أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

واستدلّ على المختار بوجوه أخر (١) :

منها : نصّ الصادق عليه‌السلام في مشهورة أبي خديجة بقوله : « انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ... » (٢).

وفيه : أنّ المنكر للتجزّي لا يدّعي وجوب العلم بكلّ الأحكام ، وإنّما يدّعي وجوب الإحاطة بكلّ المدارك والمآخذ ليحصل له الظنّ القويّ بعدم المعارض ، فزعمه أنّ العلم بشيء من الأحكام لا ينفكّ عن الإحاطة بكلّ الأدلّة ، فالعالم بشيء من القضايا مجتهد مطلق عنده.

ومنها : أنّه لو لم يتجزّأ الاجتهاد لزم علم المجتهد بجميع المدارك ، ويلزمه العلم بجميع الأحكام ، واللازم منتف ؛ لشيوع « لا أدري » من المجتهدين ، وتوقّف كثير منهم في كثير من الأحكام في مصنّفاتهم.

وفيه : أنّ العلم بجميع المدارك لا يستلزم العلم بجميع الأحكام ؛ لجواز عدم العلم ببعضها ؛ لتعارض الأدلّة الكثيرة وتراكمها بحيث لم يقدر على الترجيح ، أو للعجز في الحال عن الجهد التامّ ؛ لمانع يشوّش الفكر ، أو لاستدعائه زمانا طويلا ، أو لتوقّفه على كتاب غير حاضر.

ومنها : أنّ حصول ملكة العلم بكلّ الأحكام الواقعيّة ممتنع عندنا ؛ لأنّ جميعها كانت مودعة عند أئمّتنا عليهم‌السلام ولم يتمكّنوا إلاّ من إظهار بعضها ؛ لتقيّة أو غيرها.

وفيه : أنّ النزاع ليس في حصول العلم بالأحكام الواقعيّة ، بل بالأحكام الظاهريّة ، وحصول ملكة العلم بالنسبة إلى جميعها ممكن.

احتجّ المانعون (٣) بأنّه لو صحّ التجزّي لزم الدور. وقد قرّر لزوم الدور بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّئ في مسألة فقهيّة ـ كوجوب السورة مثلا ـ موقوفة على صحّة اجتهاده في مسألة تجزّي الاجتهاد ؛ إذ ما لم يترجّح صحّة التجزّي ، لم يصحّ له الاجتهاد في الفروع ، وصحّة اجتهاده في هذه المسألة موقوفة على صحّة هذه

__________________

(١) راجع الوافية : ٢٤٦ ـ ٢٥٠.

(٢) الفقيه ٣ : ٢ ـ ٣ ، ح ٣٢١٩ ، وتهذيب الأحكام ٦ : ٢١٩ ، ح ٥١٦.

(٣) راجع : المحصول ٦ : ٢٥ ، ومعالم الدين : ٢٣٩ ، والوافية : ٢٤٦ ـ ٢٥٠.

٣٤١

المسألة نفسها ؛ لأنّه ما لم يصحّ مطلق التجزّي ، لم يصحّ اجتهاد المتجزّئ في مسألة اصوليّة هي مسألة التجزّي ، مع أنّ صحّة مطلق التجزّي تتوقّف على اجتهاده في هذه المسألة ، فاعتماد المتجزّئ على صحّة مسألة التجزّي ـ أي مساواته للمجتهد المطلق ـ تجزّ في مسألة التجزّي.

ويرد عليه : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّئ في الفروع تتوقّف على مسألة اصوليّة هي صحّة اجتهاده في مسألة تجزّي الاجتهاد وهي تثبت بدليل ظنّي ، فلا معنى لتوقّفها على صحّتها في نفسها ؛ لأنّ صحّتها في نفسها ليست إلاّ كونها مطابقة للواقع ، ومطابقة الشيء للواقع إنّما تعلم بالدلالة ، والدلالة الظنّيّة هنا موجودة.

فإن قيل : ترجيح هذه المسألة الاصوليّة وإثباتها للمتجزّئ بالأدلّة الظنّيّة فرع ثبوت التجزّي ؛ إذ لو لم يجز لم يصحّ له أن يثبتها.

قلت : التجزّي المتنازع فيه هو التجزّي في الفروع. وأمّا التجزّي في الاصول ، فجائز إجماعا ؛ فإنّهم أجمعوا على أنّه يجوز لمن حصل له الظنّ بمسألة أن يعمل بمقتضاه ، وبهذا يندفع ما قيل : إنّ صحّة التجزّي توجب التعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ (١) ، وجعل هذا مرجع الدور.

بيانه أنّ جواز عمل المتجزّئ بظنّه الحاصل من اجتهاده في الفروع يتوقّف على جواز عمله بظنّه الحاصل من اجتهاده في الاصول ، فيتوقّف الظنّ على الظنّ وهو الدور.

ووجه الاندفاع أنّ جواز العمل بالظنّ في الاصول يثبت بالإجماع القطعي ، فأحد الظنّين يتوقّف على الآخر ، والآخر لا يتوقّف عليه.

والحاصل أنّ جواز عمل المتجزّئ باجتهاده في مسألة فرعيّة خاصّة يتوقّف على جواز عمله باجتهاده ، وهذه مسألة اصوليّة ، فإن اكتفي في مسائل الاصول بالظنّ ثبت المطلوب ، وإلاّ نقول : دلّ القطع على الاكتفاء بالظنّ في هذه المسألة ؛ لأنّ المتجزّئ لا بدّ له إمّا من الاجتهاد أو التقليد ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، فإن اشترط القطع لم يجز شيء منهما ؛ لعدم القاطع أصلا ، فيعود الإشكال.

__________________

(١) راجع : معالم الدين : ٢٣٩ ، والوافية : ٢٤٦.

٣٤٢

فإن قيل : القاطع دلّ على اعتماد المجتهد المطلق على ظنّه ، وتقليد غيره له ، فالمتجزّئ يقلّده مطلقا أو في هذه المسألة ، ثمّ يجتهد في غيرها.

قلت : لا قاطع على جواز تقليد المتجزّئ له ، بل القاطع دلّ على جواز تقليد العامّيّ الصرف له ، فالمتجزّئ يندرج تحت ما دلّ على ذمّ التقليد في الاصول ، مع أنّه يلزم على الشقّ الأخير ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد.

وبعبارة اخرى تركّب (١) الاجتهاد والتقليد ، وهو أمر مستبعد غير معروف ، على أنّه يلزم عليه جواز العمل في الفروع بظنّه بعد أن يقلّد غيره في جواز اعتماده فيها عليه ، فيثبت صحّة التجزّي.

فإن قيل : على ما ذكر من انحصار دلالة الإجماع على حجّيّة ظنّ المجتهد لمطلق ، وتقليد العامّيّ الصرف له ، يلزم تردّد المتجزّئ بين كونه مجتهدا ومقلّدا ، فما وجه الترجيح لإلحاقه بالمجتهد مع أنّ الظاهر حينئذ ثبوت التخيير؟

قلت : وجهه لزوم التقليد والعمل بالظنّ في صورة إلحاقه بالمقلّد وفي الأوّل لا يلزم إلاّ العمل بالظنّ ، مع أنّ مجرّد التقليد مرجوح بالنسبة إلى العمل بالظنّ إذا تعارضا ، على أنّ هذا على فرض التنزّل ؛ لأنّ الحقّ المشهور جواز العمل بالظنّ في الاصول.

[ الوجه ] الثاني : حصول علم المتجزّئ بأنّ ظنونه في الفروع متّبعة يتوقّف على حصول علمه بأنّ ظنّه في مسألة التجزّي متّبع وبالعكس ، فيلزم الدور.

وفيه : أنّ تعليل الثاني بالأوّل غير صحيح ، فلا يتوقّف عليه ، بل على حجّة تثبته وهي موجودة ، أعني الإجماع على جواز العمل بالظنّ في الاصول ، فإذا علّل الثاني بالإجماع ، اندفع الدور.

[ الوجه ] الثالث : أنّ جواز الاجتهاد في الفروع مسألة اصوليّة وليست ضروريّة ، فلا بدّ لها من دليل ، وليس عليها قاطع ـ كما هو الفرض ـ بل دليل ظنّي ، وجواز الاعتماد على مثل هذا الظنّ أيضا يحتاج إلى دليل ، وهو أيضا ظنّي ؛ لعدم القاطع بالفرض ، فحجّيّته أيضا تحتاج إلى دليل آخر وهكذا. وعلى هذا التقرير يلزم التسلسل لا الدور.

__________________

(١) أي يلزم تركّبهما.

٣٤٣

وجوابه : ما عرفت (١) من أنّ القطع دلّ على جواز الاعتماد على الظنّ في الاصول ، فينقطع التوقّف.

فصل [٣]

شرط الاجتهاد أن يعرف جميع ما يتوقّف عليه إقامة الأدلّة على المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، ويتمّ ذلك بامور :

[ الأمر ] الأوّل : معرفة اللغة ، ومعاني الألفاظ الشرعيّة والعرفيّة قدر ما يتوقّف عليه الاستدلال ولو بالرجوع إلى أصل مصحّح عنده من الكتب المعتمدة ، ويدخل في ذلك معرفة الصرف والنحو.

وقد تقدّم وجه الاحتياج إليه (٢) ، والظاهر عدم خلاف في ذلك.

وقال بعضهم : العربي القحّ (٣) إذا تتبّع الأخبار واطّلع على عرف القرآن والأحاديث ، كان مستغنيا عن اللغة والصرف والنحو ، وكذا غيره إذا عاشر العرب وتعلّم لغتهم (٤).

ولا يخفى أنّ المطلوب توقّف الاستنباط على العلوم الثلاثة بأيّ طريق حصلت ، ولم يدّع اشتراط تحصيلها من الكتب.

نعم ، نقول : حصول ما توقّف عليه استدلال المجتهد من مجرّد كون الرجل من العرب ، أو المعاشرة معهم وتتبّع الأحاديث ، غير ممكن ، ويرشدك إلى ذلك صيرورة الرجل عالما بالعربيّة ، عارفا بعرف القرآن والأخبار ، ومع ذلك كثيرا ما يضطرّ عند الاستدلال إلى الرجوع إلى الكتب العربيّة.

[ الأمر ] الثاني : معرفة الكتاب قدر ما يتعلّق بالأحكام ، وهو خمسمائة آية ،

__________________

(١) في ص ٩٢٧.

(٢) في ص ٩٠١.

(٣) « يقال ... عربيّ قحّ أي محض خالص » الصحاح ١ : ٣٩٤ ، « ق ح ح ».

(٤) راجع الرسائل الاصوليّة : ٨٩.

٣٤٤

ولا يشترط حفظها ، بل يكفي العلم بمواقعها بحيث يتمكّن من الرجوع إليها عند الحاجة ولو في كتب الاستدلال.

ووجه الاحتياج إليها أنّ استنباط الأحكام منها يتوقّف على العلم بها ، وهو ظاهر.

فإن قيل : ما ذهب إليه أكثر الأخباريّين ـ من أنّه لا يجوز تفسير القرآن بالرأي ، ولا يعلمه إلاّ من خوطب به ـ يقتضي عدم جواز التمسّك به في الأحكام الشرعيّة ما لم يكن هناك نصّ ، ومعه يحصل العناية ، فلا يتوقّف الاجتهاد على العلم بالقرآن.

قلت : الاقتضاء مسلّم ، ولكنّك عرفت فساد مذهبهم في ذلك سابقا (١).

[ الأمر ] الثالث : معرفة اصول الفقه قدر ما يتوقّف عليه الاستنباط. والتحقيق أنّ جلّ مطالبه ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد المطلق ، ولا بدّ للمجتهد من معرفتها ، فهو أهمّ العلوم للمجتهد ، كما صرّح بعض المحقّقين (٢).

ولا بدّ أن يكون ذلك بطريق الاستدلال على كلّ أصل منها ؛ لما فيها من الاختلاف ، ولا يكفي أخذها بطريق التقليد عن مجتهد ، أو حسن اعتقاد عن أحد الكتب المعتبرة عنده.

وقد عرفت وجه الاحتياج إليه فيما سبق (٣).

والقول بأنّه لا حاجة إليه ؛ لأنّ تدوينه بعد عصر الأئمّة عليهم‌السلام ولم يكن متعارفا بين رواة أحاديثهم وقدماء الأصحاب ، مع كونهم عاملين بالأخبار ومستنبطين للأحكام منها وكان ذلك مستمرّا إلى زمان القديمين (٤) ؛ ولأنّ من كان عالما بالعربيّة يتمكّن من فهم الأوامر والنواهي ، فالحكم عليه بالتقليد ـ مع كونه مكلّفا بفهم الأحكام منها والعمل بها ـ خلاف الأصل ، فلو عمل بالتقليد مع ذلك ، كان مثله كمثل من عهد إليه السلطان بأنّه متى أخبره ثقة بأنّ السلطان أمرك بكذا ، أو نهاك عن كذا ، فعليك بالطاعة ، وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فترك العمل بأخبار الثقات معلّلا بجهله بمسائل الاصول أو المنطق ، ولا ريب في

__________________

(١) عرفت في ص ٩١٧ ـ ٩١٨.

(٢) قاله الفخر الرازي في المحصول ٦ : ٢٥.

(٣) عرفت في ص ٩٠١ ـ ٩٠٢.

(٤) والمراد بهما ابن الجنيد وابن أبي عقيل.

٣٤٥

استحقاقه الذمّ حينئذ (١) ، لا يخفى (٢) ضعفه. وقد عرفت فساده ، ونزيدك هنا بيانا ونقول :

إنّ كثيرا من القواعد الاصوليّة مستنبطة من الكتاب والسنّة ، كالاستصحاب المستنبط من قاعدة عدم نقض اليقين بالشكّ ، وأصل البراءة ، وعدم جواز التكليف فوق الوسع ، وغير ذلك. وكثير منها يثبت مدلولها ببراهين قاطعة تلقّتها العقول بالقبول ولا يمكن إنكارها ، كالقياس بالطريق الأولى وأمثاله. وما ليس بهذه المثابة إمّا تعلّق بتحقيق معاني الألفاظ ، مثل ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه ، وكون الأمر للوجوب أو غيره ، وللمرّة أو التكرار ، وللفور أو التراخي ، وغير ذلك.

أو لا يتعلّق به ، مثل الأمر بالشيء هل يقتضي وجوب مقدّمة المأمور به ، والنهي عن ضدّه أو لا ، وغير ذلك.

فما كان من القسم الأوّل لم يكن محتاجا إليه عند الرواة والقدماء ؛ لأنّ معاني الألفاظ وحقائقها كانت معلومة عندهم ؛ لعدم تغيّر العرف في زمانهم.

وما كان من القسم الثاني فبعضه أيضا كان لهم غنى عن تحقيقه ؛ لظهوره لهم بالقرائن والأمارات والتواتر وأمثال ذلك ، كحجّيّة خبر الواحد وما يتعلّق به.

وبعضه ممّا صدر حكمه من الأئمّة وعلموه من كلامهم ، كما يظهر من الأخبار ، كحكم ما لا نصّ فيه ، وتعارض الأدلّة ، والاستصحاب ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والخاصّ ، والإفتاء والتقليد ، والقياس والاستحسان ، والشبهة في نفس الحكم الشرعي أو موضوعه ، وجواز الرواية بالمعنى ، وأصالة الحقيقة وغير ذلك ؛ فإنّ جميع ذلك قد كان في عصرهم وكان الرواة والأصحاب عاملين بحكمه إلاّ أنّهم لقطعهم به لم يكونوا محتاجين إلى زيادة بحث وتنازع. وبعضه لم يخطر ببالهم حتّى يسألوا عنه.

وأمّا في أمثال زماننا فالاحتياج إلى القسمين ظاهر ؛ لتغيّر (٣) العرف ، وفقد القرائن والأمارات ، وعدم إمكان الاستنباط بدون التمسّك بهما ؛ فإنّا ما لم نتحقّق (٤) أنّ تعلّق الأمر

__________________

(١) ذكره الفاضل التوني بعنوان « إن قلت » في الوافية : ٢٥٣.

(٢) خبر لقوله : « والقول بأنّه لا حاجة إليه ».

(٣) في « ب » : « لتغيير ».

(٤) في « ب » : « لم نحقّق ».

٣٤٦

والنهي بشيء واحد جائز أم لا ، لم يمكننا العلم بأنّ الصلاة في المغصوبة ، أو في أوّل الوقت ـ مع شغل الذمّة بحقّ مضيّق ـ جائزة أم لا ؛ لعدم نصّ على أكثر الفروع المتفرّعة عليه وعلى غيره من المطالب الاصوليّة.

فإن قيل : نحن مكلّفون بما نفهم (١) من الكتاب والسنّة ، فإذا (٢) لم نقطع بتغيّر عرفنا من عرف الشارع فلا بأس علينا بالعمل بما نفهمه ؛ إذ الحجّة علينا أحاديثهم وما كلّفنا بأزيد ممّا نفهمه ؛ على أنّه لو قطعنا بتغيّر عرفه فمن أيّ طريق نثبته؟ أمن الكتاب ، أو السنّة ، أو الإجماع ، أو من تلك الاصول المبتدعة؟

قلت : لمّا كان المناط عرف زمان المعصوم عليه‌السلام ، فيجب السعي مهما أمكن ليحصل عرفه ، ولا يكفي مجرّد عدم العلم بالتغيير ، ثمّ بعد السعي وبذل الجهد إن عرف عرفه قطعا أو ظنّا فذاك ، وإلاّ فاللازم التوقّف ، ثمّ يحصل عرفه عليه‌السلام ـ إذا علم تغييره (٣) عندنا ـ بأصالة البقاء ، أو أصالة العدم ، أو التتبّع والممارسة في الأخبار ، أو كلام الفقهاء الماهرين وغير ذلك.

فإن قيل : الفروع التي تستنبط منها إمّا يمكن استنباطها من عموم أو إطلاق ، أو لا ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى التمسّك بالاصول المخترعة. وعلى الثاني يمكن المناص عنها من طريق الاحتياط والتوقّف عند الشبهات ، أو رفع الحرج ، أو استحالة التكليف بالمحال ، أو إطلاق كلّ شيء حتّى يرد فيه نهي ، فنحتاط في الصلاة في المغصوبة من حيث العمل فلا نصلّي فيها ، بل نخرج إلى غيرها مع التمكّن. ونتوقّف في الإفتاء ، فنقول للمستفتي : لا ندري حقيقة الحكم ؛ لعدم النصّ فيه ، فلا تصلّ فيه واعمل بالاحتياط.

وإذا كان [ حكم ] (٤) فعل دائرا بين الوجوب والحرمة ولم يوجد نصّ على أحدهما فإمّا نتركه ؛ لما ورد من الأمر بالوقوف في الشبهات (٥) ، أو نفعله ؛ لقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٦). وقس عليهما أمثالهما.

__________________

(١) في « ب » : « يفهم ».

(٢) في « ب » : « فإن ».

(٣) في « ب » : « تغيّره ».

(٤) أضفناه لاستقامة العبارة.

(٥) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٩ ، أبواب صفات القاضي ، الباب ٩ ، ح ٣٥.

(٦) الفقيه ١ : ٣١٧ ، ح ٩٣٧.

٣٤٧

وعند التعارض نعمل (١) بالمرجّحات المنصوصة ، وعلى هذا لا يقع الاحتياج في مسألة إلى التمسّك بهذه الاصول العاميّة.

قلت : أكثر الفروع التي يقع الاحتياج إليها ويقع الخلاص منها بها ممّا لا يقع المناص عنها بما ذكرت ، فإنّ كثيرا من القضايا ممّا لا يتأتّى فيه الاحتياط سيّما في التنازع في الحقوق الماليّة ، وإلزام الصلح ممّا لم يأمر به الشارع ، على أنّ الاحتياط في هذه المواضع إن كان على سبيل الوجوب ، فهو خلاف التحقيق ، ونطالب المدّعي بالدليل. وإن كان على سبيل الندب ، فيلزم جواز غيره ، فلا بدّ حينئذ من التمسّك بالمسائل الاصوليّة. والخلاص من التعارض بمجرّد المرجّحات المنصوصة غير ممكن ؛ لعدم إمكان التمسّك بها في بعض المواضع ؛ ولما تقدّم من وقوع التعارض بينها (٢).

[ الأمر ] الرابع : علم الميزان ؛ ليعرف شرائط البرهان.

وقد تقدّم وجه الاحتياج إليه (٣).

[ الأمر ] الخامس : معرفة الكلام قدر ما يتوقّف عليه العلم بالشارع ، وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة ، وبأنّه باعث الأنبياء ومصدّقهم بالمعجزات ، وأنّه لا يخاطب بما لا يفهم معناه ، ولا بما يريد به خلاف ظاهره من غير بيان ، وهو إنّما يتمّ إذا عرف أنّه حكيم مستغن عن القبيح.

ولا يخفى أنّ هذه المعرفة لا تختصّ بالمجتهد ، بل تجب على كلّ أحد ؛ إذ هي شرط الإيمان ، إلاّ أنّه لا ينافي توقّف الاجتهاد عليه.

[ الأمر ] السادس : معرفة مواقع الإجماع ؛ ليتحرّز عن مخالفته.

__________________

(١) في « ب » : « يعمل ».

(٢) أي بين المرجّحات. تقدّم في ص ٩٠١.

(٣) تقدّم في ص ٩٠١.

٣٤٨

[ الأمر ] السابع : معرفة الأحاديث المتعلّقة بالأحكام ،

ولا يشترط حفظها ، بل يكفي أن يكون عنده من الاصول المصحّحة ما يجمعها ، ويعرف موقع كلّ باب بحيث يتمكّن من الرجوع إليها.

[ الأمر ] الثامن : معرفة أحوال الرواة في الجرح والتعديل ولو بالمراجعة إلى كتب الرجال.

ووجه الاحتياج إليه أنّ الاجتهاد بدون التمسّك بالأخبار غير متصوّر ، ولا يمكن العمل بكلّ خبر ؛ إذ الأخبار المعتلّة التي لا يجوز العمل بها كثيرة ؛ لما كثرت عليهم الكذّابة (١) ، فلا بدّ من تمييز الصحاح التي يجوز العمل بها عنها ، وهو يتوقّف على معرفة أحوال الرواة.

وذهب أكثر الأخباريّين إلى أنّ العلم بأحوال الرواة غير محتاج إليه. واحتجّوا عليه بوجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ أحاديثنا كلّها قطعيّة الصدور عن المعصوم ؛ لأنّها محفوفة بقرائن مفيدة للقطع بصدورها عنه.

فمن القرائن أنّه كثيرا ما نقطع بالأمارات أنّ الراوي ثقة في الرواية وإن كان فاسد المذهب ، فاسقا بجوارحه.

ومنها : تعاضد بعضها ببعض.

ومنها : نقل الثقة العالم الورع في كتابه الذي ألّفه لهداية الناس أصل رجل أو روايته ، مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل ، وتلك الرواية ، وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها : تمسّكه بذلك الأصل ، أو (٢) تلك الرواية مع تمكّنه من التمسّك بروايات أخر صحيحة.

ومنها : أن يكون راويه أحدا من الجماعة التي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

ومنها : أن يكون راويه ممّن ورد في شأنه من الأئمّة مدح يفيد الوثاقة.

__________________

(١) أي الجماعة الكذّابة. قال في تاج العروس ذيل قول الماتن : « وهو كاذب ، وكذّاب » : « ككتّان والانثى بالهاء ». تاج العروس ٢ : ٣٥٨ ، « ك ذ ب ».

(٢) في « ب » : « و ».

٣٤٩

ومنها : وجوده في أحد الكتب الأربعة ؛ لشهادة مؤلّفيها بصحّة أحاديثها. ولا يكاد يوجد خبر لم يوجد فيه إحدى تلك القرائن ، فلا حاجة إلى علم الرجال وملاحظة السند.

اعلم أنّا قد أشرنا فيما سبق (١) إلى أنّ الأخباريّين لمّا منعوا عن العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة اضطرّوا إلى القول بأنّ الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام تفيد القطع ، واحتجّوا عليه بهذه القرائن.

وليت شعري أنّها كيف تدلّ على القطع بالصدور وليس في واحدة منها دلالة عليه بوجه؟!

أمّا الاولى ؛ فلأنّ وجود أمارات تفيد لنا القطع بأنّ الراوي يتحرّز عن رواية غير المقطوع به عنده في حيّز المنع ، ولا بدّ للمدّعي من إثباته. غاية الأمر وجود أمارات تفيد لنا الظنّ بأنّ الراوي لا يروي إلاّ ما يحصل الظنّ القويّ بصدقه. ولو سلّم نقول : ربما قطع بقرائن لم تفد القطع لنا ، على أنّه لا يكاد يوجد خبر يكون جميع رجال سنده ممّن يحصل العلم بعدم افترائهم وكذبهم وسهوهم وغلطهم.

نعم ، إن كان المراد بالراوي صاحب الأصل ، لم يقع احتياج إلى العلم بحال باقي السند ، فيندفع الأخير ، إلاّ أنّه يتوجّه عليه ما تقدّم ، مع احتمال وقوع الخطأ على الناقل عن الأصل.

وأمّا الثانية ؛ فلأنّ تعاضد البعض بالبعض لا يوجب حصول القطع بالصدور ؛ لاحتمال اعتماد كلّ من رواة الأحاديث المتعاضدة على الظنّ إلاّ أن يبلغ عددهم في جميع الطبقات حدّ التواتر ، وهو غير محلّ النزاع.

وأمّا الثالثة ؛ فلأنّ نقل الثقة وتأليفه لهداية الناس لا يقتضي القطع بالرواية ؛ فإنّ مؤلّفي كتب الفقه ثقات متورّعون مع أنّهم يعملون بالظنّ.

والتمكّن من استعلام (٢) حال الأصل أو الرواية ـ لو سلّم ـ لا يدلّ على أنّ نقله حينئذ بدون الاستعلام يفيد القطع ؛ لأنّ الخبر إذا كان حجّة وجاز العمل به ، يجوز نقله بدون الاستعلام وإن لم يفد إلاّ الظنّ ، ولو لم يجز حينئذ ، لم يجز إذا أفاد القطع أيضا.

وقوله : « مع تمكّنه أخذ الأحكام عنهم بطريق القطع » ممنوع ؛ فإنّ أكثر مصنّفي كتب

__________________

(١) في ص ٩٠٩.

(٢) في « ب » : « الاستعلام ».

٣٥٠

الأخبار ـ كالمحمّدين الثلاثة (١) وغيرهم ـ لم يكونوا متمكّنين من أخذها بطريق القطع. ولو سلّم تمكّنهم من أخذ بعضها بطريق القطع ، فهو لا يوجب اقتصارهم على إيراد القطعيّات وترك غيرها مع كونه حجّة ، على أنّه لو سلّم أنّ ما ألّفه مقطوع به عنده ، فهو لا يوجب كونه مقطوعا عندنا أو في الواقع.

وأمّا الرابعة ؛ فلأنّ تمكّنه من التمسّك بروايات صحيحة أخر ممنوع ، ولو سلّم فأيّ حاجة إليه بعد فرض كون الأصل والرواية صحيحتين ، أو محفوفتين (٢) بقرائن تفيد الظنّ بجواز العمل به.

وأمّا الخامسة ؛ فلأنّ الإجماع المدّعى لا يفيد القطع بصحّة أحاديثهم ؛ لأنّه منقول بطريق الآحاد ، بل لا يفيده ولو كان متواترا أيضا ؛ لأنّه فرع عدم جواز العمل بالظنّي ؛ على أنّه لا يوجد خبر يكون جميع سنده ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ منهم.

وقس عليها السادسة.

وأمّا السابعة ؛ فلأنّ شهادة المشايخ الثلاثة بصحّة أخبار كتبهم لا تستلزم قطعيّتها عندهم ، فضلا عن قطعيّتها عندنا ؛ لأنّ صحّة الخبر عندهم إمّا ما هو المتعارف عند المتأخّرين ، أو ما هو المصطلح عند القدماء من اقترانه بامور توجب الاعتماد عليه والركون إليه ، كما ذكره بعض أصحابنا (٣).

وقد سبقت الإشارة إلى هذه الامور في بحث الأخبار (٤) والاتّصاف بالصحّة على كلا الاصطلاحين لا يوجب القطعيّة.

أمّا على الأوّل ، فظاهر ، ولذا لم يدّع أحد من المتأخّرين الذاهبين إليه قطعيّة حديث متّصف به.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ شيئا من الامور المذكورة لا يصلح لأن يفيد القطع ، كما لا يخفى على الناظر فيها ، ولو كانت أخبار كتبهم قطعيّة عندهم ، لم يتعرّضوا لذكر المشيخة ؛ لكونه

__________________

(١) هم : محمّد بن يعقوب الكليني ، ومحمّد بن عليّ بن بابويه ، ومحمّد بن الحسن الطوسي.

(٢) هذا من تغليب المؤنّث على المذكّر وهو غير معتاد.

(٣) قاله الفاضل التوني في الوافية : ٢٦٨.

(٤) تقدّم في ج ١ ، ص ٢٦٦.

٣٥١

عبثا. وكيف يمكن الحكم مع وقوع التعارض فيها ولا بدّ فيه من الطرح أو الجمع ، ولا يناسب شيء منهما للقطعيّة؟!

وأيضا كثيرا ما يطرح الصدوق روايات الكافي ويقول : « لست افتي بها » (١) ، والمفيد والشيخ والمرتضى وغيرهم من القدماء روايات الكافي والفقيه ، كما طرحوا الأخبار الدالّة على أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا (٢) ، وأخبار سهو النبيّ (٣). وربما يقدح الصدوق بعض الأخبار بالقطع أو الإرسال ، أو يذكر فيه ما يدلّ على عدم قطعيّته ثمّ يفتي به (٤). وكثير من الأخبار يخالف القواعد العقليّة بحيث لا يرضى العقل بانتسابها إلى مهابط الوحي.

وعلى هذا لا يمكن الحكم بصحّة جميعها بأحد المعنيين فضلا عن قطعيّتها ، فالظاهر أنّ إخبارهم بصحّتها ليس من حيث علمهم بصحّة كلّ خبر منها ، بل من حيث أخذها من الاصول المعتمد عليها عند الفرقة.

وكيف يحكم عاقل بقطعيّة أخبار في سلسلة أسانيد بعضها رجال نسبهم أهل المهارة والفحص إلى الكذب ، أو الضعف ، أو الاضطراب والتشويش وأمثالها أو قالوا فيهم : لا يعمل بما يتفرّدون به ، أو أحاديثهم تعرف وتنكر ، أو ليست نقيّة ، أو ورد فيهم من الأئمّة لعن وذمّ شديد؟!

وبعضها مأخوذ (٥) من اصول جماعة ، أو كتب طائفة صرّح أهل العدل والورع بأنّهم كذّابون ، أو وضّاعون ، كعليّ بن أبي حمزة (٦) ، والسكوني (٧) ، ووهب بن وهب القريشي (٨) ،

__________________

(١) منها ما في الفقيه ٤ : ٢٠٣ ، ذيل الحديث ٥٤٧٥.

(٢) الردّ على أهل العدد والرؤية ( ضمن مصنّفات المفيد / ج ٩ ) : ١٩ ـ ٢٠ ، وتهذيب الأحكام ٤ : ١٦٩ ، ذيل الحديث ٤٨٢ ، والحديث في الكافي ٤ : ٧٩ ، باب نادر ، ح ٣.

(٣) رسالة عدم سهو النبيّ ( ضمن مصنّفات المفيد / ج ١٠ ) : ٢٠ ـ ٢٤ ، ورسالة الاجتهاد والأخبار ( ضمن الرسائل الأصوليّة ) : ١٨٣ ـ ١٨٤. والخبر في الكافي ٣ : ٣٥٥ ، باب من تكلّم في صلاته ... ، ح ١ ، وتهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٥ ، ح ١٤٣٣.

(٤) كروايتي الفقيه ١ : ٤١١ ، ذيل الحديث ١٢٢٠ ، و ٢ : ٣٨٣ ، ذيل الحديث ٢٧٦٨ و ٢٧٦٩.

(٥) هذه الجملة الاسميّة عطف على صفة « أخبار » وهي قوله : « في سلسلة أسانيد بعضها رجال ».

(٦) اختيار معرفة الرجال : ٤٠٣ ، ح ٧٥٥.

(٧) الفقيه ٤ : ٣٤٤ ، ذيل الحديث ٥٧٤٨.

(٨) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٩ ، ح ٥٥٩.

٣٥٢

ومحمّد بن موسى الهمداني (١) ، وعبد الله بن محمّد البلوي (٢) ، ويونس بن ظبيان (٣) ، ومحمّد بن عليّ الصيرفي (٤) ، ومحمّد بن سنان (٥) وغيرهم.

وبعضها مأخوذ من اصول جماعة صرّح المشايخ بترك ما يختصّون بروايته ، كحسن بن صالح بن حيّ (٦) وأمثاله. على أنّه قد كثرت على أئمّتنا الكذّابة ، ووضعوا أحاديث كثيرة ، وأدرجوها في أحاديثهم.

قال هشام بن الحكم : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق القرآن والسنّة ، أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ؛ فإنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها ».

قال : وأتيت العراق فوجدت فيها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ووجدت أصحاب أبي عبد الله متوافرين ، فسمعت منهم أحاديث فعرضت على الرضا عليه‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال لي : « إنّ أبا الخطّاب قد كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام » (٧).

ومع هذا الاحتمال كيف يحصل القطع بأنّ جميع أخبار الشيعة قطعيّة الصدور؟!

ويدلّ على عدم قطعيّتها جميع ما ذكرناه فيما تقدّم ؛ لعدم إفادة أخبار الآحاد ما عدا الظنّ.

ثمّ لو سلّم قطعيّة الصدور عند أصحاب الاصول والكتب ، فلا نسلّم القطعيّة عندنا وفي الواقع.

ولو سلّم ذلك أيضا ، نقول : الاحتياج إلى علم الرجال باق بحاله ؛ لوجود التعارض

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٩٠ ـ ٩١ ، ذيل الحديث ١٨١٩.

(٢) خلاصة الأقوال : ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، الرقم ١٤٦٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٦ ، ح ١٠٣٣.

(٤) المصدر : ٥٤٥ ـ ٥٤٦ ، ح ١٠٣٢ و ١٠٣٣.

(٥) المصدر ٥٤٦ ، ح ١٠٣٣.

(٦) المصدر : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، ح ٤٢٢.

(٧) المصدر : ٢٢٤ ، ح ٤٠١.

٣٥٣

المحوج إليه على كلّ حال ، فإنّ الأمر بالأخذ بقول الأعدل عند التعارض يتناول التعارض في الظنّيّات والقطعيّات.

والحاصل أنّ إثبات مطلوبهم موقوف على ثلاث مقدّمات (١) كلّها غير مسلّمة.

فإن قلت : ما ذكرت ـ من حديث التعارض ، وطرح المشايخ بعض الأخبار ، وتضعيفها ـ إنّما ينافي العمل بجميعها ، ولا ينافي قطعيّة صدورها ، بمعنى العلم باتّصالها بالمعصوم ؛ لأنّه يجوز صدور الجميع عن المعصوم ، إلاّ أنّ بعضها خرج للتقيّة أو لمصالح أخر ، فإذا وقع التعارض ، يرجّح أحد المتعارضين بمخالفته لمذهب العامّة ، أو بتكرّره في الاصول واتّصال سنده ، أو لكون رواته أعدل ، أو أكثر ، معتقدين أنّ المعارض المطروح لا يجوز العمل به ، لا لأنّه لم يصدر عن المعصوم عليه‌السلام ، بل لأنّه صدر لمصلحة تنافي العمل.

قلت : ما يطرح كما يجوز خروجه مخرج التقيّة يجوز خروجه مخرج الكذب ؛ فإنّ احتمال الكذب في بعض الأخبار ممّا لا يمكن دفعه.

ويدلّ عليه أمرهم عليهم‌السلام عند التعارض بالأخذ بالأصحّ سندا (٢) ، أو ما راويه أعدل (٣) ، ومع ذلك لا يحصل القطع بالصدور.

فإن قلت : قد ذكر الشيخ في أوّل الاستبصار ما حاصله أنّ الخبر إمّا متواتر ، أو غير متواتر ؛ وغير المتواتر إمّا محفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو غير محفوف بها ؛ وغير المحفوف إمّا لا يعارضه خبر آخر ، أو يعارضه ؛ وعلى الثاني إمّا لا يتحقّق إجماع على صحّة الخبرين ، أو إبطالهما ، أو صحّة أحدهما ، أو إبطاله ، أو يتحقّق على واحد منها ، وجعل الأقسام كلّها قطعيّة إلاّ ما ثبت الإجماع على إبطاله.

أمّا الأوّل والثاني (٤) ، فالوجه فيهما ظاهر.

وأمّا الثالث ـ وهو ما لا يعارضه خبر آخر ـ فلأنّه قال فيه : « إنّه من الباب الذي عليه

__________________

(١) في هامش « أ » : « أشار إليها في مقام نفي دلالة حججهم على الاستغناء عن العلم بأحوال الرجال في قوله : وأمّا الاولى ... ».

(٢ و ٣) راجع : الكافي ١ : ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠ ، وتهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ، ح ٨٤٥.

(٤) وهما المتواتر والمحفوف بالقرينة المفيدة للقطع.

٣٥٤

الإجماع في النقل ، إلاّ أن تعرف فتاواهم بخلافه » (١) ويفهم منه أنّ نقل هذا القسم من المعصوم عليه‌السلام مجمع عليه.

وأمّا الرابع ـ وهو ما عارضه خبر آخر مع السكوت عن الصحّة والإبطال ـ فلأنّه قال : « إذا ورد الخبران المتعارضان وليس بين الطائفة إجماع على صحّة أحدهما ، ولا على إبطال الآخر ، فكأنّه إجماع على صحّتهما. وإذا كان الإجماع على صحّتهما ، كان العمل بهما جائزا سائغا » (٢).

فعلم أنّ كلّ خبر لا يعلم الإجماع على خلافه ، فهو عنده صحيح ، ويعلم منه بالطريق الأولى صحّة الخبرين إذا انعقد الإجماع على صحّتهما ، فيبقى غير الصحيح عنده ما انعقد الإجماع على بطلانه.

وهذا الكلام من الشيخ ـ كما ترى ـ شهادة منه بالدليل على صحّة جلّ الأخبار ، بل كلّها ؛ إذ القسم الأخير في غاية الندرة.

قلت : غاية ما يستفاد من كلام الشيخ شهادته على صحّة ما عدا القسم الأخير من الأخبار ، كما يستفاد من كلام الكليني والصدوق ، وقد ذكرنا أنّ الصحّة لا تستلزم قطعيّة الصدور (٣) ؛ على أنّ في كلامه مواضع للأنظار ؛ لأنّ الخبر إذا لم يكن له معارض كيف يكون من الباب الذي عليه الإجماع في النقل مع احتمال الكذب فيه؟! وكيف يسمع ذلك منه بمجرّد الدعوى؟!

وأيضا إذا كان له معارض ولم ينعقد إجماع على صحّة أحدهما أو بطلانه ، كيف يكون ذلك إجماعا على صحّتهما وجواز العمل بهما؟! ولا أدري ما السبب فيه مع احتمال الكذب في كليهما ، فضلا عن احتماله في أحدهما؟

وأيضا تحقّق الإجماع على صحّة خبرين متعارضين ـ بمعنى جواز العمل بهما ـ نادر ، وبمعنى قطعيّة صدورهما في غاية البعد. هذا.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٤.

(٢) المصدر : ٣ ـ ٥.

(٣) تقدّم في ص ٩٣٥ ـ ٩٣٦.

٣٥٥

مع أنّ الاحتياج في صورة التعارض إلى علم الرجال ثابت على أيّ تقدير ، والشيخ لم ينكره.

ثمّ بعض الأخباريّين لمّا تفطّن بما يرد على ما ذهبوا إليه ، قال :

مرادنا بالعلم ـ حيث نقول : إنّ أخبارنا معلومة الصدور ، وأنّ مدلولاتها معلومة لنا ـ هو ما يطمئنّ إليه النفس ويقضي العادة بصدقه ـ وهو الذي اعتبره الشارع في ثبوت الأحكام ، كما يرشد إليه موضوع الشريعة السمحة. ويحصل بخبر الثقة الضابط ، وبالقرائن الحاليّة والمقاليّة ـ لا الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع ، فإنّ حصوله غير ممكن (١).

والظاهر أنّ مراده بـ « ما يطمئنّ إليه النفس » هو الظنّ الغالب ، فإن كان مراده أنّ مثل هذا الظنّ يحصل في بعض الأخبار ، فهو مسلّم ورجوع إلى مذهب المجتهدين ، وإن كان مراده أنّه حاصل في جميعها فهو باطل ؛ لعدم إمكانه في المتعارضين وأخبار الضعفاء وأهل الكذب. والظاهر أنّ مراده الأوّل.

وإذ ظهر أنّ الأحاديث ليست قطعيّة الصدور ، والقرائن المذكورة لا تدلّ عليها ، بل هي ظنّيّة الصدور ، فثبت جواز العمل بالظنّ ؛ إذ لولاه لزم سدّ أبواب الأحكام ، فبطل مذهب الأخباريّين.

ثمّ نقول : كلّ ظنّ لا يجوز التعويل عليه ؛ لعموم النهي عن اتّباع الظنّ (٢) ، وآية التثبّت (٣) ، فيجب الفحص عن أسانيدها ؛ ليتميّز ما يفيد الظنّ المعمول به عن غيره.

فإن قيل : يكفي في ذلك ملاحظة القرائن ، بل يتعيّن ذلك ؛ لأنّ الظنّ الحاصل منها أرجح من الظنّ الحاصل من ملاحظة السند في علم الرجال ، والعمل بالراجح متعيّن.

قلت : التمييز بالقرائن المعمولة عند القدماء غير ممكن في أمثال زماننا ؛ لعدم تمكّننا عن تحصيلها ، والتمكّن عن قليل منها غير مغن ؛ على أنّا امرنا بالأخذ بقول الأعدل عند التعارض (٤) ، ومعرفة الأعدل والأصدق تتوقّف على علم الرجال. هذا.

__________________

(١) انظر الفوائد المدنيّة : ٩٠ ـ ١٢٧.

(٢) الحجرات (٤٩) : ١٢ : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... ).

(٣) الحجرات (٤٩) : ٦ : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... ).

(٤) الكافي ١ : ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، ح ١٠ ، والفقيه ٣ : ٨ ـ ١١ ، ح ٣٢٣٦ ، وتهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ، ح ٨٤٥.

٣٥٦

مع أنّ تحصيل أكثر القرائن يتوقّف على علم الرجال ، وكيف يمكن أن يحصل القرينة الاولى والخامسة والسادسة من دون النظر في أحوال الرجال؟!

[ الوجه ] الثاني (١) : قد ثبت لنا من طريقة العلماء في الأعصار أنّهم يعتبرون مطلق الظنّ ، ويعملون بكلّ ما يفيد الظنّ ، سواء كان خبرا صحيحا أو ضعيفا أو غير ذلك ، وعلى هذا ، لا حاجة إلى علم الرجال ؛ لأنّ المناط حينئذ حصول الظنّ ، فما يفيده يصحّ العمل به وإن كان خبرا ضعيفا ، وما لا يفيده لا يصحّ العمل به وإن كان خبرا صحيحا.

والجواب : منع عمل العلماء بكلّ ظنّ ؛ لأنّهم صرّحوا بعدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما ثبت حجّيّته شرعا ، كالظنّ الحاصل من الكتاب ، أو الأخبار الصحيحة.

[ الوجه ] الثالث : لا بدّ في اعتبار الظنّ الحاصل من علم الرجال من دلالة ، ولم تثبت ؛ مع أنّ فيه شبهات واختلالات ، ويرد على الضوابط المقرّرة فيه إشكالات لا يمكن أن يحصل معها ظنّ ، ولو حصل في بعض المواضع ، فهو ظنّ ضعيف لا يمكن اعتباره قطعا.

منها : أنّه قد وقع الاختلاف فيما يعلم به العدالة ، وفيما يزيلها ـ أعني الكبائر ـ وليس مذهب المعدّلين والجارحين من علماء الرجال في ذلك معلوما لنا ، ولا يعلم اتّفاقهم على مذهب واحد ، فربما كان مذهب بعضهم في ذلك مخالفا لمذهب بعض آخر ، ومع ذلك يقبل كلّ متأخّر قول المتقدّم عليه في التعديل والجرح ، ويبني جرحه وتعديله على قوله ، ونحن نقبل من الجميع ، مع أنّه لا بدّ لمن يريد العمل من العلم بموافقة مذهبه في ذلك لمذهب المعدّل والجارح. وأيضا العدالة ـ أعني الملكة المخصوصة ـ صفة نفسيّة خفيّة لا يطّلع عليها إلاّ صاحبها ، ولا يجوز إثباتها بالشهادة وبالخبر الواحد ؛ لأنّهما لا يجريان إلاّ في المحسوسات.

ومنها : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ شهادة فرع الفرع لا تسمع ، مع أنّ شهادة علماء الرجال على أكثر الرواة بالجرح والتعديل من هذا القبيل.

ومنها : أنّ أكثر الأسماء مشتركة بين الثقات وغيرهم ، والتمييز في كثير منها غير ممكن ،

__________________

(١) هذا احتجاج ثان من الأخباريّين. والدليل الأوّل منهم تقدّم في ص ٩٣٣.

٣٥٧

ومهما يمكن إنّما يحصل من ملاحظة الطبقات ، والتمييز الحاصل من مثله إنّما هو من ظنّ ضعيف لا يمكن اعتباره.

ومنها : أنّ بعض الرواة كان على خلاف الحقّ ، ثمّ رجع إليه ، وبعضهم كان عليه ، فرجع إلى خلافه ، وما وصل إلينا من رواياتهم لا يعلم أنّها صدرت عنهم في أيّ الحالين حتّى نقبلها أو نردّها.

ومنها : أنّ قبول خبر جميع رجال سنده الثقات يتوقّف على العلم بعدم سقوط واسطة من البين ، وهو غير ممكن في بعض الأخبار.

ومنها : أنّه كثيرا ما يذكر جماعة من الرواة بعطف بعضها على بعض ، وبعد التتبّع يعلم أنّ العطف سهو ، والصواب نقل البعض عن بعض ، وكذا الحال في عكس ذلك.

ومنها : أنّه يحكم بالجرح والتعديل بشهادة الميّت ، وهو غلط.

وأنت خبير بإمكان دفع كلّ واحدة من هذه الشبهات بطريق على حدة.

وربما ظهر لك الجواب عن بعضها فيما سبق ، ونجيب هنا بما يندفع به جميعها ، وهو أنّها تشكيكات في مقابلة الضرورة ؛ لأنّا نعلم في كثير من الأخبار أنّها لم يروها إلاّ جماعة حصل لنا العلم أو الظنّ المعتبر شرعا بالتتبّع وأقوال أرباب الرجال باتّصافهم بصفة العدالة أو الصدق الذي هو المناط في قبول الخبر ، ونعلم في كثير منها أنّ من رواتها من حصل لنا العلم أو الظنّ بالطريق المذكور باتّصافه بالفسق والكذب. هذا.

واعتبار الظنّ الحاصل من علم الرجال يعلم ممّا تقدّم ، من ثبوت حجّيّة الخبر الصحيح والموثّق ، وقبول خبر الواحد في الجرح والتعديل وغير ذلك.

[ الأمر ] التاسع (١) : ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد أن يكون له ملكة قويّة وقريحة مستقيمة يقتدر بها على ردّ الجزئيّات إلى الكلّيّات ، واقتناص الفروع من الاصول ، والترجيح في مقام التعارض.

ولا يخفى عليك أنّ جعل هذه الملكة من شرائط الاجتهاد إنّما يتأتّى إذا جعل الاجتهاد

__________________

(١) تقدّم الأمر الثامن في ص ٩٣٣.

٣٥٨

المعرّف هو الاجتهاد الفعليّ ، وعرّف بأنّه : « استفراغ الوسع ... » فإنّه يتوقّف عليها ؛ لكونها مبدأه ومصدره.

وأمّا إذا جعل المعرّف هو حقيقة الاجتهاد وذاته ، فهو نفس تلك الملكة ، كما تبيّن لك (١) ، وهي لا تنفكّ عن المقدّمات والشرائط المذكورة ، ولا يمكن وجودها بدون وجودها ، بل حصولها مسبوق على حصولها.

وأمّا المقدّمات ، فلا تستلزمها كلّيا ؛ لأنّ نسبتها إليها ليست نسبة إيجابيّة بمعنى وجوب حصولها عند تحصيلها ، بل نسبة إعداديّة ، فإن كان للنفس استعداد ذاتي وصفاء غريزي يفاض عليها تلك الملكة بعد تحصيل تلك المقدّمات من المبادئ الفيّاضة ، وإلاّ فلا ، فمن حصلت له هذه الملكة ، فقد حصل له جميع ما يتوقّف عليه استنباط الأحكام ، فهو مجتهد على الإطلاق ، ومن لم تحصل له فليس مجتهدا مطلقا وإن بلغ في تحصيل المقدّمات ما بلغ.

ثمّ لا بدّ لنا هنا من بيان أمرين :

أحدهما : الوجه في توقّف استنباط الأحكام عليها.

وثانيهما : طريق معرفتها.

وبيان الأوّل : أنّ الأدلّة التي لها معارضات لا بدّ فيها من الترجيح ، والتي لها لوازم غير بيّنة لا بدّ فيها من العلم بها ، والحكم بها على ما يقتضيه ذو المقدّمة ، كما إذا كان واجبا يحكم بوجوب ما يتوقّف عليه وحرمة ضدّه ، وإن كان حراما يحكم بحرمة ما يتوقّف عليه ووجوب ضدّه ، وكذا يحكم بما يقتضيه مفهومه ، وغير ذلك. والتي لها أفراد غير بيّنة الفرديّة لا بدّ فيها من الحكم بفرديّتها للكلّيّات المذكورة فيها.

وربما كان لمعارضاتها أو مقدّماتها أو أضدادها أفراد غير بيّنة الفرديّة ، فلا بدّ من الحكم بفرديّتها أيضا. وربما وجدت أشياء ظنّ فرديّتها لها ولم تكن أفرادا ، فلا بدّ من الحكم بإخراجها ، مثلا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (٢) ، لا بدّ من العلم بأنّ

__________________

(١) في ص ٩٠٠.

(٢) الكافي ٣ : ٢ ، باب الماء الذي لا ينجّسه شيء ، ح ١ ، وتهذيب الأحكام ١ : ٤٠ ، ح ١٠٩ ، والاستبصار ١ : ٦ ، ح ١ و ٣. وفي المصادر : « إذا كان الماء ... ».

٣٥٩

الكرّ الملفّق من نصفين نجسين مع عدم التغيير هل هو فرد له ويندرج تحته حتّى يحكم بطهارته ، أو لا يندرج فيه حتّى يحكم ببقائه على النجاسة؟ وكذا الحكم في اندراج الماء الممزوج بالورد في قوله : « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (١) ، واندراج الخارج من بيته قبل بلوغه حدّ الترخّص في الحاضر أو المسافر. وقس عليها أمثالها ، وهي في الكثرة بحيث لا تحصى.

ولا ريب أنّ الترجيح والعلم بالملازمة والحكم بالفرديّة أو عدمها بدون حصول هذه الملكة ممتنع ، والتجربة شاهدة عليه ، ولذا ترى كثيرا ممّن صرف عمره في الفقه وبلغ منه الغاية لا يقدر عند التعارض من الترجيح والخلاص ، ولا يتعلّق ظنّه بما يحصل له الاطمئنان ، ولا يتنبّه على اللوازم والأفراد الخفيّة ، وربما تنبّه بعضهم ببعضها بعد نصب ولغوب ، وصاحب الملكة تنبّه بسهولة.

وربما ردّ بعضهم الجزئي إلى غير قاعدته ، ويقتنص الفرع من غير أصله ، ويحكم بلزوم ما ليس بلازم وخروج ما هو لازم ، وبفرديّة ما ليس بفرد ، وبعدم فرديّة ما هو فرد ، ومثله تشبّه ذا الملكة كتشبّه السوفسطائي بالحكيم.

وترى جماعة ممّن انقضى عمره في تحصيل المنطق وعلم قواعده وبلغ منه الغاية و (٢) لا يقدر على ترتيب الأقيسة من عند نفسه ، وترى طائفة ممّن وجّه همّته في تحصيل النجوم وعلم قواعده وضوابطه و (٣) لا يتمكّن من استخراج حكم من النظرات والعلامات التي أحكامها متناقضة ، ولا يقدر على التخريج.

وترى جمّا غفيرا ممّن بيّض لمّة لحيته في الطبّ يعجز عند العمل ، وإذا تعارض علامات الأمراض ، لا يقدر على معرفة المرض ، ولا يقدر في بعض الأمراض الخفيّة عن معرفة أسبابها.

ففي جميع هذه العلوم يتوقّف الخلاص عن مضيق التعارض وأخذ النفس ما يحصل لها

__________________

(١) الكافي ٣ : ١ ، باب طهور الماء ، ح ٢ و ٣ ، وتهذيب الأحكام ١ : ٢١٥ ، ح ٦١٩.

(٢ و ٣) كذا في النسختين. والظاهر زيادة الواوين ، لأنّ ما بعدهما مفعول ثان لترى إلاّ أن يكون « ممّن » مفعولا ثانيا لا بيانا.

٣٦٠