التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧١

١
٢

مقدّمه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الأوّلين والآخرين.

فإنّ الله عزّ وجلّ أرسل نبيّه العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ) (١) وأنزل عليه القرآن « حجّة الله على خلقه ، أخذ عليه ميثاقهم ، وارتهن عليهم أنفسهم ، أتمّ نوره ، وأكمل به دينه » (٢).

وكما كتب سبحانه لدينه الخلود ، لكونه خير الأديان واتمّها وقال : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) (٣) ، كذلك تعهّد بحفظ القرآن ـ الذي وصفه أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّه « أثافي الإسلام وبنيانه » (٤) ـ حيث قال ( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) (٥).

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣٣.

(٢) نهج البلاغة ـ فهرسة صبحي الصالح : ٢٦٥ | ١٨٣.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٨٥.

(٤) نهج البلاغة : ٣١٥ | ١٩٨.

(٥) سورة التوبة ٩ : ١٥.

٣

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم الناس القرآن ، وينظّم امور المجتمع على ضوء تعاليمه ، فكان كلّما نزل عليه الوحي حفظ الآية الكريمة أو السورة المباركة ، وأمر الكتّاب بكتابتها ثمّ أبلغها الناس ، وأقرأها القرّاء واستحفظهم إيّاها ، وهم يقومون بدورهم بنشر ما حفظوه ووعوه ، وتعليمه لسائر المسلمين حتى النساء والصبيان.

وهكذا كانت الآيات تحفظ بألفاظها ومعانيها ، وكانت أحكام الإسلام وتعاليمه تنشر وتطبّق في المجتمع الإسلامي.

غير أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يلقي إلى سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ إبتداءً أو كلّما سأله ـ تفسير الآيات وحقائقها ، والنسب الموجودة فيما بينها ، من المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ... يقول عليه‌السلام :

« وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به.

ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك لوزير ، وإنّك لعلى خير ... » (١).

وبذلك توفّرت في شخصة ـ دون غيره ـ الأعلمية بالكتاب والسنّة ،

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣٠٠ | ١٩٢.

٤

التي هي من أولى الصفات المؤهّلة للإمامة وقيادة الأمّة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

وتوفّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقمّص الذين كان يلهيم الصفق بالأسواق عن تعلّم القرآن وأحكام الدين ـ حتى أبسط مسائله اليومية ـ الخلافة ، وآل أمرها إلى ما آل إليه ... فقام سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفظ الكتاب والسنّة وتعليمهما الناس ، والترغيب فيهما ، والحثّ عليهما ... فهو من جهة كان يبادر إلى جمع القرآن مضيفاً إليه ما سمعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول آياته من التفسير والتأويل وغير ذلك ، ويدرّس جماعة من أهل بيته وأصحابه ومشاهير الصحابة ممّا وعاه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علوم الكتاب والسنّة ، حتى كان من أعلامهم الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وعبدالله بن العبّاس ، وعبدالله بن مسعود ، وأمثالهم.

ومن جهة اخرى يراقب ما يصدر عن الحكّام وغيرهم عن كثب ، كي ينفي عن الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.

فكان عليه‌السلام المرجع الأعلى لعموم المسلمين في جميع أمورهم الدينية لا سيّما المعضلات ، حتى اضطرّ بعض أعلام الحفّاظ إلى الإعتراف بذلك وقال : « وسؤال كبار الصحابة له ، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله ، في المواطن الكثيرة ، والمسائل المعضلات ، مشهور » (١).

وهكذا ... كان سعي أمير المؤمنين عليه‌السلام في حفظ القرآن بجميع معاني الكلمة ، وهكذا كان غيره من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

وكان الإهتمام بالقرآن العظيم من أهمّ أسباب تقدّم الإسلام ورقيّ المسلمين ، كما كان التلاعب بالعهدين من أهم الامور التي أدّت إلى انحطاط اليهود والنصارى ، فأصبح الهجوم على القرآن نقطة التلاقي بين اليهود والنصارى وبين المناوئين للإسلام والمسلمين ، لأنّهم إن نجحوا في ذلك فقد طعنوا الإسلام في الصميم.

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ، للحافظ النووي ١ : ٣٤٦.

٥

لكنّ الله سبحانه قد تعهّد القرآن وآن ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) (٢) فاندحروا في جميع الميادين صاغرين ، والحمد لله ربّ العالمين.

لكنّ « شبهة تحريف القرآن » ما زالوا يردّدونها بين حين وآخر ، وعلى لسان بعض الكتّاب المتظاهرين باسم الإسلام ويا للأسف ، يستأجرونهم لتوجيه الضربة إلى القرآن والاسلام من الداخل ، ولإلقاء الفتنة فيما بين المسلمين ، ولذا تراهم ـ في الأغلب ـ أناساً حاقدين على آل البيت عليهم‌السلام ومذهبهم وأتباعهم.

* * *

ونحن في هذا البحث ـ الذي لم نقصد به الدفاع عن أحدٍ أو الردّ على أحد ـ تعرّضنا لهذه « الشبهة » وكأنّها « مسألة » جديرة بالبحث والتعقيب والتحقيق ، ... فاستعرضنا في فصوله أهمّ ما يوهم التحريف قولاً وقائلاً ودليلاً ... لدى الشيعة وأهل السنّة ... ودرسنا كلّ ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا الباب دراسةً موضوعيّة ...

وحدّدنا ما يمكن أن يتمسك به للتحريف من الأخبار والآثار ، ومن يجوز أن ينسب إليه القول به من العلماء في الطائفتين ... فوجدنا الأدلّة على عدم التحريف من الكتاب والسنة وغيرهما كثيرةً وقويمة ، وأنّ القول بصيانة القول عن التحريف هو مذهب المسلمين عامّةً إلاّ من شذّ ...

لكنّ هذا الشذوذ جاء اغتراراً بأحاديث مخرّجة في الكتب الموصوفة بالصحّة عند أهل السنّة ... مسندةً إلى جماعة من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى رأسهم من اعترف منهم بأن « كلّ الناس أفقه منه حتى النساء في الخدور » ... وهذه هي المشكلة ... لكّن الحقّ عدم صحّة تلك الأحاديث أيضاً ، وأنّ تلك الكتب ـ كغيرها ـ تشتمل على أباطيل وأكاذيب ... والحقّ أحقّ أن يتّبع ...

__________________

(١) سورة فصلت ٤١ : ٤٢.

٦

وكان هذا البحث قد نشر في مجلّة « تراثنا » الموقّرة ـ التي تصدر عن ( مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ) العلمية التحقيقية المخلصة ـ على شكل حلقات ، ثم طلبت مؤسّسة ( دار القرآن الكريم ) ـ من مؤسسات سيدنا الاستاذ وزعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد الگلپايگاني طاب ثراه ـ نشرة في كتاب.

فالله نسأل أن يؤفق المؤسّستين وسائر المخلصين لِخدمة « القرآن الكريم » و « آل البيت عليهم‌السلام » وأن يتقبل أعمالنا جميعاً بأحسن القبول ، إنّه سميع مجيب.

قم ١٣ / رجب المرجب / ١٤٠ هـ ق

السيد علي الحسيني الميلاني

٧

الباب الأوّل

الشيعة والتحريف

* كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف

* أدلة الشيعة على نفي التحريف

* أحاديث التحريف في كتب الشيعة

* شبهات حول القرآن على ضوء أحاديث الشيعة

* الرواة لأحاديث التحريف من الشيعة

٨

الفصل الأول

كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف

من الواضح أنّه لا يجوز إسناد عقيدة أو قول إلى طائفة من الطوائف إلاّ على ضوء كلمات أكابر علماء تلك الطائفة ، وبالإعتماد على مصادرها المعتبرة.

ولقد تعرض علماء الشيعة منذ القرن الثالث إلى يومنا الحاضر لموضوع نفي التحريف في كتبهم في عدة من العلوم ، ففي كتب الإعتقادات يتطرقون إليه حيثما يذكرون الإعتقاد في القران الكريم ، وفي كتب الحديث حيث يعالجون الأحاديث الموهمة للتحريف بالنظر في أسانيدها ومداليلها ، وفي بحوث الصلاة من كتب الفقه في أحكام القراءة ، وفي مسألة وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن في الصلاة بعد قراءة سورة الحمد ، وغيرها من المسائل ، وفي كتب اصول الفقه حيث يبحثون عن حجّيّة ظواهر الفاظ الكتاب.

٩

وهم في جميع هذه المواضع ينصّون على عدم نقصان القرآن الكريم ، وفيهم من يصرح بأنّ من نسب إلى الشيعة أنّهم يقولون بأنّ القرآن أكثر من هذا الموجود بين الدفّتين فهو كاذب ، وفيهم من يقول بأنّ عليه إجماع علماء الشيعة بل المسلمين ، وفيهم من يستدلّ على النفي بوجوه من الكتاب والسنّة وغيرهما ، بل لقد أفرد بعضهم هذا المواضع بتأليف خاص.

وعلى الجملة ، فإنّ الشيعة الإمامية تعتقد بعدم تحريف القرآن ، وأنّ الكتاب الموجود بين أيدينا هو جميع ما أنزله الله عزّ وجلّ على نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون أيّ زيادة أو نقصان.

هذه عقيدة الشيعة في ماضيهم وحاضرهم ، كما جاء التصريح به في كلمات كبار علمائها ومشاهير مؤلفيها ، منذ أكثر من ألف عام حتى العصر الأخير.

* يقول الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي ، الملقّب بالصدوق ـ المتوفّى سنة ٣٨١ ـ : « إعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس باكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة ، وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة ، ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب. وما روي ـ من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كلّه ، وجواز قراءة سورتين في ركعة والنهي عن القران بين سورتين في ركعة فريضة ـ تصديق لما في قلناه في أمر القرآن ، وأن مبلغه ما في أيدي الناس. وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة ، وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام تصديق لما قلناه أيضاً.

بل تقول : إنه قدر نزل من الوحي الذي ليس من القرآن ما لو جمع

١٠

إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية ، وذلك مثل ... كلّه وحي ليس بقرآن ، ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه كما قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لمّا جمعه ، فلما جاء به فقال لهم : هذه كتاب الله ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف فقالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول : فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. وقال الصادق عليه‌السلام : القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، على نبي واحد ، وإنما الإختلاف من جهة الرواة ... » (١).

* ويقول الشيخ محمد بن محمد بن النعمان ، الملقّب بالمفيد ، البغدادي ـ المتوفّى سنة ٤١٣ ـ : « وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنه لم ينقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله ، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز.

وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، والله أسأل توفيقه للصواب » (٢).

* ويقول الشريف المرتضى على بن الحسين الموسوي ، الملقّب بعلم الهدى ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ـ : « إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبدان ، والحوادث الكبار ، والوقائع الوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، واشعار العرب

__________________

(١) رسالة الإعتقادات ، المطبوعة مع شرح الباب الحادي عشر ص ٩٣.

(٢) أوائل المقالات في المذاهب المختارات : ٥٥ ـ ٥٦.

١١

المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه في ما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟! ».

وقال : « إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورةً من الكتب المصنّفة ككتابي سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها ، حتى لو أنّ مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعرف وميزّ ، وعلم أنّه ملحق وليس في أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء ».

وقال : « إنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن ... ».

« واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرّس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود واُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة ختمات.

كل ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتورٍ ولا مبثوت ».

« وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ

١٢

بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا بصحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته » (١).

ولقد عرف واشتهر هذا الرأي عن الشريف المرتضى حتى ذكر ذلك عنه كبار علماء أهل السنّة ، وأضافوا أنّه كان يكفّر من قال بتحريف القرآن ، فقد نقل ابن حجر العسقلاني عن ابن حزم قوله فيه : « كان من كبار المعتزلة الدعاة ، وكان إمامياً ، لكنّه يكفّر من زعم أنّ القرآن بدّل أو زيد فيه ، أو نقص منه ، وكذا كان صاحباه أبو القاسم الرازي أبو يعلى الطوسي » (٢).

* ويقول الشيخ محمد بن الحسن أبو جعفر الطوسي ، الملقّب بشيخ الطائفة ـ المتوفّى سنة ٤٦٠ ـ في مقدّمة تفسيره : «والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه ، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ـ رحمة الله تعالى ـ وهو الظاهر من الروايات.

غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها لأنّه يمكن تأويلها ، ولو صحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفّتين ، فإنّ ذلك معلوم صحّته لا يعترضه أحد من الامّة ولا يدفعه » (٣).

__________________

(١) نقل هذا في مجمع البيان ١ : ١٥ ، عن المسائل الطرابلسيات للسيد المرتضى.

(٢) لسان الميزان ٤ : ٢٢٤ ، ولا يخفى ما فيه الخلط والغلط.

(٣) التبيان في تفسير القرآن ١ : ٣.

١٣

* ويقول الشيخ الفضل بن الحسن أبو علي الطبرسي ، الملقّب بامين الإسلام ـ المتوفّى سنة ٥٤٨ ـ ما نصّة : « ... ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فإنّه لا يليق بالتفسير ، فأمّا الزيادة فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقه روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة : إنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً ...

والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ واستوفي الكلام فيه غاية الإستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات » (١).

* وهو حاصل كلمات السيد أبي القاسم علي بن طاووس الحلّي المتوفى سنة ٦٦٤ في مواضع من كتابه القيّم ( سعد السعود ) منها : أنّه ذكر عن الجبائي أنه قال في تفسيره : « محنة الرافضة على ضعفاء المسلمين أعظم من محنة الزنادقة » ثم شرع يدّعي بيان ذلك بأن الرافضة تدّعي نقصان القرآن وتبديله وتغييره ، قال السيد :

« فيقال له : كلّ ما ذكرته من طعن وقدح على من يذكر أنّ القرآن وقع فيه تبديل وتغيير فهو متوجّه على سيّدك عثمان ، لأن المسلمين أطبقوا أنه جمع الناس على هذا المصحف الشريف وحرّف وأحرق ما عداء من المصاحف. فلولا اعتراف عثمان بأنّه وقع تبديل وتغيير من الصحابة ما كان هناك مصحف محرّف وكانت تكون متساوية.

ويقال له : أنت مقرّ بهؤلاء القرّاء السبعة ... فمن ترى ادّعى اختلاف القرآن وتغييره؟ أنتم وسلفكم ، لا الرافضة. ومن المعلوم من مذهب من تسمّيهم رافضة أن قولهم واحد في القرآن ... » (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٥.

(٢) سعد السعود : ١٤٤.

١٤

ونصّ السيد ابن طاووس في بحث له مع أبي القاسم البلخي حول أنّ البسملة أية من السورة أولا ـ حيث اختار البلخي العدم ـ على أن القرآن مصون من الزيادة والنقصان كما يقتضيه العقل والشرع (١).

واستنكر ما روى أهل العامة عن عثمان وعائشة من أن في القرآن لحناً وخطأً قائلاً : « ألا تعجب من قوم يتركون مثل علي بن أبي طالب أفصح العرب بعد صاحب النبوة وأعلمهم بالقرآن والسنّة ويسألون عائشة؟ أما يفهم أهل البصائر أنّ هذا المجرد الحسد أو لغرض يبعد من صواب الموارد والمصادر ... ولو ظفر اليهود والزنادقة بمسلم يعتقد في القرآن لحناً جعلوه حجة » (٢).

* ويقول العلاّمة الحلّي المتوفى سنة ٧٢٦ في بعض أجوبته حيث سئل : « ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز هل يصح عند أصحابنا أنّه نقص منه شيء أو زيد فيه أو غيّر ترتيبه أو لم يصح عندهم شيء من ذلك؟ أفدنا أفادك الله من فضله ، وعاملك بما هو من أهله » فأجاب :

« الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه ، وأنّه لم يزد ولم ينقص ، ونعوذ بالله تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول عليه وآله السّلام المنقولة بالتواتر » (٣).

وسنذكر عبارته في ( نهاية الوصول ) أيضاً.

* ويقول الشيخ زين الدين البياضي العاملي المتوفى سنة ٨٧٧ :

« علم بالضرورة تواتر القرآن بجملته وتفاصيله ، وكان التشديد في حفظه أتم ، حتى نازعوا في أسماء السّور والتفسيرات. وإنما اشتغل الأكثر عن

__________________

(١) المصدر : ١٩٢.

(٢) المصدر : ٢٦٧.

(٢) أجوبة المسائل المهناوية : ١٢١.

١٥

حفظه بالتفكر في معانيه وأحكامه ، ولو زيد فيه أو نقص لعلمه كلّ عاقل وإن لم يحفظه ، لمخالفة فصاحته وأسلوبه » (١).

* وألّف الشيخ علي بن عبدالعالي الكركي العاملي ، الملقّب بالمحقّق الثاني ـ المتوفّى سنة ٩٤٠ ـ رسالة في نفي النقيصة في القرآن الكريم ، أورد السيد محسن الأعرجي البغدادي في كتابه ( شرح الوافية في علم الأصول ) كثيراً من عباراته فيها.
واعترض في الرسالة على نفسه بما يدلّ على النقيصة من أخبار فأجاب : « بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل والسنّة المتواترة أو الإجماع ، ولم يكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه ، وجب طرحه » (٢).

* وبه صرّح الشيخ فتح الله الكاشاني ـ المتوفّى سنة ٩٨٨ ـ في مقدمة تفسيره « منهج الصادقين » ، وبتفسير الآية ( وإنّا له لحافظون ).

* وهو صريح السيد نور الله التستري ، المعروف بالقاضي الشهيد ـ المستشهد سنة ١٠١٩ ـ في كتابه ( مصائب النواصب ) في الإمامة والكلام حيث قال : « ما نسب إلى الشيعة الامامية من القول بوقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة ، إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم ».

* ويقول الشيخ محمد بن الحسين ، الشهير ببهاء الدين العاملي ـ المتوفّى سنة ١٠٣٠ ـ : « الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك ، زيادة

__________________

(١) الصراط المستقيم ١ : ٤٥.

(٢) مباحث في علوم القرآن ـ مخطوط.

١٦

كان أو نقصاناً ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وإنّا له لحافظون ). وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه‌السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى : يا أيّها الرسول بلّغ ما انزل إليك ـ في علي ـ ، وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء » (١).

* ويقول العلاّمة التوني ـ المتوفّى سنة ١٠٧١ ـ صاحب كتاب ( الوافية في الاصول ) : « والمشهور أنّه محفوظ ومضبوط كما انزل ، لم يتبّدل ولم يتغيّر ، حفظه الحكيم الخبير ، قال الله تعالى : ( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) ».

* ويقول الشيخ محمد محسن الشهير بالفيض الكاشاني ـ المتوفّى سنة ١٠١٩ ـ بعد الحديث عن البزنطي ، قال : دفع إليّ أبو الحسن عليه‌السلام مصحفاً وقال : لا تنظر فيه ، ففتحته وقرأت فيه : ( لم يكن الّذين كفروا ... ) فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً ...

قال : « لعلّ المراد أنّه وجد تلك الأسماء مكتوبة في ذلك المصحف تفسيراً للّذين كفروا والمشركين مأخوذة من الوحي ، لا أنّها كانت من أجزاء القرآن ، وعليه يحمل ما في الخبرين السابقين ...

وكذلك كلّ ما ورد من هذا القبيل عنهم عليهم‌السلام ، فإنّه كلّه محمول على ما قلناه ، لأنّه لو كان تطرّق التحريف والتغيير في ألفاظ القرآن لم يبق لنا اعتماد على شيء منه ، إذا على هذا يحتمل كل آية منه أن تكون محرّفة ومغيّرة ، وتكون على خلاف ما أنزله الله ، فلا يكون القرآن حجّة لنا ، وتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتّباعه والوصية به ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه ».

ثم استشهد ـ رحمة الله تعالى ـ بكلام الشيخ الصدوق المتقدّم ، وبعض

__________________

(١) آلاء الرحمن : ٢٦.

١٧

الأخبار (١).

وقال بتفسير قوله تعالى : ( وإنّا له لحافظون ) : « من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان » (٢).

* ويقول الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ـ المتوفّى سنة ١١٠٤ ـ ما تعريبه : « إنّ من تتبّع الأخبار وتفحّص التواريخ والآثار علم ـ علماً قطعيّاً ـ بأنّ القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر ، وأنّ آلاف الصحابة كانوا يحفطونه ويتلونه ، وأنّه كان على عهد رسول الله عليه وآله وسلّم مجموعاً مؤلّفاً » (٣).

* وأورد الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المتوفّى سنة ١١١١ ـ بعد أن أخرج الأحاديث الدالّة على نقصان القرآن كلاماً للشيخ المفيد هذا نصه : « فإن قال قائل : كيف يصحّ القول بأن الذي بين الدفّتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان وأنتم تروون عن الأئمة عليهم‌السلام أنّهم قرأوا : كنتم خير أئمّة أخرجت للناس ، وكذلك : جعلناكم أئمّة وسطاً ، وقرأوا : ويسئلونك الأنفال ، وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟.

قيل له : قد مضى الجواب عن هذه ، وهو : إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها ، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر على ما امرنا به حسب ما بيّناه.

مع أنّه لا ينكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلتين ، أحدهما ، ما

__________________

(١) الوافي ١ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٢) الأصفى في تفسير القرآن : ٣٤٨.

(٣) انظر : الفصول المهمة في تأليف الاُمّة: ١٦٦.

١٨

تضمّنه المصحف ، والثاني : ما جاء به الخبر ، كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى ... » (١).

* وهو ظاهر كلام السيد علي بن معصوم المدني الشيرازي ـ المتوفّى سنة ١١١٨ ـ في « شرح الصحيفة السجادية » فليراجع (٢).

* وإليه ذهب السيد أبو القاسم جعفر الموسوي الخونساري ـ المتوفّى سنة ١١٥٧ ـ في كتاب ( مناهج المعارف ) فليراجع.

* وقال السيد محمد مهدي الطباطبائي ، الملقّب ببحر العلوم ـ المتوفّى سنة ١٢١٢ ـ ما نصّه : « الكتاب هو القرآن الكريم والفرقان العظيم والضياء والنور والمعجز الباقي على مرّ الدهور ، وهو الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من لدن حكيم حميد ، أنزله بلسان عربيّ مبين هدىً للمتقين وبياناً للعالمين ... ـ ثم ذكر روايتي : القرآن أربعة أرباع ، و: القرآن ثلاثة أثلاث ، الآتيتين ، وقال ـ والوجه حمل الأثلاث والأرباع على مطلق الأقسام والأنواع وإن اختلف في المقدار ... » (٣).

* وقال الشيخ الأكبر الشيخ جعفر ، المعروف بكاشف الغطاء ـ المتوفّى سنة ١٢٢٨ ـ ما نصّه : « لا ريب في أنّ القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الدّيان ، كما دلّ عليه صريح الفرقان وإجماع العلماء في جميع الأزمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها ، ولا سيّما ما فيه نقص ثلث القرآن أو كثير منه ، فإنه لو كان كذلك لتواتر نقله ، لتوفّر الدواعي عليه ، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله ، ثم كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٢ : ٧٥.

(٢) رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين ، الروضة ٤٢.

(٣) الفوائد في علم الاُصول مبحث حجية الكتاب ـ مخطوط.

١٩

على ضبط آياته وحروفه؟ ... فلابد من تأويلها بأحد وجوه » ... (١).

* وقال السيد محسن الأعرجي الكاظمي ـ المتوفّى سنة ١٢٢٨ ـ ما ملخّصه :

« وإنّما الكلام في النقيصة ، وبالجملة ، فالخلاف إنّما يعرف صريحاً من علي ابن إبراهيم في تفسيره ، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين تمسّكاً بأخبار آحاد رواها المحدّثون على غرّها ، كما رووا أخبار الجبر والتفويض والسهو والبقاء على الجناية ونحو ذلك ».

ثمّ ذكر أنّ القوم إنّما ردّوا مصحف علي عليه‌السلام « لما اشتمل عليه من التأويل والتفسير ، وقد كان عادة منهم أن يكتبوا التأويل مع التنزيل ، والذي يدلّ على ذلك قوله عليه‌السلام في جواب الثاني : ولقد جئت بالكتاب كملاً مشتملاُ على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ. فإنّه صريح في أنً الذي جاءهم به ليس تنزيلاً كلّه » (٢).

* وقال السيد محمد الطباطبائي ـ المتوفّى سنة ١٢٤٢ ـ ما ملخّصه : « لا خلاف أنّ كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه ، وأمّا في محلّه ووضعه وترتيبه ، فكذلك عند محقّقي أهل السنّة ، للقطع بأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله ، لأنّ هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم ممّا توفّر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحاداً ولم يتواتر يقطع بأنّه ليس من القرآن قطعاً » (٣).

* وقال الشيخ إبراهيم الكلباسي الأصبهاني ـ المتوفّى سنة ١٢٦٢ :

__________________

(١) كشف الغطاء في الفقه ، كتاب القرآن ، ٢٩٩.

(٢) شرح الوافية في علم الاصول ـ مخطوط.

(٣) مفاتيح الأصول ، مبحث حجية ظواهر الكتاب.

٢٠