وكانت صدّيقة

كمال السيد

وكانت صدّيقة

المؤلف:

كمال السيد


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-438-161-0
الصفحات: ٢٣٥

المسجد مكتظّ بالمسلمين ، ينتظرون قدوم « الرسول » ليس للصلاة فقط بل لشيء آخر. ان النبأ قد أثار استغراب الكثير؛ ير يدون استكشاف هذا الزواج الفريد. ان فتاة مثل فاطمة كان بإمكانها أن تتزوج ثرياً يفرش دربها بالحرير ... صحيح انّ ابن أبي طالب مثال للفتوة وهو ابن عمّ النبيّ ولكنّه لا يملك شيئاً. لقد هاجر حافياً وما يزال يعيش حياة مريرة لا يملك شيئاً ... ولكن ما بال فاطمة ترضى لنفسها مثل هكذا حياة ..

كان الهمس يدور على الشفاه. تحلّق المؤمنون حول « النبيّ » كعادتهم ، كفراشات تنظر الى شمعة تتوهج. أدرك « النبي » ما يجول في الخواطر فقال بخشوع :

ـ أتاني حبيبي جبريل فقال : يا محمّد زوجها عليّ بن أبي طالب فإنّ الله قد رضيها له ورضيه لها.

وانفضّ المسلمون وقد ترسخت في ضمائرهم صورة جديدة عن الحياة العائلية عندما تنهض على الايمان وحده. لقد اختارت السماء لعليّ فاطمة واختارت لفاطمة عليّاً ، واستجابت فاطمة لإرادة السماء طائعة مبتهجة ان شيئاً في أعماقها يشدّها إلى علي كما شدّ عليّاً لفاطمة. وباركت السماء رغبة عليّ واستجابة فاطمة ، ورفرفت الملائكة بأجنحتها مثى وثلاث ورباع.

٤١

وجد علي في فاطمة ما كان يبحث عنه في نفسه ، ووجدت فاطمة في عليّ ما كانت تنشده في أعماق روحها ، وكان اللقاء على يد رسول السماء الى الأرض .. إلى المرأة والى الرجل ، ليكون اتحادهما ولادة للإنسان.

وهكذا قدر لأنيس الطفولة أن يكون رفيق درب. كانت فاطمة سعيدة بعليّ ، ترى في عينيه طيف أبيها .. أبيها الذي تحبّه لأنه قادم من عند الله.

أحبّت فاطمة عليّاً .. أحبّت فكره وخياله ، رأت فيه ظلال محمّد ... حيث نشأت تحت تلك الظلال .... أرادت أن تنتقل من بيت والدها إلى كنف رجل يشبه والدها في كلّ شيء.

جلس عليّ في بيته. استند إلى الجدار الطيني ، وقد غاصت أصابع قدميه في الرمال الليّن الذي يغطي أرضية الحجرة .. كلّ شيء في البيت ينتظر فاطمة ... مشجب الثياب .. المخضب .. الرحى .. حتى ذرّات الرمل. فاحت رائحة « الاذخر »؛ ملأت فضاء الحجرة عطراً ... وعلي ما يزال يترقّب قدوم فاطمة وقد مضت ثلاثة أسابيع حسبها عليّ قروناً طويلة.

لا بد من خطوة للقاء ، وقفزت في ذهن « الفتى » صورة « حمزة » ، فنهض من فوره وحثّ الخطى نحو منزل عمّه.

٤٢

٨

مرّت ايام وأيام ، وعلي لا يفتأ يذكر فاطمة .. يعيش خيالها الشفاف؛ روحها الطاهرة؛ عينيها المضيئتين؛ مشيتها وهي تخطر على الأرض هونا ...

قال وهو يحدّق في عينيه :

ـ في عينيك سؤال.

ـ ياعمّ ذكرت أهلي.

ـ ما تنتظر إذن .. هيا بنا إلى منزل النبيّ.

في الطريق لاحت لهما « أم أيمن » وقد أدركت على الفور ما يدور في خلد عليّ فكفتهما مؤونة ذلك.

انطلقت « ام أيمن » وكان النبيّ في بيت ام سلمة.

قالت امّ أيمن وقد عرفت كيف تستأذن قلب الرسول :

ـ يارسول الله لو أنّ خديجة باقية لقرت عينها بزفاف فاطمة ..

٤٣

وإن عليّاً يريد أهله .. فقرّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملهما وقرّ عيوننا بذلك. قال النبيّ :

ـ فما بال عليّ لا يطلبها مني؟

ـ يمنعه الحياء يا رسول الله ...

كانت عينا النبيّ تبحثان عن خديجة .. تجمعت في عينيه الدموع كغيوم ممطرة :

ـ خديجة ... وأين مثل خديجة ، صدّقتني حين كذبني الناس وآزرتني على دين الله وأعانتني عليه ..

وقفت امّ أيمن تنتظر رسول الله :

انطلقي الى عليّ فأتيني به.

خفت ام أيمن الى حيث ينتظر الفتى :

ـ ما وراءك يا ام أيمن؟

ـ الخير كلّه؛ رسول الله يدعوك.

كان عليّ مطرقاً برأسه يحدّق في الأرض ، قال النبيّ مشجّعاً :

ـ أتحب أن تدخل عليك زوجك؟

ـ نعم فداك أبي وامّي.

ـ نعم وكرامة يا أبا الحسن أدخلها عليك في ليلتنا هذه أو في ليلة

٤٤

غد إن شاء الله.

نهض الفتى وهو يطير فرحاً. لقد حلّت لحظة اللقاء؛ لقاء قلبين طاهرين .. روحين صافيتين ...

تمايلت سعفات النخيل طرباً .. تألّقت في السماء النجوم ؛ وظهر القمر يزدهي بهالته .. والسماء تتطلع الى عرس في الأرض. تألقت فاطمة فبدت بين النسوة كوكباً درّياً؛ حتى اذا استوت فوق الناقة ، ارتعف صوت الدفوف ، وبدأ موكب الزفاف يسير الهوينى.

فاطمة تحفّها بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار ، أخذ عمّار بزمام الناقة وكان الرسول وبصحبته حمزة والرجال يمشون خلفها.

زملأت الزغاريد الفضاء وانطلق صوت ام سلمة يشد وفرحاً :

سرن بعــــون الله جاراتي

واشكرنه في كـــــل حالات

واذكرن مـا أنعم رب العلى

من كشف مكـــروـه وآفات

فقد هدانا بعــد كـــفر وقد

انعشنا ربّ الـســمــاوات

٤٥

وارتفع صوت حفصة :

فاطــــمة خيــــر نســـاء البــشر

ومــن لهــــا وجه كوجه القمــــر

فضّلك الله على كــــــــلّ الـورى

بفضـــل مـــن خــصّ بــآي الزمر

زوّجــــك الله فـــتــىً فـــاضــلاً

أعني عليّاً خير من فــي الحـضـــر

فـسرن جــــاراتي بهــــا أنهــــا

كــريمـــة بنت عـــظيم الخــــطر

في المسجد كان اللقاء ، أخذ النبي يدي فاطمة ، ووضعها في يدي علي ، وتمتم الرسول بخشوع :

ـ اللّهم انّهما أحبّ خلقك إليّ ، فاحبّهما ، واني أعيذهما بك وذرّيتهما من الشيطان الرجيم.

شهد البيت الصغير ولادة حبّ عميق عمق البحر ، طاهراً كقطرات الندى ، متدفقاً كالينبوع. لم تعثر فاطمة في بيتها على فراش وثير لكنّها وجدت قلباً دافئاً ينبض بالحبّ ، ولم تجد فاطمة في منزلها الجديد جواهر أو لؤلؤاً منثوراً لكنها وجدت انساناً يموج بقيم تتألق سموّاً وتشعّ رحمةً ، وجدت فاطمة ما تنشده المرأة في أعماقها ..

٤٦

وجدت كلّ ذلك قرب عليّ.

ووجد عليّ في فاطمة قبساً من امّه ، فالزهراء تكاد تذوب رقّة. وجد فيها رفيق دربه. ففاطمة شوق وحنين ، ووجد فيها الخصب والحياة ففاطمة كوثر محمّد.

طلب عليّ يد فاطمة؛ واطرقت فاطمة ، وكان صمتها ، وحمرة الحياء تقولان نعم لعليّ ، وباركت الملائكة لقاء الشطرين ليؤلّفا كياناً جديداً فيه صفات حوّاء وخصال آدم.

وذات صباح جاء النبيّ زائراً وسأل فتاه :

ـ كيف وجدت أهلك؟

أجاب عليّ وعيناه تنطقان ثناءً.

ـ نعم العون على طاعة الله.

والتفت النبيّ إلى فتاته :

ـ وكيف وجدت بعلك؟

فقالت بكلمات تقطر حياءً وحبّاً :

ـ خير بعل.

رمق النبيّ السماء. عبرت الأفلاك كلماته الدافئة :

ـ اللّهم ألّف بين قلبيهما وارزقهما ذرّية طاهرة.

وعندما همّ بالنهوض قال الاب لفتاته :

٤٧

ـ يا بنيّة نعم الزوج زوجك ... لا تعصي له أمراً ، ثم شدّ على يد فتاه وقال بهدوء :

ـ الطف بزوجتك وارفق بها فان فاطمة بضعة مني يؤلمني ما يؤلمها ويسرّني ما يسرّها.

شيء ما ولد في قلب عليّ تجذّر في أعماقه ، شيء يشبه العهد .. الميثاق ألاّ يغضب فاطمة أو يكرهها على أمر ما إلى الأبد.

وفي قلب فاطمة ولد الحبّ ، تفجّر نبعه وعندما يحبّ المرء ينسى كلّ شيء سوى الطاعة للحبيب.

وهكذا عاش عليّ وفاطمة. وتمرّ الأيام.

٤٨

٩

كانت تشبه أباها في كلّ شيء ، في حديثها ، صمتها ، مشيتها ، وفي ذلك النور الذي يشعّ من عينيها ، تعمل بصمت أو ترتّل سورة مريم تتشرّبها .. تتنفس جوّها وتعيش في ظلالها.

رتبت ثيابها وكانت قليلة مختصرة. وضعتها فوق خشبة كان زوجها قد ثبتها في زاوية الحجرة ، نشرت خمارها وقطيعة سوداء وقميصاً رخيصاً ، رتّبت الفراش ثم عمدت إلى كنس البيت. وتصاعد غبار خفيف كان يتألّق في ضوء الشمس.

مسحت كيزان الخزف وأعادت ترتيبها فبدت جميلة.

حاولت أن تجرّ الرحى إلى مكان مناسب. وجدتها متشبثة في الأرض فتركتها مكانها ريثما يعود زوجها.

ومن كيس في زاوية الحجرة استخرجت حفنات من الشعير ثم جلست إلى الرحى.

٤٩

دارت الرحى ، تساقط الدقيق تباعاً فجمعته في اناء صغير ، أضافت قدحين من الماء وراحت تعجن الخليط حتى اذا تجانس غطت الاناء وتركته ريثما يصبح خميراً.

جلست فاطمة وأشعلت النار في الموقد ، تصاعد دخان أزرق وتوهّج جمر فسفوري الحمرة ، كانت عيدان الحطب تتكسّر ، وكانت فاطمة تصغي مستغرقة ، سرت في أطرافها قشعريرة وتجمعت في عينها الدموع فرمقت السماء من خلالها وقلبها ينبض أملاً بما وعد الله المؤمنين. ملأت رائحة الخبز الحارّ فضاء البيت.

عاد عليّ وقد بدا مهموماً بعض الشيء وعندما وقعت عيناه على فاطمة شاعت الابتسامة في وجهه. لشدّ ما يحبها بقوامها النحيل بتلك الروح التي تكاد تغادر أهاب البدن إلى حيث ترفرف الملائكة.

نظر عليّ وهو يتناول قرص الشعير إلى يديها. كانت هناك خطوط حمراء في كفيها أدرك على الفور انّها من أثر الرحى؛ تمنّى أن يكون بوسعه شراء خادم تعينها على تدبير المنزل ، فكّر أن يضاعف جهده في حفر الآبار ، سيحيل المدينة الى ينابيع لكي يتسنى له جمع مبلغ يكفي لشراء جارية تعين سيدة النساء؛ وربما حصل على غنيمة تغنيه عن كلّ ذلك ، كان عليّ يفكّر وهو يعالج سيفه ذي الفقار.

لم تسأل فاطمة زوجها عن المناسبة في كل هذا الاهتمام

٥٠

بالسيف فقد سمعت هي الاخرى عن استعدادات المسلمين للتصدّي لقوافل قريش التجارية وسمعت من بعض نسوة المهاجرين اخباراً عن قافلة كبيرة يقودها أبو سفيان تحمل أموالاً طائلة ... تذكرت فاطمة كيف صادر المشركون أموال المهاجرين. تذكّرت أيام الحصار في شعب أبي طالب وألوان القهر والظلم الذي صبّه أبو سفيان وأبو جهل وأبو لهب على الرسول والذين آمنوا.

أفاقت فاطمة على صوت زوجها وهو يرتّل بخشوع :

ـ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به ، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة أكبر من القتل.

لكأنّ علي يدرك ما يدور في خلد فاطمة ، وهاهي السماء تشدّ ازر المظلومين المشرّدين .. تمنحهم سيوفاً وبيارق ينصفون بها ممّن قهروهم وشرّدوا بهم من ديارهم.

ودّع النبي ابنته فاطمة. وأدرك المسلمون جميعاً أنّ الرسول قد أعدّ العدّة لاعتراض قافلة قريش ، وانّه لم يبق له في المدينة شيء.

هزّ علي راية العقاب بيده وانطلق بصحبة النبيّ باتجاه الشمال حيث « وادي الروحاء » وسمع النبي يقول :

ـ هذا أفضل أودية العرب.

٥١

عسكرت قوات المسلمين وكانت تتألف من ثلاثمئة مقاتل يتناوبون على ركوب ، سبعين من الإبل اضافة الى فرسين فقط ، وبعد استراحة وجيزة ، قضاها المسلمون في الصلاة والتهيؤ لقطع المسافة لآبار « بدر » حيث طريق القوافل التجارية.

قسّم النبي الإبل على المقاتلين فكان نصيبه مع عليّ و« أبي مرشد » بعيراً واحداً يتناوبون ركوبه.

قال عليّ وأيّده أبو مرشد :

ـ نحن نمشي عنك يا رسول الله.

أجاب النبي وهو يطوي الصحراء ماشياً على قدميه :

ـ ما أنتما بأقوى منى ، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما.

وفي « الصفراء » بعث النبي دورية استطلاع الى « بدر ».

وفي « وادي ذفران » وصلت انباء مثيرة.

٥٢

١٠

مكّة يغمرها الظلام ؛ والنجوم ترسل ضوءً واهناً .. تنبض من بعيد كقلوب مجهدة؛ نامت العيون ما خلا عيوناً حجرية تحيط بالكعبة ما تزال مفتوحة تحدّق ببلاهة وغباء.

وفي عالم هلامي كان رجل يركب بعيراً يخطر به حتّى اذا وقف بـ« الأبطح » صرخ عالياً :

ـ يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم!

خف البعير براكبه فوق ظهر الكعبة وصرخ :

ـ يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم.

طار البعير نحو جبال مكة. هبط على قمّة « أبي قبيس » وصرخ الراكب مرّة اخرى :

ـ يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم.

انتزع الراكب صخرة من الجبل ثم قذف بها بيوت مكة .. انفجرت الصخرة في أسفل الوادي وأضحت حجارة متناثرة تساقطت كشهب

٥٣

مجنونة فوق منازل مكة وأفنيتها.

استيقظت « عاتكة » امرأة من بني عبدالمطلب. استيقظت مذعورة تجفف وجهها من حبات العرق ، وما تزال الرؤيا ماثلة أمامها.

كانت السماء تنثّ مطراً خفيفاً كدموع هادئة ، وظلّت « عاتكة » مستيقظة تحدّق في الظلام حتى اذا طلع الفجر أخذت طريقها الى منزل« العباس ».

كغراب أسود يدور البيوت ، شاع خبر الرؤيا في منازل مكّة؛ وجثم الوجوم على القلوب. ترى ماذا تخبئ الأيام ، وهرع بعضهم إلى أصنام نحتوها يتمسحون بها يلتمسونها الطمأنينة فلا تألوهم إلاّ خبالا؛ وقدم بعضهم نذوراً للآلهة ، تصاعد دخان لكن دون جدوى؛ القلق ما يزال يلوي القلوب كريح عاصفة.

غضب « أبو جهل » برقت عيناه حقداً وهو يصغي الى تفاصيل الرؤيا وهتف بالعباس متهدداً :

ـ أما كفاكم يا بني عبدالمطلب أن تتنبأ رجالكم حتّى تتنبأ نساؤكم! ... سنتربص بكم ثلاثة أيام .. فان مضت ولم يكن شيء .. فأنتم أكذب بيت في العرب. ردّ العباس بغضب :

ـ يا مصفراً استه أنت أولى بالكذب منا.

مضت ثلاثة أيام ؛ كصفحات من كتاب كبير تنطوي وبدت صفحة

٥٤

كبيرة من عالم مفتوح وظهرت مكة ، ويثرب وصحراء واسعة مليئة بالرمال والحوادث ، وظهرت خيول وإبل ورجال تجوب الأودية.

استيقظت مكة مذعورة .. صرخات « ضمضم » تبعث الرعب في القلوب الخطر يهدد الآلهة؛ وآلهة قريش عبادة وتجارة :

ـ يامعشر قريش اللطيمة! ... أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد وأصحابه.

كان منظره على بعير مجدوع الأنف ، مشقوق القميص إنذاراً بالخطر الاهم. وثارت الحمية حمية الجاهلية؛ صرخ أبو جهل :

ـ واللات والعزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن يطمع بكم محمّد وأهل يثرب فانهضوا ولا يتخلّف منكم أحد.

وتجهّزت قريش ، اظهرت كلّ حقدها الدفين تطلب رأس رجل هاجر إلى ربّه.

تجمّع الحاقدون فكانوا الفاً إلاّ خمسين ، ومن الابل ثلاثمئة وخمسون ومن الخيل مئتان.

وسارت قريش بخيلها وخيلائها بدفوفها وقيانها بخمرتها وآلهتها ، سارت تشقّ بطون الأودية.

وفي الصحراء كان أبو سفيان يقود القافلة ، يسوقها سوقاً حثيثاً ، عيناه تدوران في محجريهما؛ تسعان الآفاق؛ تترصدان الآثار. وبين

٥٥

الفينة والاخرى كان يتوقّف ليدقق في أثر بعير أو فرس ، أو يفتت بعرة يبحث فيها عن أثر لغريم يترصّده. ينتظر لحظة الثأر المقدّس ولكن لا شيء ، الصحراء غامضة غموض البحر والرمال هي هي بتموجاتها والسماء تزدحم بغيوم رمادية تمرّ فوق الرمال كسفن تائهة.

كانت القافلة تتقدّم من آبار بدر ، وقد عصف القلق بأبي سفيان وأطلّ الرعب من عينيه يخشى أن يسقط في قبضة محمّد عدوّه اللدود.

سأل أبو سفيان اعرابياً قرب الماء عن خبر محمّد ، أجاب الاعرابي :

ـ لم أر أثراً لما تقول ، ولكني رأيت رجلين يستقيان في الصباح.

ـ وأين مناخهما.

ـ هناك فوق ذلك التلّ.

أسرع أبو سفيان إلى حيث أشار الاعرابي.

ـ نعم هذا مناخ إبل ..

وحانت منه التفاتة فرأى بعرة فالتقطها كما يلتقط المرء جوهرة نادرة ، فركها بكفيه فظهرت نواة تمر ، صرخ أبو سفيان مرعوباً :

ـ هذه واللات علائف يثرب.

أسرع أبو سفيان الى مناخ قافلته فحثّ رجاله على اثارتها والاتجاه بها نحو ساحل البحر الأحمر ، غدرت القافلة تاركة « بدر » الى شمالها ممعنة بالفرار ، وهكذا أفلت أبو سفيان ولو إلى حين.

٥٦

١١

هطلت الأمطار .. هطلت بغزارة فسالت أودية بقدر ، وقف النبي .. راح ينظر إلى السماء والسحب تسح ما تسح من دموعها الثقال ... رفع يديه الى عوالم لا نهائية وتضرّع إلى الله :

ـ اللّهم نصرك الذي وعدت ... اللّهم لا تفلتني أبا جهل فرعون هذه الامة.

كان الوجوم يسيطر على ثلاثمئة رجل. لقد خرجوا لمواجهة قافلة تجارية ، وهاهي الانباء تحمل لهم سيوفاً وخناجر .. وهاهي قريش تزحف نحوهم بجيش عرمرم .. ألف رجل إلاّ خمسين.

هتف النبي بأصحابه :

ـ أشيروا عليّ :

القلق يعصف بالرجال وقد ضرب الخوف أطنابه في بعض القلوب .. نهض « عمر » قائلاً :

٥٧

ـ يا رسول الله .. انها قريش!! ما ذّلت منذ عزّت وما آمنت منذ كفرت ..

راح بعضهم ينظر الى بعض وأفئدتهم هواء.

نهض المقداد وقد امتثلت أمامه قصص بني اسرائيل :

ـ يا رسول الله! امض لما أمرك ، فنحن معك ، والله لا تقول كما قال بنو اسرائيل لموسى .. اذهب انت وربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون ، إذهب أنت وربّك فقاتلا انّا معكما مقاتلون ».

أطلّ عزم جديد من عيون الرجال وخيّم صمت ثقيل ، كان النبي ينتظر موقف الأنصار فله معهم يوم العقبة عهد وميثاق.

نهض « سعد بن معاذ » وقال بأدب :

ـ لكأنك تريدنا يا رسول الله :

ـ أجل.

انسابت الكلمات قوّية أخّاذة مؤثّرة :

ـ يا رسول الله : لقد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحقّ ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة .. فامض يا رسول الله لما أردت .. فوالذي بعثك بالحقّ ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجل واحد.

إن للكلمة في القلوب أثر البذرة في الارض الخصبة سرعان ما

٥٨

تنمو وتهب ظلالها وثمارها ...

اشاعت كلمات سعد روح الأمل شحذت الهمم بعد خوف وقلق .. طافت في الوجه السماوي فرحة ورضا وهتف النبيّ برجاله :

ـ سيروا على بركة الله وابشروا ، فإن الله وعدني احدى الطائفتين ، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم.

عبّأ النبيّ قوّاته وغادر « ذفران » وسلك طريق « الاصافر » ثم هبط منها ، وبدا « كثيب السحنان » كجبل شامخ. وقاد النبي رجاله الى يمين « الكثيف » حتى اذا اصبح قريباً من مياه بدر أصدر أمراً بالتوقّف ريثما ينجلي الموقف.

بعث النبيّ « عليّا »ً على رأس دورية استطلاع للحصول على معلومات عن قوّات قريش ، أوغل علي في المسير ووصل آبار بدر؛ فالماء حيوي لرجال في الصحراء ، وألقت الدورية القبض على رجلين كانا يستقيان وساقتهما إلى معسكر المسلمين.

كان النبيّ يصلّي .. مستغرقاً في رحلة في عوالم سماوية بعيداً عن ويلات الأرض وما يجري فوق كثبان الرمال ، ولما عاد الى الأرض وجد بعض المسلمين ينهالون عليهما ضرباً .. تمتم النبيّ مستنكراً :

ـ إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا‍‍‍‍‍‍‍‍ كذباكم تركتموهما‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!

٥٩

ونظر النبيّ اليهما وهتف :

ـ صدقا والله .. انهما لقريش انهما لذات الشوكة.

وأردف متسائلاً :

ـ كم القوم؟

ـ كثيرون.

ـ ما عدّتهم.

ـ لا ندري.

ـ كم ينحرون؟

ـ يوماً تسعاً ويوماً عشراً.

التفت النبي إلى أصحابه :

ـ القوم ما بين تسعمائة والألف.

ثمّ تساءل :

ـ فمن فيهم من أشراف قريش؟

ـ قال أحدهما :

ـ عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة .. النضر بن الحارث ، وأضاف الآخر :

ـ وفيهم أميّة بن خلف ونبيه بن الحجاج واخوه منبه وعمروبن ود ..

٦٠