إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل - ج ١

السيّد نور الله الحسيني المرعشي التستري

أقول : قد مرّ مرارا أنّ الإرادة (١) بمعنى التّقدير لم يجيء في الاستعمال ولم يصطلح عليه سواه أحد من أصحابه ولا غيرهم ممّن يعتدّ به مع عدم جدواه ، وأما ما ذكره من أنّ الإرادة غير الرّضا «إلخ» فقد قلّد فيه صاحب المواقف حيث قال : الرّضا ترك الاعتراض ، والله يريد الكفر للكافر ويعترض عليه ويؤاخذه به ، ويؤيّده أنّ العبد لا يريد الآلام والأمراض وليس مأمورا بإرادتها ، وهو مأمور بترك الاعتراض عليها ، فالرّضا أعني ترك الاعتراض يغاير الإرادة «انتهى» وليس بمرضى ، أما أولا فلأنّا لا نسلم أنّ الرّضا (٢) بمعنى ترك الاعتراض ، بل هو إرادة صادقة لما قضى الله تعالى به لا يشوبه في ذلك تردّد ولا مزاحمة مراد آخر ، كما يشعر به كلام ابن قيم الحنبلي (٣) في شرح منازل السّائرين وغيره في غيره ،

__________________

(١) قال الفاضل المدقق النحرير نصير الدين الحلي «ره» في شرحه للطوالع : اعلم ان الإرادة عند الأشعري موافقة للعلم على معنى ان كل ما علم الله تعالى وقوعه فهو مراد الوقوع وكل ما علم الله تعالى عدمه فهو مراد العدم ، وعند المعتزلة الإرادة موافقة الأمر اى كل مأمور به مراد وكل منهى عنه مكروه.

(٢) قال شارح الفصول النصيرية هو الوقوف عند إرادة الحق بان لا يريد غيره وهو على درجات ثلث. إلخ.

(٣) هو شمس الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب الدمشقي الحنبلي المشهور بابن قيم الجوزية من مشاهير علماء القوم وتلميذ ابن تيمية الخصيص به والتابع له في مقالاته المنكرة كالتجسم وجواز الرؤية وانكار شفاعة الأنبياء والرسل والمقربين واسناد الشرك الى اهل القبلة لذلك وتحريم زيارة القبور والتفصيل في ما لا نص فيه والتفصيل في الشبهات التحريمية من غير وجه فيهما الى غير ذلك من المناكير التي لأجلها كفر علماء الإسلام من الخاصة والعامة شيخه ابن تيمية كما اثبت ذلك استأذنا آية الله أبو محمد السيد حسن صدر الدين الكاظميني في رسالة مفردة ، توفى ابن القيم في سنة ٧٥١ وله

٣٠١

__________________

تآليف مشحونة أكثرها بالتعصب لشيخه ، منها اخبار النساء وكتاب زاد المعاد في هدى خير العباد وحادي الأرواح واغاثة اللهفان الى غير ذلك ومن تأمل في كتبه وكتب شيخه رأى انهما لم يتأملا حق التأمل في آيات الكتاب العزيز والاخبار النبوية بل قصروا النظر في عدة آيات عامة أو مطلقة أو متشابهة ، وغفلوا أو تغافلوا ترويجا لمتاعهم الكاسد عن المخصصات والمقيدات ، وما دروا الفرق بين المقامات وما يسوغ للمسلم وما لا يسوغ ولله در الاعلام من المسلمين حيث انهوا التحقيق في الرد عليهما في كتبهم كالسبكى في شفاء السقام وغيره من القوم ، وسيدنا الآية الامين في كتاب الرد على ابن عبد الوهاب وسيدنا الآية المهدى القزويني في الرد على منهاج السنة وغيرهما في غيرهما شكر الله مساعيهم الجميلة وهنأهم بالكأس الأوفى ، ثم خمدت نار ابن تيمية التي أو قدها في بلاد الإسلام سيما في مصر والشام سنين الى ان قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي اليه تنتسب الوهابية في عصرنا ومقدمها غائلة عبد العزيز بن سعود المالكة لبلاد الحجاز فجدد المصيبة وحث تابعيه آل السعود وبعض قبائل نجد سكنة بلاد مسيلمة المتنبي الشهير ورغبهم الى الفتك باهل الحرمين الشريفين ثم مشاهد العراق ففعلوا ما فعلوا من قتل النفوس حتى الصبيان الرضع والشيوخ الركع والشبان الخشع والبهائم الرتع وكسروا صندوق قبر النبي الأكرم وأخذوا القناديل التي كانت عليه وكذا فعلوا في بلدة كربلاء المشرفة في حرم مولانا الحسين ريحانة الرسول وبلغ عدد القتلى في تلك البلدة الشريفة ستين ألف على ما ذكره بعض المؤرخين ، ورأيت مكتوبا من العلامة الأسترآبادي الحائرى الى العلامة السيد محمد سلطان العلماء الهندي مرجع الشيعة في لكهنو يذكر فيه أفاعيل هؤلاء الأشقياء الكفرة بإجماع المسلمين في كربلاء ومن نظر في ذلك الكتاب كاد قلبه ان يذوب وكبده ان يحترق من فجائع الطغام ولله در الخديو ملك بلاد مصر حيث استأصلهم وأبادهم ، ولكن الأسف كل الأسف ان السياسة الاجنبية التي أحاطت بنا من كل جانب وتداخلت في كل شئوننا أيدت الوهابية وأعطاها السلطة على المشاعر المكرمة والكعبة المعظمة التي تهوى إليها الافئدة من كل فج عميق ولكل مسلم في العالم حق هناك ، فهدموا قبور أئمة المسلمين وأمهات المؤمنين والصحابة والأنصار والمهاجرين والعلماء

٣٠٢

وأما ثانيا فلأنّ تفسير الرّضا بترك الاعتراض اصطلاح منهم لا معنى لغويّا له ، ومن البيّن أنّ القرآن لا يترك باصطلاح حادث منهم ، فانّ الرّضا على ما تقتضيه لغة القرآن مستلزم للارادة أو إرادة مخصوصة ، على أنّ إرادة الكفر من شخص والاعتراض عليه قبيح بحسب العقل ، فلا يصح إسناده إليه تعالى ، وأيضا ذلك التّفسير غير مانع ، إذ يدخل فيه ترك الاعتراض النّاشي من الخوف ، فانّ ذلك لا يسمّى رضاء ، ولو سلّم فلا يدلّ هذا التّفسير على مغايرته للإرادة ، غاية الأمر أن يكون نوعا من الإرادة كما أنّ العزم يكون نوعا منها ، فانّ الإرادة قد تكون مع سبق تردّد وقد تكون بدون سبقه. واما ثالثا فلأنّا لا نسلّم أنّه تعالى يريد الكفر من الكافر ولهذا يعترض عليه ، لا لأنّه يريده ولا يرضاه (١) كما زعمه ، واما رابعا فلأنّا لا نسلّم أنّ الرّضاء مأمور به ولم يجيء الأمر به ، وإنما جاء الثّناء على أصحابه ومدحهم ، نعم جاء الأمر بالصّبر وهو غير الرّضا ، نقل ابن القيم عن القاضي ابى يعلى (٢)

__________________

والتابعين ، وافتى بذلك قاضيهم ابن بليهد ومن يحذو حذوه من المنهمكين المتفانين في الملق لملكهم جلبا لحطام الدنيا الدنية ، ومن الأسف انهم لا يعطون الحرية في التبليغ والإرشاد حتى يتبين لهم انهم خبطوا عشواء وأبصروا بعين حولاء عوراء حيث أجازوا التجسم والرؤية ومنعوا عن زيارة قبور المقربين والاستشفاع بهم ونسبة الشرك الى من فعل ذلك وما أنسب ان يقال : من اعطى العقل فما لم يعط ومن لم يعط العقل فما اعطى آنرا كه عقل داده اى پس چه نداده اى وآنرا كه عقل نداده اى پس چه بداده اى عصمنا الله تعالى من هذه الهفوات والترهات.

(١) لأنه لا يريد الكفر من الكافر يعترض عليه لا لأنه إلخ. منه «قده».

(٢) في بعض النسخ القاضي ابو على ، وعليه قد مرت ترجمته ، وفي النسخ المصححة الأخر القاضي ابو يعلى ، وعليه فهو القاضي ابو يعلى احمد بن على التميمي المحدث الموصلي صاحب المسند المتوفى سنة ٣٠٧ كما في تذكرة النوادر (ص ٣٩) وغيرها وكان حافظا مسندا بصيرا خبيرا.

٣٠٣

والباقلاني ومن وافقهما أنّهم قالوا : لم يقم دليل من الكتاب والسّنة على جواز الرّضا بكلّ قضاء فضلا عن وجوبه واستحبابه ، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكلّ ما قضاه وقدّره؟ وأمّا ما يروى من الأثر : من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي (١) فقد قال ابن القيم ، إنّه أثر إسرائيلي ليس يصح عن نبيّنا ، وأيضا فقد ذهب بعضهم إلى أنّه من جملة الأحوال التي ليست بمكتسبة وأنّه موهبة محضة ، فكيف يؤمن به وليس مقدورا؟ ولو سلّم بناء على عدم ملائمته ظاهرا لمدح الله تعالى على أهله والثّناء عليهم ، فنقول ، عدم اتّحاد الرّضا والإرادة ينافي قول الأشعريّ وقدماء أصحابه على ما نقله ابن القيم وابن همام (٢) في المسايرة حيث قال : إنّ هؤلاء يقولون : إنّ كلّ ما شاءه وقضاه فقد أحبّه ورضيه ، وبالجملة لا معنى لإرادة الله تعالى أمرا لا يرضاه ولا يحبّه وكيف لا (خ ل يشاء ويكرهه) يشاء ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ كما هو حاصل كلام القوم ،

__________________

(١) رواه في الجواهر السنية في الباب السابع فيما ورد في شأن موسى عليه‌السلام (ص ٦٦ ط بمبئي) وذكره ابن قيم في شأن يعقوب عليه‌السلام. ورواه في كنز العمال (ج ١ ص ٩٣ ط حيدرآباد) وفي الاتحافات السنية (ص ٣ ط حيدرآباد) الا انه زاد في الجواهر فقرة : ولم يشكر نعمائي.

(٢) قال ابن همام وقال امام الحرمين : ان من حقق لم يكع عن القول بان المعاصي لمحبته ونقله بعضهم عن الأشعري لتقاربها لغة ، فان من أراد شيئا أو شاء فقد رضيه وأحبه انتهى. منه «قده».

أقول ابن همام هو الشيخ كمال الدين محمد بن عبد الواحد الإسكندري الحنفي المتوفى سنة ٨٦١ له تصانيف منها كتاب التحرير في اصول الفقه ، والمسايرة في الكلام ، وفتح القدير في الفقه الحنفي.

٣٠٤

ولقد ظهر بما نقلناه : أنّ الفرق بين الإرادة والرّضا ممّا تفرد به المتأخّرون من منتحلي (١) مذهب الأشاعرة كصاحب المواقف وأقرانه دون المتقدّمين عليهم وكلام المصنّف مع المتقدمين فافهم.

قال المصنّف رفع الله درجته

وقالت الإماميّة : قد أراد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الطاعات ما أراده الله تعالى ، وكره من المعاصي ما كرهه الله تعالى ، وقالت الأشاعرة : بل أراد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرا ممّا كرهه الله تعالي وكره كثيرا ممّا أراده الله تعالى «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : غرضه من هذا الكلام كما سيأتي أنّ الله تعالى يريد كفر الكافر ، والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد ايمانه وطاعته ، فوقعت المخالفة بين الإرادتين وإذا لم يكن احد منهما مريدا لشيء يكون كارها له ، هكذا زعم ، وقد علمت أنّ معنى الإرادة من الله هاهنا هو التّقدير ومعنى الإرادة من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ميله إلى ايمانهم ورضاه به والرّضا والميل غير الإرادة بمعنى التّقدير ، فالله يريد كفر الكافر بمعنى أنّه يقدّر له في الأزل ، هكذا ، والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يريد كفره ، بمعنى أنّه لا يرضى به ولا يستحسنه ، فهذا جمع بين إرادة الله وعدم إرادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا محذور فيه ، نعم لو رضى الله بشيء ولم يرض رسوله بذلك الشّيء وسخطه كان ذلك محذورا وليس هذا مذهبا لأحد «انتهى».

أقول : قد مرّ مرارا أنّ إرادة التّقدير من الإرادة مخالف لإجماع القوم ، وليس إلّا من مخترعاته التي لم يجد محيصا عن الإشكال إلّا بها ، وبيّنا أنّه مع

__________________

(١) تعريض بان المتأخرين منهم انتحلوا الى الأشعري وليسوا منهم.

٣٠٥

ذلك لا يجديه نفعا فتذكر.

قال المصنّف رفع الله درجته

وقالت الإماميّة : قد أراد الله تعالى من الطاعات ما أراده أنبياؤه ، وكره من المعاصي ما كرهوه ، وأراد ما كره الشّياطين من الطاعات ، وكره ما أرادوه من الفواحش ، وقالت الأشاعرة : بل قد أراد الله ما أرادته الشّياطين من الفواحش ، وكره ما كرهوه من كثير من الطاعات ، ولم يرد ما أرادته الأنبياء من كثير من الطاعات ، بل كره ما أرادته منها «انتهى»

قال النّاصب خفضه الله

أقول : هذا يرجع إلى معنى الإرادة التي ذكرناها في الفصل السّابق ، وهذا الرّجل لم يفرق بين الإرادة والرّضا وجلّ تشنيعاته ناش من عدم هذا الفرق ، وأمّا قوله : كره الله ما كره الشّياطين من الطاعات فهذا افتراء على الأشاعرة «انتهى».

أقول : قد مرّ أنّ معنى الإرادة التي ذكره لا معنى له ولا جدوى له في دفع الإشكال والإلزام ، وأنّ الفرق بين الإرادة والرّضا ليس بمرضيّ ، فتشنيع المصنّف قدس‌سره على الأشاعرة (١) واقع في موقعه ، وأما ما ذكره : من أنّ القول : بأنّ الله تعالى يكره ما كره الشّياطين افتراء على الأشاعرة ، فليس كما زعمه ، لأنهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكن يلزمهم القول به من قولهم : بعدم وجوب شيء على الله تعالى لزوما لا سترة فيه ، وأيضا قد سبق في الفصل السّابق من النّاصب في تقرير كلام المصنّف : أنّ الله تعالى يريد كفر الكافر على مذهب الأشاعرة والنبيّ

__________________

(١) يعنى ان الاشاعرة لا يثبتون الكراهة له تعالى بالنسبة الى شيء وانما يثبتون الكراهة لما لا يكون. منه «قده».

٣٠٦

يريد ايمانه وطاعته ، فوقع المخالفة بين الإرادتين ، وإذا لم يكن أحد منهما مريدا له يكون كارها له «انتهى» فنقول : إذا لزم من ذلك كراهة الله تعالى لما أراده النبيّ من الايمان والطاعة ، ومن البيّن أنّ الشيطان قد كره ذلك ، فيلزم أن يكره الله تعالى ما يكرهه الشّيطان كما ذكره المصنّف قدس‌سره.

قال المصنّف رفع الله درجته

قالت الإماميّة : قد أمر الله عزوجل بما أراده ونهى عمّا كرهه ، وقالت الأشاعرة : قد أمر الله بكثير ممّا كره ونهى عمّا أراد.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : قد عرفت فيما سلف أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء ولا قبيح بالنسبة إليه ، فله أن يأمر بما شاء وينهى عمّا يشاء ، فأخذ المخالفون من هذا أنّه يلزم على هذا التّقدير أن يأمر بما يكرهه وينهى عمّا يريده ، وقد عرفت جوابه : أنّ المراد بهذا عدم وجوب شيء عليه ، وهذا التّجويز لنفى الوجوب ، وإن لم يقع شيء من الأمور المذكورة في الوجود فالأمر بالمكروه والنّهى عن المراد جائز ، ولا يكون واقعا ، فهو محال عادة ، وإن جاز عقلا بالنّسبة إليه كما مرّ غير مرّة. وسيجيء تفاصيل هذه الأجوبة عند مقالاته فيما سيأتي «انتهى»

أقول :العادة لا تمنع الوقوع ، وقد ذكرنا سابقا أنّ جريانها ليس بواجب على الله تعالى عندهم ، وإلّا لزمهم الوقوع فيما هربوا عنه كما لا يخفى.

قال المصنّف رفع الله درجته

فهذه خلاصة أقاويل الفريقين في عدل الله عزوجل وقول الإماميّة في التّوحيد يضاهي قولهم في العدل فانّهم يقولون : إنّ الله تعالى واحد لا قديم سواه ولا إله غيره

٣٠٧

ولا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه ما يصحّ عليها من التّحرك والسّكون ، وأنّه لم يزل ولا يزال حيّا قادرا عالما مدركا لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها ويقدر ويحيى وأنّه لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم ولم يكن آمرا ولا ناهيا قبل خلقه لهم ، وقالت المشبّهة (١) إنّه يشبه خلقه ووصفوه بالأعضاء والجوارح وأنّه لم يزل آمرا وناهيا

__________________

(١) المشبهة. قال أبو منصور البغدادي المتوفى سنة ٤٢٩ في كتاب الفرق بين الفرق ص ١٣٧ طبع مصر في الفصل الثامن : ان المشبهة صنفان صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره ، وصنف آخر شبهوا صفاته بصفات غيره ، وكل من هذين الصنفين مفترقون الى اصناف شتى الى آخر ما قال ، ويظهر من مجموع كلماته ان من المشبهة من زعم ان الخالق من النور على صورة انسان في أعضائه وأنه يفنى كله الا وجهه.

ومنهم من زعم انه تعالى ذو أعضاء وأن أعضائه على صور حروف الهجاء وهم اتباع المغيرة ابن سعيد العجلى.

ومنهم الحلمانية أو الحكمانية : أتباع أبى حلمان الدمشقي ، وكان يسجد لكل صورة حسنة لزعم التشبيه.

ومنهم الجواربية اتباع داود الجواربى الذي اثبت جميع الأعضاء له تعالى الا الفرج واللحية.

ومنهم مشبهة الكرامية حيث ذهبوا الى أنه تعالى جسم له حد ونهاية ، وأنه محل للحوادث وأنه مماس لعرشه ، فهؤلاء مشبهة لله بخلقه في ذاته لا في صفاته.

فاما المشبهة لصفاته بصفات المخلوقين فإنها أصناف.

فمنهم من شبه إرادة الباري بارادة خلقه ، وهذا قول معتزلة البصرة حيث زعموا أن الله مريد بارادة حادثة من جنس إرادة البشر.

ومنهم الحدوثية فإنهم ذهبوا الى حدوث تمام صفاته تعالى حتى صفات الذات ، ومال اليه جمع من المعتزلة انتهى ما رمنا نقله من مقالة البغدادي في هذا الباب ملخصا كلامه ناقلا إياه بالمعنى. أقول : ومن المشبهة جماعة من الصوفية في هذه الاعصار من العامة والخاصة حيث شبهوا بعض صفاته تعالى الفعلية بصفات المخلوق ولهم ترهات في هذا

٣٠٨

ولا يزال قبل خلق خلقه ولا يستفيد بذلك شيئا ولا يفيد غيره ولا يزال آمرا وناهيا بعد خراب العالم وبعد الحشر والنّشر دائما بدوام ذاته وهذه المقالة في الأمر والنّهى ودوامهما مقالة الأشعرية أيضا ، وقالت الأشاعرة أيضا : إنّه تعالى قادر عالم حىّ إلى غير ذلك من الصّفات بذوات (١) قديمة ليست هي الله ولا غيره ولا بعضه ولولاها لم يكن قادرا عالما حيّا تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا «انتهى».

قال النّاصب خفضه الله

أقول : أكثر ما في هذا الفصل قد مرّ جوابه فيما سبق من الفصول على أبلغ الوجوه ، بحيث لم يبق للمرتاب ريب وما لم يذكر جوابه من كلام هذا الفصل فيما

__________________

الشأن يقف عليها الناظر في كلماتهم ، وسمعت عن عدة من رؤسائهم ما يقضى منه العجب عصمنا الله من الهفوات والزلل في القول والعقيدة والعمل.

ثم اعلم ان اصحاب الحديث من العامة كالظاهرية وابن حنبل ومالك بن أنس ومقاتل بن سليمان الأزدي وغيرهم أخذوا بظواهر ما ورد في الكتاب والسنة من دون تأويل زعما منهم أنه نهاية الحزم والأخذ بالحائطة في امر الدين حيث ان التأويل ممنوع شرعا مضافا الى انه مظنون والقول بالظن في صفاته تعالى غير جائز لاحتمال ادائه الى غير مراده جل شأنه فيوجب الوقوع في الزلل ، والعجب كل العجب ممن سلك هذا المسلك بعد قيام الدليل القاطع العقلي الخلى من الشوائب والأوهام على امتناع التشبيه في حقه تعالى لا في الذات ولا في الصفات ، لا روحانية ولا جسمانية أعاذنا الله من أشباه هذه المقالات التي أطال السنة اليهود والنصارى على المسلمين حيث لاحظوا أمثال هذه الكلمات وزعموا انها مما اتفق عليها المسلمون ، ولله در فقهائنا حيث عدوا المشبهة على الإطلاق من الفرق المحكومين بكفرهم ونجاستهم والله العاصم الهادي.

(١) التعبير بالذوات في غير محله والأنسب كلمة المعاني بدل لفظة الذوات كما لا يخفى.

٣٠٩

سبق هو ما قال في الأمر والنّهى وأنّ الأشاعرة يقولون بدوامهما ، فالجواب أنّهم لما قالوا بالكلام النّفساني وأنّه صفة لذات الله تعالى فيلزم أن تكون هذه الصّفة أزليّة وأبدية ، والكلام لمّا اشتمل على الأمر والنّهى يكون الأمر والنّهى في الكلام النّفساني أزلا وأبدا ، ولكن لا يلزم أن يكون آمرا وناهيا بالفعل قبل وجود الخطاب والمخاطبين حتّى يلزم السّفه كما سبق ، بل الكلام بحيث لو تعلّق بالخطاب عند التلفظ به يكون المتكلّم به آمرا وناهيا ، وهذا فرع لإثبات الكلام النّفساني فأيّ غرابة في هذا الكلام؟ «انتهى».

أقول : قد سبق دفع أجوبة النّاصب على وجه لا مزيد عليه ، وبحيث لا يتطرق الرّيب إليه ، وأما ما ذكره هاهنا من الجواب وزعم أنّ كلام المصنّف في قوله : وأنّه تعالى لم يزل آمرا وناهيا مبنيّ على ما ذكره الأشاعرة في الكلام النّفساني فباطل ، بل مبنيّ على ما ذكروه في اصول الفقه (١) من جواز الأمر بالمعدوم وعلى تقدير البناء على ما ذكروه في الكلام فنقول : إنّ كلامهم صريح في أنّ الأمر والنّهى (٢) والآمر والنّاهي موجود في الأزل بالفعل ، لكن تعلّق الأمر والنّهى بالمأمور ، والمنهيّ إنما هو عند وجودهما وأهليّتهما للتكليف ، ولو لا ادعاءهم ذلك لما احتاجوا إلى إثبات الكلام النّفساني ، والحكم بثبوته في الأزل ، وكونه مسموعا

__________________

(١) في باب العام والخاص في مسألة شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين والغائبين ، وقد حقق المتأخرون من أصحابنا بما لا مزيد عليه امتناع مشافهة المعدوم وخطابه ، فكيف بتكليفه؟ نعم التزموا بصحة الإنشاء في حق المعدوم بداعي التحسر والتحزن والشوق ونحوها ، والإنشاء خفيف المئونة كما لا يخفى ،

(٢) اى المتصف بوصف الأمر والنهى ووصف كونه ناهيا وإلا فذات الله تعالى بدون هذا الوصف موجود في الأزل منه «قده».

٣١٠

كما نقل عن الأشعري : (١) فان اتّصافه تعالى (٢) بكونه آمرا وناهيا بالقوة حاصل على تقدير عدم إثبات الكلام النّفسي أيضا كما لا يخفى

قال المصنّف رفع الله درجته

قالت الإماميّة : إنّ أنبياء الله تعالى وأئمته منزّهون (٣) عن المعاصي وعمّا لا يستحقّ ، وينفردون بتعظيم أهل البيت عليهم‌السلام الذين أمر الله تعالى بمودّتهم وجعلها أجرا للرّسالة ، فقال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ

__________________

(١) قال ابن همام الحنفي في كتاب المسايرة : هذا قول الأشعري اعنى كون الكلام النفسي مما يسمح ، قاسه على رؤية ما ليس بلون ، فكما عقل رؤية ما ليس بلون ولا جسم ، فليعقل سماع ما ليس بصوت ، واستحال الماتريدي سماع ما ليس بصوت ثم قال : وبعد اتفاق أهل السنة على أنه تعالى متكلم لم يزل متكلما اختلفوا في أنه تعالى هل هو متكلم لم يزل متكلما؟ فعن الأشعري ، نعم. وعن بعض أهل السنة ، ونقله بعض متكلمي الحنفية عن أكثرهم. «انتهى» منه «قده».

(٢) اى كون الأمر والنهى والأمر والناهي بوصف كونه آمرا وناهيا موجودا بالفعل في الأزل.

(٣) هذه مسألة قام فيها الحرب على ساقيه بين الفريقين ، أطبق أصحابنا وأكثر المعتزلة وثلة من الاشاعرة على تنزه الأنبياء عن المعاصي كبيرة كانت أم صغيرة قبل النبوة وبعدها ، وكذا عن كل رذيلة ومنقصة تدل على خسة النفس وتكون لصاحبها وصمة عار ، ولله در أصحابنا شيعة أهل البيت عليهم‌السلام حيث صنفوا في طهارة ذيول السفراء بين الخالق وخلقه وخلفائهم الهادين المهديين كتبا نفيسة ككتاب تنزيه الأنبياء لسيدنا الشريف المرتضى ، وكتاب التنزيه لشيخنا أبى عبد الله المفيد «قدهما» وأقاموا في إثباتها الحجج العقلية والدلائل النقلية ، فمن تعامى عن المراجعة إليها فلا يلومن الا نفسه وما أوضح المحجة وأبين الحجة. (گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست؟)

٣١١

في القربى (١) وقالت أهل السّنة كافّة ، إنّه يجوز عليهم الصّغائر ، وجوّزت الأشاعرة عليهم الكبائر.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : أجمع أهل الملل والشّرائع كلّها على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب فيما دلّ المعجز القاطع على صدقهم فيه ، كدعوى الرّسالة وما يبلّغونه من الله ، وأمّا سائر الذّنوب فأجمعت الامّة على عصمتهم من الكفر ، وجوّز الشّيعة إظهار الكفر تقيّة عند خوف الهلاك ، لأنّ إظهار الإسلام حينئذ إلقاء للنّفس في التّهلكة ، وذلك باطل قطعا ، لأنّه يقضي إلى إخفاء الدّعوة بالكليّة وترك تبليغ الرّسالة ، إذ أولى الأوقات بالتّقية وقت الدعوة للضّعف بسبب قلّة الموافق وكثرة المخالفين ، وأما غير الكفر من الكبائر فمنعه الجمهور من الأشاعرة والمحققين ، وأما الصغائر عمدا فجوّزه الجمهور إلّا الصّغائر الخسيسة ، كسرقة حبّة أو لقمة للزوم المخالفة لمنصب النبوة ، هذا مذهبهم ، فنسبة تجويز الكبائر على الأنبياء إلى الأشاعرة افتراء محض ، وأما ما ذكر من تعظيم أنبياء الله تعالى وأهل بيت النّبوة فهو شعار أهل السّنة ، والتّعظيم ليس عداوة الصّحابة كما زعمه الشّيعة والرّوافض ، بل التّعظيم أداء حقوق عظم قدرهم في المتابعة وذكرهم بالتفخيم واعتقاد قربهم من الله ورسوله ، وهذه خصلة اتّصف بها أهل السّنة والجماعة «انتهى»

أقول : قد مرّ وسيجيء في مسألة النّبوة أنّ أهل السّنة إنّما أوجبوا عصمة الأنبياء عن الكبائر بعد البعثة ، وأجمعوا على جواز صدورها عنهم قبل البعثة قال ابن همام (٢) الحنفي في المسايرة شرط النّبوة الذكورة إلى قوله والعصمة

__________________

(١) الانعام. الآية ٩٠

(٢) قد مرت ترجمته.

٣١٢

من الكفر ، وأمّا من غيره ممّا سنذكره ، فمن موجبات النّبوة متأخّر عنها ثم قال : وجوّز القاضي وقوع الكفر قبل البعثة عقلا قال : وأمّا الوقوع فالذي صحّ عند أهل الأخبار والتّواريخ أنّه لم يبعث من أشرك بالله طرفة عين ، ولا من كان فاسقا فاجرا ظلوما ، وإنّما بعث من كان تقيا زكيّا أمينا مشهور النّسب ، والمرجع في ذلك في قضيّته السّمع ، وموجب العقل التّجويز والتّوبة ، ثمّ إظهار المعجزة يدلّ على صدقهم وطهارة سريرتهم فيجب توقيرهم ويندفع النّفور عنهم ، وخالف بعض أهل الظواهر (١) «انتهى» ، وقال صاحب المواقف في مسألة عصمة النبيّ ما يقرب من كلام ابن همام ، ثمّ قال في مبحث الإمامة عند نفيه لعصمة الفاطمة المعصومة المظلومة عليها‌السلام ، وأيضا عصمة الأنبياء ، وقد تقدّم ما فيه. انتهى فافهم ما فيه ، وأمّا ما نسبه إلى الشيعة من تجويز إظهار الكفر على الأنبياء تقيّة فهو افتراء عليهم ، ولعلّ المعاندين من أهل السّنة توهموا ذلك من استماع إطلاق جواز التّقية ، فنسبوه إليهم ولو فرض صدور ذلك عمّن لا يعبأ من فرق الشّيعة فالإماميّة الذين هم المحقّون المحققون خلفا عن سلف وعلومهم مقتبسة [خ ل عن] من مشكاة النّبوة والولاية ، مبرّؤن عن ذلك ، وتصانيف علمائهم خالية عنه ، وإنّما الذي ذكروه في ذلك أنّ التّقية جائزة ، وربّما وجبت ، وعرّفوها بأنّها إظهار موافقة أهل الخلاف فيما يدينون به خوفا ، وقد استثنوا منها أوّل زمان الدّعوة ، وكذا وطء المنكوحة على خلاف مذهب أهل الحقّ فلا يحلّ باطنا ، وكذا التّصرف في المال المضمون عنه لو اقتضت التّقية أخذه إلى غير ذلك ، وكيف يجوّزون إظهار الكفر على الأنبياء عليهم‌السلام تقيّة مع قولهم بحجيّة العقل واعتنائهم بتتبع أدلته؟! فهم أولى بوجدان الدّليل الذي ذكره النّاصب نقلا عن المواقف في امتناع إظهار الكفر على الأنبياء

__________________

(١) المراد به أبو على محمد بن حزم الأندلسي كما افيد.

٣١٣

عليهم‌السلام ، وسيجيء لهذا المقام مزيد تأييد وتفصيل في مبحث عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام عليه‌السلام ، بل الدّليل المذكور مأخوذ من كتبهم ومصنّفاتهم كما لا يخفى على المتتبّع ، وأما قوله : والتّعظيم ليس عداوة الصّحابة فمردود : بأنّ الاماميّة لا يوجبون عداوة جميع الصّحابة كما يشعر به إطلاق كلامه ، بل الجماعة الذين غصبوا الخلافة عن ذوي القربى من أهل بيت النبيّ صلوات الله عليهم ، ولا ريب في أنّ حقّ تعظيمهم ومحبّتهم يتوقف على عداوة هؤلاء والبراءة عنهم ، إذ لا يمكن الجمع بين ما أمرنا الله تعالى به في محكم كتابه من مودة ذوي القربى وما ثبت من شكايتهم عليهم‌السلام عنهم على ما سيذكره المصنّف في مسألة الامامة ، وقد أشار إليه أيضا الشّيخ العارف الرّباني محيي الدين الأعرابي في فتوحاته المكيّة ، وقد بلغنا أنّ رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا أحبّك وأتوالى عثمان ، فقال له : أمّا الآن فأنت أعور ، فإمّا أن تعمى وإمّا أن تبصر ، ولعمري ما ودّك من توالى ضدّك ، ولا أحبّك من صوّب غاصبك ، ولا أكرمك مكرم من هضمك ، ولا عظمك معظم من ظلمك ، ولا أطاع الله فيك مفضّل أعاديك ، ولا اهتدى إليك مضلّل مواليك ، النّهار فاضح ، والمنار واضح

، ولنعم ما قيل. شعر :

تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني

صديقك إنّ الرّأي عنك لعازب

قال المصنّف رفع الله درجته

فلينظر العاقل من نفسه إلى المقالتين ، ويلمح (١) المذهبين ، وينصف في التّرجيح ، ويعتمد على الدّليل الواضح الصّحيح ، ويترك تقليد الآباء والمشايخ الآخذين بالأهواء وغرتهم (٢) الحياة الدّنيا ، بل ينصح نفسه ولا يعوّل على غيره ،

__________________

(١) لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر الحقيقة والاسم اللمحة. صراح.

(٢) اقتباس من قوله تعالى في سورة الانعام. الآية ٧٠

٣١٤

فلا يقبل عذره غدا في القيامة ـ إني قلّدت شيخي الفلاني ، أو وجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة ـ فانّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة يوم تتبرّأ المتّبعون من أتباعهم ، ويفرّون من أشياعهم ، وقد نصّ الله تعالى (١) على ذلك في كتابه ، ولكن أين الآذان السّامعة ، والقلوب الواعية ، وهل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالتين؟ وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل؟ وأنها أشبه بالدّين؟ وأنّ القائلين بها هم الذين قال الله تعالى فيهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) فالامامية هم الذين قبلوا هداية الله واهتدوا بها ، وهم أولو الألباب ، ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب (٣) شرح أصول دين المسلمين في العدل والتّوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم ، هل كان الاولى أن يقال له حتى يرغب في الإسلام ويتزّين في قلبه : إنّه من ديننا أنّ جميع أفعال الله حكمة وصواب ، وإنا نرضى بقضائه ، وأنه منزّه عن فعل القبائح والفواحش لا يقع منه ، ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيهم ، ولا يقدرون على دفعه عنهم ، ولا يتمكنون من امتثال أمره ، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ، ويخلق فيهم اللّون والطول والقصر ويعذّبهم عليه ، أو يقال : ليس في أفعاله حكمة وصواب ، وأنّه أمر بالسّفه والفاحشة ، ولا نرضى بقضاء الله ، وأنه يعاقب الناس على ما فعله فيهم ، وهل الاولى أن نقول : من ديننا : إنّ الله لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون ، أو نقول : إنّه يكلّف النّاس ما لا يطيقون ، ويعاقبهم ويلومهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟ وهل الاولى أن نقول : إنه يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبّها ولا يرضاها؟ أو نقول : إنّه يحبّ

__________________

(١) كما في قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا). في سورة البقرة.

الآية ١٦٦.

(٢) الزمر. الآية ١٨.

(٣) كما طلب السلطان المؤيد أولجايتو محمد خدا بنده الذي صنف المتن لأجله.

٣١٥

أن يشتم ويسبّ ويعصي بأنواع المعاصي ، ويكره أن يمدح ويطاع ، ويعذّب النّاس لم (لما) كانوا كما أراد ، ولا يكونون كما كره ، وهل الاولى أن نقول : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ولا يجوز عليه ما يجوز عليها؟ أو نقول ، إنّه يشبهها ، وهل الاولى أن نقول : إنّ الله يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته أو نقول : إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلّا بذوات (١) قديمة لولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصّفات؟ وهل الاولى أن نقول : إنّه لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم؟ أو نقول : إنّه لم يزل في القدم ولا يزال بعد إفنائهم طول الأبد ، يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) لا يخلّ بذلك أصلا ، وهل الاولى أن نقول : إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته؟ أو نقول : يرى بالعين إمّا في جهة من الجهات له أعضاء وصورة ، أو يرى (٢) بالعين لا في الجهة ، وهل الاولى أن نقول : إنّ أنبيائه وأئمته منزّهون عن كلّ قبيح وسخيف؟ أو نقول : إنّهم اقترفوا المعاصي المنفرة عنهم؟ وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والرّذالة (٣) كسرقة درهم وكذب فاحش ، ويداومون على ذلك مع أنّهم محلّ وحيه وحفظة (٤) شرعه ، وأنّ النّجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعلية ، فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السّائل عن دين الإسلام إلّا مذهب الاماميّة دون قول غيرهم ، عرفت عظم موقعهم في الإسلام ، وتعلم أيضا زيادة بصيرتهم ، لأنّه ليس في التّوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلّا ومن

__________________

(١) الا نسب تبديل كلمة الذوات بالمعاني.

(٢) إشارة الى اختلاف ابن تيمية من الحنابلة وبعض المشبهة.

(٣) فيه إشارة الى اختلاف روايات أهل السنة في ذلك.

(٤) الحفظة جمع حافظ.

٣١٦

أمير المؤمنين على عليه‌السلام (١) وأولاده عليهم‌السلام أخذ ، وكان جميع العلماء يستندون إليه على ما يأتي ، فكيف لا يجب تعظيم الاماميّة والاعتراف بعلوّ منزلتهم ، فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله تعالى أو في عبث بعض أفعاله انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم ، فلا تسكن نفوسهم ، ولا تطمئنّ قلوبهم ، حتى يتحقق (خ ل يتحققوا) الجواب عنها ، ومخالفهم إذا سمع دلالة قاطعة على أنّ الله تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ظلّ ليله ونهاره مغموما ومهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها حذرا عن أن يصحّ عنده أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلت الشّبهة عليه من أنّه لا يفعل القبيح وأنواع الفواحش غير الله تعالى ، فشتّان ما بين الفريقين وبعدا بين المذهبين ، ولنشرع الآن في تفصيل المسائل وكشف الحقّ فيها بعون الله تعالى ولطفه.

قال النّاصب خفضه الله

أقول : حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف والرّجوع إلى الوجدان والدّليل في ترجيح مذهب الاماميّة ، وأنّ المنصف إذا ترك التّقليد ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف ، علم أنّ مذهب الاماميّة مرجح ومثل هذا في حال من أراد دخول الإسلام ، وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب ، فلا شكّ أنّ معتقدات الإماميّة أبين وأظهر عند العقول ، وأقرب من سائر المذاهب إلى التّلقّي

__________________

(١) وكفى في ذلك ما ذكره ابن الجوزي مع شدة عداوته وبغضه لال الرسول حيث قال : ان عليا له حق التعليم على كل المسلمين الى يوم القيامة فانه لو لا خطبه ومنابره وكلماته لكان توحيدهم في منتهى النقص وأسوأ من عقائد سائر الملل ، فمن عبر عنه كرم الله وجهه بمعلم الإسلام لم يكن مخطئا هذا مضمون ما أفاده ، والفضل ما شهدت به الأعداء.

٣١٧

والقبول ، ونحن إن شاء الله في هذا الفصل نحذو حذوه ، ونجاوبه فصلا بفصل ، وعقيدة بعقيدة ، على شرط تجنب التّهمة والافتراء ومحافظة شريطة الصّدق والإنصاف ، فنقول : لو استجار مشرك في بلاد الإسلام ، وأراد أن يسمع كلام الله رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام ، فطلب من العلماء اصول دين المسلمين في العدل والتّوحيد ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء ، فيا معشر العقلاء هل كان الأولى أن يقال له حتى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه : إنّ الإله الذي يدعوك إلى طاعته وعبوديته هو خالق كلّ الأشياء وهو الفاعل المختار ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء وهو يحكم ما يريد ، ولا شريك له في الخلق والتّصرف في الكائنات ولا تسقط ورقة ولا تترك نملة ، إلا بحكمه وإرادته وقضائه وقدرته دبّر امور الكائنات في أزل الآزال ، وقدر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم ، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ، وأفعاله جملة حكمة وصواب ولا قبيح في فعله ، ولا يجب عليه شيء ، وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثّواب وإجراء العقاب فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) وهو منزه عن فعل القبائح ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ونحن نرضى بقضائه ، والقضاء غير المقضي ، هل الاولى هذا؟ أو يقال : الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق فأنت تخلق أفعالك ، وكلّ النّاس يخلقون أفعالهم ، وهو الموجب الذي لا تصرف له في الكائنات بالإرادة والاختيار ، بل هو كالنّار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق ، والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثّواب ، فهذه الحسنة كالدّين على رقبته يجب له أداء ثوابها ، وإذا عمل سيئة يجب عليه عقابها ، وليس له أن يتفضل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذّنب بل الواجب واللازم عليه عقابه ، كالنّار الواجب عليه الإحراق ، وأنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق ، وعلم

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى في سورة الأنبياء. الآية ٢٣.

٣١٨

متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق ، وله الشّركاء في الخلق هو يخلق والنّاس يخلقون؟ وهل الاولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار ، يكلّف النّاس كيف ما شاء ، لأنّه يتصرف في ملكه ، فإن أراد كلّفهم حسب طاقتهم ، وجاز له ، ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة ، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف النّاس فوق الطاقة ، ولم يقع هذا؟ أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف النّاس حسب طاقتهم ، وليس له التّصرف فيهم ، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟ وهل الاولى أن يقال له : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته ، ولكن الخير والطاعة برضاه وحبّه ، والشر والمعصية بغير رضاه؟ أو نقول ، إنه مغلول اليد فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه ، ولا يخلق الشّر ، فللشّر فواعل غيره ، وله شركاء في الملك والتّصرف؟ وهل الاولى أن يقال له : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك ، غير أنّ صفات نفسك حادثة ، وصفاته تعالى قديمة؟ أو نقول : إنّه لا صفات له ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟ وهل الاولى أن يقال له : إنّ الله تعالى عالم بعلم أزلي قادر بقدرة أزليّة حىّ بحياة سرمديّة متكلم بكلام أزلي؟ أو يقال له : إنّ الصّفات مسلوبة عنه ، وليس له علم ولا قدرة ، بل ذاته تعلم الأشياء بلا علم ، فيتحيّر ذلك المسكين أنّ العالم كيف يعلم بلا علم ، والقادر كيف يفعل بلا قدرة؟! وهل الاولى أن يقال له : إنّ الله تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي هو صفة ذاته ، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرّسل بذلك الكلام ، وأمر الناس ونهاهم؟ أو يقال له : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم فإنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما ، وانّه أحدث الأمر والنهى بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟ وهل الاولى أن نقول ، إنّه تعالى مرئيّ يوم القيامة لعباده ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربّه رجاء أن ينظر إليه يوم القيامة ، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم؟ أو يقال له : هذا الرب لا ينظر إليه في الدنيا ولا في

٣١٩

الآخرة؟! وهل الاولى أن يقال : إنّ أنبياء الله تعالى عباد مكرمون معصومون من الكذب والكبائر ، ولكنّهم بشر لا يؤمنون من إمكان وقوع الصّغائر عنهم ، فلا تيأس أنت من عفو الله وكرمه ، إن صدر عنك معصية ، فانّهم اسوة النّاس ، ويمكن أن يقع منهم الذّنب ، فأنت لا تقنط من الرّحمة؟ أو يقال له : الأنبياء كالملائكة ، ويستحيل عليهم الذّنب ، فإذا سمع بشيء من ذنوب الأنبياء كما جاء في القرآن : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) (١) ، يتردّد في نبوّة آدم ، لأنّه وقع منه المعصية ، فلا يكون نبيّا؟ وهل الاولى أن يقال له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بعث إلى النّاس تابعه جماعة من أصحابه ، وأقاموا في خدمته وصحبته طول أعمارهم ، وقاسوا الشّدّة [خ ل الشدائد] والبلايا في إقامة الدّين ودفع الكفرة ، وذكرهم الله تعالى في القرآن وأثنى عليهم بكلّ خير ورضى عنهم ، ثمّ بعده أقاموا بوظائف الخلافة ، ونشروا الدّين ، وفتحوا البلاد ، وأظهروا أحكام الشّريعة ، وأحكموا قواعد الحدود حتّى بقي منهم الدّين ، وانحفظت من سعيهم الشّريعة إلى يوم الدّين؟ أو يقال له : إنّ هؤلاء الأصحاب بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالفوه ورجعوا إلى الكفر ، ولم يهد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا سبعة عشر نفرا؟! فيا معشر العقلاء انظروا إلى المذهبين ، وتأمّلوا وأمعنوا في عقائد الفريقين ، مثل الفريقين كالأعمى والأصمّ والسّميع والبصير هل يستويان مثلا (٢)؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون. وأما ما ذكر أنّه ليس في التّوحيد دليل ولا جواب شبهة إلّا ومن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فانّ هذا أمر لا يختصّون به دوننا ، بل كلّ ما نأخذ من العقائد ونتلقّى من الأدلة ، فانّها مأخوذة من تلك الحضرة (٣) ومن غيره من أكابر الصّحابة كالخلفاء الرّاشدين سواه ، وككبار الصّحابة

__________________

(١) طه. الآية ١٢١.

(٢) اقتباس من قوله تعالى في سورة هود. الآية ٢٤.

(٣) والفضل ما شهدت به الأعداء.

٣٢٠