تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة

الدكتور نور الدين الهاشمي

تاريخ الشيعة بين المؤرخ والحقيقة

المؤلف:

الدكتور نور الدين الهاشمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-16-1
الصفحات: ٢٧٤

الشيعة تاريخ الشيعة عقائد الشيعة
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أنفسنا ، وقد عرفنا أنه لم يكن يبايعنا (١).

وأما الأسباب الحقيقية لخروجهما فنقف مع ابن ابي الحديد وهو يحدد هذه الأسباب :

إن طلحة والزبير لما أيسا من جهة علي عليه‌السلام ، ومن حصول الدنيا من قبله ، قَلَبا له ظهر المجن ، فكاشفاه وعاتباه قبل المفارقة عتاباً لاذعاً روى شيخنا أبو عثمان قال :

أرسل طلحة والزبير إلىٰ علي عليه‌السلام قبل خروجهما إلىٰ مكة مع محمد ابن طلحة ، وقالا : لا تقل له : « يا أمير المؤمنين » ولكن قل له : « يا أبا الحسن » لقد قال فيك رأينا ، وخاب ظننا ، أصلحنا لك الامر ، ووطدنا لك الأمره ، وأجبلنا علىٰ عثمان حتىٰ قتل ، فلما طلبك الناس لأمرهم ، أسرعنا إليك ، وبايعناك ، وقدنا إليك أعناق العرب ، ووطيء المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك حتىٰ إذا ملكت عنانك ، استبددت برأيك عنا ، ورفضتنا رفض التريكة وأذلتنا إذالة الإماء ، وملكت أمرك الأشتر وحكيم بن جبلة وغيرهما من الأعراب ونزاع الامصار ، فكنا فيما رجوناه منك ، وأملناه من ناحيتك ، كما قال الأوّل.

فكنت كمهريق الذي في سقائه

لرقراق آل فوق رابية صلد

فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك فقال اذهب إليهما ، فقل لهما : فما الذي يرضيكما ؟ فذهب وجاءه ، فقال إنهما يقولان : ول أحدنا

______________

(١) المصدر السابق : ١١ / ١٤.

١٢١

البصرة والآخر الكوفة ! فقال : لاها الله ! إذن يحلم الأديم ، ويستشري الفساد ، وتنتقص علىٰ البلاد من أقطارها ، والله إني لا آمنهما وهما عندي بالمدينة ، فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين [ الكوفة والبصرة ] اذهب إليهما فقل : أيها الشيخان احذرا من سطوة الله ونقمته ، ولا تبغيا للمسلمين غائلة وكيدا ، وقد سمعتما قول الله تعالى ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١).

فقام محمد بن طلحة فأتاهما ولم يعد إليه ، وتأخر عنه أياماً ، ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلىٰ مكة للعمرة ، فأذن لهما بعد أن أحلفهما ألا ينقضا بيعته ولا يغدرا به ولا يشقا عصا المسلمين ، ولا يوقعا الفرقة بينهم ، وأن يعودا بعد العمرة إلىٰ بيوتهما بالمدينة فحلفا علىٰ ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا.

هكذا يتضح لنا ما كان من أمر الرجلين وكيف كان الامام عليه‌السلام يعي هذه المسائل ، وإنما حملهم للانقلاب عليه هو رعايته لحقوق الله تعالىٰ وعدم التفريط فيها ، ورعايته للحقوق الإلاهية رعاية تامة لا يثنيه في ذلك صحبة ، او قرابة ، فما كان من الاثنين بعد أن نفذ صبرهما من طول الانتظار أن يعلنا الخروج علىٰ الامام علي عليه‌السلام ويؤلف في ذلك المؤرخون قصصاً خيالية تصف الامام علي بذلك المتجبر الذي يحاول

______________

(١) القصص : ٨٣.

١٢٢

فرض امره بقوة السيف ، في حين كان الإمام عليه‌السلام لا يحب سفك الدماء وكان يحب معالجة الأشياء بالرحمة ، والعقل ، وعدم التسرع في استعمال السيف وقد قال عليه‌السلام :

« يا أهل الكوفة ، أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم جموعهم ، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة ، فإن يرجعوا بذاك الذي نريده ، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتىٰ يبدؤونا بالظلم ، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلّا آثرنا علىٰ مافيه الفساد إن شاء الله تعالىٰ.

وهذا السلوك المثالي في الاصلاح الذي كان يتمثّل به الإمام علي عليه‌السلام تجسد أيام الملاقات في واقعة الجمل حيث روىٰ أبو محنف ، قال :

« لما تزاحف الناس يوم الجمل التقوا ، قال علي عليه‌السلام لأصحابه لا يرمين رجل منكم بسهم ، ولا يطعن أحدكم فيهم برمح ، حتىٰ أحدث إليكم وحتىٰ يبدؤوكم بالقتال وبالقتل ، فرمىٰ أصحاب الجمل عسكر علي عليه‌السلام بالنبل رميا شديداً متتابعاً فضج إليه أصحابه ، وقالوا عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين وجيء برجل إليه ، وإنه لفي فسطاط له صغير ، فقيل له : هذا فلان قد قتل فقال : اللهم اشهد ، ثم قال اعذروا إلىٰ القوم ، فأتي برجل آخر فقيل وهذا قد قتل : فقال : اللهم اشهد ، اعذروا إلىٰ القوم ، ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يحمل أخاه عبد الرحمٰن بن بديل ، قد أصابه سهم فقتله فوضعه بين يدي علي عليه‌السلام ، وقال يا أمير المؤمنين هذا أخي قد

١٢٣

قتل ، فعند ذلك استرجع علي عليه‌السلام ودعا بدرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات الفضول فلبسها ... (١).

وهذا جزء قليل مما كان يتعامل به الامام علي عليه‌السلام الذي حاول ابن كثير وسلفه ابن تيمية أن يصوراه بذلك المتجبر الذي يلزم الناس بالبيعة ويكرههم عليها. ولتجلية بعض الحقائق من شخصية الامام علي عليه‌السلام نبيّن فيما يلي جملة من خصائصه عليه‌السلام.

______________

(١) المصدر السابق : ٩ / ٧٨.

١٢٤

خصائص الإمام علي عليه‌السلام

لم يعرف التاريخ الاسلامي أعظم من الامام علي عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه أبلىٰ في الإسلام بلاءاً حسناً وكان أخاً لرسول الله منذ صغره إلىٰ أن انتقل إلىٰ الرفيق الأعلىٰ.

وكان عليه‌السلام أول المسلمين وأول من صلىٰ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعنه عليه‌السلام قال : « أنا أول من صلىٰ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

وقد بلغت هذه الرواية إلىٰ حد التواتر (٢).

كما أن الامام علي عليه‌السلام هو أول من صلىٰ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعنه عليه‌السلام قال : ( أنا عبد الله ، وأخو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كاذب ، صليت قبل الناس بسبع سنين ) (٣).

______________

(١) خصائص الإمام علي للنسائي ص ١٥ تحقيق السيد جعفر الحسيني ، ط ١ ، ١٤١٩ دار الثقلين ـ قم ، الترمذي في الجامع الصحيح : ٥ / ٦٤٠ و ٦٤٢.

(٢) رواه أحمد في مسنده : ١ / ١٤١ ، ٤ / ٣٦٨ ، وابن الأثير في أُسد الغابة : ٤ / ١٧ ، وابن عبد البر في الاستيعاب : ٣ / ٢٣ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ، وابن المغازلي في مناقب عليّ ص ١٤ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٩٨.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٤٤.

١٢٥

وكان أول العابدين لله بعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الذي لم يسجد قط لصنم ، فولد موحداً وعاش موحداً حتىٰ لقي الله تعالىٰ وكان أول المسلمين رغم حداثة عمره ، وصغر سنّه ، وكان محطم الأصنام عند فتح مكّة ، فقال عليه‌السلام : ( قال لي رسول الله : احملني لنطرح الأصنام من الكعبة ، فلم أطق حمله ، فحملني ، فلو شئت أن أتناول السماء فعلت ) (١) فكان للإمام علي عليه‌السلام بذلك جليل القدر والعظمة.

أما قوته وبلاؤه في الحروب فلا أحد يشك في قدرته وقوته وما فَتْحُ خيبر إلّا جزء يسير من البطولات الخالدة له عليه‌السلام فبعد رجوع أبي بكر وعمر مهزومين قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده لأعطي الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ليس بفرار ، يفتح الله علىٰ يده ، فأرسل إلىٰ علي عليه‌السلام وهو أرمد فتفل في عينه وقال :

اللهم اكفه أذى الحر والبرد فما وجد حراً بعد ولا برد (٢).

وللبلاء الحسن والقوة التي أظهرها الإمام علي عليه‌السلام في خيبر وخصوصاً مما تعارف عليه أصحاب السير والتواريخ من حمل الإمام علي عليه‌السلام باباً لا يستطيع عشرة أشخاص حملها ، قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري : ( لولا أن يقول فيك طوائف

______________

(١) إعلام الورىٰ بأعلام الهدى : للطبرسي ١ / ٣٦٢ ، مسند أحمد : ١ / ٨٤ و ١٥١.

(٢) انظر : إعلام الورىٰ بأعلام الهدى : ١ / ٣٦٤ ، ومسند أحمد : ١ / ٩٩ و ١٣٣.

١٢٦

من أمتي ما قالت النصارىٰ في عيسىٰ ابن مريم لقلت فيك اليوم قولاً لا تمر بملأ إلّا أخذوا من تراب رجليك ، ومن فضل طهورك ، فيستشفون به ، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ، ترثني وأرثك ، وأنك مني بمنزلة هارون من موسىٰ إلّا أنه لا نبي بعدي ... ) وبعد نهاية الحديث خر علي عليه‌السلام ساجداً ثم قال :

( الحمد لله الذي من علي بالإسلام ، وعلمني القرآن ، وحببني إلىٰ خير البرية خاتم النبيين وسيد المرسلين ، إحساناً منه إلي وفضلا منه علي ) (١).

وهذا جزء يسير من بطولاته القتالية في الدفاع عن الإسلام وردّ اعتداء الكافرين ، اين غيره يوم الأحزاب حينما تجابن الكل عن مبارزة عمرو بن عبد ودّ حتىٰ خرج له الامام وهزمه. واين غيره يوم حنين حيث فرَّ الكل فبقي هو ومجموعة من بني هاشم. واين بطولات غيره يوم بدر وهو يردي الوليد بن عتبة قتيلاً ويوم أحد وهو يرد عن رسول الله ضربات الكفار. إنها جزء قليل من تاريخ الامام علي الجهادي والذي حاول البعض نسيانه وجعله في طي النسيان.

أما العلم فلا أحد يشك في أعلميته عليه‌السلام ، وهو القائل ولم يقلها أحد غيره : اسألوني قبل أن تفقدوني ، وكذلك قول عمر بن الخطاب : « ويل لعمر من مسألة ليس لها أبو الحسن » ، ويؤكد هذا الأمر حديث مدينة

______________

(١) المصدر السابق : ٥ / ٣٦٦.

١٢٧

العلم حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه ابن عباس :

( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ) (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( إن أقضىٰ أمتي علي بن أبي طالب ، وأعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب ) (٢).

وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( علي مع الحقّ والحق مع علي يدور الحق معه حيث دار ) (٣).

وأما قرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينكرها إلّا جاحد وما أحاديث الولاية وسد الأبواب والمؤاخاة إلّا دليل علىٰ مميزات هذا الرجل العظيم في الإسلام الذي سعىٰ المؤرخون في تاريخ الإسلام أن يطمسوا هويته لكن أبى التاريخ إلّا أن يحفظ مكانته رغم تحايلات المؤرخين التي أظهرنا بعضها ، والتي حاولت الحط منه وإصباغ التاريخ بشخصيات عملت السلطة لإبرازهم في التاريخ الاسلامي ، حتىٰ تعطي المشروعية لعملية السلب التي قاموا بها ، مما اضطر العلماء المدافعين عن هذا النموذج المصطنع إلىٰ خلق مجموعة من القوانين لحفظ هذا التاريخ المزيف والتي أثبت التحقيق التاريخي مدىٰ زيفها وبرغماتيتها

______________

(١) فتح الملك العلىٰ بصحة حديث باب مدينة العلم علي للعلامة أحمد بن محمد الصديق الحسني المغربي ص ٣ المطبعة الإسلامية الازهر ـ مصر.

(٢) مصباح الهداية في إثبات الولاية ، السيد علي الموسوي البهبهاني : ص ١٥٦.

(٣) المصدر السابق ص ١٥٧.

١٢٨

في التعامل مع الأحداث.

ونورد هنا كلاماً مختصراً للعلامة أحمد بن محمد بن الصديق الحسيني المغربي وهو يذكر آراء بعض العلماء في تعاملهم مع الأحاديث الواردة في حق علي عليه‌السلام حيث قال :

الذهبي لا ينبغي أن يقبل قوله في الأحاديث الواردة بفضل علي عليه‌السلام فإنه سامحه الله إذا وقع نظره عليها اعترته حدة أتلفت شعوره وغَضَبٌ أذهب وجدانه حتىٰ لا يدري ما يقول وربما سب ولعن من روى فضائل علي عليه‌السلام كما وقع منه في غير موضع من الميزان وطبقات الحفاظ تحت ستارة أن الحديث موضوع ، ولكنه لا يفعل ذلك فيمن يروي لأحاديث موضوعة في مناقب أعدائه (١).

وهذا رأي عالم عاش في صعيد الأحاديث ودوّن التاريخ ، فترى كيف يمكن أن تكون العقليات المتولدة من خلال ما يروىٰ لها من زيف وأكاذيب ، وما الداعي إلىٰ ذلك ؟

______________

(١) فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ص ٩٨ ـ ٩٩.

١٢٩

١٣٠

Description: F:Book-LibraryENDQUEUETarikh-Shiaimagesimage006.gif

١٣١

١٣٢



هل استطاعت عملية التأريخ أن تصل إلىٰ النزاهة المتوقعة وإلىٰ تطبيق المناهج التي سنستخلص منها النتيجة الحقيقية ، عبر التخلص من عقدة قداسة الماضي وأصحابه.

إن النهج الذي ننادي به هو المقايسة والمقاربة مع تجريد هذا التاريخ من القداسة المفتعلة حتىٰ نستطيع الوصول إلىٰ المبتغىٰ المنشود ، وبالتالي إلىٰ تاريخ إسلامي ينير لنا طريق الثورة المعرفية والثقافية لاستشراف المستقبل نحو دولة العدل الإلهي المرتقبة.

وكم تحس بالسعادة وأنت تطالع كتاباً تأريخياً وصاحبه يتحدث عن إعادة كتابة التاريخ بطريقة تتجاوز ركام التخلف التاريخي ، وتحاول استخلاص العبر منه ، بحيث تصبح الموضوعية هي المطلب الرئيسي للمؤرخ ويأخذ علىٰ من سبقه إغفال هذا الجانب بحيث يرىٰ أن أغلب الباحثين لا يدرسون هذه المشكلة دراسة موضوعية ، بل يتأثرون بأشخاصهم فيدفعهم تأثرهم إلىٰ هذا الجانب او ذاك دون عمق وبدون إحتمال فكر (١). وهذا ما اصطلحنا عليه بالتوجه السياسي

______________

(١) د. أحمد شلبي ، موسوعة التاريخ الإسلامي : ١ / ٦٤١ ط ١٣ مطبعة النهضة المصرية ١٩٨٨.

١٣٣

والايديلوجي للمؤرخ بحيث يصبح ارتباطه بنظام سياسي وبتوجه ايديلوجي هو الطابع الغالب علىٰ تحليله للأحداث التاريخية وصياغتها ، وبالتالي كما يرى الدكتور احمد شلبي الخروج من هذه البوتقة المغلقة ، والأهم من ذلك هو تحطيم القداسة المرتبطة بالصحابة علىٰ اعتبار أن أهل السنة تراهم أسهل حكماً « عدلوا الصحابة جميعاً وتولوهم واعتقدوا نجاتهم وقليلاً ما يحاولون علىٰ هذا أو ذاك بالخطأ (١) ، علىٰ الرغم من معرفتهم وتيقنهم من المخطئ والمصيب فيؤثرون أن يغمضوا أعينهم. ومنه فإن الضرورة تستدعي إعادة النظر في هذا التاريخ ، للوصول إلىٰ حقيقة الأمر فيضع الأستاذ المحترم السؤال ، هل نستطيع أن ننظر إلىٰ هذه المسألة نظرة موضوعية بصرف النظر عن اشخاصها ، بل مع كامل التقدير والإجلال لماضي كل من هؤلاء الأشخاص ؟ أرجو هذا (٢).

رغبة أكيدة منه لإخراج التاريخ من هذه الأزمة التي أحاطت به منذ عصور ، وإظهاره بوجه يساير التطلعات المستقبلية للامة الإسلامية.

هذه وجهة نظر أحد ابرز المؤرخين في العصر الحديث (٣) ، وله

______________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق ص ٦٤٢.

(٣) الدكتور احمد شلبي. مصري حاصل علىٰ دكتوراه من جامعة كمبردج في التاريخ له مجموعة مؤلفات أهمها موسوعة التاريخ الإسلامي ، موسوعة الحضارات الإسلامية ، ومقارنة الأديان.

١٣٤

مؤلفات تحظىٰ بأهمية كبيرة في العالم. وأول ما عرفته كان بواسطة كتاب مقارنة الأديان وقد تميز بالدقة والعلمية. لكن هذه النزاهة وهذه المنهجية التي تحدّث عنها هل فعلاً جسدت في عملية تدوينه للتاريخ الإسلامي ؟

إن مجموعة من النقاط يمكن ملاحظتها خلال قراءة كتاب موسوعة التاريخ الإسلامي. وخصوصاً الجزء الأوّل ، إذ تنم عن الإطار الذي يتحدث منه المؤلف ضارباً بعرض الحائط الموضوعية والعلمية.

١٣٥

١٣٦

التشيّع والفرس

إن أول ما يلاحظ في كتاب موسوعة التاريخ الاسلامي وهو الهجوم اللاذع والشنيع علىٰ الفرس ، وليس هنا من باب الدفاع عن قومية معينة ولكن هو استشفاف المخفي من داخل النصوص والذي هو في الأصل هجوم علىٰ التشيّع ، وذلك دون دليل منطقي. والأمر الثاني الملاحظ في هذا الكتاب هو الانتقائية في التعامل مع الأحداث التاريخية ، الشيء الذي يصعب معه استخلاص الأسباب وبالتالي النتائج مما جعل نتائجه بعيدة عن واقع الأحداث التاريخية مما أفقد عمليّة التأريخ تناسقها.

لقد جاءت الطبعة ١٣ مفردة في إبراز المخاطر الفارسية علىٰ الإسلام وما حكاه هؤلاء الفرس ( الشيعة ) للإسلام ، فهم علىٰ زعمه أنّهم قاتلوا عمر وعثمان وعلي ، مع العلم على أن الخليفتين عثمان وعلي لم ينسب أحد قتلهم إلى الفرس إلا دكتورنا المحترم ، وقوله لايستند لأي دليل ، ولكن الواضح أن هذه الرؤية ، وهذه النتيجة التي استخلصها هي من إيحاءات الإتجاه الوهابي الذي ارتبط به كاتبنا ماديا ، فقبيل إخراج هذه الطبعة تلقى دعوة من الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمان الربيع عميد البحث العلمي بجامعة محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة

١٣٧

العربية ، يدعوه فيه لكتابة كتاب لمركز البحوث بالجامعة عن السيرة النبوية ويقول عن هذا العرض : ففرحت بهذه الدعوة وقمت بهذا العمل ما أستطيع من الإجادة ، وقد أدخلت في هذه الطبعة مما رأيت ضرورته (١).

وبالطبع لم ير من الضروري إلا ما يطعن في الفرس ويبين حسب زعمه كيدهم للإسلام بحيث يقول أن في هذه الطبعة أيضاً إبراز الخطر الذي تدفق علىٰ الإسلام والمسلمين من ايران (٢).

والجدير بالذكر أن هذه الطبعة كانت سنة ١٩٨٨ أي بعد أحداث مكة الشيء الذي يعطيها طابعاً سياسياً ومما يؤكد هذا وهو اعتباره حركة الإمام الخميني رحمه‌الله إحدىٰ الحركات الهدامة وهي استمرار للحركات الهدامة الفارسية الأصل منذ انطلاقة التاريخ الإسلامي ، بحيث انطلقت مؤامرتهم علىٰ نطاق واسع باسم الشعوبية والباطنية ، والزنادقة ، والزنجية ، والقرامطة والدرزية والبابية والبهائية فقتلت الملايين من المسلمين ولا تزال تقتل وتضرب حتىٰ اليوم بصيحة الخميني (٣).

إذن ترىٰ ما سبب هذا الحقد الفارسي الدفين حسب زعم دكتورنا ؟

إن السبب في ذلك هو تحطيم المسلمين للمملكة الساسانية وإخضاعهم للدولة الإسلامية بحيث يرىٰ أن بلاد فارس استسلمت عسكرياً بسرعة

______________

(١) دكتور أحمد شلبي ، موسوعة التاريخ الاسلامي : ص ١٩.

(٢) المصدر السابق ص ٢٠.

(٣) المصدر السابق ص ٦١٣.

١٣٨

غير متوقعة ولكن قادتها بدأوا يثيرون المتاعب والشبهات والشكوك منذ عهد الفتح إلىٰ الآن في حركات الشعوبية والباطنية والزنادقة ، والزنج والقرامطة ، والدرزية والبابية والبهائية والخمينية (١).

هل يستطيع العقل أن ينسجم مع هذا السبب الواهي بحيث لو كان الامر بهذا الشكل لكانت كل المناطق التي دخلت إلىٰ الإسلام تحت سيوف الفتح أن تكيد لهذا الإسلام فلا أظن أنّ الشمال الافريقي قد فتح بلسان المسلمين بل بسيوفهم وإخضاعهم للحق عن طريقه ، وما قتل كسيلة البربري لعقبة ابن نافع الفهري إلّا دليل علىٰ المواجهة التي لقيها الفاتحون لهذه المناطق ، إذن لماذا لم يتحدث عن كيدهم للإسلام أم أنّ التوافق الايديلوجي السني أخرجهم من دائرة المكيدين لهذا الدين. وعلىٰ هذا المنطق المعتمد عنده فإن مسلمي الفتح وجب في حقهم الكيد للإسلام لأنهم وجدوا أنفسهم ملزمين بهذا الدين وهم في عقر دارهم ، مما يلزم عليهم التستر وانتظار الفرصة للوقيعة به ، وهذا ماوقع لكن كاتبنا لا يشاطرنا الرأي علما ان يزيد بن معاوية تمثل بأبيات عقب مقتل الإمام الحسين تدل علىٰ حنقه من النصر الذي حققه هذا الدين علىٰ أجداده خصوصاً في معركة بدر وكتب التاريخ ملئت بهذا الحدث. وثاني شيء ما يمنع الفرس من الرجوع إلىٰ دينهم بعد ضعف الدولة المركزية في بغداد وهذا ما حصل في الاندلس بحيث أن الحانقين فعلاً علىٰ هذا الدين سرعان ما انقضوا عليه عند ضعف إدارته ،

______________

(١) المصدر السابق ص ٢٧٧.

١٣٩

ولو كان الامر في بلاد فارس كذلك لرجعوا إلىٰ دين آباءهم وتخلصوا منه. ولكنهم بقوا علىٰ هذا الدين ، وابرز دليل علىٰ ذلك الحركة التصحيحية التي قادها الامام الخميني رحمه‌الله واحيائه لهذا الموروث التاريخي المقدس وإعادته إلىٰ الحياة بعدما ركن في زوايا المساجد ، فكيف نسميها حركة تخريبية.

وشيء آخر مهم ، حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصريح : « لو كان الإسلام ينال بالثريا لناله رجال من فارس ». فأين كاتبنا من هذا الحديث. وهنا أمرين فإما صاحبنا علىٰ حق فيما وصل إليه والنبي يهجر ! وحاشا لله وبهذا تنتزع عنه صفة النبوة وتذهب الرسالة مهب الريح ، او رسول الله صادق وصاحبنا يعيش في الأهاجيس المادية والمذهبية وهذا هو الأكيد فراح يخبط خبط عشواء ..

كما إن المسكوت عنه من خلال نصوص كاتبنا واضح وجلي ، لكنه لم يعبر عنه بطريقة مباشرة فتخفىٰ تحت راية عرقية ، علماً أن المقصود عنده هنا هو التشيع وهذا يتضح جلياً حينما نراه يربط بين الحركات الفارسية واليهودية ويصوّر تنسيقها في الكيد لهذا الدين. بحيث يرىٰ أن المؤامرات فارسية ، وتؤيدها الأصابع اليهودية ثم ثورات خطط لها الفرس واليهود وقادوها ووجهوها (١) ففعلا المعنىٰ واضح وهو التيار السبئي وما فعل في التاريخ ؟

______________

(١) د. أحمد شلبي ، موسوعة التاريخ الإسلامية ، ط ١٣ ص ٦١٣.

١٤٠