بمعنى «بعد» : كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] أي : بعد دلوكها.

والانتهاء : كقوله تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢].

والاستعلاء : نحو قوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الإسراء : ١٠٩].

وقد تزاد باطّراد في معمول الفعل مقدّما عليه ؛ كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] ، [وإذا] كان العامل فرعا ، نحو قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧].

وبغير اطراد ؛ نحو قوله في ذلك البيت : [الوافر]

٤٥ ـ فلمّا أن تواقفنا قليلا

أنخنا للكلاكل فارتمينا (٢)

وأما قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] ، فقيل : على التّضمين ، وقيل : هي زائدة.

ومن الناس من قال : تقدير الكلام : قولوا : الحمد لله.

__________________

(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في شرح شواهد الإيضاح ص ٥٤٤ ؛ وشرح شواهد المغني : ٢ / ٥٧٤ ؛ ولسان العرب (ظين) ؛ ولأميّة بن أبي عائذ في الكتاب : ٣ / ٤٩٧ ؛ ولمالك بن خالد الخناعي في جمهرة اللغة ص ٥٧ ؛ وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٩٩ ؛ وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٤٣٩ ؛ وشرح شواهد الإيضاح : ص ٣٠٤ ؛ ولسان العرب (حيد) ، (قرنس) ، (ظيا) ؛ ولعبد مناف الهذلي في شرح المفصّل : ٩ / ٩٨ ؛ ولأبي ذؤيب أو لمالك في شرح أشعار الهذليين : ١ / ٢٢٨ ؛ ولأبي ذؤيب أو لمالك أو لأميّة في خزانة الأدب : ١٠ / ٩٥ ؛ ولأبي ذؤيب أو لمالك أو لأميّة أو لعبد مناف الهذليّ أو للفضل بن عباس أو لأبي زبيد الطائي في خزانة الأدب : ٥ / ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ؛ ولأبي ذؤيب أو لمالك أو لأميّة أو لعبد مناف في الدرر ٤ / ١٦٢ ، ١٦٥ ؛ ولأميّة أو لأبي ذؤيب أو للفضل بن العباس في شرح المفصّل : ٩ / ٩٩ ؛ وللهذليّ في جمهرة اللغة : ص ٢٣٨ ؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر : ٦ / ٢٣ ؛ والجنى الداني : ص ٩٨ ؛ وجواهر الأدب : ص ٧٢ ؛ والدرر ٤ / ٢١٥ ؛ ورصف المباني : ص ١١٨ ، ١٧١ ؛ وشرح الأشموني : ٢ / ٢٩٠ ؛ والصاحبي في فقه اللغة ص ١١٤ ؛ واللامات : ص ٨١ ؛ ومغني اللبيب : ١ / ٢١٤ ؛ والمقتضب : ٢ / ٣٢٤ ؛ وهمع الهوامع : ٢ / ٣٢ ، ٣٩ ، والأصول في النحو : ١ / ٤٣٠ ، والتبصرة : ١ / ٤٤٦ ، والأمالي الشجرية : ١ / ٣٦٩ ، والمخصص : ٢ / ١١١.

(٢) البيت لعبد الشارق بن عبد العزى الجهني. ينظر : رصف المباني : ١١٦ ، المقرب : ١ / ١١٥ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي : ١ / ٤٤٧ ، شرح جمل الزجاجي لابن عصفور : ١ / ٣٠٨ ، ٥١٤ ، الدر المصون : ١ / ٦٧.

١٧٤

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وهذا عندي ضعيف ؛ لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصحّ الكلام ، وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام ، والدليل عليه : أن قوله ـ تعالى ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إخبار عن كون الحمد حقّا [لله تعالى] وملكا له ، وهذا كلام تام في نفسه ، فلا حاجة إلى الإضمار.

وأيضا فإن قوله : «الحمد لله» يدلّ على كونه مستحقا للحمد بحسب ذاته ، وبحسب أفعاله ، سواء حمدوه أو لم يحمدوه.

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «الحمد لله ثمانية أحرف ، وأبواب الجنّة ثمانية [أبواب](٢) ، فمن قال : «الحمد لله» بصفاء قلبه استحقّ أبواب الجنّة الثمانية» والله أعلم.

فصل

تمسّك الجبريّة والقدريّة بقوله تعالى : «الْحَمْدُ لِلَّهِ» أما الجبرية فقد تمسّكوا به من وجوه : الأول : أنّ كلّ من كان فعله أشرف وأكمل ، وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل ، كان استحقاقه للحمد أكثر ، ولا شك أنّ أشرف (٣) المخلوقات هو الإيمان ، فلو كان الإيمان فعلا للعبد ، لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجلّ من استحقاق الله له ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنّ الإيمان حصل بخلق الله ـ تعالى ـ لا بخلق العبد.

الثاني : أجمعت الأمّة على قولهم : «الحمد لله على نعمة الإيمان» ، فلو كان العبد فاعلا للإيمان لكان قولهم : «الحمد لله على نعمة الإيمان» ؛ باطلا ، فإنّ حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطل قبيح ؛ لقوله تعالى (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) [آل عمران : ١٨٨].

الثالث : أن قوله تعالى : «الحمد لله» يدلّ ظاهره على أنّ كلّ الحمد لله ، وأنه ليس لغير الله ـ تعالى ـ حمد أصلا ، وإنما يكون كلّ الحمد لله تعالى إذا كان كلّ النّعم من الله تعالى ، والإيمان أفضل النعم ، فوجب أن يكون الإيمان من الله تعالى.

الرابع : أن قوله (٤) : «الحمد لله» مدح منه لنفسه ، ومدح النّفس (٥) قبيح فيما بين الخلق ، فلما بدأ كتابه بمدح النفس ، دلّ ذلك على أنّ حاله بخلاف حال الخلق ، وأنّه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدلّ على أنه ـ تبارك وتعالى ـ مقدّس عن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد.

__________________

(١) ينظر الرازي : ١ / ١٨٠.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : أكبر.

(٤) في أ : يكون.

(٥) في ب : الناس.

١٧٥

الخامس : عند المعتزلة أفعاله ـ تعالى ـ يجب أن تكون حسنة ، ويجب أن تكون حسنة ، ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن ، وإلا كان عبثا ، وذلك في حقه تعالى محال ، والزائدة على الحسن إمّا [أن تكون](١) واجبة ، وإما أن تكون من باب التّفضّل.

أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب ، والعوض إلى المكلّفين.

وأما الذي يكون من باب التفضل ، فهو مثل أنّه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان.

فنقول : هذا يقدح في كونه ـ تعالى ـ مستحقا للحمد ، ويبطل صحّة قولنا : الحمد لله.

وتقريره أن نقول : أما أداء الواجبات ، فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ، ألا ترى أنّ من كان له على غيره دين دينار ، فأدّاه ، فإنه لا يستحقّ الحمد ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلا ، لكان ذلك الفعل مخلصا [له](٢) عن الذّمّ ، ولا يوجب استحقاقه للحمد.

وأما فعل التفضّل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد ولو لم يصدر عنه ذلك الفعل ، لما حصل له الحمد ، فإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره ، وذلك يمنع من كونه ـ تعالى ـ مستحقا للحمد والمدح.

السّادس : قوله : الحمد لله يدلّ على أنه ـ تعالى ـ محمود ، فنقول : استحقاقه للحمد والمدح إما أن يكون أمرا ثابتا لذاته ، أو ليس ثابتا لذاته ، فإن كان الأوّل ، امتنع ثبوته لغيره ، فامتنع ـ أيضا ـ أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم ؛ لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه ، فوجب ألّا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثّواب ، وذلك يهدم أصول المعتزلة.

وأمّا القسم الثّاني ـ وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتا لذاته ـ فنقول : فيلزم منه أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره ، وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.

أما قول المعتزلة : إنّ قوله : «الحمد لله» لا يتم إلّا على قولنا ؛ لأن المستحقّ للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ، ولا جور في قضيّته ، ولا ظلم في أحكامه ، وعندنا أنّ الله ـ تعالى ـ كذلك ؛ فكان مستحقّا لأعظم المحامد والمدائح.

أمّا على مذهب الجبر لا قبيح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه ، ولا عبث إلا وهو صنعه ؛ لأنه يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه ، ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوّضها ، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد؟

وأيضا ذلك الحمد الذي يستحقه الله ـ تعالى ـ بسبب الإلهيّة ؛ إمّا أن يستحقّه على

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

١٧٦

العبد ، أو على نفسه ، فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل ؛ وذلك يبطل القول بالجبر.

وإن كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نفسه ؛ وذلك باطل ، قالوا : فثبت أنّ القول بالحمد لا يصحّ إلا على قولنا.

فصل هل وجوب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟

اختلفوا في أنّ وجوب الشّكر ثابت بالعقل أو بالسّمع.

من الناس من قال : إنه ثابت بالسّمع ؛ لقوله تبارك وتعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، ولقوله تبارك وتعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥].

ومنهم من قال : إنه ثابت (١) قبل مجيء الشرع ، وبعد مجيئه على الإطلاق ؛ والدليل عليه قوله تبارك وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وبيانه من وجوه :

الأول : أن قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يدلّ على أن هذا الحمد حقّه ، وملكه على الإطلاق ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاق كان قبل مجيء الشرع.

الثاني : أنه تعالى قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] ؛ وقد ثبت في [أصول](٢) الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب ، يدلّ على كون الحكم معلّلا بذلك الوصف ، فها هنا أثبت الحمد لنفسه ، ووصف نفسه بكونه ربّ العالمين رحمانا رحيما بهم ، مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة ، فهذا يدلّ على أن استحقاق الحمد ثابت ـ لله تعالى ـ في كل الأوقات ، سواء كان قبل مجيء النّبي ، أو بعده.

فصل

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله تعالى ـ : تحميد الله ـ تعالى ـ ليس عبارة عن قولنا : الحمد لله ؛ لأن قولنا : «الحمد لله» إخبار عن حصول الحمد ، والإخبار عن الشيء مغاير للخبر عنه ، فنقول : حمد المنعم عبارة عن كلّ فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما ، وذلك الفعل : إما أن يكون فعل القلب ، أو فعل اللّسان ، أو فعل الجوارح.

أمّا فعل القلب : فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال.

وأما فعل اللّسان فهو أن يذكر ألفاظا دالّة على كونه موصوفا بصفات الكمال [والإجلال](٣).

__________________

(١) في أ : ثبت.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

١٧٧

[وأما فعل الجوارح ؛ فهو أن يأتي بأفعال دالّة على كون المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال](١).

واعلم أن أهل العلم ـ رحمهم‌الله ـ افترقوا في هذا المقام فرقا كثيرة :

فمنهم من قال : إنه لا يجوز عقلا أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه ، واحتجوا عليه بوجوه :

الأول : أن ذلك التحميد ، إما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم ، أو لا بناء عليه ، فالأول باطل ؛ لأن هذا يقتضي أنه ـ تعالى ـ طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة ، وذلك يقدح في كمال الكرم ، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يطالب بالمكافأة.

وأما الثاني : فهو إتعاب للغير ابتداء ، وذلك يوجب الظّلم.

الثاني : قالوا : إنّ الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد ، وغير نافع للمحمود ، لأنه كامل لذاته ، والكامل [لذاته] يستحيل أن يستكمل بغيره ، فثبت أنّ الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر ، فوجب ألا يكون مشروعا.

الثالث : أنّ معنى الإيجاب : أنه لو لم يفعل لاستحقّ العذاب ، فإيجاب حمد الله تعالى معناه : أنه لو لم تشتغل بهذا الحمد ، لعاقبتك ، وهذا الحمد لا نفع له في حقّ الله تبارك وتعالى ، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ، ولو تركته [لعاقبتك](٢) أبد الآباد ، وهذا لا يليق بالحليم الكريم.

والفريق الثاني : قالوا : الاشتغال بحمد الله ـ تعالى ـ سوء أدب من وجوه :

الأول : أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشّكر القليل.

والثاني : أنّ الاشتغال بالشّكر لا يتأتى إلّا مع استحضار تلك النّعم في القلب ، واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم.

والثالث : أنّ الثناء على الله ـ تعالى ـ عند وجدان النّعمة يدلّ على أنه إنّما أثنى عليه ؛ لأجل الفوز بتلك النعم ، وهذا الرّجل في الحقيقة معبوده ، ومطلوبه إنما هو تلك النّعم ، وحظّ النّفس ، وذلك مقام نازل.

وهذان مردودان بما تقدّم وبأنّ أفعاله وأقواله وأسماءه لا مدخل للعقل فيها ، فقد سمّى روحه ماكرا بقوله تعالى : (وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] ، ومتكبرا وغير ذلك ممّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وغيره.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

١٧٨

فإن قيل : إنما ورد ذلك من حيث المقابلة ، قلنا : نسلّم ، ولكنه قد سمى نفسه به ، ونحن لا يجوز لنا تسميته به.

وأما من حيث وروده في الشرع ، فقال الله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢].

قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ).

الرّبّ : لغة : السيد ، والمالك ، والثّابت والمعبود ؛ ومنه قوله : [الطويل]

٤٦ ـ أربّ يبول الثّعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثّعالب (١)

والمصلح ، وزاد بعضهم أنه بمعنى : الصّاحب ؛ وأنشد القائل : [الكامل]

٤٧ ـ قد ناله ربّ الكلاب بكفّه

بيض رهاب ريشهنّ مقزّع (٢)

والظاهر أنّه ـ هنا ـ بمعنى المالك ، فليس هو معنى زائدا.

وقيل : يكون بمعنى الخالق.

واختلف فيه : هل هو في الأصل وصف أو مصدر؟

فمنهم من قال : [هو وصف أي صفة مشبهة بمعنى «مربّ»](٣) ، ثم اختلف هؤلاء في وزنه.

[فمنهم من قال](٤) : هو على «فعل» كقولك : «نمّ ـ ينمّ ـ فهو نمّ» من النّمام ، بمعنى غمّاز.

وقيل : وزنه «فاعل» ، وأصله : «رابّ» ، ثم حذفت الألف ؛ لكثرة الاستعمال ؛ لقولهم : رجل بارّ وبرّ.

ولقائل أن يقول : لا نسلم أن «برّ» مأخوذ من «بارّ» بل هما صفتان مستقلتان ، فلا ينبغي أن يدّعى أنّ «ربّا» أصله «رابّ».

ومنهم من قال : إنه مصدر «ربّه ـ يربّه ـ ربّا» أي : ملكه.

__________________

(١) البيت للعباس بن مرداس ينظر ملحق ديوانه ص ١٥١ ، وللعباس أو لغاوي بن ظالم السّلمي ، أو لأبي ذر الغفاري ينظر لسان العرب : ١ / ٣٧ (ثعلب) ، ولراشد بن عبد ربه في الدرر : ٤ / ١٠٤ ، وشرح شواهد المغني ص ٣١٧ ، وأدب الكاتب : ص ١٠٣ ، ٢٩٠ ، ومغني اللبيب : ص ١٠٥ ، وجمهرة اللغة : ص ١١٨١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٢٢ ، والبداية والنهاية : ٥ / ٩٢ ، الاستيعاب : ٥٠٥ ، الإصابة : ٢٥١٣ ، الأصنام لابن الكلبي : ٣١ ، القاموس : ١ / ٤١ ، المحرر الوجيز : ١ / ٦٧ ، الدر : ١ / ٦٧.

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ينظر ديوان الهذليين : ١ / ١٤١ ، لسان العرب (رهب) ، مجمع البيان : ١ / ٤٥ ، الدر : ١ / ٦٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

١٧٩

قال : «لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن».

فهو مصدر في معنى الفاعل نحو : «رجل عدل وصوم».

ولا يطلق على غير الباري ـ تعالى ـ إلّا بقيد إضافة ؛ نحو قوله تعالى : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) [يوسف : ٥٠] ، ويقولون : «هو ربّ الدّار ، وربّ البعير» ، وقد قالته الجاهلية للملك من الناس من غير قيد ؛ قال الحارث بن حلّزة (١) : [الخفيف]

٤٨ ـ وهو الرّبّ والشّهيد على يو

م الحيارين والبلاء بلاء (٢)

وهذا من كفرهم.

وقرأ الجمهور : «ربّ» مجرورا على النعت «لله» ، أو البدل منه.

وقرىء منصوبا (٣) ، وفيه ثلاثة أوجه :

إمّا بما دلّ عليه الحمد ، تقديره : «أحمد (٤) ربّ العالمين».

أو على القطع من التبعية ، أو على النّداء وهذا أضعفها ، لأنه يؤدّي إلى الفصل بين الصفة والموصوف.

وقرىء (٥) مرفوعا على القطع من التبعية ، فيكون خبرا لمبتدإ محذوف ، أي : «هو ربّ» وإذ قد عرض ذكر القطع في التبعيّة ، فلنستطرد ذكره ، لعموم فائدته فنقول :

اعلم أنّ الموصوف إذا كان معلوما بدون صفته ، وكان الوصف مدحا ، أو ذما ، أو ترحّما ـ جاز في الوصف الإتباع والقطع.

والقطع : إما على النصب بإضمار فعل لائق ، وإمّا على الرّفع على خبر لمبتدإ محذوف ، ولا يجوز إظهار هذا الناصب ، ولا هذا المبتدإ ، نحو قولهم : «الحمد لله أهل الحمد» روي بنصب «أهل» ورفعه ، أي : أعني أهل ، أو هو أهل الحمد.

وإذا تكررت النّعوت ، والحالة هذه ، كنت مخيّرا بين ثلاثة أوجه :

__________________

(١) الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد اليشكري الوائلي : شاعر جاهلي ، من أهل بادية العراق. وهو أحد أصحاب المعلقات. كان أبرص فخورا ، ارتجل معلقته بين يدي عمرو بن هند الملك ، بالحيرة ، ومطلعها : «آذنتنا ببينها أسماء» جمع بها كثيرا من أخبار العرب ووقائعهم. وفي الأمثال «أفخر من الحارث بن حلزة» إشارة إلى إكثاره من الفخر في معلقته هذه. له «ديوان شعر». ينظر الأعلام : ٢ / ١٥٤ ، الأغاني : ١١ / ٤٢.

(٢) ينظر شرح المعلقات للتبريزي : ٤٥٣ ، اللسان : حير ، شرح المعلقات السبع للزوزني : ١٣٩ ، الصحاح : ١ / ١٣٠ ، تفسير القرطبي : ١ / ٩٦ ، الدر : ١ / ٦٧.

(٣) وهي قراءة زيد بن علي. ينظر البحر المحيط : ١ / ١٣١.

(٤) في أ : الحمد.

(٥) ذكره السمين الحلبي في الدر المصون : ١ / ٦٧.

١٨٠