تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة

الدكتور نور الدين الهاشمي

تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة

المؤلف:

الدكتور نور الدين الهاشمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-16-1
الصفحات: ٢٧٤

الشيعة تاريخ الشيعة عقائد الشيعة
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ورووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه ، وأنه اشتكىٰ عينه فعادته الملائكة وانه يتصور بصورة آدم.

كما سئل بعضهم عن معنىٰ قوله تعالىٰ : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (١). فقال يقعد معه علىٰ سريره ويغفله بيده ، وقال بعضهم ، سألت معاذ العنبري فقلت : أله وجه ؟ فقال : نعم ، حتىٰ عددت جميع الأعضاء من أنف وفم وصدر وبطن واستحييت أن أذكر الفرج فأومأت إلىٰ فرجي ، فقال نعم ، فقلت أذَكَر أم اُنثىٰ ؟ فقال : ذكر (٢).

إذن هكذا اُرِّخ للحضرة الإلهية وكذلك للرسول الأكرم.

وإننا عند مراجعة كتب التاريخ أو الحديث نجد فيها هذا التحوير الخطير ، والذي نقل الثابت عند كل المسلمين إلىٰ شيء متحول ، بحيث أصبح الكل يتجرأ عليه ، وعلىٰ نقاشه وطرحه بشكل يخالف مكانته داخل الشريعة والتي هي المؤطر لأي فعل.

أما المتحول والذي نعني به الأشخاص المكونون للمجتمع الإسلامي وكل ما ينتجونه من أفكار ، او بمصطلح فقهي تاريخي « الصحابة » (٣) أي من عاش في زمن النبي الأكرم فإنّهم التحقوا بسلك

______________

(١) القمر : ٥٥.

(٢) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة : ٣ / ١٥٥ ، ط ١ ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت.

(٣) ولم تكن المدارس الحداثية كلها أحادية التوجه ، بل منهم من أعلن ثورته على الوهم المقدس للتاريخ الإسلامي ويعتبر محمد أركون من الذين نظروا

٤١

.................................................................

______________

إلى التاريخ بكل محتوياته وبدون استثناء ، فرأى أنه قابل للنقد والنظر فيه وذلك من أجل تخليصه من تلك الأسطورية التي طبعته وأصبغها عليه المؤرخون والعلماء حيث يقول : « إنه من الغريب أن نلاحظ أن الفكر الإسلامي قد بقي اليوم يعيش علىٰ أفكار ابن حجر العسقلاني ( مات ٨٥٢ هـ / ١٤٤٩ م ) وأسلافه بخصوص موضوع الصحابة هذا علىٰ الرغم من أن هؤلاء يحتلون موقعاً مفتاحياً وأساسياً فيما يتعلق بنقل النصوص المؤسسة للإسلام ولكل تراثه. ولكننا نلاحظ أن تراجم ( كتاب الرجال ) لابن حجر تصور لنا شخصيات مثالية ترتفع بالخيال الإسلامي الشائع وتجيشه وتنكر ( = تقنع ، تحجب ) في ذات الوقت الحقيقة التأريخية المتعلقة بكل شخصية من الشخصيات المترجم لها. لقد آن الأوان لكي نفتح هذه الأضبارة الشائكة على مصراعيها ( كلياً ) اننا لانستطيع أن نكتفي بمفهوم العدالة الذي بلوره المحدثون ( أصحاب الحديث ) ، وإنما ينبغي إعادة تفحص كل الإسنادات ليس فقط عن طريق تطبيق المنهجية الوضعية للمؤرخ الحديث الذي لايهتم إلا بالمعطيات والأحداث التي يمكن تحديدها بدقة ويرمي كل ما عداها فهي ساحة المزيج المعقد الغامض للخرافات والأساطير الشعبية. وإنما نريد علىٰ العكس ، أن نبين أن العناصر الأسطورية الزائدة المضافة على سير الصحابة من أجل تشكيل شخصيات نموذجية مقدسة كانت قد دعمت « حقيقة » المعلومات التأسيسية المكونة لكل التراث الإسلامي بشكل أقوى مما فعلته المعطيات والأحداث التاريخية الواقعيّة التي حصلت بالفعل » [ تاريخية الفكر العربي الاسلامي ص ١٧ طبعة ١١١ ترجمة هاشم صالح ].

ومن هنا تظهر جرأة الكاتب ومحاولته إخراج التاريخ من تلك النظريات

٤٢

الألوهية بطريقة لا شعورية. ولن ندخل هنا في تحديد معنىٰ الصحابة لأن مفهومه يختلف حسب كل فرقة وخاصة الشيعة والسنة.

ولكن نقف عند بعض ملامح هذا التقديس الزائد الذي لم ينبني علىٰ أُسس نظرية متينة بحيث ترىٰ مرويات خاصة عند السنة يكذب بعضها بعضاً مما يؤكد علىٰ أن هذا الثابت المزعوم هو من خلق هذا التاريخ المقدس.

______________

الطوباوية القديمة وذلك من أجل تفعيله حتى ينسجم مع الواقع المعرفي للمجتمع الإسلامي وإخراجه من حالة التيه ووضعه في إطاره الصحيح. وهي إحدى الثورات على ذلك الثابت الذي أنتجه التاريخ المزيف ، حتى تتحقق المصالحة بين الواقع كمجال لحركة الفكر الإسلامي والموروث التاريخي كأرضية هذا الفكر.

٤٣

٤٤

وقفة قصيرة

لقد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برسالة إلىٰ كافة الناس هدفه إبلاغهم ، أي تبشيرهم بالجنة وإنذارهم من النار. وكانت هذه الرسالة قد استأنفت عملها من اللحظة التي نزلت فيها. بحيث وضعت إتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معادلة قوامها الجنة والنار ولم يقل لهم كلكم في الجنة ، ولكن يخبرهم الله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (١).

وكذلك يقول عزّوجلّ : ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٢).

وترىٰ في أغلب آيات الجزاء والعقاب هذا التخيير والخطاب المباشر والموجه ; أي أنّ كل واحد من الأشخاص المخاطبين بهذه الآية كيفما كان حجمه ، طالما هو علىٰ النهج المستقيم وملتزم بما جاء

______________

(١) آل عمران : ١٨٥.

(٢) آل عمران : ١٨٨.

٤٥

به هذا الدين فإن الله تعالى يخاطبه بقوله : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ) (١) ، ولكن إذا خالف هذا الشخص شرائع الله تعالى وحدوده فقد دخل في خانة الظالمين والطغاة فيحق فيه قوله تعالىٰ : ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِّلطَّاغِينَ مَآبًا ) (٢).

نقف إذن علىٰ حقيقة يجب الإيمان بها ، وهي أن كل صحابي عاش في الصدر الأول من الإسلام عدا من نص عليهم في القرآن بقوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣) يحتمل ارتكابهم للخطأ والمعصية ومخالفة أحكام الله بل فيهم المنافق والناكث لعهده ، فعن حذيفة ابن اليمان رضي‌الله‌عنه ـ صاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال ( إنما كان النفاق علىٰ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان ) (٤).

ومنه تكون هذه الثابتية التي ألحقت بهم هي من قبيل التقديس الزائد لهذا التاريخ والذي يخالف حتما منطق العقل ، فوجب معها إسقاط كل المقولات التي تكبح العقل عن ممارسة عمله النقدي كمثيل ( إذا ذكر صحابتي فأمسكوا ) و ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ).

______________

(١) النبأ : ٣١.

(٢) النبأ : ٢١ ، ٢٢.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) مختصر صحيح البخاري : ٢ / ٥٦٦ ، ط٣.

٤٦

مع السيوطي

حينما تكون الدفاعات مبنية علىٰ أسس عاطفية لا علىٰ مقوّمات عقلية وعلمية سريعاً ما يظهر ضعفها وتسقط ركائزها. ومثال ذلك ما جاء علىٰ لسان جلال الدين السيوطي في المنهج السوي في ترجمة الإمام النووي علىٰ هامش صحيح مسلم وبالضبط في التعليق علىٰ الحديث ٢٣٨١ في باب فضائل أبي بكر حيث قال : « وأما علي رضي‌الله‌عنه فخلافته صحيحة بالإجماع وكان هو الخليفة في وقته لا خلافة لغيره ، وأما معاوية رضي‌الله‌عنه من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنهم ، وأما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها وكلهم عدول رضي الله عنهم متأولون في حروبهم وغيرها ... فكلهم معذورون رضي الله عنهم » (١).

بقراءتنا لنص التعليق نجد إن الإمام علي عليه‌السلام خليفة شرعي للأمة ، وأما معاوية فهو من هذه الأمة وخرج لقتال إمامها ، فنسأل الشيخ جلال الدين : ما قول الشرع في ذلك ؟ لن نناقشه باقوالنا ، ولكن ندعه يجيب علىٰ نفسه في الحديث ١٨٥٣ من صحيح مسلم باب من فرق أمر المسلمين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ستكون هنات وهنات (٢) فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ).

______________

(١) جلال الدين السيوطي : المنهج السوي في ترجمة الإمام النووي علىٰ هامش صحيح مسلم ج ٧ ص ٣٦ طبعة ١٩٩٥ دار الفكر للطباعة والنشر.

(٢) هنات وهنات بمعنىٰ فتن.

٤٧

ويعلّق السيوطي علىٰ هذا الحديث بقوله :

« وفيه الامر بقتال من خرج علىٰ الإمام وأراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلّا بقتله فقتله كان هدراً » (١).

أظن أن شيخنا قد نسي قوله السابق وهو يتعرض لهذا الحديث ، إن المسألة ليست في تخطئة فلان وتصويب ذاك بل في هذه النظرة الطوباوية للتاريخ الإسلامي بحيث لا نستطيع أن نقف وقفة صريحة مع أنفسنا لنعطي كل ذي حق حقه.

فما قول شيخنا إذا بعدما أجاب عن نفسه ؟

ما موقفه من الخارج علىٰ الإمام الشرعي ؟

ما موقفه لمن عقد بيعة لنفسه في حضور إمام سابق ؟

قد يقول لا إشكال مادام الصحابة العدول هم أصحاب هذه الفعلة.

وهنا يتجلى قولنا السابق بثابتية هذا المتحول وفقد الثابت لتابتيته ، فبينما يقول شيخنا كلّهم عدول رضي الله عنهم متأولون في حروبهم والتي نعرف سببها يأتي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عن ابي سعيد الخدري : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) (٢).

وأخرج ابن ماجة في سننه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من بايع إماماً

______________

(١) المصدر السابق م ٦ ج ٢ / ١٩١ ح ١٨٥٣.

(٢) صحيح مسلم م ٦ ج ٢ / ١٩١ ح ١٨٥٢.

٤٨

فأعطاه صفقة يمينه ، وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ) (١).

إذن لم يعد لفقيهنا ما يدافع عنه فكل القرائن والدلائل تبطل قوله وتجعل للمعادلة حلاً وحيداً صحيحاً يتمثّل بأحقيّة الإمام علي عليه‌السلام ومشروعية حربه ضد الخارجين عن طاعته وضلال من وقف بوجهه.

إن عقل المسلم لم يستطع أن يتحرر من هذه العبودية والتأليهية لتاريخه بل قلب موازين الحقيقة قدسية بهذه الشخصيات التاريخية. والتي هي شخصيات بشرية بطبعها تخضع لقانون الخطأ والصواب مما أعطاها صفة الثابت الذي لايجوز تغييره على الاطلاق.

وهذا مايحتم علينا تنقية هذا التراث ، إذ هو المخزون النفسي لدىٰ الجماهير ، وهو الأساس النظري لابنية الواقع (٢).

ونقف مع السؤال الذي طرحه الالماني البرت اشفيستر : لماذا تتوقف الحقائق التقليدية عن أن تكون وقائع وتنتقل من لسان إلىٰ لسان علىٰ أنها مجرد كلمات ؟ (٣)

______________

(١) سنن ابن ماجة : ٤ / ٣٣٣ ، ط ٢ ، سنة ١٩٩٧ ، دار المعرفة. واخرجه مسلم أيضاً.

(٢) حسن حنفي من العقيدة إلىٰ الثورة طبعة اولىٰ ١٩٨٨ دار التنوير للطباعة والنشر / عن التراث والتجديد.

(٣) البرت اشفيتسر مفهوم الحضارة ص ٥٨ ترجمة عبد الرحمن بدوي عن دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع.

٤٩

٥٠

التغيير التاريخي *

هل يقف العقل عند الإيمان بالمسلمات التي ورثها منذ أجيال ويجعلها أقانيم لا تتحول ولا تتبدل وثم يقول هذا ما وجدنا عليه آباءنا ؟

إن للعقل أهمية تجعله مسؤولا عن تثبيت هذه المسلمات إذا لامست الحقيقة وبذلك يتحقق الايمان الكلي او بإسقاط هذه الاوهام إذا كانت علىٰ غير ذلك من الصراحة والشفافية لأن هذه المادة الدماغية

______________

(*) كان العنوان الذي اخترته لهذه الفقرة في الأول هو « الاستقلاب التاريخي » وهو مصطلح رائج في ميدان العلوم الطبيعية ويقابله في الفرنسي (Metabolisme) ويخص العمليات الحياتية التي تحدث في البدن وتتمثل في هدم أو هضم المواد الأولية فيتم التخلص من الزائد منها والاستفادة من المتبقي الصالح والذي يصطلح عليه بـ (Cetabolisme) و (Aetabolisme).

لذلك فإن دراستنا للتاريخ لانتوخى منها رفض كل معطياته ، بل الأصل هو الاستفادة من الشيء الذي يصلح لإعادة بناء حاضرنا ورفض كل مايقف أمام هذه الحركة.

وبما أن مصطلح « الاستقلاب التاريخي » غير متداول داخل الأوساط الثقافية والأدبية ، غيّرته إلىٰ « التغيير التاريخي » رغم أن التغيير له طابع حاد إقصائي لذلك يكون قصدي من التغيير هو المصطلح الذي حذفته.

٥١

هي التي يرتكز عليها الوجود البشري.

فعن أبي جعفر عليه‌السلام قال ( لما خلق الله العقل استنطقه ، ثم قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلّا فيمن أحب ، أما اني إياك آمر وإياك أنهى ، وإياك أُعاقب ، وإياك اُثيب ) (١).

فلهذا يكون عمل العقل هو الإقبال علىٰ الحقيقة بالبحث والمتابعة والإدبار عنها إذا خالفت الصريح من المعقول.

وقد يكون هذا الأمر صعبا لأول وهلة ، وذلك للترسبات التاريخية الموروثة ، ولكن لا تحيدنا هذه الصعوبة عن مسايرة الحقيقة والبحث عنها ، ونحن لسنا أقل من ديكارت الذي اعتمد علىٰ منهج الشك في الوصول إلىٰ اليقين ; فأعطى بذلك الكوجيطو الديكارتي أنا أُفكر إذن أنا موجود. ونحن أيضاً ينبغي أن نقوم بتفعيل عملية التفكير ننطلق في البحث بعد هدم المسلّمات ، لنعيد النظر في موروثاتنا العقائدية بكل دقة ونحن اذ نقوم بتمحيص ما نؤمن بأنه من المسلمات العقائدية ، فالاحرى بنا أن نمحص المسلمات والمعطيات التاريخية ؟ وهي بطبعها بشرية الصياغة وتنبني علىٰ مسلمة ـ أي المناهج التاريخية ـ قد تكون محل نظر (٢).

______________

(١) الكليني ، اصول الكافي : ١ / ١٠ كتاب العقل والجهل.

(٢) العروي : مفهوم التاريخ : ١ / ٢٠٧ ( بتصرف ).

٥٢

وقد أسلفنا سابقاً قولا لابن خلدون علىٰ ان التاريخ مجرد نظر وهذا النظر لن يكون حاصل إقناع إلّا إذا أُعيدت صياغته بطريقة صحيحة عبر إجلاء المسلمات المختلقة ، كي نصل إلىٰ مادة تعني الحقيقة وتعيها عبر تقييم الحقائق السياسية ، والاجتماعية والأخلاقية ; ومنه يصبح رفض التاريخ يصبح سائغا وربما واجباً (١) ، بحيث نصل في الأخير إلىٰ اقتناع ينفي هذا الشك ، علماً أن شكنا هذا هو من باب إحلال النفس علىٰ الحقائق الثابتة والراسخة تاريخياً.

كما أن منهج التشكيك هو منهج يؤدي إلىٰ الاطمئنان القلبي وحصول اليقين وهو مثبت في القرآن الكريم علىٰ لسان إبراهيم عليه‌السلام إذ قال تعالىٰ : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٢) ، وقول إبراهيم ـ وهو نبي ـ لم يكن من قبيل التشكيك الناتج عن عدم الإيمان ، بل كان طلباً للوصول إلىٰ الحقيقة المطلقة ، ورسالة إلىٰ الآخرين يكون إيمانهم عن اقتناع.

ويقول العلامة الطباطبائي في تفسير ( لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) مطلوبه عليه‌السلام من هذا السؤال حصول الإطمئنان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي واعراقه [ ... ] فقد ظهر : أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينيّة لا ينافي الايمان والتصديق دائماً ، غير أنها تؤذي النفس ، وتسلب

______________

(١) المصدر السابق.

(٢) البقرة الآية : ٢٦٠.

٥٣

السكون والقرار منها ، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلّا بالحس أو المشاهدة (١).

وهذا ما يمكن أن ينطبق علىٰ التاريخ الإسلامي ، لأن المسلمات التي أوجدت قد تألهت بمرور الزمن ، فأصبح التشكيك فيها يسبب عدم الاستقرار ، ولكنه ضرورة علمية تتطلب منا إرجاع النصاب إلىٰ حقه حتىٰ يتحقق الإيمان القلبي واليقين والإفلات من قبضة شيطان التخلف والجهل. ونمارس بذلك دورنا الطبيعي.

قد جاء في شرح خطبة وقوع الفتن للإمام علي عليه‌السلام ما قوله : « على أوليائه » ( أي علىٰ من عنده استعداد للجهل ، وتمرن علىٰ اتباع الهوىٰ ، وزهد في تحقيق الامور العقلية علىٰ وجهها ، تقليد الأسلاف ومحبة لأتباع المذهب المألوف ، فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان ويضله وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنىٰ ، وهم الذين يتبعون محض العقل ولا يركنون إلىٰ التقليد ، ويسلكون مسلك التحقيق ، وينظرون النظر الدقيق ويجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم ) (٢).

والكلام واضح مفاده عدم الركون إلىٰ التقليد عدم الاتباع الاعمى لما وجدنا عليه آباءنا ، لأنه ليس بعذر لنا بقدر ماهو إدانة صريحة لهذا العقل الذي تقاعس عن البحث عن الحقيقة ; وهو بطبعه عقل فعّال.

______________

(١) الطباطبائي ، تفسير الميزان : ٢ / ٣٧٨.

(٢) ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة ٣ / ١٧٦.

٥٤

لهذا نحن لا نريد من خلال دراستنا وتحقيقاتنا التاريخية الهدم الذي يؤدي إلىٰ التخلّف ، ولكن نبتغي إعادة بناء وضعنا الحالي ، وهذا لن يتأتىٰ إلّا إذا قبضنا بأيدينا علىٰ مفتاح السر ، لنفتح به العصر الجديد ، ذلك العصر الذي يتجدد فيه البالي ولا يبلىٰ فيه ماهو روحي أو أخلاقي ، وهذا لن يتأتىٰ إلّا بدراستنا لتاريخنا علىٰ غير المنهج الذي اتبعه أسلافنا وإلّا ضعنا نهائياً.

إذن الحل الوحيد هو اكتساب الجرأة النقدية ; المبنية علىٰ إخضاع كل المسلمات للتحقيق ، بحيث لا يبقىٰ ثابت إلّا ماهو ثابت طبيعياً ودينياً أما غيره فمآله إلىٰ إعادة النظر ، وهو ضرورة حتمية بحيث قد أصبح من الضروري القيام بفعل نقدي يكتسح كل ألوان السذاجة ، وعدم الامانة (١).

إننا نحتاج إلىٰ عملية استقلاب (Metabolisme) تاريخية نستطيع من خلالها إظهار الحقائق والتي هي متطلبات آنية عبر عملية الهدم التاريخي ، او ما يمكن الاصطلاح عليه (cotabolisme historique) ، حتىٰ يتم التخلص من كل ما يمكن أن يسبب التسمم المعرفي والتخلف للأمة الإسلامية ; وإعادة بنائها من جديد عبر بناء تاريخي (Anabolisme historique) مستفيدين من كل ماتم استخلاصه عبر

______________

(١) البرت اشفيتسر : فلسفة الحضارة ص ٣٣٩ ترجمة عبد الرحمن البدوي ١٩٩٨ دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع.

٥٥

عملية الهدم ، وهو ما أطلق عليه د. حسن حنفي تثوير التاريخ من أجل ثورة حقيقية لهذه الامة واستعادة دورها الطلائعي في العالم. لأن التاريخ والدراسات القويمة لا تقتصر علىٰ كونها من معطيات الماضي فقط وبقائها كشيء لا قيمة له بل انه يستطيع أيضاً أن يلقي علينا ظلاً ساماً.

فهناك أفكار لم ندع عقولنا تعمل فيها مباشرة ، وذلك لاننا وجدناها مُعدّة الصياغة في مجرىٰ التاريخ ، والافكار التي ورثناها لا تسمح ببروز الحق ليعمل عمله وإنما تظهره من خلال قناع جنائزي ، والانجازات البالية التي تنتقل من حضارة منحلة إلىٰ مجرىٰ عصر جديد كثيراً ما تصبح مثل افرازات الدورة الجسمية وتفعل فعل السموم (١). فيا ترىٰ هل كان التاريخ الإسلامي فعلا كان نزيهاً إلىٰ حد تصديق كل مافيه ؟ أم هو نتاج تحالفات سياسية وايديلوجية أدت إلىٰ ظهوره علىٰ الشكل الموجود عليه حالياً ؟

______________

(١) المصدر السابق ص ٥٨.

٥٦

Description: F:Book-LibraryENDQUEUETarikh-Shiaimagesimage004.gif

٥٧

٥٨

ابن كثير ... المحدث المؤرخ

لعل كتاب البداية والنهاية يعتبر من أهم المراجع التاريخية المعتمدة في الفكر الإسلامي ، وذلك لما اكتسب صاحبه من شهرة ومكانة كعالم من علماء المسلمين ، بحيث سعىٰ في كتابة تدوين التاريخ الإسلامي بطريقة يحفظ من خلالها كرامة هذا التاريخ وعزته ; وخصوصاً المرحلة المباركة ! والتي تشكّل الشعلة الأولىٰ للأمّة الإسلامية.

وقد لبس هذا المؤرخ رداء المسلم المشبّع بالمؤثرات السلفية ; فصبغ تلك المرحلة ورجالاتها بقداسة خارقة يتوقف فيها العقل عن ممارسة فعله الحقيقي في الدراسة ، وذلك للتراكمات المعرفية المؤطّرة للعقل الفاعل ، وجْعلهِ محدود الفعالية.

فبنظر ابن كثير أن تلك المرحلة هي خير القرون ، ورجالاتها خير الرجالات ، لأن في الحديث النبوي الشريف قد ورد أن خير القرون قرني هذا والذي يليه ثم الذي يليه ، ومن هنا ندخل في النقطة الحساسة ، وهي هذه القداسة المفتعلة والتي حاول البعض أن يصبغ التاريخ بها. وابن كثير في تاريخه أحد ضحايا هذه الأحاديث حيث لم يكن ذلك المؤرخ الذي يعمل علىٰ توثيق الأحداث التاريخية بضرب

٥٩

بعضها ببعض ، بل تعامل مع الحدث التاريخي من خلال وضعيته العلمية والتي يطغى فيها المحدث علىٰ المؤرخ ، إذ اهتم في تأريخه علىٰ الرواية تماشياً مع صبغته كإمام محدث يكره الاجتهاد وابداء الراي ; ولم يجرأ علىٰ الدخول في معاني الرواية واستعمال اسلوب نقدي لفرزها. كما أنه لم يتعامل مع الأحداث التاريخية كمؤرخ محترف علىٰ حد تعبير عبد الله العروي في تعريفه للمؤرخ المحترف ، إذ أنه هذا الأخير لا ينفك يقيس أي حكم يعرِّف ; أي يستعمل « مفاهيم جامعة » ، و « يؤلف مباحثات » أي يفترض « قيمة محورية » ، « او وحدة انتسابية » قلنا إنه ينقد رواية موروثة ليخطط اثناء عملية النقد والتفكيك لرواية بديلة حتىٰ ولو لم يفصح أبداً عنها (١).

إن عملية نقد الروايات والأخبار الواردة لم تكن واردة في ذهن ابن كثير بقدر ما كان همه الكبير هو جمع عدد كبير من الروايات والأحداث ومحاولة إخراجها بشكل يساير طابعه الايديلوجي الطاغي عليه ، حيث أن النظر عنده في الرواية ، او الحدث التاريخي لا يخرج عن إطارين ; الأول : تمجيد مرحلة الصحابة والتابعين ، والانتصار لهذا التاريخ الملغوم ; ثانياً قبول كل ماروي في رفع شأن هذه المرحلة حتىٰ ولو المشهود عليه بالكذب ، من قبيل روايات سيف بن عمر التميمي حيث لم يكتف ابن كثير بأخذ الرواية عنه بل ترحم عليه أيضاً (٢).

______________

(١) عبد الله العروي مفهوم التاريخ : ٢ / ٣٤٣.

(٢) ابن كثير ـ البداية والنهاية : ٥ / ٣١٩.

٦٠