ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ١

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٨٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

بين النهرين مشكلاً في هذا المكان خطراً كبيراً حتى على الملاحة بواسطة الأكلاك والأطواف (١) التي تستخدم القرب المنفوخة بالهواء (٢). ولا يصبح دجلة صالحاً للملاحة إلّا ابتداء من تكريت التي ينساح فيها النهر عريضاً بعد أن يصل إلى متسع رحب مكوناً العديد من الجزر حيث تكثر في موسم الفيضانات أسراب الطيور المائية الكثيرة العدد وحيث يعمد العرب القاطنين على الضفاف إلى زراعة بساتين الخضار (٣) في موسم نقصان المياه.

ويستمر جريان دجلة منذ اللحظة التي يخرج فيها إلى السهل وحتى القرنة باتجاه يوازي جبال فارس الواقعة على الحدود والتي ترسل إليه كلّ جداولها الكبيرة منها كديالى والصغيرة كمندلي وبدرة وطيب ودويريج. يصل النهر وهو يجري بسرعة إلى بغداد عاصمة العباسيين سابقاً، ثم يدفع مياهه العكرة بعد ذلك لتجري بالقرب من إطلال العاصمتين القديمتين طيسفون وسلوقيا الواقعتين على جانبي النهر إحداهما مقابل الأخرى فكان ذلك سبباً دفع العرب إلى تسمية هذا الموضع بـ (المدائن) أي المدينتين (٤).

______________________

(١) F. R. Chesney. OP. cit. VoI.I. P. ١٦ FF.

(٣) الحقيقة هي أن الأكلاك غير الأطواف فالأولى هي التي تستخدم فيها القرب المنفوخة بالهواء، أما الثانية فلا تستعمل فيها هذه القرب وإنما تعتمد على قابلية الخشب على الطوفان. (المترجم).

(٣) يقصد المؤلف ما يسمى بالعامية (الشواطي) أو (الشطاطي) أي الرقي والبطيخ والخيار وغير ذلك مما يزرعونه على ضفة النهر في تلك المناطق. (المترجم).

(٤) المدائن لا تعني المدينتين، وإنما تعني المدن طبعاً. وبالفعل فقد أطلق عليها هذا الاسم لأنها تتألف من عدة مدن. يذكر صاحب معجم البلدان إنها كانت مسكناً لعدد من الملوك المختلفين «فكان كلّ واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه

٤١

وعند كوت الأمارة الواقعة على بعد ٣٦٠ فرستاً أسفل بغداد يتفرع دجلة إلى فرعين يتجه الكبير منهما وهو الفرع الرئيسي إلى القرنة أما الأصغر فإنه يقطع العراق تحت اسم شط الحي ويصب في الفرات في موضعين عند بلدة العرجة والآخر عند قرية أبي صوف التي تقع قبل القرنة بما يقارب ١١٢ كم.

وفي منتصف الطريق بين دجلة والفرات يتفرع شط الحي بدوره إلى فرعين هما بوجي خيرات وشط العمه (١) ولا يزال الأوّل منهما أي الفرع الغربي صالحاً للملاحة حتى الوقت الحاضر لمدة ستة أشهر في السنة حيث يصل عرضه في موسم الفيضان إلى ١٤٠ أرشيناً وعمقه إلى ٧ أرشينات، وتستخدمه عادة المراكب الشراعية العربية لنقل الحبوب والغلال من المنطقة الخصبة جداً التي يرويها شط الحي الذي يعرف أيضاً باسم (الغراف) (٢).

وعلى امتداد المسافة من مصب نهر ديالى عند بلدة بعقوبة أي على بعد ٤٠ فرستاً إلى الجنوب من بغداد (٣) وحتى بلدة علي الغربي يكون

______________________

مدينة إلى جانب التي قبلها وسماها باسم. فأولها المدينة العتيقة التي لزاب ... ثم مدينة الاسكندر ثم طيسفون من مدائنها ثم إسطانبر ثم مدينة يُقال لها رومية فسميت المدائن بذلك». (ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر، المجلد الخامس، ص٧٤ ـ ٧٥) (المترجم).

(١) إن اسمي فرعي الغراف المذكورين هما البدعة والشطرة، وأما جدول (العمه) كما يسمى محلياً فهو جدول يتفرع من الغراف إلى الجنوب من بلدة الحي بقليل. (المترجم).

(٢) F. R. Chesmey. OP. voI. I. Pp٣٦ - ٣٧.

(٣) لا تقع مدينة بعقوبة عند مصب نهر ديالي، فديالي يصب في دجلة إلى الجنوب من بغداد بحوالي ٣٢ كم في حين تقع مدينة بعقوبة على بعد حوالي ٥٦ كم إلى الشمال الشرقي من بغداد. (المترجم).

٤٢

مجزى دجلة كثير التعاريج بحيث يكاد كلّ منعطف من منعطفاته أن يشكل دائرة كاملة حتى ليبدو أحياناً للمسافر الذي يراقب من على ظهر السفينة المراكب الشراعية التي تمر بهذه المنعطفات، إن هذه المراكب لا تتحرك من مكانها وإنها تسحب على الأرض لأن من غير الممكن رؤية تعرجات النهر بسبب ارتفاع ضفتيه.

وابتداءً من بغداد وحتى العمارة تقريباً يصبح دجلة نهراً عظيماً يتراوح عرضه ما بين ٤٢٠ و ٤٩٠ أرشيناً وعمقه ما بين ١١ أرشيناً في موسم الفيضان وأرشينين في موسم الصيهود. وإلى الأعلى من العمارة قليلاً يتفرع من الجانب الأيمن من دجلة أول تلك الفروع التي تنقل المياه من النهر إلى المستنقعات الواقعة في مجراه الأدنى فتساعد بذلك على نقصان المياه في هذا الشريان الوحيد الصالح للملاحة في العراق العربي. وتشير حسابات السيد ولكوكس (١) إلى إن هذا الفرع الذي يعرف باسم باتره (٢) والفرع الآخر الذي يتفرع من جهة النهر اليسرى في العمارة نفسها والذي يعرف باسم جالة (٣) يستنزفان كمية كبيرة من المياه بحيث إن دجلة في هذا الموضع لا يكاد يبلغ ٢٥٠ أرشين عرضاً و ١/٢، ٥ أرشين عمقاً في موسم الفيضان. إن فرع جالة شأنه في ذلك شأن المجر الكبير الذي يتفرع من ضفة النهر اليمنى إلى الأسفل من العمارة والمشرح الذي يتفرع من جانبه الأيسر تقع جميعها في مستوى النهر فتؤلف بسبب الكمية الكبيرة التي تبتلعها من المياه الخطر الرئيسي على وجود دجلة كنهر صالح للملاحة

______________________

(١) W. Willcocks: OP. cit. pp. ٢٨ – ٢٩.

(٢) يقصد البتيرة. (المترجم).

(٣) يقصد الكحلاء أو الجحلة كما يسمى محلياً. (المترجم).

٤٣

بحيث أنه يضيق في هذا الموضع حتى يبلغ عرضه ٨٥ أرشيناً. ولا يستعيد دجلة شكله السابق إلّا ابتداءً من موقع النبي عزرا (١) وذلك بفضل ورود المياه إليه من الأهوار المحيطة به فيأخذ بالجريان متعاظماً حتى يصل إلى القرنة.

ودجلة بالمقارنة مع الفرات يكون أقصر بمقدار مرة ونصف تقريباً ولكنه يفوق توأمه في سرعة الجريان ولهذا أسماه العرب السهم (٢) (دجلة) (٣). ويتخذ دجلة بسبب سريعة تياره والارتفاع والهبوط السريعين لمياهه في موسم الأمطار والفيضان طابع الجدول الجبلي الحقيقي الذي يستبعد أن تكون الملاحة فيه، وعلى الأخص ضد التيار، ممكنة حتى فبل بغداد لو لم توجد في مجراه المنعطفات التي أشرنا إليها أعلاه.

ومن الخصائص الأخرى التي ظل دجلة يتميز بها حتى الربع الأخير من القرن التاسع هي غزارة مياهه، فالمعطيات التي أوردها ريكلوس (٤)(e. reclus) تشير إلى أن كمية المياه التي يحملها إلى الشمال

______________________

(١) يقصد بلدة العزيز. (المترجم).

(٢) حول أصل تسمية دجلة وغيره من أنهار العراق راجع: جمال بابان. « أصول أسماء العراق وأنهاره الرئيسية » مجلة آفاق عربية عدد آذار ١٩٨٠ ص٩٨ ـ ١١١ المترجم

(٣) تشير حسابات الضباط البحريين الانجليزيين كليفلاند (Cleveland) ومورفي (murphy) إلى أن سرعة جريان دجلة شمال بغداد هي ٧،٣٣ قدماً في الثانية في حين يجري الفرات إلى الشمال من هيت بسرعة ٤،٤٦ قدماً في الثانية :

(f.r. Chesney: op. cit. vol. L. p. ٦٢)

ولا تتعدى سرعة دجلة حسب آخر ملاحظات السيد ولكوكس الـ ٥،٤/٩ قدم في الثانية ـ انظر: (w. willcockes: op. cit.p.٢٨)؟

(٤) (e. reclus: op. cit. t. lx.p.٣٩٠).

٤٤

من بغداد تبلغ ٤٦٥٦ متراً مكعباً في الثانية، في حين لا يحمل الفرات إلى الشمال من هيت إلّا ٢٠٦٥ متراً مكعباً في الثانية، لا أكثر هذا في الوقت الذي أعطت القياسات الحديثة التي أجراها المهندس الانجليزي السيد ولكوكس (١) للفرات في هيت ٢٧٥٠ متر مكعب مكعباً كحدٍ أعلى و ٤٠٠ متر كحد أدنى ولدجلة في بغداد ٣٠٠٠ متر مكعب كحد أعلى و ٣٠٠ متر مكعب كحد أدنى علماً بأن الحد الأعلى في الحالتين يقع في نيسان والحد الأدنى يقع في تشرين الأول. وبمقابلة المعطيات القديمة والحديثة المتعلقة بكمية المياه في دجلة والفرات يظهر بأنها متعادلة تقريباً بغض النظر عن كثرة الروافد لدى الأول وقلتها عند الثاني، فبعد أن يخرج الفرات إلى سهل ما بين النهرين لا يصب فيه رافد يستحق هذه التسمية إلّا الخابور ذلك إن الوديان الأخرى التي تصب فيه ليست سوى سيول شتوية تجف مع حلول حرارة الصيف.

كانت القرنة التي تقع على بعد ٧٠ فرستاً إلى الأعلى من البصرة تعتبر حتى وقت قريب الموضع الذي يلتقي فيه دجلة والفرات حيث يعرف المجرى المائي الذي يتكون من التقائهما باسم «شط العرب» أي النهر العربي. أما في الوقت الحاضر فإن المهندس الإنجليزي ولكوكس الذي أجري قياسات وقام ببحوث في العراق العربي تتعلق بخطة لإحياء نظام الري القديم في هذه المنطقة يؤكد بأن أية كمية من مياه الفرات لا تصب في دجلة بل إن هذا الأخير هو الذي يرسل قسماً من مياهه لتسير في المجرى الذي تركه توأمه الفرات. ويقودنا اكتشاف ولكوكس هذا إلى الاستنتاج بأن جزء شط العرب الواقع بين القرنة وكرمة علي وهو إسم

______________________

(١) (w. willcockes: op. ci. p. ٨)

٤٥

لموضع يقع على بعد ١٠ فرستات إلى الأعلى من البصرة يلتقي فيه الفرات بدجلة حقيقة، ما هو إلّا استمرار لدجلة ولهذا فمن غير الصحيح تسميته بشط العرب. وتشير قياسات السيد ولكوكس إلى أن عرض شط العرب، وهو الأسم الذي سنستمر على استخدامه، بين القرنة وكرمة علي يتراوح بين ٣٥٠ و ٥٣٠ أرشين في حين يبلغ عمقه ١١،١/٤ أرشين ولا يكبر إلّا بعد أن يصب فيه الفرات فيصل عرضه إلى ٧٧٠ أرشيناً وعمقه إلى (١،١٩/٢) أرشين. وتبلغ المسافة من البصرة حتى مصب شط العرب في الخليج ١٠٠ فرستاً يتراوح عرض النهر على امتدادها بين ٧٧٠ أرشين في مجراه الأعلى و ١٥٤٠ أرشيناً على الأسفل من مصب الكارون فيه بواسطة قناة الحفار. وتبلغ سرعة التيار في شط العرب عند البصرة ٦٣، ٥ قدم في الثانية ويصب في شط العرب إضافة إلى نهر الكارون الذي ينبع من جبال خوزستان نهر فارسي مهم آخر هو نهر كيركه (١) أو شط السويب وذلك في موضع يبعد ٨ فرستات إلى الأسفل من القرنة. وقبل أن يصيب الخراب في ١٨٣٧م السد الذي كان قائماً في مدينة الحويزة كان فرع آخر من هذا النهر يصب مباشرة في موضع غير بعيد عن مرقد النبي عزرا.

ويعترض مجرى شط العرب بين القرنة والمحمرة الواقعة عند مصب الكارون في ذلك النهر عدد كبير من الجزر، تقع إثنتان منها إلى الأعلى من

______________________

(١) كيركة هي التسمية التي يطلقها المؤلف على نهر الكرخة (أنظر ص٢٦ من هذا الكتاب) وهو غير نهر السويب، فالأول أي الكرخة ينبع من المرتفعات الأيرانية ويصب في الجانب الشرقي من هور الحويزة في حين أن الثاني أي نهر السويب يأتي بمياه هذا الهور من أجزانه الواقعة جنوب العزير ويصبها في شط العرب إلى الجنوب من القرنة بحوالي ٩ كيلو مترات أنظر: حسن الخياط، جغرافية أهوار ومستنقعات العراق، القاهرة ١٩٧٥، ص٢٤. ٦٧ ـ المترجم.

٤٦

البصرة، أما عن الجزر الواقعة إلى الأسفل من البصرة فأقر بها إلى هذه الأخيرة جزيرة صلاحية (١). التي يعرفها جيداً جميع المسافرين الأوربيين القادمين إلى البصرة بطريق البحر ذلك أنه كان يتحتم على أغلبيتهم أن يقضوا فترة قد تمتد طويلاً في مركز الحجر الصحي الواقع في الطرف الشمالي للجزيرة المذكورة. وتوجد إلى الأسفل من الصحلاحية على مسافة غير بعيدة عن مصب قناة الحفار، جزيرتان صغيرتان آخريتان يفصلهما عن بعضهما ممر ضيق، وتقعان على مقربة من الضفة اليسرى لشط العرب لذلك فإنهما تشكلان مع تلك الضفة فرعاً صغيراً للنهر صالحاً لمرور السفن.

ويكون شط العرب إلى الجنوب من المحمرة جزيرتين آخريتين هما خضر والمحيلة تقع ألاولى التي سميت على اسم الخضر الشخصية المقدسة عند المسلمين والمدفون فيها، بالقرب من قرية عبادان ويبلغ طولها ١٢ ميلاً في حين يتراوح عرضها بين ميل واحد وأربعة أميال. أما الثانية الواقعة في نفس موقع الأولى ويفصلها عنها شط العرب فإنها تتخلف عن جارتها من حيث الحجم لدرجة ملحوظة.

ويحد جزيرة خضر من الجنوب الخليج ومن الشرق بهمشير وهو فرع للكارون يأخذ قسماً من مياهه ويصب في الخليج. ومن الشمال قناة الحفار ومن الغرب شط العرب ولذلك فإنها تبدو كما لو أنها امتداد للضفة اليسرى لهذا النهر الأخير. وقد تنازلت الدولة العثمانية عن هذه الجزيرة وعن منطقة المحمرة لفارس بموجب المادة الثانية من معاهدة أرضروم لعام ١٨٤٧ التي نصت على تأخذ فارس جزءاً من الضفة اليسرى

______________________

(١) يقصد جزيرة الصالحية ـ المترجم.

٤٧

من شط العرب يمتد لمسافة ٦٨ فرستاً من الخليج إلى مصب قناة « أبو جودي » بالقرب من قلعة شيخ المحمرة في الفيلية.

وتكمن أهمية شط العرب بالنسبة للبصرة في صلاحيته للملاحة حيث أصبحت البصرة بفضل ذلك، الميناء الطبيعي للخليج رغم أنها تبتعد عنه بما يقرب من مائة فرست. والواقع أن عمق شط العرب يبلغ درجة تستطيع معها السفن التي يبلغ غاطسها ١٥ قدماً الوصول إلى البصرة في أي فصل من فصول السنة. أما في أثناء المد الذي يحدث مرتين في اليوم ويرتفع مستوى المياه في النهر بسببه بمقدار ٤ ـ ٦ أقدام فإن المرور فيه لا يسبب مشكلة حتى بالنسبة للسفن ذات الغاطس الأعمق من ذلك.

وهكذا فإن العائق الوحيد للملاحة الجيدة، هو الحاجز المتكون عند مصب شط العرب والذي يتألف من مضحلين هما مرقط عبد الله الذي يتاخم الضفة اليمنى النهر ومرقط عبادان الذي يبدو كامتداد لضفته اليسرى. وينحدر كل من هذين المكاني الضحلين الذين يكونان ما يشبه الهلال باتجاه خور الكافكة الذي يكون المجرى الغربي لشط العرب ويؤلف حالياً المجرى الملاحي لسير السفن البحرية. وتمتد القناة المذكورة لمسافة ١١ ميلاً حتى رأس البيشة الذي تقع الفاو بالقرب منه، ويتراوح عمقها عند انخفاض المياه ما بين ٨ و ١١ قدماً يقل إلى ٧ أقدام قبل الفاو بميلين. ويضطر هذا المكان الضحل السفن ذات الغاطس الكبير نسبياً إلى انتظار الوقت الذي يصبح فيه القمر بدراً أو هلالاً حيث ترتفع المياه عند الحاجز إلى ١٧ ـ ١٩ قدماً، هذا بالرغم من أن المرور خلال الحاجز لا يشكل خطراً حتى بالنسبة للسفن التي يزيد غاطسها بمقدار قدم أو قدمين عن الحد المقرر وذلك بسبب من أن قاع الحاجز طيني ناعم ليس فيه صخور صلبة. إن فرع شط العرب الواقع إلى الشرق من خور الكافكة معروف، بالرغم من

٤٨

طوله وكثرة تعرجاته، بأنه أكثر صلاحية للملاحة ولكنه خال من علامات الإرشاد ولذلك فإنه لا يصلح لمرور السفن ذلك أنه يصعب المرور حتى في خور الكافكة دون مساعدة مرشد عربي على الرغم من وجود أربع عوامات أقامتها في هذه القناة شركة النهد البريطانية للملاحة البخارية

(British India Navigation Company) التي كانت تقوم برحلات بريدية أسبوعياً بين الهند وموانئ الخليج (١).

وعلى بعد ٢٠ كيلومتراً إلى الغرب من مصب شط العرب يقع مصب الفرع الذي كان الفرات سابقاً يصب بواسطته مباشرة في الخليج منفصلاً عن دجلة والذي عرفه اليونانيون باسم بالاكوباس أما العرب فيطلقون عليه حالياً أسم جيري زادة (٢). ولا يزال هذا الفرع حتى الآن يأخذ قسماً ملحوظاً من مياه الفرات طيلة ثمانية أشهر من السنة على الأقل وهو صالح تماماً لسير السفن الشراعية العربية ويلاحظ أن المسافة التي تفصل مصب جيري زادة عن مصب شط العرب تزداد من سنة لأخرى بسبب من أن مصب شط العرب يتقدم تدريجياً وباضطراد نحو الشرق بتأثير ترسبات تيار الخليج الذي يجري من شواطئ فارس نحو الضفة الغربية من الخليج.

ولن يكون وصفنا للعراق الجنوبي من الناحية الهيدروغرافية كاملاً إذا لم نتعرض لذكر القنوات القديمة التي ذكرها هيرودوت والتي لا تزال موجودة بحالة متفاوتة الدرجة من الجودة (٣) فبفضل منشآت الري تلك كانت جميع أصقاع المجرى الأسفل للفرات ودجلة التي تؤلف في قسمها

______________________

(١) H. J Wigham: The Persian Problem. London. ١٩٠٣. p. ١٢٥ FF.

(٢) الصحيح جري سعدة ـ المترجم.

(٣) K. Ritter. Op. cit. t. IXS.٤١٨ FF: t. VII. Abt. l.S. ٢٠١ FF.

٤٩

الأغلب في الوقت الحاضر جزءاً من الصحراء التي تحرقها الشمس أو هي عبارة عن مستنقعات تستعصي على الاجتياز، كانت في وقت من الأوقات تشغلها البساتين والحقول ويقطنها بشكل مكثف سكان مزارعون مجدون. وتختلف هذه القنوات في حجمها تبعاً للهدف من إنشائها وهو هدف مزودج، فالبعض منها كالصقلاوية الذي يأخذ مياهه من الفرات إلى الأعلى قليلاً من الفلوجة ويصب في دجلة بالقرب من بغداد وكذلك الأنهر التي توازيه وهي على التوإلى من الأعلى إلى الأسفل: نهر عيسى (أبو غريب حالياً) ونهر صرصار (الرضوانية حالياً) ونهر ملك ونهر الكوت (وهذا الأخير كان يصب في دجلة إلى الأسفل من سلوقيا) لم تكن تستعمل للري فقط وإنما تستخدم أيضاً كشرايين صالحة للملاحة تمتد لعشرات الأميال في العراق العربي وتربط بين الفرات ودجلة؛ وينتمي النهروان الذي يجري في الضفة الشرقية لدجلة ويوزع المياه من رافدي هذا الأخير على كل المنطقة الواقعة بين بغداد وكوت الامارة وجبال الحدود الفارسية إلى هذا النوع من القنوات إذ أنه كان صالحاً للملاحة أيضاً بفضل عمقه الملحوظ الذي يصل في بعض المواضع إلى ١٥م. أما القنوات الأخرى فكانت مخصصة للري فقط لذلك فإنها تختلف في حجمها لدرجة ملحوظة عن النوع الأول، ومنها: شط الكار والمحمودية واللطيفية والاسكندرية التي تتغذى بالمياه من الفرات والدجيل والاسحاقي وغيرها التي تأخذ مياهها من دجلة.

وقد استكمل نظام الري، بهدف حماية البلاد من الفيضانات ولكي توزع مياه الري بالتساوي، بعدد من السدود المبنية من الحجر والطابوق. مثل سد ظهر العوض أو نمرود بالقرب من نينوى، وقد بنيت بإحكام إلى درجة بحيث ظلت آثارها قائمة حتى الوقت الحاضر على الرغم من مرور

٥٠

آلاف السنين (١).

لقد كانت دراسة جميع منشآت الري القديمة هذه حتى القرن الحالي سيئة إلى درجة بحيث لا توجد هناك بالنسبة لأغلبية هذه القنوات أية معلومات لا عن زمن بنائها ولا عن اتجاهاتها بالضبط ولا حتى عن مدى صلاحيتها. ويتحتم علينا أن نأمل بأن لجنة المهندسين الأوروبيين برئاسة السيد ولكوكس التي تقوم منذ ١٩٠٨ بدراسة حقلية لوضع خطة لإحياء بلاد الكلدانيين القديمة عن طريق إعادة إنشاء قنواتها الاروائية، ستساعد على حل هذه المسائل وكثير من المسائل المهمة الأخرى المتعلقة بنظام الري القديم في العراق العربي.

وكان السيد ولكوكس وهو واحد من الشخصيات البارزة التي أهتمت بالري في مصر، وقد زار العراق العربي في شتاء ١٩٠٤ للإطلاع مسبقاً على طبيعة عمله القادم وقد اقتنع آنذاك بعدم جدوى الاقتصار على مجرد ترميم منشآت الري. ولهذا السبب أدخل في مخططه أيضاً حماية العراق من الغرق بسبب الفيضان الربيعي للأنهار وكذلك تجفيف الأهوار التي تحتل حالياً ما يقرب من ثلث سهول العراق.

وتتكرر الفيضانات التي أشرنا إليها أعلاه سنة بعد أخرى فتسبب للسكان خسائر تتفاوت في حجمها تبعاً لحجم الفيضان نفسه، فقد انقطعت بغداد مثلاً خلال الـ ٧٥ سنة الأخيرة عن العالم الخارجي ١٧ مرة بسبب الفيضانات وكان انقطاعها لفترات تترواح بين شهر واحد وأربعة أشهر هذا إذا أهملنا الفيضانات الأخرى الأصغر حجماً (٢).

______________________

(١) F. R Chesney: op. cit. Vol.١.p.٢١.

(٢) السالنامة الخاصة بولاية بغداد لسنة ١٣٢١ هـ ص١٥٩ ـ ١٦٠.

٥١

أما في البصرة فقد دمر فيضان شط العرب في عام ١٨٩٠ مليوني نخلة وهي الوسيلة الأساسية للغذاء والثروة بالنسبة للأهالي هناك. لكن الحكومة العثمانية، بسبب قلة ما تحت يدها من أموال، في وضع لا يمكنها من مكافحة هذا الشر الذي يعود في أصله بالدرجة الأولى إلى الاستعاضة عن السدود الغالية التكاليف بحواجز بدائية تبنى من حزم القصب المجدول والطين. فمثل هذه المنشآت القائمة حالياً في جميع أنحاء العراق العربي لا تتحمل بالطبع ضغط فيضان الربيع لذلك أصبح تسرب المياه إلى السهول المحيطة بالفرات ودجلة ظاهرة مألوفة.

وتمتد المياه الراكدة التي تكونت من الفيضانات التي تتكرر سنوياً والتي يسميها الأتراك بحيرة (موخ صو) ويطلق عليها العرب اسم جزائر المنتفك، باتجاه مستقيم من بلدة سوق الشيوخ على الفرات حتى أسوار البصرة وتمتد نحو الغرب حتى مجرى الفرات القديم جيري زادة، في حين تتصل في الشرق بمياه هور العمارة التي تحتل الضفة اليمنى لدجلة إلى الأعلى والأسفل من قبر عزرا. وتتكون من مياه هذه المستنقعات جميعها بحيرة حقيقية يبلغ طولها ما بين ٥٠ إلى ٦٠ ساعة سير في القارب وعرضها ما بين ٢ إلى ٣ ساعات في حين يتجاوز عمقها في بعض المواقع المتر الواحد وهناك مستنقع آخر لا يقل سعة عن ذلك يُعرف باسم هور عزام يحتل مساحة كبيرة إلى الشرق من دجلة تمتد من العمارة حتى نهر كيركة وموضع الحويزة.

إن تجفيف المستنقعات التي تتاخم المجرى الأدنى للفرات ودجلة وهو الاجراء الذي تضمنه مشروع السيد ولكوكس لدرء الفيضان السنوي لهذين النهرين هو قيمة حقيقية للبلاد لا في المعنى الاقتصادي فحسب وإنما من وجهة النظر الصحية في المنطقة إيضاً ذلك أن العراق العربي هو

٥٢

في الوقت الحاضر بؤرة لكل أنواع الملاريا التي تتخذ في القسم الجنوبي منه وفي منطقة البصرة طابع الوباء المحض. ويمكننا أن نتبين إلى أي مدى يكون المناخ قاتلاً هناك بالنسبة للأجانب من المثل الذي اطلقه العرب والذي معناه كالآتي: أنا البصرة معروفة لكم جيداً إذا حضر غريب فانبئوني وإذا ما ذهب عني سالماً معافى فلوموني (١).

وينطبق المثل المذكور على العراق الأدنى بأجمعه إذ أنه يشبه البصرة تماماً في مناخه، ولكنه يفقد معناه بالنسبة للعراق إلى الشمال من كوت الامارة فلقد بات من الأكيد تماماً أن مناخ العراق يزداد جفافاً ويصبح صحياً أكثر كلما ابتعدنا عن الخليج. وهكذا فإن الأروبيين يتحملون حرارة الصيف التي تصل في بغداد في أحيان كثيرة إلى ٥٠ درجة مئوية في الظل بفضل جفاف الهواء الرائع أسهل من تحملهم لدرجة الحرارة التي تقل عن ذلك في البصرة (٤٥ درجة مئوية كحد أعلى في الظل) حيث الهواء مشبع ببخار الخليج والمستنقعات المحيطة بالمدينة على السواء.

ومما لا شك فيه أن العراق العربي ينتمي من حيث ظروفه المناخية العامة إلى البلدان الحارة حيث تنقسم السنة إلى فصلين حار وبارد يتميزان عن بعضهما بشكل حاد، فالحرارة تبدأ بالارتفاع اعتباراً من النصف الثاني من آذار بعد ربيع قصير هو أطيب أوقات السنة في هذه الأصقاع، وتصل في تموز في البصرة وفي آب في بغداد إلى أعلى معدل لها (٢). ولا تأخذ

______________________

(١) T.M. Lycklama a Nijeholt: Voyage en Russie au Caucase et en Paris. ١٨٧٢. t.III. p.٧٤.

(٢) في الوقت الذي يكون فيه الحد الأعلى في بغداد ٥٠ درجة مئوية في الظل فإن هذا الحد لا يتعدى في البصرة ٤٥ مئوية علما بأن الحرارة تستمر في الأخيرة بمعدل أعلى من ٣٩ درجة مئوية في الظل لمدة لا تقل عن المائة والعشرين يوماً.

٥٣

الحرارة بالانخفاض إلا اعتباراً من النصف الثاني من أيلول فتأخذ الليالي بالبرودة ويحل الخريف الذي يجلب معه الراحة للحيوانات والناس المنهكين. والشتاء في البصرة أدفأ منه في بغداد بشكل محسوس، فدرجات الحرارة تتراوح في النهار ما بين ١٠ و ١٥ درجة مئوية تنخفض في الليل إلى ١/٥ درجة مئوية ولكنها لا تنخفض أكثر من ذلك إلّا نادراً، في حين لا يزيد متوسط درجات الحرارة في النهار في بغداد خلال شهري كانون الأول وكانون الثاني عن ٥ درجات مئوية، أما في الليل فيحدث الصقيع أحياناً وتصل درجة الحرارة إلى ٥ درجات مئوية تحت الصفر.

وظروف سكان البصرة أسوء من ظروف سكان بغداد من حيث وسائل الاحتماء من الحر، فهؤلاء الأخيرون يقضون كل يومهم في الصيف في سراديب تحفر في الأرض لعمق يصل إلى عدة أرشينات لذلك تكون درجة الحرارة فيها أقل بدرجة محسوسة منها على السطح، أما في الليل فإنهم يأخذون أماكنهم في العراء على سطوح بيوتهم المستوية دون أن يخشوا الاصابة بالحمى وذلك بفضل جفاف الهواء المدهش.

أما في البصرة فليس بالامكان بناء سراديب بسبب قرب المياه الجوفية من سطح الأرض ولهذا يتحتم على الكثيرين في الصيف أن يقنعوا بالغرف الخانقة في الطابق الأسفل حيث تعلق على الشبابيك من الخارج، بهدف خفض الحرارة في الغرف، أطر من سعف النخل المجدول على شكل أقفاص تشبه رقعة الشطرنج وتملأ هذه الأقفاص بالعاقول أو الشوك الجاف ويصب عليها الماء بين الحين والأخر، وليإلى الصيف في البصرة بعكس حالتها في بغداد، لا تختلف عن النهار من حيث القيض وانحباس الهواء كما أن الندى يسقط أثناءها ولهذا يتعذر النوم على السطوح إلا تحت سقائف سميكة معمولة من القصب. وتبعاً لهذه الظروف لا يتأتي

٥٤

لساكن البصرة أن يستريح في الليل من تعب النهار لذلك فإنه يهرب عند أول فرصة إلى بغداد لكي يقضي برهة على الأقل من فصل الصيف الثقيل.

وليس بمقدور العراق الجنوبي ان يفخر بغزارة سقوط الأمطار فيه بالمعدل السنوي لسقوط الأمطار فيه لم يتعد طيلة ٢٥ سنة ابتداء من ١٨٨٨ مقدار ٨،٣٤ أنج حيث وقع الحد الأعلى ومقداره ٢٢،٣١ أنج في عالم ١٨٩٤ في حين كان الحد الأدنى ومقداره ١،٤٧ أنج من نصيب عام ١٩٠١ (١) وليس لهذه الأصقاع فصل محدد للأمطار كبقية البلدان المدارية، فالأمطار تسقط في العراق العربي بشكل متفاوت وفي فترات متباعدة ابتداء من النصف الثاني من تشرين الأول حتى نهاية نيسان. أما حزيران وتموز وآب وايلول فهي خالية من الأمطار نهائياً. وفي الوقت الذي يكون فيه سقوط البرد ظاهرة اعتيادية في هذه الأنحاء يكون الثلج نادراً حتى في بغداد التي تقع إلى الشمال من البصرة كثيراً إلى درجة بحيث أن الأسفار التاريخية تشير إلى سقوطه الذي يحدث مرة أو مرتين في القرن، على أنه حادثة خارجة عن المألوف.

وتعتبر الرياح الشمالية والشمالية الغربية من الرياح السائدة في العراق، فالأخيرة تهب اعتباراً من شهر أيار لمدة ستين يوماً بدون انقطاع تقريباً ويقسم الأهالي هذه الفترة إلى فترتين هما البارح الصغير ومقدارها ٢٠ يوماً والبارح الكبير (الريح) التي تستمر أربعين يوماً. وتجلب الرياح

______________________

(١) بلغ المعدل السنوي لكمية الأمطار الساقطة في السنوات السبع الواقعة بين ١٩٠٤ ونهاية ١٩١٠ مقدار ٤،٩٦ أنج حيث كانت النهاية العظمى ومقدارها ١٠،٢٣ أنج في ١٩٠٧ في حين صادقت النهاية الصغرى ومقدارها ٢،٨٧ أنج في ١٩٠٩: W. Willcocks: op. cit. p.٧٤

٥٥

الشمالية الغربية معها سحباً من الغبار يتشبع بها الهواء إلى درجة بحيث تصبح الشمس بالنسبة لمن ينظر إليها عبارة عن قرص ضخم من النحاس الأحمر. ويحل في نهاية تموز والنصف الأول من آب فصل « السموم » أو الرياح الحارة التي تمر على رمال صحاري شبه الجزيرة العربية الحارة فتسخن إلى درجة بحيث أن أنفاسها الحارة تهدد بالموت من تصادفه في طريقها من الناس والحيوانات. وفي الفترة من أيلول حتى تشرين الأول غالباً ما تغير الرياح اتجاهاتها مما يؤدي إلى تغييرات حادة في درجات الحرارة فيسبب ذلك زيادة الأمراض من مختلف الأنواع. ويعتبر « الشرجي » أو الرياح الجنوبية الشرقية التي تسود في شهر شباط مضر بالصحة بشكل خاص لأنه يجلب الأبخرة من الخليج فيرفع بذلك نسبة أمراض الحمى بدرجة كبيرةِ.

أما بالنسبة لمدينة البصرة نفسها فهناك إلى جانب المناخ الردئ وأبخرة المستنقعات عامل آخر يساعد أيضاً على تحويلها إلى بؤرة لجميع الأمراض ذلك هو انعدام المياه الصالحة للشرب، فالواقع أن الفقراء يشربون من قناة العشار التي تجعلها نفايات المدينة قذرة جداً، بسبب بعد المدينة عن شط العرب والبصريون الموسرون هم وحدهم الذين يتأتى لهم جلب المياه لاستخدامهم الخاص من شط العرب، ولكن حتى مياه هذا الأخير لا يمكن وصفها بالنقاء وذلك لأنه لا تصب في النهر في أثناء الجزر المياه الراكدة من المستنقعات المجاورة فحسب وإنما يرد إليه أيضاً القسم الأغلب من قاذروات المدينة عن طريق قناتي العشار والخندق. ويمكن الحكم على درجة قذارة شط العرب من التجربة التي أجراها الدكتور بوريل الذي كان رئيساً لمحطة الحجر الصحي في البصرة في تسعينيات القرن السابق فلقد وجد بعد أن كرر التجربة خمس مرات ٦٨٢٠٠ عصية

٥٦

في السنتمر المكعب الواحد من ماء أخذه من الموضع الذي يأخذ منه السقاة المياه. وقد استطاع السيد بوريل أن يجد بين هذه العصيات عدداً كبيراً من جراثيم التيفوس والدزانتري وغيرها من الأمراض المعدية الخاصة بالبلدان الحارة فضلاً عن أن أحد الجراثيم كان كثير الشبه بمكروب الكوليرا. ويتحدث السيد بوريل عن هذا الموضوع في كراسه (١) قائلاً: « للأسف أنني لم أستطع بسبب عدم وجود الأدوات اللازمة أن أكمل إلى النهاية ملاحظاتي حول الشبه بين العصيات التي وجدتها في مياه شط العرب ومكروب الكوليرا. ومع ذلك فإن هذ الحقيقة فائقة الأهمية وهي تفتح آفاقاً جديدة بالنسبة لقضية أوبئة الكوليرا في ما بين النهرين عموماً وفي البصرة على وجه الخصوص ». ويبدو أن العراق العربي يكون تربة أخصب من ذلك بالنسبة لظهور وتطور الطاعون فحسابات (E. Reclus) (٢) تشير إلى أن إثنين وعشرين وباء للطاعون ظهرت أو استشرت بشدة في هذه المنطقة، من أصل أربعين وباء كانت قد ظهرت في الأرباع الثلاث الأول من القرن التاسع عشر.

ولا يسعنا ونحن ننتقل إلى وصف المملكة النباتية في العراق الجنوبي إلا أن نلاحظ مسبقاً بأن رواية الكتاب المقدس تشير إلى أن الجنة في الأرض أو المثوى السعيد للناس الأول قبل الخطيئة كانت ترويها اربعة أنهار ذكرت أسماؤها في الفصل الثاني من سفر التكوين. وفي الوقت الذي لا يزال فيه مكان وجود نهري فيشون وحيمون موضع جدل، فإن وضع الفرات ودجلة أو حد اقل باللغة العبرية لم يتغير ولهذا السبب يمكن

______________________

(١) La defense Samitaire du golfe Persique et du Chatt – el – arab.

(٢) Nouvellle Geographie Univetselle. T. IX. P.٤١٨.

٥٧

الاعتقاد بأن الجنة كانت تقع ضمن العراق العربي. ومع ذلك فالسذج من الناس الذين يعتقدون بأن العراق العربي يذكرنا في شكله الخارجي ولو من بعيد بالحديقة الغناء التي عاش فيها اسلافنا سيخيب أملهم بمرارة لو رأوه رأي العين. فالمسافر فقط الذي يأتي من سواحل الخليج العربي القاحلة التي تحرقها الشمس فتبدو كالملعونة إلى شط العرب الذي تحيطه غابات لا نهاية لها من اشجار النخيل الدائمة الخضرة يمكن أن يعتقد للوهلة الأولى بأنه في الجنة حقاً.

ولكن يكفي للقادم أن تزاوله لحظة الافتتان الأولى لكي يدرك بأن أحراش النخيل التي بدت له وكان لا نهاية لها لا تتوغل في داخل البلاد إلا لمسافة فرستين أو ثلاث تحل بعدها نفس الأهوار والصحاري التي تكون الميزة السائدة في مظهر العراق العربي كله.

تحتل النخلة دون شك المكان الأول بين نباتات هذه المنطقة. لأن تربة العراق الجنوبي وظروفه المناخية أكثر ملائمة لنجاح زراعتها فالمثل العربي يقول بأن النخلة يجب أن تكون أرجلها في الماء ورأسها في النار ولهذا يجب أن تكون حدود انتشارها في الشمال على الفرات عنه التي تحتوي على آخر بساتين النخيل وعلى دجلة التي لا تحتمل النخلة تمراً إلى الشمال منها.

أما المرتبة الثانية من حيث الانتشار فهي من نصيب الحبوب التي تنقسم حسب موسم بذارها وحصادها إلى شتوية وصيفية، ينتمي إلى الصنف الأول الشعير والحنطة اللذان تبدأ زراعتهما في تشرين الأول ـ تشرين الثاني وتنضج في نيسان وأيار، ويعود إلى الصنف الثاني الرز والذرة البيضاء والصفراء والعدس والدخن والنباتات القرنية والسمسم حيث يكون بذارها في نيسان ـ حزيران وتحصد في تموز ـ ايلول. وإذا ما

٥٨

أخذنا بشهادة المصادر القديمة (١) يزيد من خصوبتها طمي نهري دجلة والفرات كانت تدر في تلك الأزمان الغزيرة محصول الرز والشعير لا يقل عن ٢٠٠ صنف لكن الشعب هنا لم يحفظ عن تلك الخصوبة الخيالية حتى ولا الحكايات، حيث يعتبر الفلاحون حالياً ٣٠ أو ٤٠ صنفاً محصولاً ممتازاً. ومن بين الحبوب الرئيسية الشعير الذي يحتمل الجفاف أكثر من بقية الحبوب ويزرع بالدرجة الأولى في ولاية بغداد، والرز الذي يحتاج إلى حقول تغمرها المياه فيزرع بالدرجة الأولى في ولاية البصرة وأما الحنطة التي تفضل مناخاً أكثر اعتدالاً فإنها تؤلف أكثر محاصيل ولاية الموصل انتشاراً.

ولا تنتشر زراعة الخضراوات وزراعة البساتين، باستثناء بساتين النخيل، في العراق الجنوبي إلا على نطاق ضيق ولا تكون لها أهمية صناعية. إن محاصيل تحتاج إلى مناخ أكثر اعتدالاً مثل البرتقال والعنب والفستق تنجح بشكل أفضل في ولاية الموصل. أما في العراق الأدنى فمن الممكن زراعة القسم الأغلب من الخضراوات المعروفة لأوربا. ومن بين المحاصيل كانت تزرع هناك في الأزمان الغابرة الحناء (٢) وقصب السكر والتيلة وهذه جميعها اختفت تماماً في الوقت الحاضر. أما زراعة القطن فإنها لم تزدهر حتى الأيام الأخيرة إلا على ضفاف نهر ديالى وفي ضواحي عنه على الفرات ولكنها لم تكن تحمل طابع المشاريع الكبيرة المنفردة. ومن المحتمل أن يكون لزراعة القطن المحلية مستقبل زاهر بعد انبعاث العراق بفضل إعادة منشآت الري القديمة وإنشاء سكة حديد ببغداد. وتزدهر

______________________

(١) Fr. Lenormant: Histoire de Lorient. Paris ١٨٨٨. T. IV. P. ٧.

(٢) (Lawsonia inermes)

٥٩

زراعة التبغ بشكل أساسي في الموصل والسليمانية وشهرزور أي في حدود ما بين النهرين، أما في العراق الجنوبي فليس لها أهمية تُذكر حيث تقتصر على مساحات صغيرة في أقضية كربلاء والحلة والديوانية في ولاية بغداد وعلى مساحات أقل في قضائي المنتفك والعمارة في ولاية البصرة.

إن غابات شجر الدلب والحور والجميز والتوت والأثل البرية التي كانت في بداية القرن الماضي أي القرن التاسع عشر تغطي ضفاف نهري الفرات ودجلة اختفت حالياً وعلى الأخص من ضفاف النهر الأخير. وقد ساعدت شركات الملاحة النهرية على انقراضها إذ افتتحت خطوطاً للملاحة المنتظمة في نهر دجلة بين بغداد والبصرة وظلت لوقت طويل تستخدم كوقود، الحطب الذي يجهزها به بموجب عقود خاصة الأعراب القاطنين على الضفاف. ولا يزال يوجد حتى الآن قليل من أحراش الحور والصفصاف على ضفتي الفرات. والحور المحلي المعروف باسم (Populus euphratica) تكون له آوراق تشبه المبضع في شكلها وهو كثير الشبه بالصفصاف.

وبسبب القضاء على الغابات فقدت المملكة الحيوانية في العراق العربي الكثير من ممثليها. فالأسد العديم اللبوة الذي كان قبل خمسين سنة يثير بزئيره الفزع في نفوس المسافرين على السفن التي تمخر عباب دجلة ليلاً، أصبح في الوقت الحاضر مثلاً مجرد أسطورة. ومن الأنواع التي اختفت من العراق أيضاً حمار الوحش الذي كانت قطعان كاملة منه تسرح في الوقت الذي زار فيه هذه الأصقاع الرحالة الأيطإلى (Pitro Della Valle) في ١٦٢٥، أما الآن فلا يمكن للمرء أن يصادفه إلا في جبال حمرين. وكانت النعامة التي يذكرها كسينوفون هي الأخرى قد تركت وهاد العراق قبل حمار الوحش وتوغلت في صحاري بلاد العرب. أما الحيوانات الوحشية الأكثر انتشاراً في العراق في الوقت الحاضر فهي الخنزير والظبي

٦٠