اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

الأوّل : أنّ قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ) اعتراف بكون العبد فاعلا ، لتلك الاستعاذة ، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى ، لامتنع كون العبد فاعلا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد ، امتنع دفعه ، وإذا لم يخلقه الله فيه ، امتنع تحصيله ، فثبت أنّ قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ) اعتراف بكون العبد موجدا لأفعال (١) نفسه.

والثّاني : أن الاستعاذة من الشيطان إنما تحسن إذا لم يكن الله تعالى ، خالقا للأمور التي منها يستعاذ.

أمّا إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى ، امتنع أن يستعاذ بالله منها ؛ لأنّ بهذا التقدير يصير كأنّ العبد استعاذ بالله في غير ما يفعله الله تعالى.

والثالث : أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدلّ على أنّ العبد غير راض بها ، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى ، وقضائه ، وحكمه ، وجب أنّ العبد يكون راضيا بها ؛ لما ثبت بالإجماع أنّ الرّضا بقضاء الله تعالى واجب.

والرابع : أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنّما تحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلا للشيطان ، أمّا إذا كانت فعلا لله ، ولم يكن للشّيطان في وجودها أثر ألبتة ، فكيف يستعاذ من شرّ الشيطان؟ بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شرّ الله ؛ لإنّه لا شرّ إلّا من قبله.

والخامس : أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا ، وأنت يا إله الخلق علمت (٢) صدور الوسوسة عنّي ، ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك ، وحكمت بها عليّ ، ولا قدرة لي على مخالفة حكمك ، ثم قلت : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، وقلت : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وقلت :

__________________

ـ مبادىء المعتزلة :

١ ـ وجوب معرفة الله تعالى بالعقل.

٢ ـ إنكار صفات المعاني ، والقول بخلق القرآن.

٣ ـ نفي رؤية الله ـ تعالى ـ لما تقتضيه من التجسيم والجهة.

٤ ـ القول بالحسن والقبيح العقليين.

٥ ـ الله يريد الخير ، ولا يريد الشر ، ويجب عليه فعل الصلاح والإصلاح لعباده.

٦ ـ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية بقدرة أودعها الله فيه.

٧ ـ وجوب تنفيذ الوعد والوعيد ، ووجوب إرسال الرسل.

٨ ـ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ، ولا شفاعة له.

٩ ـ وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

ينظر : نشر الطوالع (٣٨٧) ؛ والفرق بين الفرق : ص ٢٤ ، والملل والنحل للشهرستاني : ص ١٠٥.

(١) في أ : لأعمال.

(٢) في أ : عملت.

١٠١

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] فمع هذه الأعذار الظّاهرة ، والأسباب القويّة فكيف يجوز في حكمتك ، ورحمتك أن تذمّني ، وتلعنني على شيء خلقته فيّ؟

والسّادس : جعلتني مرجوما ملعونا إما أن يكون بسبب جرم صدر منّي ، أو لا [يكون](١) بسبب جرم صدر منّي.

فإن كان الأول ؛ فقد بطل الجبر ، وإن كان الثّاني ، فهذا محض الظلم ؛ وأنت قلت : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] فيكف يليق هذا بك؟

فإن قال قائل : هذه الإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر ، وأنا لا [أقول](٢) بالجبر ، ولا بالقدر ، بل أقول : الحقّ حالة متوسّطة بين الجبر والقدر ؛ وهو الكسب.

فنقول : هذا ضعيف ؛ لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال ، أو لا يكون. فإن كان الأول ، فهو تمام القول بالاعتزال ، وإن كان الثاني ، فهو الجبر المحض ، [والأسئلة](٣) المذكورة واردة على هذا القول ، فيكف يعقل حصول الواسطة؟

قال أهل السّنة والجماعة ـ رحمهم‌الله ـ أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا ، فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين :

الأول : أن قدرة العبد إمّا أن تكون معينة لأحد الطرفين ، أو كانت صالحة للطرفين معا ، فإن كان الأول ، فالجبر لازم ، وإن كان الثاني ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر ، إمّا أن يتوقف على المرجح ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول ، ففاعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع ، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع. وحينئذ يلزمكم كلّ ما ذكرتموه.

وأما الثاني : وهو أن يقال : إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف عل مرجّح ؛ فهذا باطل لوجهين :

الأول : أنه لو جاز لك ، لبطل الاستدلال [بترجّح](٤) أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح.

والثّاني : أنّ بهذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعا على سبيل الاتفاق ، ولا يكون

__________________

(١) سقطت في ب.

(٢) في أ : نقول.

(٣) في ب : والسؤالات.

(٤) في أ : بترجيح.

١٠٢

صادرا عن العبد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد عاد الجبر المحض ، فثبت بهذا البيان أن كلّ ما أوردتموه علينا ، فهو وارد عليكم.

الوجه الثّاني في السؤال : أنّكم سلّمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، ووقوع الشّيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا ؛ وذلك محال ؛ والمفضي إلى المحال محال ، فكان كلّ ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم لزوما لا جواب عنه.

ثم قال أهل السّنّة : قوله : «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم» ـ يبطل القول بالاعتزال من وجوه :

الأوّل : أنّ المطلوب من قولك : (أَعُوذُ بِاللهِ) إمّا أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير ؛ أو على سبيل القهر والجبر.

أمّا الأول فقد فعله ، ولما فعله كان طلبه من الله تعالى محالا ؛ لأن تحصيل الحاصل محال.

وأما الثاني فهو غير جائز ؛ لأن الإلجاء ينافي كون الشّياطين مكلّفين ، وقد ثبت كونهم مكلفين.

أجاب عنه المعتزلة فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلّف إلى فعل الحسن ، وترك القبيح.

لا يقال : فتلك الألطاف قد فعلها الله تعالى بأسرها في الفائدة في الطّلب ؛ لأنّا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلّا عند الدعاء ، فلو لم يتقدّم هذا الدعاء لم يحسن فعله.

أجاب أهل السّنّة عن هذا السؤال بوجوه :

أحدها : أنّ فعل تلك الألطاف إمّا أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا أثر فيه ، فإن كان الأوّل فعند حصول التّرجيح يصير الفعل واجب الوقوع : والدليل عليه أنّ عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم ، فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم ، وهو جمع بين النقيضين ؛ وهو محال.

فثبت أنّ عند حصول الرجحان يحصل الوجوب ، وذلك يبطل القول بالاعتزال وإن لم يحصل بسبب تلك الألطاف رجحان [طرف](١) الوجود ، لم يكن لفعلها ألبتّة أثر ؛ فيكون فعلها عبثا محضا ؛ وذلك في حق الله تعالى محال.

الوجه الثّاني : أن يقال : إن الله تعالى إمّا أن يكون مريدا لصلاح العبد ، أو لا يكون.

فإن كان الحقّ هو الأوّل ، فالشيطان إما أن يتوقّع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع.

__________________

(١) في أ : وذلك.

١٠٣

فإن توقّع منه إفساد العبد ، مع أن الله تعالى يريد إصلاح العبد ، فلم خلقه ، ولم سلّطه على العبد؟ وإن كان لا يتوقّع من الشيطان إفساد العبد ، فأيّ حاجة [للعبد](١) إلى الاستعاذة منه؟

وأمّا إذا قيل : إنّ الله قد لا يريد ما هو صلاح حال العبد ، فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شرّ الشيطان؟

الوجه الثالث : أنّ الشيطان إمّا أن يكون مجبورا على فعل الشّر ، أو يكون قادرا على فعل الخير والشر ، وعلى فعل أحدهما.

فإن كان الأول ، فقد أجبره الله على الشّر ؛ وذلك يقدح في قولهم : إنه ـ تعالى ـ لا يريد إلا الصّلاح والخير ، وإن كان الثاني ، وهو أنه قادر على فعل الشّرّ والخير ؛ فها هنا يمتنع أن يترجّح فعل الخير على فعل الشر إلّا بمرجّح ، وذلك المرجح يكون من الله تعالى ، وإذا كان ذلك ، فأي فائدة في الاستعاذة؟

الوجه الرابع : هب أنّ البشر إنّما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشّيطان ، فإنّ الشّيطان كيف وقع في المعاصي؟

فإن قلنا : إنه وقع فيها بسبب وسوسة شيطان آخر ، لزم التسلسل.

وإن قلنا : وقع الشّيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر ، فلم لا يجوز مثله في البشر؟

وعلى هذا التقدير لا فائدة للاستعاذة من الشّيطان ، وإن قلنا : إنّه ـ تعالى ـ سلّطه الشيطان على البشر ، ولم يسلّط على الشيطان شيطانا آخر ، فهذا أحيف على البشر ، وتخصيص له بمزيد التثقيل ، والإضرار ؛ وذلك ينافي كون الإله رحيما ناظرا لعباده.

الوجه الخامس : أن الفعل المستعاذ منه إن كان ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الاستعاذة منه ، وإن كان واجب الوقوع ، كذلك.

اعلم أنّ هذه المناظرة تدلّ على أنه لا حقيقة لقوله : (أَعُوذُ بِاللهِ) إلّا أن ينكشف أنّ الكلّ من الله تعالى ، وبالله.

وحاصل الكلام ما قاله الرسول ـ عليه الصلاة والسلام : ـ أعوذ برضاك من سخطك (٢) ... الحديث.

__________________

(١) في أ : بالعبد.

(٢) أخرجه الترمذي في «السنن» : (٥ / ٤٨٩ ـ ٤٩٠) كتاب الدعوات (٤٩) باب (٧٦) ، حديث رقم (٣٤٩٣) والنسائي في «السنن» : (١ / ١٠٢) ، وابن ماجه في «السنن» : (٢ / ١٢٦٢ ـ ١٢٦٣) كتاب الدعاء ، باب (ما تعوذ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حديث رقم (٣٨٤١) ـ والدارقطني في السنن (١ / ١٤٣) ، ومالك في «الموطأ» (٢١٤) ـ وابن خزيمة في صحيحه ، حديث رقم (٦٥٤) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٢٨٨).

١٠٤

فصل في المستعاذ به

وهو على وجهين :

أحدهما : أن يقال : (أَعُوذُ بِاللهِ).

والثّاني : أن يقال : «أعوذ بكلمات الله التّامّات». فأما الاستعاذة بالله ، فبيانه إنّما يتم بالبحث عن لفظة «الله» وسيأتي ذلك في تفسير : «بسم الله» وأمّا الاستعاذة بكلمات الله ، فاعلم أنّ المراد ب «كلمات الله» هو قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

والمراد من قوله : «كن» نفاذ قدرته في الممكنات ، وسريان مشيئته في الكائنات ؛ بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع ، ولا شكّ أنه لا تحسن الاستعاذة بالله ـ تعالى ـ إلا لكونه موصوفا بتلك القدرة القاهرة ، والمشيئة النافذة.

قال ابن الخطيب (١) رحمه‌الله تعالى ـ فرق بين أن [يقول](٢) : «أعوذ بالله» وبين أن يقول : «بالله أعوذ» ، فإنّ الأول لا يفيد الحصر ، والثاني يفيده ، فلم ورد الأمر بالأوّل دون الثّاني ، مع أنّا بيّنا أن الثاني أكمل؟

وأيضا : جاء قوله : «الحمد لله» وجاء أيضا : قوله : «لله الحمد» وأما ها هنا ، فقد جاء قوله : «أعوذ بالله» ، وما جاء «بالله أعوذ» فما الفرق؟.

فصل في المستعيذ

اعلم أنّ قوله : «أعوذ بالله» أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك ، وهو (٣) غير مختصّ بشخص معيّن ، فهو أمر على سبيل العموم ، لأنه ـ تعالى ـ حكى ذلك عن الأنبياء ، والأولياء ، وذلك يدلّ على أن كلّ مخلوق يجب أن يكون مستعيذا بالله تعالى ؛ كما حكي عن نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : (أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٧] ؛ فأعطاه [الله](٤) خلعتين : السّلام والبركات ؛ (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) [هود : ٤٨].

وقال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) [يوسف : ٢٣] ، فأعطاه الله خلعتين صرف السّوء عنه والفحشاء ، وقال أيضا : (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) [يوسف : ٧٩] فأكرمه الله تعالى بخلعتين : رفع أبويه على العرش العرش وخرّوا له سجّدا.

وحكي عن موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قال : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ١ / ٨٥.

(٢) في ب : يقال.

(٣) في أ : وهذا.

(٤) سقط في أ.

١٠٥

[البقرة : ٦٧] ؛ فأعطاه الله خلعتين : إزالة التّهمة ، وإحياء القتيل.

وحكي عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أيضا : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) [الدخان : ٢٠] ، وفي آية أخرى : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) [غافر : ٢٧] ؛ فأعطاه الله خلعتين : أفنى عدوّه ، وأورثهم أرضهم وديارهم.

وحكي أنّ أمّ مريم قالت : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [آل عمران : ٣٦] ؛ فأعطاها الله ـ تعالى ـ خلعتين : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧].

ومريم ـ عليها‌السلام ـ لمّا رأت جبريل ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في صورة بشر يقصدها : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨] ؛ فوجدت نعمتين : ولدا من غير أب ، [وتبرئة](١) الله إيّاها بلسان ذلك الولد عن السّوء ؛ وهو قوله تعالى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠].

وأمر نبيّه ـ محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالاستعاذة مرّة أخرى : فقال : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون : ٩٧ ، ٩٨].

وقال تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ١ و ٢] ، وقال تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١] ، وقال تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ٢٠٠] ، فهذه الآيات دالّة على أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ كانوا أبدا في الاستعاذة بالله ـ عزوجل ـ من شرّ شياطين الجنّ والإنس.

وأمّا الأخبار ؛ فكثيرة :

عن معاذ بن جبل (٢) ـ رضي الله عنه ـ قال : استبّ رجلان عند النبي ـ صلّى الله

__________________

(١) في ب : وتنزيه.

(٢) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بمعجمة آخره ، ابن عدي بن كعب بن عمرو بن آدي بن سعد بن علي بن أسد بن سارذة بن تريد بمثناة ، ابن جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي ، أبو عبد الرحمن المدني ، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة ، وشهد بدرا والمشاهد ، له مائة وسبعة وخمسون حديثا ، وعنه ابن عباس وابن عمر ، ومن التابعين : عمرو بن ميمون ، وأبو مسلم الخولاني ، ومسروق ، وخلق ، وكان ممن جمع القرآن. قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتي معاذ يوم القيامة أمام العلماء» ، وقال ابن مسعود : كنا نشبهه بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وكان أمّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. توفي في طاعون «عمواس» سنة ثماني عشرة ، وقبره ب «بيسان» في شرقيه. قال ابن المسيب : عن ثلاث وثلاثين سنة ، وبها رفع عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٣ / ١٣٣٨ ، وتهذيب التهذيب ، ١٠ / ١٨٦ (٣٤٧) ، وتقريب التهذيب : ٢ / ٢٥٥ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ٣ / ٣٥ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٧ / ٣٥٩ ، وتاريخ البخاري الصغير : ١ / ٤١ ، ٤٧ ، ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ ، ٥٨ ، ٦٦.

١٠٦

عليه وسلّم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم ، وفخّم ـ وأغرقا فيه ؛ فقال عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذلك عنه ؛ هي قوله : أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم» (١).

وعن معقل بن يسار (٢) ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنّه قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرّات : أعوذ بالله السّميع العليم» ، وفي رواية : «من الشّيطان الرّجيم». وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ؛ وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتّى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي ، كان بتلك المنزلة (٣).

وعن ابن عباس (٤) عن النّبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وكرّم ، وبجّل ، وعظّم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن : (٢ / ٦٦٣) كتاب «الأدب» ، باب (ما يقال عند الغضب) حديث رقم (٤٧٨٠) ، والبخاري في التاريخ الكبير : (٨ / ٣٥) ، (٤ / ١٥١) ، (٨ / ١٩) ، والبخاري في الأدب المفرد : ٤٣٤ ، ١٣١٩ ، والطبراني في الكبير : (٧ / ١١٦) ، والحاكم في المستدرك : (٢ / ٤٤١) ، وذكره المنذري في الترغيب : (٣ / ٤٥٠ ، ٤٥١).

(٢) معقل بن يسار المزني ، أبو علي بايع تحت الشجرة ، له أربعة وثلاثون حديثا ، اتفقا على حديث ، وانفرد البخاري بآخر ومسلم بحديثين ، وعنه عمران بن حصين. مات في خلافة معاوية. ينظر الخلاصة : ٣ / ٤٥.

(٣) أخرجه الترمذي في السنن : (٥ / ١٦٧) كتاب «فضائل القرآن» (٤٦) ، باب (٢٢) ، حديث رقم (٢٩٢٢) ـ وأحمد في المسند (٥ / ٢٦) ، والدارمي في السنن : (٢ / ٤٥٨) باب «في فضل حم الدخان والحواميم والمسبحات» ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. والحديث ذكره المنذري في الترغيب : (١ / ٤٤٧) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ، حديث رقم (٢١٥٧) ، والهيثمي في الزوائد : (١٠ / ١١٧) والقرطبي في التفسير : (١٨ / ١) ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم (٣٥٧٧ ، ٥٩٧).

(٤) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، الهاشمي ، أبو العباس المكي ، ثم المدني ، ثم الطائفي ، ابن عم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وصاحبه ، وحبر الأمة وفقيهها ، وترجمان القرآن ، روى ألفا وستمائة وستين حديثا ، اتفقا على خمسة وسبعين ، وعنه أبو الشعثاء ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وابن المسيب ، وعطاء بن يسار ، وأمم. قال موسى بن عبيدة : كان عمر يستشير ابن عباس ، ويقول غواص ، وقال سعد : ما رأيت أحضر فهما ، ولا ألب لبّا ، ولا أكثر علما ، ولا أوسع علما من ابن عباس ، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ، وقال عكرمة : كان ابن عباس إذا مر في الطريق ، قالت النساء : أمرّ المسك أو ابن عباس؟. وقال مسروق : كنت إذا رأيت ابن عباس ، قلت : أجمل الناس ، وإذا نطق ، قلت : أفصح الناس ، وإذا حدّث ، قلت : أعلم الناس ، مناقبه جمة. قال أبو نعيم : مات سنة ثمان وستين. قال ابن بكير ـ بالطائف ـ وصلى عليه محمد ابن الحنفية.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٢ / ٦٩٨ ، وتهذيب التهذيب : ٥ / ٢٧٦ (٤٧٤) ، وتقريب التهذيب : ١ / ٤٢٥ (٤٠٤) وخلاصة تهذيب الكمال : ٢ / ٦٩ ، ١٧٢ ، والكاشف : ٢ / ١٠٠ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٣ / ٣ ، ٥ / ٣ ، ٧ / ٢.

١٠٧

وفخّم ـ أنّه قال : «من استعاذ بالله في اليوم عشر مرّات ، وكّل الله تعالى به ملكا ؛ يذود عنه الشّيطان» (١).

وعن خولة بنت حكيم (٢) ـ رضي الله تعالى عنها ـ عن النبي ـ عليه الصّلاة والسلام ـ أنّه قال : «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التّامّات كلّها من شرّ ما خلق ؛ لم يضرّه شيء حتّى يرتحل من ذلك المنزل» (٣).

وعن عمرو بن شعيب (٤) عن أبيه ، عن جدّه ـ رضي الله عنه ـ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا فزع أحدكم من النّوم فليقل أعوذ بكلمات الله التّامّة : من غضبه ، وعقابه ، وشرّ عباده ، ومن شرّ همزات الشّياطين ، وأن يحضرون ، فإنّها لن تضرّه» (٥) ؛ وكان عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى في مسنده : (٧ / ١٤٧) رقم (٤١١٤) ، والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» : (١٠ / ١٤٢) وقال : وفيه ليث بن أبي سليم ، ويزيد الرقاشي وقد وثّقا على ضعفهما ، وبقية رجاله رجال الصحيح ، وذكره الحافظ أيضا في «المطالب العالية» : (٣ / ٢٦٠) رقم (٣٤٣٤) ، وعزاه لأبي يعلى. (٢) خولة بنت حكيم بن أميّة السلمية ، أم شريك زوجة عثمان بن مظعون ، لها خمسة عشر حديثا ، انفرد لها (مسلم) بحديث ، وعنها عروة ، وأرسل عنها عمر بن عبد العزيز.

ينظر الخلاصة : ٣ / ٣٨٠ ، وتقريب التهذيب : ٢ / ٥٩٦ ، والثقات : ٣ / ١١٥ ، وأسد الغابة : ٧ / ٩٣ ، وأعلام النساء : ١ / ٣٢٨ ، ٣٢٦.

(٣) أخرجه مسلم في الصحيح : (٤ / ٢٠٨٠) كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» (٤٨) باب «في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره» (١٦) حديث رقم (٥٤ / ٢٧٠٨) ، والترمذي في السنن حديث رقم (٣٤٣٧) ، وأحمد في المسند (٦ / ٣٧٧) ـ وعبد الرزاق في مصنفه : حديث رقم (٩٢٦٠) وابن خزيمة في صحيحه : حديث رقم ٢٥٦٧ ـ والبيهقي في السنن (٥ / ٢٥٣) وذكره ابن حجر في «فتح الباري» : (١٠ / ١٩٦). والقرطبي في التفسير : ١ / ٨٩ ، ١٥ / ٨٩ ـ ٩٠. والتبريزي في مشكاة المصابيح : حديث رقم (٢٤٢٢). والزبيدي في الإتحاف : ٤ / ٣٣٠ ، ٦ / ٤٠٧. والسيوطي في الدر المنثور : ٣ / ٤١.

(٤) عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي ، أبو إبراهيم المدني ، نزيل الطائف ، عن أبيه عن جده وطاوس ، وعن الرّبيّع بنت معوّذ وطائفة ، وعنه عمرو بن دينار ، وقتادة ، والزهري ، وأيوب ، وخلف. قال القطان : إذا روى عن الثقات فهو ثقة يحتج به ، وفي رواية عن ابن معين : إذا حدّث عن غير أبيه فهو ثقة ، وقال أبو داود : عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ليس بحجة. وقال أبو إسحاق : هو كأيوب عن نافع عن ابن عمر ، ووثقه النسائي. وقال الحافظ أبو بكر بن زياد : صح سماع عمرو عن أبيه ، وصح سماع شعيب عن جده عبد الله بن عمرو. وقال البخاري : سمع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. قال خليفة : مات سنة ثماني عشرة ومائة.

ينظر ترجمته في تهذيب الكمال : ٢ / ١٠٣٦ ، وتهذيب التهذيب : ٨ / ٤٨ (٨٠) ، وتقريب التهذيب : ٢ / ٧٢ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ٢ / ٢٨٧ ، والكاشف : ٢ / ٣٣١ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٦ / ٣٤٢ ، والجرح والتعديل : ٦ / ١٣٢٣ ، وميزان الاعتدال : ٣ / ٢٦٣ ، ولسان الميزان : ٧ / ٣٢٥ ، وترغيب : ٤ / ٥٨٦ ، والمجروحين : ٤ / ٧١ ، وتراجم الأحبار : ٢ / ٥٦٦ ، والمعين : ٥١٧ ، والبداية والنهاية : ٩ / ٣٢١.

(٥) أخرجه الترمذي في السنن : (٥ / ٥٠٦) كتاب الدعوات (٤٩) حديث رقم (٣٥٢٨) ، وابن ـ

١٠٨

عنهما ـ يعلّمها من بلغ من عبيده ، ومن لم يبلغ كتبها في صكّ ثم علّقها في عنقه.

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : كان يعوذ الحسن (١) والحسين (٢) ـ عليهما‌السلام ويقول : «أعيذكما بكلمات الله التّامّة ، من كلّ شيطان وهامّة ، ومن كلّ عين لامّة» (٣) ؛ ويقول : «كان إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يعوّذ بها إسماعيل ، وإسحاق ـ عليهما الصّلاة والسلام».

وكان ـ عليه‌السلام ـ يعظّم أمر الاستعاذة ؛ حتّى أنّه لمّا تزوّج امرأة ، ودخل بها ، وقالت : أعوذ بالله منك ؛ فقال ـ عليه الصّلاة والسلام : «عذت بمعاذ ، فالحقي بأهلك (٤)».

وروى الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : بينما رجل يضرب مملوكا له ، فجعل المملوك يقول : أعوذ بالله ، إذ جاء نبيّ الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : أعوذ برسول الله ؛ فأمسك عنه فقال ـ عليه‌السلام ـ : «عائذ الله أحقّ أن يمسك عنه» ، قال : فإنّي أشهدك يا رسول الله أنّه حرّ ؛ لوجه الله ـ تعالى ـ ، فقال عليه‌السلام : «أما والّذي نفسي بيده ، لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النّار».

__________________

ـ أبي شيبة (٧ / ٣٩٧ ، ٤٢١) ، (١٠ / ٣٦٤) وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح : حديث رقم (٢٤٧٧). والهندي في كنز العمال : حديث رقم (٤١٣٥٨ ، ٤١٣٩٧).

(١) الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو محمد المدني ، سبط رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وريحانته ، عن جدّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، له ثلاثة عشر حديثا.

قال أنس : كان أشبههم برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. وقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة».

توفي ـ رضي الله عنه ـ مسموما سنة تسع وأربعين ، أو سنة خمسين أو بعدها.

ينظر الخلاصة : ١ / ٢١٦ (١٣٦١) ، والإصابة : ٢ / ٦٨ ـ ٧٤ ، والاستيعاب : ١ / ٣٨٣ ـ ٣٩٢ ، والحلية : ٢ / ٣٥ ـ ٣٩.

(٢) الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، أبو عبد الله المدني ، سبط رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وريحانته ، وأخو الحسن ومحسّن بفتح المهملة ، روى عن جدّه ثمانية أحاديث ، وعن أبيه وأمه وعمر. قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «حسين منّي ، وأنا من حسين ، حسين سبط من الأسباط» ولد سنة ٤ ه‍ ، واستشهد ب «كربلاء» من أرض العراق يوم عاشوراء سنة ٦١ ه‍.

ينظر الخلاصة : ١ / ٢٢٨ (١٤٣٨) ، والإصابة : ٢ / ٧٦ ـ ٨١ ، وأسد الغابة : ٢ / ١٨ ـ ٢٣ ، والاستيعاب : ١ / ٣٩٢ ـ ٣٩٩.

(٣) أخرجه أبو داود في السنن : (٢ / ٦٤٨) كتاب «السنة» باب «في القرآن» حديث رقم (٤٧٣٧) ، والترمذي من السنن : حديث رقم (٢٠٦٠) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ١١٦٥) كتاب «الطب» (٣١) باب «ما عوذ به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما عوّذ به» (٣٦) حديث رقم (٣٥٢٥) ـ وأحمد في المسند : (١ / ٢٧٠) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ١٦٧) ـ والطبراني في الكبير : (١٠ / ٨٧) ، (١١ / ٤٤٨) ـ والطبراني في الصغير : (١ / ٢٥٧) ـ وعبد الرزاق في مصنفه : حديث رقم (٧٩٨٧) ـ وأبو نعيم في الحلية : (٥ / ٤٥) ـ وذكره ابن عبد البر في التمهيد : (٢ / ٢٧٢).

(٤) أخرجه ابن ماجه : (٢٠٥) ، والبيهقي : (٧ / ٣٤٢) ، والدارقطني : (٤ / ٢٩).

١٠٩

وعن سويد (١) ، سمعت أبا بكر الصّديق (٢) ـ رضي الله عنه ـ يقول على المنبر : «أعوذ بالله من الشّيطان الرجيم» ؛ وقال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرم وبجّل وعظم وفخم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلا أحبّ أن أترك ذلك ما بقيت». وكان عليه الصّلاة والسلام (٣) يقول : «اللهمّ ، أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك»(٤).

فصل

في المستعاذ منه ؛ وهو الشيطان.

اعلم أن الشّيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرها ؛ كما قال تبارك وتعالى : (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥].

فأمّا كيفية الوسوسة بناء على أنّ ما روي من الآثار ذكروا : أنّه يغوص في باطن الإنسان ، ويضع رأسه على حبّة قلبه ، ويلقي إليه الوسوسة ؛ واحتجّوا بما روي أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرم وبجّل وعظم وفخم ـ قال : «إنّ الشّيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدّم ؛ ألّا فضيّقوا مجاريه بالجوع» (٥) وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لو لا أنّ

__________________

(١) سويد بن غفلة بفتح المعجمة والفاء واللام ، الجعفي أبو أمية الكوفي ، قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وشهد اليرموك ، عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان ، وعنه النخعي والشعبي وعبدة بن أبي لبابة ، وثقه يحيى بن معين. قال أبو نعيم : مات سنة ثمانين. وقيل : بعدها بسنة عن مائة وثلاثين سنة. ينظر الخلاصة : ١ / ٤٣٢.

(٢) عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي ، أبو بكر : أول الخلفاء الراشدين ، وأول من آمن برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الرجال ، ولد ب «مكة» في ٥١ ق ه ، بويع بالخلافة يوم وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سنة ١١ ه‍ ، وكان موصوفا بالحلم والرأفة ، كان لقبه «الصّدّيق» في الجاهلية ، وأخباره كثيرة جدا. توفي في ١٣ ه‍.

ينظر : أبو بكر الصديق : للشيخ الطنطاوي ، والجوهر الأسنى : ٩٤ ـ ١٠٠ ، وخلاصة الأثر : ٨٦١٣ ، وكشف الظنون : ١٢٦٣ ، وهدية العارفين : ١ : ٤٧٦ ، والأعلام : ٤ / ١٠٢.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه مسلم في الصحيح : (١ / ٣٥٢) كتاب الصلاة (٤) ، باب «ما يقال في الركوع والسجود» (٤٢) حديث رقم (٢٢٢ / ٤٨٦).

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح : (٣ / ١٠٨) كتاب «الاعتكاف» باب «زيارة المرأة زوجها» ... وباب «هل يدرأ» ... حديث رقم (٢٠٣٨) ، وحديث رقم (٢٠٣٩) ، (٤ / ٢٥٢) كتاب «بدء الخلق» باب «صفة إبليس وجنوده» حديث رقم (٣٢٨١) ، (٩ / ٢٦) كتاب «الأحكام» باب «الشهادة تكون ...» حديث رقم (٧١٧١) ، وأبو داود في السنن (١ / ٧٤٩) كتاب «الصيام» باب «المعتكف يدخل البيت لحاجته» حديث رقم (٢٤٧٠) ، والترمذي في السنن : حديث رقم (١١٧٢) ، وابن ماجه في السنن : (١ / ٥٦٦) كتاب «الصيام» (٧) باب «في المعتكف يزور أهله في المسجد» (٦٥) حديث رقم (١٧٧٩) ، وأحمد في ـ

١١٠

الشّياطين يحومون على قلوب بني آدم ، لنظروا إلى ملكوت السّموات» (١).

وقال الغزاليّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الإحياء : القلب مثل قبّة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كلّ باب ، ومثل هدف ترمى إليه السّهام من كلّ جانب ، ومثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص ؛ فتتراءى فيها صورة بعد صورة ، ومثل حوض تنصبّ إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة.

قال ابن الخطيب (٣) ـ رحمة الله تعالى ـ : لقائل أن يقول : لم لم يقل : أعوذ بالملائكة مع أنّ أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشّيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟

وجوابه : كأنّه تعالى يقول : عبدي إنّه يراك ، وأنت لا تراه ؛ لقوله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] ؛ فإنه يفيد كيده فيكم ؛ لأنّه يراكم ، وأنتم لا ترونه ؛ فتمسّكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه ؛ وهو الله تعالى فقيل : «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم».

فصل في وجود الجنّ

اختلف النّاس في وجود الجنّ والشياطين ، [فمن النّاس من أنكر الجنّ والشياطين](٤). واعلم أنّه لا بدّ أوّلا من البحث عن ماهيّة الجنّ والشياطين ؛ فنقول : أطبق الكلّ على أنّه ليس الجنّ والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة ، تجيء وتذهب ؛ مثل النّاس والبهائم ؛ بل القول المحصّل فيه قولان :

الأوّل : أنها أجسام هوائيّة قادرة على التّشكّل بأشكال مختلفة ، ولها عقول وأفهام ، وقدرة على أعمال صعبة شاقّة.

والقول الثّاني : أنّ كثيرا من النّاس أثبتوا أنّها موجودات (٥) غير متحيّزة ، ولا حالّة في

__________________

ـ المسند : (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥) ـ والدارمي في السنن : (٢ / ٣٢٠). وذكره ابن كثير في التفسير : ٨ / ٥٥٨ ، والزبيدي في «إتحاف السادة المتقين» : ٥ / ٣٠٥ ، ٦ ، ٤ / ٢٧٣ ، ٧ / ٢٦٩ ، ٢٨٣ ، ٤٢٩.

(١) ذكره العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» : (١ / ٢٣٣ ، ٢٨٥) ، (٣ / ٨) ـ والزبيدي في «إتحاف السادة المتقين» : (٤ / ١٩٥) ، (٧ / ٢٣٤) ، (٩ / ٦٩).

(٢) محمد بن محمد بن محمد ، حجة الإسلام ، أبو حامد الغزالي ، ولد سنة ٤٥٠ ه‍ ، أخذ عن الإمام الجويني ، ولازمه ، حتى صار أنظر أهل زمانه ، وجلس للإقراء في حياة إمامه وصنف : «الإحياء» المشهور ، و «البسيط» ، وهو كالمختصر للنهاية ، وله «الوجيز» ، و «المستصفى» وغيرها. توفي سنة ٥٠٥ ه‍.

انظر ط. ابن قاضي شهبة : ١ / ٢٩٣ ، ووفيات الأعيان : ٣ / ٣٥٣ ، والأعلام : ٧ / ٢٤٧ ، واللباب : ٢ / ١٧٠ ، وشذرات الذهب : ٤ / ١٠ ، والنجوم الزاهرة : ٥ / ٢٠٣ ، والعبر : ٤ / ١٠.

(٣) ينظر : الفخر الرازي : ١ / ٨٤.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : موجودة.

١١١

المتحيّز ، وزعموا أنها موجودات مجرّدة عن الجسمية.

ثم إنّ هذه الموجودات قد تكون عالية مقدّسة عن تدبير الأجسام [بالكلّية](١) ؛ وهم الملائكة المقربون ـ عليهم‌السلام ـ كما قال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩].

ويليها مرتبة الأرواح المتعلّقة بتدبير الأجسام ، وأشرفها حملة العرش ؛ كما قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧].

والمرتبة الثالثة : ملائكة الكرسيّ.

والمرتبة الرابعة : ملائكة السّموات طبقة بطبقة.

والمرتبة الخامسة : ملائكة كرة الأثير.

والمرتبة السادسة : ملائكة الهواء الذي هو في طبع النّسيم.

والمرتبة السابعة : ملائكة كرة الزّمهرير.

والمرتبة الثامنة : مرتبة الأرواح (٢) المتعلّقة بالبحار.

والمرتبة التاسعة : مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال.

والمرتبة العاشرة : مرتبة الأرواح السّفليّة المتصرفة في هذه الأجسام النّباتيّة والحيوانية الموجودة في هذا العالم.

واعلم أنّه على كلا القولين ؛ فهذه الأرواح قد تكون مشرقة الهيئة ، خيرية سعيدة ؛ وهي المسمّاة بالصالحين من الجنّ ، وقد تكون كدرة سفلية شرّيرة شقيّة ، وهي المسمّاة بالشياطين.

واعلم (٣) أن القرآن والأخبار يدلّان على وجود الجنّ والشياطين :

أما القرآن فآيات : منها قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [الأحقاف : ٢٩ و ٣٠] ، وهذا نصّ على وجودهم ، وعلى أنّهم سمعوا القرآن ، وعلى أنهم أنذروا قومهم.

وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢].

وقوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ : ١٣].

وقوله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص : ٣٧ و ٣٨].

__________________

(١) في أ : بالغلبة.

(٢) في ب : مرتبة الأرواح إلى ملائكة.

(٣) زاد في أ : الأصفهاني إحدى الروايتين عن ابن سيرين. قال : إذا فرغ الفاتحة.

١١٢

وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) إلى قوله : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [سبأ : ١٢].

وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣].

وقوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [الصافات : ٦ و ٧].

وأمّا الأخبار فكثيرة منها :

ما روى مالك في «الموطّأ» ، عن صيفيّ بن أفلح (١) ، عن أبي السّائب (٢) مولى هشام ابن زهرة ، أنّه دخل على أبي سعيد الخدري (٣) ، قال : فوجدته يصلّي ، فجلست أنتظره حتّى يقضي صلاته ، قال : فسمعت تحريكا تحت سريره في بيته ، فإذا حيّة ، ففرّت فهممت أن أقتلها ، فأشار أبو سعيد : أن اجلس ، فلما انصرف من صلاته ، أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا البيت؟ قلت نعم ، قال : إنّه كان فيه فتى قريب عهد بعرس ، وساق الحديث إلى أن قال : فرأى امرأته واقفة بين الناس. فهيّأ الرّمح ؛ ليطعنها ؛ بسبب الغيرة ، فقالت امرأته : ادخل بيتك لترى ، فدخل [بيته](٤) فإذا هو بحيّة على فراشه ، فركز فيها الرّمح ، فاضطربت الحيّة في رأس الرّمح وخرّ الفتى ، فما يدرى أيّهما كان أسرع موتا : الفتى أم الحيّة ؛ فسألنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : «إنّ بالمدينة جنّا قد أسلموا ، فمن بدا لكم منه فأذنوه ثلاثة أيّام ، فإن عاد فاقتلوه فإنه شيطان» (٥).

__________________

(١) صيفي بن زياد مولى الأنصار ، مدني ، عن أبي اليسر كعب بن مالك ، وأبي سعيد ، وعنه المقبري ، وابن عجلان ، وابن أبي ذئب ، ومالك. قال النسائي : صيفي روى عنه ابن عجلان ثقة ، ثم قال : صيفي مولى أفلح ليس به بأس. قال الحافظ ابن الذهبي : يظهر لي أنهما اثنان كبير عن أبي اليسر ، وصغير عن أبي السائب مولى هشام. ينظر : الخلاصة ، ١ / ٤٧٣.

(٢) أبو السائب المدني مولى هشام بن زهرة ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، وعنه العلاء بن عبد الرحمن ، والزهري. وثقة ابن حبان. ينظر : الخلاصة : ٣ / ٢١٨.

(٣) سعد بن مالك بن سنان بنونين ، ابن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن خدرة بضم المعجمة الخدري أبو سعيد ، بايع تحت الشجرة ، وشهد ما بعد أحد ، وكان من علماء الصحابة ، له ألف ومائة حديث وسبعون حديثا ، اتفقا على ثلاثة وأربعين ، وانفرد البخاري بستة وعشرين ، ومسلم باثنين وخمسين ، وعنه طارق بن شهاب ، وابن المسيب ، والشعبي ، ونافع ، وخلق. قال الواقدي : مات سنة أربع وسبعين.

تنظر ترجمته في تهذيب الكمال : ١ / ٤٧٣ ، وتهذيب التهذيب : ٣ / ٤٧٩ ، وتقريب التهذيب : ١ / ٢٨٩ ، وخلاصة تهذيب الكمال : ١ / ٣٧١ ، والكاشف : ١ / ٣٥٣ ، وتاريخ البخاري الكبير : ٤ / ٤٤ ، وتاريخ البخاري الصغير : ١ / ١٠٣ ، ١٣٥ ، ١٣٩ ، ١٦١ ، ١٦٧ ، وتجريد أسماء الصحابة : ١ / ٢١٨ ، والاستيعاب : ٢ / ٦٠٢ ، والحلية : ١ / ٣٦٩.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه مسلم في الصحيح : (٤ / ١٧٥٦) كتاب «السلام» : (٣٩) باب «قتل الحيات وغيرها» (٣٧) حديث رقم (١٣٩ / ٢٢٣٦) ومالك في الموطأ : (٩٧٧) ، وذكره المنذري في الترغيب : ٣ / ٣٢٦.

١١٣

وروى في «الموطّأ» ، عن يحيى بن سعيد (١) ، قال : لما أسري برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى عفريتا من الجنّ يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رآه ، فقال جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ألا أعلّمك كلمات إذا قلتهنّ طفئت شعلته ، قل : «أعوذ بوجه الله الكريم ، وبكلماته التّامّات اللاتي ذرأ في الأرض لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر ، من شرّ ما ينزل من السّماء ، ومن شرّ ما يعرج فيها ، ومن شرّ ما نزل إلى الأرض ، وشرّ ما يخرج منها ، ومن شرّ فتن اللّيل والنّهار ، ومن شرّ طوارق اللّيل والنّهار ، إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» (٢).

وروى مالك ـ أيضا ـ في «الموطأ» أنّ كعب الأحبار (٣) كان يقول : أعوذ بوجه الله العظيم ، الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر ، وبأسمائه كلّها ما قد علمت منها ، وما لم أعلم ، من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ (٤).

وروى مالك أيضا في الموطّأ ، أنّ خالد بن الوليد (٥) قال : يا رسول الله ، إنّي [أروّع](٦) في منامي ، فقال : قل : «أعوذ بكلمات الله التّامّات من غضبه ، وعقابه ، وشرّ

__________________

(١) يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري النجاري ، قاضي المدينة ، عن أنس ، وابن المسيب ، والقاسم ، وعراك بن مالك ، وخلق ، وعنه الزهري ، والأوزاعي ، ومالك ، والسفيانان ، والحمادان ، والجريران ، وأمم. قال ابن المديني : له نحو ثلثمائة حديث. وقال ابن سعد : ثقة حجة كثير الحديث. وقال أبو حاتم : يوازي الزهري في الكثرة ، وقال أحمد : يحيى بن سعيد أثبت الناس.

قال القطان : مات سنة ثلاث وأربعين ومائة.

ينظر الخلاصة : ٣ / ١٤٩ ، والجرح والتعديل : ٩ / ٦٢٠ ، وتاريخ الإسلام : ٦ / ١٤٩ ، وتاريخ بغداد ١٤ / ١٠١ ، وتاريخ الثقات : ٤٧٢ ، والأنساب : ١٠ / ٢٦٦ ، ١٣ / ٣٦.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٩٥١ ، ٩٥٢.

(٣) كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري ، أبو إسحاق : تابعي ، كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود من اليمن ، وأسلم في زمن أبي بكر ، وقدم المدينة في دولة عمر ، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم كثيرا من أخبار الأمم الغابرة ، وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة ، وخرج إلى الشام ، فسكن «حمص» ، وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين سنة ٣٢ ه‍.

انظر : تذكرة الحفاظ : ١ : ٤٩ ، وحلية الأولياء : ٥ / ٣٦٤ ، والإصابة : ت ٧٤٩٨ ، والنجوم الزاهرة : ١ / ٩٠ ، والأعلام : ٥ / ٢٢٨.

(٤) أخرجه مالك في الموطأ : ٢ / ٩٥١ ، ٩٥٢.

(٥) خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي ، أبو سليمان : سيف الله ـ تعالى ـ ، أسلم في صفر سنة ١١ ه‍ ، وشهد غزوة مؤتة ، وكان الفتح على يديه ، له ثمانية عشر حديثا ، عمل على اليمن في أيّامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وولي قتال أهل الرّدّة ، وافتتح طائفة من العراق ، مات سنة ٢١ ه‍.

ب «حمص» ، وقيل ب «المدينة».

ينظر الخلاصة : ١ / ٢٨٥ (١٨٠٩) ، والإصابة : ٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٦ ، وأسد الغابة : ٢ / ١٠٩ ـ ١١٢ ، والاستيعاب : ٢ / ٤٢٧ ـ ٤٣١.

(٦) في ب : أفزع.

١١٤

عباده ، ومن همزات الشّياطين ، وأن يحضرون» (١).

وخبر خروج النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة الجنّ ، وقراءته عليهم ، ودعوته إيّاهم إلى الإسلام.

وروى القاضي أبو بكر في «الهداية» أنّ عيسى عليه الصلاة والسلام دعا ربّه أن يريه موضع الشّيطان من بني آدم ، فأراه ذلك ، فإذا رأسه [مثل رأس الحية ، واضع رأسه](٢) على قلبه ، فإذا ذكر الله تعالى ، [خنس](٣) ؛ وإذا لم يذكره ، وضع رأسه على حبّة قلبه.

وقال ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «إنّ الشّيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدّم».

وقال : «وما منكم من أحد إلا وله شيطان» قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إلّا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم» (٤) والأحاديث كثيرة.

فصل في قدرة الجنّ على النّفوذ خلال البشر

المشهور أنّ الجنّ لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر ، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك.

أما حجّة المثبتين فوجوه :

الأوّل : أنّه إن كان الجنّ عبارة عن موجود ليس بجسم ، ولا جسماني ، فحينئذ يكون معنى كونه قادرا على النفوذ في باطنه ؛ أنّه يقدر على التصرّف في باطنه ، وذلك غير مستبعد.

وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفّاذ كما وصفناه ، كان نفاذه في باطن بني آدم ـ أيضا ـ غير ممتنع قياسا عل النفس وغيره.

الثّاني : قوله تعالى : (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥].

الثالث : قوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «إنّ الشّيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدّم».

وأما المنكرون ، فاحتجّوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنن : (٢ / ٤٠٥) كتاب «الطب» باب «كيف الرقى» حديث رقم (٣٨٩٣) ، والترمذي في السنن : حديث رقم (٣٥٢٨) ، وأحمد في المسند : (٦ / ٦) وعبد الرزاق في مصنفه : حديث رقم (١٩٨٣١) والحاكم في المستدرك (١ / ٥٤٨).

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : حبس.

(٤) أخرجه مسلم في صفات المنافقين : (٢٨١٤) باب «تحريش الشيطان» ، وأحمد : (١ / ٣٨٥) ، وأبو يعلى : (٩ / ٧٧) (٥١٤٣) عن ابن مسعود ، وأخرجه ابن حبان : (٢١٠١ ـ موارد) ، والبزار : (٣ / ١٤٦) رقم (٢٤٣٩) ، والطبراني : (٨ / ٣٠٩) عن شريك بن طارق مرفوعا ، والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» : (٨ / ٢٢٥) وقال : رواه الطبراني والبزار ، ورجال البزار رجال الصحيح.

١١٥

إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] صرّح بأنّه ما كان له على البشر سلطان ، إلّا من الوجه الواحد ، وهو : إلقاء الوسوسة ، والدعوة إلى الباطل.

وأيضا : فلا شكّ أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ والعلماء ، والمحققين ـ يدعون النّاس إلى لعن الشّياطين ، والبراءة منهم ، فوجب أن تكون العداوة بين الشّياطين وبينهم ، أعظم أنواع العداوة ، فلو كانوا قادرين على النفوذ في البواطن ، وعلى إيصال البلاء ، والشّرّ إليهم ، وجب أن يكون تضرّر (١) الأنبياء ، والعلماء ، منهم أشدّ من تضرّر كلّ واحد ، ولمّا لم يكن كذلك ، علمنا أنّه باطل.

فصل في تنزه الملائكة عن شهوتي البطن والفرج

اتفقوا على أنّ الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ؛ (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠]

وأمّا الجنّ والشياطين ، فإنّهم يأكلون ويشربون ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الرّوث والعظم : إنّه زاد إخوانكم من الجنّ.

وأيضا : فإنّهم يتوالدون ؛ قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠].

فصل في اشتقاق البسملة

البسملة : مصدر «بسمل» ، أي : قال : «بسم الله» ، نحو : «حوقل ، وهيلل ، وحمدل ، وحيعل» ، أي قال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، ولا إله إلّا الله ، والحمد لله ، وحيّ على الصّلاة ومثله «الحسبلة» وهي قوله : «حسبنا الله» ، و «السّبحلة» وهي قول : «سبحان الله» و «الجعفلة» (٢) : قول «جعلت فداك» ، و «الطّلبقة والدّمعزة» حكاية قولك : «أطال الله تعالى بقاءك ، وأدام عزّك».

وهذا شبيه بباب النّحت في النسب ، أي أنهم يأخذون اسمين ، فينحتون منهما لفظا واحدا ؛ فينسبون إليه ؛ كقولهم : «حضرميّ ، وعبقسيّ ، وعبشميّ» نسبة إلى «حضر موت ، وعبد قيس (٣) وعبد شمس» ؛ قال الشاعر (٤) : [الطويل]

٦ ـ وتضحك منّي شيخة عبشميّة

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا (٥)

__________________

(١) في ب : ضرر.

(٢) في أ : الجعلفة وهي.

(٣) في ب : القيس.

(٤) في ب : القائل.

(٥) البيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي : ينظر خزانة الأدب : ٢ / ١٩٦ ، ٢٠٢ ، ولسان العرب : (هذذ) ، (قدر) ، (شمس) ، والأغاني : ١٦ / ٢٥٨ ، وسر صناعة الإعراب : ١ / ٧٦ ، وشرح اختيارات المفضل :

١١٦

وهو غير مقيس ، فلا جرم أنّ بعضهم قال في : «بسمل ، وهيلل» : إنّهما لغة مولّدة.

قال الماوردي (١) رحمه‌الله تعالى : يقال لمن قال : «بسم الله» : «مبسمل» وهي لغة مولّدة ؛ وقد جاءت في الشعر ؛ قال عمر بن أبي ربيعة (٢) : [الطويل]

٧ ـ لقد بسملت ليلى غداة لقيتها

فيا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل (٣)

وغيره من أهل اللّغة نقلها ، ولم يقل إنّها مولّدة ك «ثعلب» (٤) و «المطرّزيّ» (٥).

__________________

ـ ١ / ٧٦ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٤١٤ ، وشرح شواهد المغني : ٢ / ٦٧٥ ، ومغني اللبيب : ١ / ٢٧٧ ، وشرح المفصل : ٥ / ٩٧ ، ١٠ / ١٠٧ ، والأشباه والنظائر : ٢ / ١٥ ، والمحتسب : ١ / ٦٩ ، وجمل الزجاجي : (٢٥٧) ، وشرح أشعار الهذليين : ١ / ٩٦ ، والدر المصون : ١ / ٥٠.

(١) علي بن محمد بن حبيب ، القاضي أبو الحسن الماوردي ، البصري ، أحد أئمة أصحاب الوجوه ، تفقه على أبي القاسم الصيمري ، وسمع من أبي حامد الإسفراييني ، قال الخطيب : كان ثقة ، من وجوه الفقهاء الشافعيين. وقال الشيرازي : وله مصنفات كثيرة في الفقه والتفسير وأصول الفقه والأدب ، وكان حافظا للمذهب. ومن تصانيفه : «الحاوي» ؛ قال الإسنوي : ولم يصنف مثله ، «والأحكام السلطانية» والتفسير المعروف ب «النكت والعيون» وغيرها. مات سنة ٤٥٠ ه‍.

انظر : ط. ابن قاضي شهبة : ١ / ٢٣٠ ، وتاريخ بغداد : ٢ / ١٠٢ ، وط. السبكي : ٣ / ٣٠٣.

(٢) عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي القرشي ، أبو الخطاب : أرقى شعراء عصره ، من طبقة جرير والفرزدق ، ولم يكن في قريش أشعر منه ، ولد سنة ٢٣ ه‍ في الليلة التي توفي بها عمر بن الخطاب فسمي باسمه ، وغزا في البحر فاحترقت السفينة به وبمن معه ، فمات فيها غرقا سنة ٩٣ ه‍ ، له ديوان شعر.

ينظر الأعلام : ٥ / ٥٢ ، ووفيات الأعيان : ١ / ٣٥٣ ، وشرح شواهد المغني : ١١.

(٣) ينظر : ديوانه ٤٩٨ ، وأمالي القالي : ٢ / ٣٠٠ ، والهمع : ٢ / ٨٩ ، والدرر اللوامع : ٢ / ١١٦ ، ولسان العرب : (بسمل) ، والنكت والعيون : ١ / ٥٠ ، وسمط اللآلي : ٩٠٩.

(٤) أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار ، الشيباني ولاء ، المعروف ب «ثعلب» ، ولد سنة ٢٠٠ ه‍ ب «بغداد». كان إماما للكوفيين في النحو واللغة ، راوية للشعر ، محدثا مشهورا ، توفي ب «بغداد» سنة ٢٩١ ه‍.

ينظر نزهة الألبا : ٢٩٣ ، وابن خلكان : ١ / ٣٠ ، وتذكرة الحفاظ : ٢ / ٢١٤ ، وطبقات ابن أبي يعلى : ١ / ٨٣ ، وإنباه الرواة : ١ / ١٣٨.

(٥) أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي ، الزاهد المعروف : ب «غلام ثعلب» ، ولد سنة إحدى وستين ومائتين ، وسمع من : موسى بن سهل الوشاء ، وأحمد بن عبيد الله النرسي ، ولازم ثعلبا في العربية فأكثر إلى الغاية ، وهو في عداد الشيوخ في الحديث لا الحفاظ ، وحدّث عنه : أبو الحسن بن رزقويه ، وابن منده ، وأبو عبد الله الحاكم ، والقاضي أبو القاسم بن المنذر.

قال ابن خلكان : استدرك على «الفصيح» لثعلب كراسا ، سماه : «فائت الفصيح» ، وله : كتاب «الياقوتة» ، وكتاب «الموضح» ، وكتاب «الساعات» ، وكتاب «يوم وليلة» ، وكتاب «المستحسن» ، وكتاب «الشورى».

قال الخطيب : سمعت عبد الواحد برهان يقول : لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن كلاما من كلام أبي عمر الزاهد ، وله كتاب «غريب الحديث» ألفه على مسند أحمد بن حنبل. مات أبو عمر في ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. ينظر : سير أعلام النبلاء : ١٥ / ٥٠٨ ، وتاريخ بغداد ٢ / ٣٥٦ ـ ٣٥٩ ، والمنتظم : ٦ / ٣٨٠ ـ ٣٨٢ ، ومعجم الأدباء : ١٨ / ٢٢٦ ـ ٢٣٤ ، وتذكرة الحفاظ : ٣ / ٨٧٣ ـ ٨٧٦ ، والوافي بالوفيات : ٤ / ٧٢ ـ ٧٣ ، وبغية الوعاة : ٦٩ ـ ٧٠.

١١٧

«بسم الله» : جارّ ومجرور ، والباء متعلّق بمضمر ، فنقول : هذا المضمر يحتمل أن يكون اسما ، وأن يكون فعلا ، وعلى التقديرين ؛ فيجوز أن يكون متقدما ومتأخرا ، فهذه أقسام أربعة.

أما إذا كان متقدما ، وكان فعلا ؛ فكقولك : أبدأ ببسم الله.

وإن كان متقدما ، وكان اسما ؛ فكقولك : ابتدائي ببسم الله.

وإن كان متأخرا ، وكان فعلا ؛ فكقولك : بسم الله أبدأ.

وإن كان متأخرا ، وكان اسما ؛ فكقولك : بسم الله ابتدائي.

وأيّهما أولى التقديم أم التأخير؟

قال ابن الخطيب : كلاهما ورد في القرآن الكريم ، أما التقديم ، فكقوله (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] وأما التأخير ؛ فكقوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] وأقول : التقديم أولى ؛ لأنه ـ تعالى ـ قديم واجب الوجود لذاته ، فيكون وجوده سابقا على وجود غيره ، لأن السّبق بالذات يستحقّ السّبق في الذكر ؛ قال تبارك وتعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد : ٣] وقال تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم : ٤] ، وقال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

قال أبو بكر الرّازيّ (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ إضمار الفعل أولى من إضمار الاسم ؛ لأنّ نسق تلاوة القرآن يدلّ على أن المضمر هو الفعل ، وهو الأمر ، لأنه ـ تبارك وتعالى ـ قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فكذا قوله تعالى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) التقدير : قولوا : بسم الله.

__________________

(١) أحمد بن علي ، المكنى بأبي بكر الرازي الحنفي ، الملقب بالجصّاص ـ بفتح الجيم وتشديد الصاد المهملة ، في آخره صاد أخرى ـ نسبة إلى العمل بالجص ـ ، والرازي ـ نسبة إلى الريّ. على غير قياس.

ولد الجصاص سنة خمس وثلاثمائة ، ودخل بغداد في شبيبته ، درس الفقه على أبي الحسن الكرخي ، وتخرج عليه وانتفع بعلمه ، كما تفقه على أبي سهل الزجاج ، وأبي سعيد البردعي ، وموسى بن نصر الرازي.

وأخذ الحديث عن أبي العباس الأصم النيسابوري ، وعبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني ، وسليمان بن أحمد الطبراني ، وعبد الباقي بن قانع وأكثر عنه من الرواية في كتابه «أحكام القرآن».

له من التصانيف : «أصول الجصاص» ـ وهو كتاب يشتمل على ما يحتاج إليه المستنبط للأحكام من القرآن الكريم وقد جعله مقدمة لكتابه : أحكام القرآن ، وكتاب «أحكام القرآن» ، و «شرح مختصر الكرخي» في الفقه ، و «شرح مختصر الطحاوي». و «شرح الجامع الصغير والكبير».

توفي في يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة ، عن خمس وستين سنة ، وصلى عليه صاحبه ، أبو بكر الخوارزمي. ينظر : طبقات الأصوليين : ١ / ٢١٤ ، ٢١٥ ، ٢١٦.

١١٨

وأقول : لقائل أن يقول : بل إضمار الاسم أولى ؛ لأنا إذا قلنا : تقدير الكلام : بسم الله ابتداء كلّ شيء ، كان هذا إخبارا عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث ، ومخالفا لجميع الكائنات ، سواء قاله قائل ، أو لم يقله ، ولا شكّ أنّ هذا الاحتمال أولى ، وتمام الكلام يأتي في بيان أنّ الأولى أن يقال : الحمد لله وسيأتي لذلك زيادة بيان في الكلام في الاسم إن شاء الله تعالى.

فصل فيما يحصل به الجر

الجرّ يحصل بشيئين :

أحدهما بالحرف ؛ كما في قوله تعالى : «بسم الله».

والثّاني : بالإضافة ؛ كما في قوله تعالى : «الله» من قوله «بسم الله».

وأمّا الجرّ الحاصل في لفظة «الرّحمن الرّحيم» فإنّما حصل ، لكون الوصف ثابتا للموصوف في الإعراب ، فها هنا أبحاث :

أحدها : أنّ حروف الجرّ لم اقتضت الجرّ؟

وثانيها : أنّ الإضافة لم اقتضت الجرّ؟

وثالثها : أنّ اقتضاء الحروف أقوى ، أم اقتضاء الإضافة؟

ورابعها : أنّ الإضافة بين الجزء والكلّ ، أو بين الشيء الخارج عن ذات الشّيء المنفصل؟

قال مكّي (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : كسرت الباء من «بسم الله» ؛ لتكون حركتها مشبهة لعملها ؛ وقيل : كسرت ليفرق بين ما يخفض ، ولا يكون إلّا حرفا ؛ نحو : الباء ، واللّام ، وبين ما يخفض ، وقد يكون اسما نحو : الكاف.

وإنما عملت الباء وأخواتها الخفض ؛ لأنّها لا معنى لها إلّا في الأسماء ، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلّا في الأسماء ، وهو الخفض ، وكذلك الحروف التي تجزم الأفعال ، إنما عملت الجزم ؛ لأنها لا معنى لها إلّا في الأفعال ، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلّا في الأفعال ، وهو الجزم.

والباء ـ هنا ـ للاستعانة ؛ ك «عملت بالقدوم» ؛ لأنّ المعنى : أقرأ مستعينا بالله ، ولها معان أخر تقدم الوعد بذكرها وهي :

__________________

(١) مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار الأندلسي القيسي أبو محمد : مقرىء ولد ٣٥٥ ه‍ ، عالم بالتفسير والعربية ، من أهل القيروان ، له كتب كثيرة منها : «مشكل إعراب القرآن» ، الموجز ، الإيجاز ، الهداية إلى بلوغ النهاية ، المنتقى ، الإبانة وغيرها. توفي ٤٣٧ ه‍.

ينظر معالم : ٣ / ٢١٣ ، وبغية : ٣٩٦ ، ووفيات : ٢ / ١٢٠ ، ونزهة الألبا : ٤٢١ ، والأعلام : ٧ / ٢٨٦.

١١٩

الإلصاق : حقيقة أو مجازا نحو : مسحت برأسي ، «مررت بزيد».

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : فرّع أصحاب أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ على «باء» الإلصاق مسائل :

إحداها : قال محمّد ـ رحمه‌الله تعالى ـ في «الزيادات» : إذا قال لأمرأته : أنت طالق بمشيئة الله ، لا يقع الطلاق ؛ وهو كقوله : أنت طالق إن شاء الله ، ولو قال : لم يشأ الله يقع ؛ لأنه أخرجه مخرج التعليل ، وكذلك أنت طالق بمشيئة (٢) الله تعالى لا يقع الطلاق ، ولو قال أو بإرادة (٣) الله لا يقع ، [ولو قال لإرادة الله يقع](٤) أما إذا قال : أنت طالق بعلم الله ، أو لعلم الله ، فإنّه يقع في الوجهين ، ولا بد من الفرق.

وثانيها : في باب الأيمان لو قال : إن خرجت من هذه الدار إلّا بإذني ، فأنت طالق ، تحتاج في كلّ مرة إلى إذنه ، ولو قال : إن خرجت إلّا أن آذن لك ، فأذن لها مرّة كفى ، ولا بدّ من الفرق.

وثالثها : لو قال : طلّقي نفسك ثلاثا بألف ، فطلقت نفسها واحدة ، وقعت بثلث الألف ، وذلك أنّ الباء تدلّ على البدليّة ، فيوزع البدل على المبدل ، فصار بإزاء كلّ طلقة ثلث الألف ، ولو قال : طلّقي نفسك ثلاثا على ألف ، فطلقت نفسها واحدة ، لم يقع عند أبي حنيفة ؛ لأنّ لفظة «على» كلمة شرط (٥) ولم يوجد الشرط ، وعند صاحبيه يقع واحدة بثلث الألف دلّت وها هنا مسائل متعلّقة بالباء.

قال أبو حنيفة رضي الله عنه : الثّمن إنّما يتميز عن المثمّن بدخول «الباء» عليه ، فإذا قلت : بعت كذا بكذا ، فالذي دخل عليه «الباء» هو الثّمن وعلى هذا تبنى مسألة البيع الفاسد ، فإذا قال بعت هذا الكرباس من الخمر صحّ البيع ، والعقد فاسد.

وإذا قال : بعث هذا الخمر ، فالكرباس لم يصحّ ، وله الفرق في الصورة الأولى : أنّ الخمر ثمن ، وفي الثّانية الخمر مثمّن ، وجعل الخمر مثمنا لا يجوز.

ومنها قال الشّافعيّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ : إذا قال : بعتك هذا الثّوب بهذا الدّرهم تعيّن ذلك الدّرهم.

وعند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ لا يتعيّن.

والسّببيّة : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [النساء : ١٦٠] أي : بسبب ظلمهم.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي : ١ / ٨٧.

(٢) في ب : بإرادة.

(٣) في ب : لإرادة.

(٤) سقط في ب.

(٥) زاد في أ : وهذا بدل الشرط المحذوف إلى شرط.

١٢٠