أنيس المجتهدين - ج ٢

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]

أنيس المجتهدين - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي بن أبي ذر النراقي [ المولى مهدي النراقي ]


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-09-0282-0
ISBN الدورة:
978-964-09-0284-4

الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

اليوميّة ، بناء على جزئيّة السورة. وعن بيع الملاقيح (١) ؛ نظرا إلى انتفاء صفة معتبرة في المبيع ـ الذي هو جزء للبيع ـ وهو (٢) كونه مقدورا للتسليم.

ومنه : النهي عن بيع الميتة والخمر ، ونكاح المحرّمات.

والنهي عنه لوصفه اللازم أن يتعلّق بصفة من صفاته الداخلة فيه ، وهو إمّا لازم مساو ، أو أعمّ ، أو أخصّ ، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهاريّة ، وعن عقد الربا ؛ فإنّ المنهيّ عنه هو الزيادة ، وهو أمر لازم للعقد.

ومنه : النهي عن نكاح الشغار (٣).

والنهي عنه لوصفه الخارج أن يتعلّق بتشخّص عارض له ، أو لسائر مقارناته (٤) من المكان والزمان ، كالنهي عن الصلاة في المكان المغصوب ، وعن البيع وقت نداء الجمعة.

وقد يتعلّق بأمر عارض له ليس من صفاته ولا من هيئاته التي تتوقّف عليه ، كالنهي عن « آمين » بعد الحمد.

وقد يخصّ النهي عن الشيء لوصفه اللازم باسم النهي لوصفه ، ويطلق (٥) على النهي عنه لمقارنة النهي عن الشيء لغيره.

ثمّ فيما عدا الأوّل يحصل للنهي جهتان :

إحداهما : النهي عن الشيء لجزئه ، أو لازمه ، أو مقارنه.

والثانية : النهي عنه لعينه ؛ لأنّ كلاّ من الجزء واللازم والمقارن منهيّ عنه بعينه ، فالجهة الثانية تستتبع حكم الأوّل من كلّ جهة.

__________________

(١) الملاقيح : ما في ظهور فحول الإبل والخيل من اللقاح ، وما في بطون الامّهات من الأجنّة. لسان العرب ٢ : ٥٨٠ ، « ل ق ح ».

(٢) أي الصفة المعتبرة. والتذكير باعتبار الخبر.

(٣) مصدر شاغره ، وهو أن يزوّج كل واحد صاحبه امرأة ممّن له عليها الولاية والسلطة بشرط أن يزوّجه اخرى كذلك ، فيجعل مهر كلّ واحد من الامرأتين تزويج الآخر. لسان العرب ٤ : ٤١٧ ، « ش غ ر ».

(٤) في « ب » : « بسائر مقارناتها ».

(٥) المستتر في « يطلق » راجع إلى النهي عن الشيء لوصفه اللازم.

١٠١

[ المقدّمة ] الثانية : الفساد مقابل الصحّة ، وهي في العبادات ـ ويقال لها : « الصحّة العباديّة » ـ إمّا موافقة الأمر ، كما قال به المتكلّمون (١). أو كون الفعل بحيث يسقط به القضاء ، كما قال به الفقهاء (٢). فالفساد فيها إمّا عدم موافقة الأمر ، أو كون الفعل بحيث لا يسقط به القضاء ، ويقال له : « الفساد العبادتي » (٣). وقد عرفت (٤) أنّ الحقّ قول المتكلّمين.

وأمّا الصحّة في العقود والمعاملات ـ ويقال لها : « الصحّة السببيّة » ـ فهي ترتّب الأثر الشرعي وفاقا ، فالفساد فيها عدم ترتّبه ، ويقال له : « الفساد السببي ».

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ ما اخترناه يشتمل على دعويين :

إحداهما : أنّ النهي عن الشيء لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه المطلق في العبادات يدلّ على الفساد لغة وشرعا.

واخراهما : أنّه لا يدلّ عليه في المعاملات مطلقا.

لنا على الاولى وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ العبادة المنهيّ عنها لعينها ، أو جزئها ، أو شرطها لا توافق أمر الشارع ؛ إذ لو وافقته ، لكانت مأمورا بها أيضا وهو باطل ؛ لاستحالة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد ؛ للإجماع (٥) ، ولأنّ النهي يكشف عن كون المأتي به مفسدة (٦) قبيحة ، والأمر يقتضي كونه مصلحة (٧) حسنة وهما متضادّتان ، فلا تجتمعان في محلّ واحد.

وعدم الموافقة هو الفساد في العبادات ، كما عرفت (٨). وقد تبيّن فيما تقدّم بيان استحالة

__________________

(١) حكاه عنهم الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٢٠٩.

(٢) حكاه عنهم الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٢٩١.

(٣) كذا في النسختين. والصحيح : « الفساد العبادي ».

(٤) تقدّم آنفا.

(٥) لا يخفى ما في تعليل الاستحالة بالإجماع ، إلاّ أن يسقط من هنا العاطف فيكون وجها ثانيا لعدم الموافقة.

(٦ و ٧) والمراد هو ذا مفسدة ومصلحة إمّا بتقدير « ذي » ، أو بحمل « المفسدة » و « المصلحة » على سبب الفساد والصلاح كما في اللغة. وقوله : « هما متضادّتان فلا تجتمعان في محلّ واحد » يؤيّد الأوّل.

(٨) تقدّم آنفا.

١٠٢

كون شيء واحد مأمورا به ومنهيّا عنه من جهة ، أو جهتين مفصّلا (١) ، ويلزم منه ثبوت جميع ما نحن بصدده.

بيانه : أنّه إذا بيّن استحالة اجتماع الأمر والنهي ، أو بعض الأحكام مع بعضها الآخر من جهة واحدة ، يثبت منه فساد المنهيّ عنه لعينه وجزئه ؛ لأنّه لولاه لزم كون الكلّ أو (٢) الجزء مأمورا به ومنهيّا عنه.

وإذا بيّن استحالة اجتماعهما من جهتين متلازمتين ، يثبت منه فساد المنهيّ عنه لوصفه اللازم المساوي.

وإذا بيّن استحالة اجتماعهما من جهتين ينفكّ إحداهما عن الاخرى حتّى يتحقّق بين متعلّق الأمر والنهي عموم وخصوص مطلقا يثبت منه فساد المنهيّ عنه لوصفه اللازم الأخصّ ـ الذي يلزمه شرعا أو عقلا [ ولا ينفكّ ] (٣) عن بعض أفراده وإن انفكّ عن بعضها الآخر ـ والأعمّ الذي يلزمه وإن وجد في غيره أيضا ، ولوصفه المفارق الأخصّ ـ أي الذي يعرض لبعض أفراده وإن لم يعرض لبعض آخر ـ والأعمّ ، أي الذي يعرض لجميع أفراده وإن عرض لغيره أيضا ؛ لأنّ (٤) تحقّق العموم والخصوص مطلقا إمّا بأن يكون المأمور به طبيعة كلّيّة والمنهيّ عنه فردها (٥) ، أو جزءه (٦) ، أو لازمه ، أو مفارقه. وهذا اللازم أو المفارق بالنسبة إلى طبيعة المأمور به وإن لم يكن عارضا أو لازما البتّة ؛ إذ عروضه (٧) لبعض أفراده ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى الفرد لازم أو عارض البتّة.

مثال الأوّل : النهي عن الجهر في قراءة الصلوات النهاريّة مع الأمر بمطلق القراءة ؛

__________________

(١) تقدّم آنفا.

(٢) في « ب » : « و ».

(٣) اضيف للضرورة.

(٤) تعليل لأقسام فساد المنهيّ عنه الأربعة ، وهي فساده لوصفه اللازم الأخصّ والأعمّ ، ولوصفه المفارق الأخصّ والأعمّ.

(٥) إشارة إلى « طبيعة كلّيّة ».

(٦) إشارة إلى « المأمور به ».

(٧) متعلّق بمقدّر خبر لعروضه وليس متعلّقا بالعروض.

١٠٣

فإنّ الجهر لازم لبعض أفراد القراءة (١).

ومثال الثاني : النهي عن الصلاة في المكان المغصوب مع الأمر بمطلق الصلاة ، والنهي عن صوم يوم العيد مع الأمر بمطلق الصوم ؛ فإنّ المكان المغصوب ويوم العيد وإن لم يتعلّقا بمطلق الصلاة والصوم إلاّ أنّهما تعلّقا بالنسبة إلى بعض الأفراد وهو الصلاة الواقعة في المكان الغصبي والصوم الواقع في يوم العيد ، وليسا بالنسبة إلى هذا البعض لازمين كالجهر ؛ لعدم مدخليّتهما في هيئته.

وإذا (٢) لم يجز اجتماع مثل هذا الأمر والنهي (٣) ، فإذا تعلّق النهي بالجهر والصلاة في المكان المغصوب ، والصوم يوم العيد ، دلّ على فسادها.

وإمّا (٤) بأن يكون المنهيّ عنه طبيعة كلّيّة ، والمأمور به فردها ، أو جزءه ، أو ملزومه ، أو معروضه. وهي (٥) وإن كانت لازمة أو عارضة لهذا الملزوم أو المعروض ، إلاّ أنّها تكون لازمة أو عارضة لغيرهما أيضا.

مثال الأوّل : أن يقدّر ورود النهي عن مطلق الجماعة مع الأمر بصلاة الجمعة ؛ فإنّ الجمعة لا تنفكّ عن الجماعة شرعا ، والجماعة توجد في غيرها أيضا.

ومثال الثاني : النهي عن التصرّف في المكان المغصوب مع الأمر بالصلاة فيه.

فإذا لم يجز ذلك دلّ النهي على بطلان صلاة الجمعة والصلاة في المكان المغصوب.

وإذا بيّن (٦) استحالة اجتماعهما من جهتين ينفكّ كلّ منهما عن الاخرى ـ حتّى يتحقّق بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم وخصوص من وجه ـ يثبت فساد المنهيّ عنه لوصفه المفارق ؛ لأنّ تحقّق العموم من وجه يتوقّف على أن يكون كلّ من المأمور به والمنهيّ عنه

__________________

(١) وهو القراءة التي ليست بإخفاتيّة ، فالجهر ليس لازما لمطلق القراءة حتّى الإخفاتيّة ، للزوم اجتماع الضدّين ، ولازم ووجه لزومه ، أنّ غير الإخفاتيّة لو انفكّ عنها الجهر أيضا ، للزم رفع الضدّين لا ثالث لهما ، للفرد وإلاّ يلزم ارتفاعهما.

(٢) في « ب » : « وإن ».

(٣) أي الأمر المتعلّق بالطبيعة ، والنهي المتعلّق بلازم الفرد أو عارضه.

(٤) عطف على قوله : « إمّا بأن يكون ... » في ص ٦٨٧.

(٥) أي طبيعة المنهيّ عنه.

(٦) عطف على قوله : « إذا بيّن استحالة اجتماع الأمر والنهي » في ص ٦٨٧.

١٠٤

طبيعة كلّيّة يجتمعان في شيء هو فرد لكلّ منهما. ولا شكّ أنّ طبيعة المنهيّ عنه حينئذ عرض مفارق بالنسبة إلى طبيعة المأمور به وإلى هذا الفرد.

مثاله ورد الأمر بمطلق الصلاة ، وتعلّق النهي بمطلق التصرّف في المكان المغصوب ، وهما قد اجتمعا في الصلاة في المكان المغصوب. والتصرّف في المكان عرض مفارق بالنسبة إلى مطلق الصلاة وإلى هذا الفرد.

وإذا لم يجز اجتماع مثل هذا الأمر والنهي ، دلّ النهي على فساد مثل هذه الصلاة. هذا.

وإذا تعلّق النهي بشيء لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ، أو المفارق من غير أن يكون مأمورا به ، أي لم يتعلّق به أمر يدلّ على الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة عموما ، أو خصوصا ، كالإمساك في يوم وليلة بقصد التقرّب فلا ريب في دلالته على فساده ، ولا يكون عبادة موافقة لأمر الشارع ، ولا معاملة يترتّب عليها الأثر الشرعي ، بل يكون بدعة وضلالة.

وإن كان مأمورا به بأحد الوجوه المذكورة ، فلا بدّ في الأوّل (١) من الجمع إن أمكن ، وإلاّ فالطرح. وكذا في الثاني. وفي الثالث لا بدّ من حمل العامّ على الخاصّ. وفي الرابع من تخصيص أحدهما بالمؤيّدات الخارجيّة ؛ لئلاّ يلزم الاجتماع بوجه ، كما تقدّم مفصّلا (٢).

فإن قيل : إذا لزم من امتناع اجتماع الأمر والنهي دلالة النهي على الفساد ، فأيّ حاجة إلى عقد المسألتين؟

قلت : لا يلزم منه إلاّ دلالة النهي على الفساد في العبادات لا المعاملات ؛ لأنّه اقتضى استحالة اجتماع الوجوب والحرمة بل الإباحة والحرمة حرمة المنهيّ عنه ، وهو عين فساده إذا كان عبادة ، أو مستلزم له لزوما بيّنا ؛ لأنّ فساده عدم كونه مراد الشارع وهو عين الحرمة أو لازمها.

وأمّا المعاملة ، فحرمتها ليست عين فسادها ولا مستلزمة له ؛ لإمكان أن لا تكون مطلوبة للشرع ولكن يترتّب عليها آثارها ، فمطلوب القوم من هذه المسألة بيان دلالة النهي على الفساد السببي (٣) ، أو عدم دلالته عليه.

__________________

(١) أي النهي عن الشيء لعينه.

(٢) تقدّم في ص ٦٨٧.

(٣) تقدّم في ص ٦٨٦ معنى الفساد السببي.

١٠٥

وقد ظهر من ذلك أنّ الدليل المذكور (١) لا يجري في غير العبادات.

والقول بإجرائه فيه ـ إذ التجارة مثلا (٢) قد تكون واجبة وقد تكون مستحبّة ، وعلى تقدير أن لا تكون إلاّ مباحة يلزم أيضا من النهي عنها مع القول بصحّتها اجتماع حكمين فيها وهو غير جائز ؛ لأنّ الأحكام كلّها متضادّة لا يمكن اجتماعها ؛ إذ قد اعتبر في كلّ منها نقيض ما اعتبر في الآخر (٣) ـ ظاهر الفساد ؛ لأنّ التجارة من حيث إنّها واجبة أو مستحبّة من العبادة (٤) ، فرفعهما بالنهي فساد عبادتي (٥) ، ولا ريب في تحقّقه بالنهي وعدم اجتماع وجوبها أو استحبابها معه ، وليس الكلام فيه ؛ لأنّها من هذه الجهة داخلة في قولنا : « النهي عن العبادة يستلزم فسادها ». إنّما الكلام في الفساد السببي وهو غير لازم من النهي ؛ لأنّ مقابله ـ وهو الصحّة بمعنى استتباع الآثار ـ يجتمع مع مدلول النهي ـ أي الحرمة ـ ولا يلزم من اجتماعهما اجتماع الأحكام المتضادّة ؛ لأنّها هي الخمسة المعروفة ، والصحّة السببيّة ليست أحد الأربعة غير الحرمة لتضادّها (٦).

وحاصله : أنّه ليس بين السببيّة التي هي من الأحكام الوضعيّة والحكم التكليفي تقابل حتّى يمتنع اجتماعهما.

فإن قيل : المسلّم عدم جواز تعلّق الأمر بنفس ما تعلّق به النهي ذاتا واعتبارا أو (٧) من جهتين لا يمكن الانفكاك بينهما ، فثبت منه فساد المنهيّ عنه لعينه ، أو لجزئه ، أو للازمه المساوي. وأمّا عدم جوازه من جهتين يمكن الانفكاك بينهما ، فغير مسلّم ؛ للتغاير حينئذ بين المأمور به والمنهيّ عنه ؛ فإنّ النهي عن الصلاة في المغصوبة متعلّق بخصوص هذا الفرد الواقع فيها ، والواجب هو ماهيّة الصلاة لا هذا الكون المخصوص الذي يجوز أن لا يفعل ، فالنهي بالحقيقة يرجع إلى وصف الغصب.

__________________

(١) أي الوجه الأوّل الذي مرّ في ص ٦٨٦.

(٢) لم يرد في « أ » : « مثلا ».

(٣) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٠.

(٤) لا يخفى ما في كون التجارة الواجبة أو المستحبّة عبادة اصطلاحيّة.

(٥) كذا في النسختين. والصحيح : « فساد عباديّ ».

(٦) أي لتتضادّ الصحّة الحرمة بحذف إحدى التاءين. ويمكن قراءة الكلمة بضمّ التاء من المفاعلة.

(٧) لم يرد في « ب » : « أو ».

١٠٦

قلت ـ مضافا إلى ما عرفت من عدم جواز اجتماعهما بوجه ـ : إنّ ما يجري فيه حديث الجهتين إن كان منهيّا عنه لوصفه اللازم ، فلا يمكن تعلّق النهي فيه بمجرّد مثل هذا الوصف لو كان الموصوف عبادة ؛ لأنّه لا يمكن الامتثال فيه ، فيلزم التكليف بالمحال.

وإن كان منهيّا عنه بوصفه المفارق وإن احتمل أن يرجع النهي إلى الوصف إلاّ أنّه يحتمل أن يرجع حقيقة إلى الذات أيضا ، ويكون رجوعه ظاهرا إلى الوصف لنصب القرينة على إرادة باقي الأفراد ـ غير الموصوفة بالوصف المذكور ـ من الكلّي ، وعدم إرادة الكلّي من حيث هو.

فعلى الثاني يرجع النهي إلى عين الكلّي في هذا الفرد ، فلا يكون عبادة صحيحة.

وعلى الأوّل وإن كان المطلوب هو الكلّيّ من حيث هو ولا يلزم فساد هذا الكلّي الذي هو نفس العبادة ، إلاّ أنّه يلزم عدم صلاحية الفرد المخصوص من حيث الخصوص للعبادة ؛ لأنّه من حيث الخصوص منهيّ عنه لعينه ، فيلزم فساده ويثبت منه المطلوب.

[ الوجه ] الثاني (١) : أنّها لو لم تفسد ، لزم من نفيها (٢) حكمة يدلّ عليها النهي ، ومن ثبوتها (٣) حكمة تدلّ (٤) عليها الصحّة ، ويمتنع النهي مع تساوي الحكمتين ؛ لخلوّه عن الحكمة حينئذ ، أو مرجوحيّة حكمته ؛ لتفويته الزائد من مصلحة الصحّة ، ويمتنع الصحّة مع رجحان حكمة النهي ؛ لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات الزائد من مصلحة (٥) النهي.

[ الوجه ] الثالث : أنّ السلف لم يزالوا يستدلّون على الفساد بالنهي في أبوابه (٦) ، وبانضمام أصالة عدم النقل يثبت الدلالة اللغويّة.

وربما اورد عليه بأنّه لا حجّيّة في قول السلف ما لم يبلغ حدّ الإجماع ، وثبوته في محلّ طال فيه النزاع والتشاجر ممنوع.

والحقّ ، أنّ هذا الإيراد ساقط في النهي عن العبادات ؛ لثبوت الاحتجاج به على فسادها

__________________

(١) مرّ الوجه الأوّل في ص ٦٨٦.

(٢ و ٣) في « ب » : « نفيهما ».

(٢ و ٣) في « ب » : « نفيهما ».

(٤) في « أ » : « يدلّ ».

(٥) المراد بها هو الحكمة ، أي المفسدة.

(٦) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٠.

١٠٧

من الصحابة والأتباع ومن تأخّر عنهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ، وإنكاره مكابرة ، ولو سلّم وجود مخالف فيه فلم يبلغ حدّا يقدح مخالفته في الإجماع. نعم ، وروده على النهي في المعاملات لا يخلو عن وجه.

[ الوجه ] الرابع : أنّ الأمر يقتضي الصحّة ؛ لدلالته على الإجزاء بكلا تفسيريه ، كما عرفت (١) ، والنهي نقيضه فيدلّ على الفساد ؛ لتناقض مقتضيات المتناقضات.

وفيه أمّا أوّلا : فمنع وجوب تقابل أحكام المتقابلات ؛ لجواز اشتراكهما (٢) في لازم واحد ، فضلا عن تناقض أحكامهما (٣).

وأمّا ثانيا : أنّ نقيض قولنا : « يقتضي الصحّة » أنّه لا يقتضي الصحّة ، ولا يلزم منه أن يقتضي الفساد ، وحينئذ فالنهي لا يدلّ على صحّة المنهيّ عنه ولا على فساده ، ويتوقّف فهم أحدهما على دليل آخر.

وغير خفيّ أنّ هذه الأدلّة ـ على فرض تمامها ـ تدلّ على دلالة النهي عن الشيء لعينه ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ، أو المفارق ، ووجهه ظاهر. هذا.

وبقي الكلام فيما أشرنا إليه أخيرا (٤) ، أي النهي عن الامور الخارجة التي ليست من صفات العبادات أصلا ولا من هيئاته ، ولا يتوقّف وجودها عليها بوجه ، كالنهي عن « آمين » بعد الحمد.

وقد اختلف في أنّها تفسد العبادة الواقعة هي فيها ، أم لا. فقيل بالثاني (٥) ؛ نظرا إلى أنّها امور خارجة مغايرة للعبادة ولا يتوقّف تحقّق العبادة عليها ، فلا يلزم من تعلّق النهي بها فسادها ، مع كون الأمر دالاّ على الإجزاء وفاقا.

وقيل بالأوّل (٦) ، نظرا إلى أنّ المفهوم من النهي كون وجود المنهيّ عنه مانعا لتحقّق العبادة ، وعدمه شرطا له.

__________________

(١) تقدّم في ص ٦٧٧.

(٢ و ٣) كذا في النسختين. والظاهر اشتراكها وأحكامها ، أو كون المتقابلات المتقابلين.

(٤) تقدّم في ص ٦٨٥.

(٥) مال إليه المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ١٨٦ ، وحكاه الشهيد عن الإسكافي في الدروس الشرعيّة ١ : ١٧٤.

(٦) قاله الشهيد في الدروس الشرعيّة ١ : ١٧٤.

١٠٨

والحقّ أنّ ماهيّة الصلاة بأجزائها وشرائطها وموانعها إن كانت معلومة من خارج ولم يكن عدم هذه الامور (١) شيئا من الأوّلين (٢) ، ولا وجودها من الآخر ، فالنهي عنها لا يدلّ على فسادها ؛ لأنّ تعلّق النهي بشيء مغاير لآخر لا يقتضي تعلّقه بهذا الآخر ، وإلاّ (٣) فالنهي عنها يدلّ على فسادها ؛ لأنّه إمّا يعلم حينئذ كون عدمها من الشرائط ووجودها من الموانع ، أو يشكّ فيه.

فعلى الأوّل لا إشكال. وعلى الثاني نقول : لا ريب في ورود النهي عنها ، وظاهره يفيد مانعيّة المنهيّ عنه ، كما أنّ ظاهر الأمر يفيد الجزئيّة أو الشرطيّة ؛ لأنّ الأمر بإيقاع فعل في عبادة مركّبة عند بيان حقيقته يدلّ على جزئيّته لها التزاما.

وبهذا يظهر ضعف ما قيل : إنّ الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة إن كانت مشكوكا فيها كان حكمه (٤) حكم الأوّل ؛ لأنّ الأصل عدمها ، ومجرّد الأمر أو النهي لا يدلّ عليها ؛ لعدم دلالتهما عليها لا مطابقة ولا تضمّنا ولا التزاما.

ثمّ الاختلاف إنّما فيما تعلّق به النهي لأجل العبادة لا لذاته ، وأمّا فيما علم أنّ النهي عنه في العبادة لأجل حرمته مطلقا ، كالنظر إلى الأجنبيّة في الصلاة ، فلا يقتضي فساد العبادة قولا واحدا.

فإن قيل : يلزم على ما ذكرت في الشقّ الأوّل (٥) أن لا يدلّ النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة أيضا على فساد الصلاة ؛ لأنّ النهي فيه أيضا متعلّق بشيء خارج عن حقيقة الصلاة ، مغاير لها.

قلت : لمّا فرض أنّ ماهيّة الصلاة بتمامها معلومة ، والمنهيّ عنه ليس من شرائطها ولا أوصافها ولا موانعها ، والنهي تعلّق بمجرّد المنهيّ عنه من غير مدخليّة له بطبيعة العبادة أو الفرد الخاصّ ، والأمر تعلّق بأحدهما ، فيكون المنهيّ عنه والمأمور به متباينين ، ويكون

__________________

(١) أي الامور الخارجة عن العبادة.

(٢) أي الأجزاء والشرائط. والمراد من الآخر هو الموانع.

(٣) أي وإن لم تكن الأجزاء والشرائط والموانع معلومة من خارج.

(٤) أي حكم القسم الثاني.

(٥) أي إذا علم كون عدمها من الشرائط ووجودها من الموانع.

١٠٩

الكلّي أو الفرد الخاصّ مطلوبا ، وإن قارنه المنهيّ عنه.

وأمّا في مثل : « الصلاة في المغصوبة » فالفرد الخاصّ بعينه ليس مرادا ، سواء كان جهة النهي نفسه ، أو وصفه المفارق ؛ لأنّ المنهيّ عنه في الأوّل ذات المعروض بنفسها ، وفي الثاني ذاته مع تحقّق الوصف حين تحقّقه ، والمأمور به الطبيعة المطلقة أو الفرد من حيث الذات إذا انفكّ عن الوصف الذي تعلّق به النهي لأجله. فالظاهر في مثله تقييد النهي للأمر ، وإفادته أنّ المأمور به هو الطبيعة بشرط عدم تحقّقها في ضمن هذا الفرد الخاصّ ، فإذا أتى المكلّف بهذا الفرد لم يأت بشرط المأمور به وأتى بنفسه في ضمنه. ولا فرق في ذلك بين أن يكون النهي خاصّا بالفرد الخاصّ ، بأن يقول : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » ليتحقّق بين المأمور به والمنهيّ عنه عموم وخصوص مطلقا ، أو عامّا يشمله وغيره ، كأن يقول : « لا تتصرّف في المغصوبة » لأنّ المناط تعلّق النهي به ، سواء كان عامّا أو خاصّا.

ولنا على الثانية (١) : أنّ النهي لا يدلّ إلاّ على الحرمة ، وهي لا تستلزم الفساد السببي ، أي عدم ترتّب الآثار ؛ لأنّ ترتّبها وهو الصحّة لا ينافيها (٢) ، ولذا يترتّب على الوطء في الحيض آثاره الشرعيّة وهي لزوم المهر كملا ، والعدّة ، وصحّة النسب مع كونه حراما. ويترتّب على ارتداد الزوج المسلم آثاره ، أي بينونة زوجته ، وقسمة أمواله بين ورّاثه مع كونه محرّما ، ويحصل التطهير إذا وقع إزالة النجاسة بالماء المغصوب ، وغير ذلك.

وأيضا لو دلّ عليه ، لكانت (٣) إحدى الثلاث وكلّها منتفية. أمّا المطابقة والتضمّن ، فظاهر.

وأمّا الالتزام ، فلأنّ شرطه اللزوم العقلي أو العرفي ، وكلاهما مفقود ، ولذا يجوز النهي عن معاملة ـ والتصريح بترتّب آثارها عليها ـ لو وقعت من دون حصول تناف بين الكلامين.

ثمّ إنّ النهي في المعاملة كما لا يدلّ على الفساد فلا يدلّ على الصحّة أيضا ، فالحكم المنهيّ عنه لو لم يدلّ دليل على صحّته بعمومه أو خصوصه يحكم بفساده وإن قطع النظر عن النهي ؛ لأصالة بقاء الحكم السابق ؛ ولأنّ الصحّة السببيّة ـ وهي ترتّب الآثار ـ حكم شرعي

__________________

(١) أي الدعوى الثانية وهي عدم دلالة النهي على الفساد في المعاملات مطلقا.

(٢) أي الحرمة.

(٣) أي لكانت الدلالة.

١١٠

يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي ، فالحكم بالصحّة يتوقّف على دلالة شرعيّة عامّة أو خاصّة ، وحينئذ لا يكون النهي مانعا عنها ؛ لعدم التنافي ، بخلاف العبادات ؛ لأنّ الحرمة فيها لمّا كانت منافية لصحّتها فلا يجوز اجتماع الأمر والنهي فيها ، فالنهي يدلّ على فسادها ، وإن دلّ عامّ أو خاصّ على صحّتها ، فيقع بينهما التعارض. هذا.

واحتجّ من قال بدلالته على الفساد في المعاملة أيضا بوجوه :

منها : أنّ العرف يفهم منه الفساد ، والأصل عدم النقل (١).

وجوابه : منع فهم العرف الفساد السببي ، بل لا يخطر ذلك ببالهم.

ومنها : الدليل الثاني (٢).

والجواب عنه : أنّه إن اريد بالحكمة حالة ملائمة لكون الفعل مطلوبا للشارع ، فلا نسلّم دلالة الصحّة السببيّة على وجودها ؛ إذ من الجائز عقلا انتفاء الحالة الملاءمة في الطلاق وعقد البيع وقت النداء مع ترتّب البينونة وانتقال الملك عليهما.

نعم ، هذا في العبادات معقول ؛ لأنّ الصحّة فيها لمّا كانت عبارة عن حصول الامتثال وموافقة الأمر ، فالنهي فيها يدلّ على وجود الحالة الملاءمة.

وإن اريد بها حالة مطلقة أعمّ من أن تكون ملائمة ، أو مستتبعة للآثار ، فاقتضاء الصحّة لها مسلّم إلاّ أنّه لا معنى للترديد حينئذ ؛ لأنّ الحالة المستتبعة للآثار لا تعارض حكمة النهي حتّى يقال : إنّها مساوية لها ، أو راجحة عليها ، أو مرجوحة عنها ؛ لعدم التضادّ بينهما.

ومنها : الدليل الثالث (٣).

وقد عرفت جوابه (٤).

ومنها : أنّ ترتّب الآثار على المعاملات ليس أمرا عقليّا ، بل هو بمجرّد جعل الشارع ووضعه ، فهو من قبيل الأحكام الوضعيّة الناقلة عن الأصل ، فلا يحكم به إلاّ مع العلم أو الظنّ الشرعي ، ومع تعلّق النهي لا يحصل شيء منهما.

__________________

(١) راجع : الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٨٠ ، ومنتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٠ و ١٠١ ، والوافية : ١٠١.

(٢) أي الوجه الثاني ، وقد تقدّم في ص ٦٩١.

(٣) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٠٠.

(٤) تقدّم في ص ٦٩١.

١١١

نعم ، إن علم جعل الشارع معاملة معرّفة لشيء من الأحكام ، أمكن الحكم بترتّب آثارها عليها وإن تعلّق النهي بعينها أو جزئها أو وصفها (١).

وأنت خبير بأنّ هذا اعتراف بعدم دلالة النهي على الفساد ، فهو حجّة لنا.

ومنها : ما ورد في بعض الأخبار (٢) من استدلال الأئمّة على حرمة بعض العقود والإيقاعات بالمناهي المجرّدة عن القرائن ، مع كونها فاسدة في الواقع ، فيظهر منه أنّ مرادهم من الحرمة الفساد (٣).

والجواب : أنّهم عليهم‌السلام لم يستدلّوا بها إلاّ على الحرمة. وكونها فاسدة للدلالة الخارجيّة لا يقتضي أن يكون المراد من الحرمة الفساد.

ومنها : قول الباقر عليه‌السلام : « من طلّق ثلاثا في مجلس على غير طهر لم يكن شيئا ، إنّما الطلاق الذي أمره الله عزّ وجلّ ، ومن خالف لم يكن له طلاق » (٤) ، ووجه دلالته أنّه عليه‌السلام نفى حقيقة الطلاق إذا كان منهيّا عنه ، وأقرب المجازات إلى نفي الحقيقة الفساد.

وقوله في حسنة زرارة ـ بعد ما حكم بصحّة تزويج العبد إذا وقع بدون إذن سيّده ثمّ أجازه ، وقيل له : إنّ بعض أهل الخلاف يقول بفساد أصله فلا يحلّه الإجازة ـ : « إنّه لم يعص الله ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجازه فهو جائز له » (٥).

وجه الدلالة أنّه يدلّ على فساد النكاح إذا كان معصية لله تعالى ، وفعل المنهيّ عنه معصية (٦).

والجواب : أنّهما لا يدلاّن إلاّ على فساد ما لم يؤمر به بوجه وكان منهيّا عنه أو معصية ، ولذا حكم بصحّة تزويج العبد بعد الإجازة ؛ لأنّه كان مأمورا به أوّلا ؛ نظرا إلى جواز إيقاع الفضولي. وبطلان ما لم يؤمر به أصلا ممّا نقول به ، كما تقدّم (٧).

__________________

(١) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٠٠.

(٢) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٩٧ ، ح ١٢٤٣ و ١٢٤٤.

(٣) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٠٦.

(٤) الكافي ٦ : ٥٨ ، باب من طلّق لغير الكتاب والسنّة ، ح ٧ ، وتهذيب الأحكام ٨ : ٤٧ ، ح ١٤٦.

(٥) الفقيه ٣ : ٣٥٠ ، ح ١٦٧٥ ، وتهذيب الأحكام ٧ : ٣٥١ ، ح ١٤٣٢.

(٦) قاله الفاضل التوني في الوافية : ١٠٦.

(٧) في ص ٦٨٩.

١١٢

واحتجّ القائل بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللغة أمّا على الجزء الإثباتي : فبما تقدّم من عمل السلف (١) ، وقد عرفت أنّه ثبت (٢) به المطلوب (٣) في العبادات دون المعاملات. وأمّا على الجزء السلبي : فبأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه ، وليس في لفظ النهي ما يدلّ عليه لغة (٤).

والجواب عن الثاني : أنّه إن اريد بالأحكام الآثار التابعة للعقود والإيقاعات ، فعدم دلالة النهي عليه لغة مسلّم نحن نقول به ، إلاّ أنّه كذلك أيضا بحسب الشرع كما تقدّم (٥).

وإن اريد بها ما يشمل عدم موافقة الأمر ، فعدم دلالته عليه ممنوع ، فإنّ النهي يدلّ عليه لغة كما يدلّ عليه شرعا ، ولا فرق في هذه الدلالة بين اللغة والشرع ؛ لأنّه ليس مدلولا مطابقيّا ولا تضمّنيا لشيء منهما ، ولازم عقلي لكلّ منهما ؛ لأنّه لازم للتحريم الذي يدلّ عليه النهي لغة وشرعا. هذا.

وممّا ذكرناه فيما تقدّم (٦) قد ظهر حجّة القائل بالدلالة إذا تعلّق النهي بعين الشيء ، أو جزئه ، أو وصفه اللازم ؛ وعدمها إذا تعلّق بوصفه المفارق مع جوابها.

إذا عرفت ذلك ، فيتفرّع عليه بطلان الطهارة بالماء المغصوب ، والصلاة في المكان المغصوب ، والصوم سفرا عدا ما استثني ، والحجّ المندوب بدون إذن الزوج والمولى ، وبطلان الوضوء إذا ترك غسل الرجلين أو مسح الخفّين في موضع التقيّة ، وصحّة البيع وقت النداء ، وقس عليها أمثالها.

وممّا يتفرّع عليه ذبح الأضحية ، أو الهدي بآلة مغصوبة ، وإيقاع الصلاة مع كون المصلّي مستصحبا لشيء مغصوب.

وبعد الإحاطة بما ذكر لا يخفى حقيقة الحال فيهما.

__________________

(١) تقدّم في ص ٦٩١.

(٢) في « ب » : « يثبت ».

(٣) في « ب » : « المطلب ».

(٤) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٠٠.

(٥) تقدّم في ص ٦٩١.

(٦) تقدّم في ص ٦٨٩.

١١٣

تذنيب

عدم دلالة النهي على الصحّة ممّا لا ينبغي الريب فيه بعد الإحاطة بما تقدّم. وبالغ أبو حنيفة والشيباني في دلالته عليها (١) ، وهو من المباحث المشهورة عند الحنفيّة ، واستدلّوا عليه بخيالات فاسدة لا ينبغي تدوينها في المصنّفات والتعرّض لها في المحاورات ؛ ولذا أعرض عنها الجماهير ، وأجمعوا على خلافهما (٢).

فصل [٢١]

الأمر والنهي متعلّقهما إمّا مطلق ، أو معيّن متجزّئ ، أو معيّن غير متجزّئ.

فعلى الأوّل يحصل الامتثال في الأمر بإيقاع جزئي من جزئيّاته ، ولا يحصل في النهي إلاّ بترك جميع أفراده ؛ لأنّ المطلق في جانب النهي كالنكرة المنفيّة في العموم ، فلو حلف على أكل رمّان تبرأ ذمّته بأكل واحد ، ولو حلف على تركه لم تبرأ إلاّ بترك جميع أفراده.

وعلى الثاني يشترط في امتثال الأمر الاستيعاب ، ويحصل الامتثال في النهي بالانتهاء عن البعض ؛ لأنّ الماهيّة المركّبة تنفى بانتفاء جزء منها ، فلو حلف على الصدقة بعشرة ، فلا يكفي البعض ، ولو حلف أن لا يأكل رغيفا ، أو علّق الظهار به لم يحنث بأكل بعضه ، بل الحنث والظهار يتوقّفان على الاستيعاب.

وعلى الثالث فلا فرق فيه (٣) بين الأمر والنهي ؛ لتوقّف امتثال الأمر على فعل هذا المعيّن ، والنهي على تركه ، كما لو حلف على فعل القتل أو تركه.

__________________

(١ و ٢) راجع المحصول ٢ : ٣٠٠.

(٣) أي في الامتثال.

١١٤

الباب الثاني

في العامّ والخاصّ

اعلم أنّ العامّ قد حدّ بحدود ، أشهرها وأصوبها عندي أنّه : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد » ويخرج بقيد : « المستغرق لجميع ما يصلح له » جميع النكرات ـ مفردة كانت ، أو تثنية ، أو جمعا ـ وقيد الأخير ؛ لإدخال المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد ، كلفظ « العين » إذا استغرق جميع أفراد الباصرة ، ولولاه للزم أن يشترط في عمومه استغراقه لجميع أفراد معانيه المتعدّدة ، وإدخال اللفظ الذي له معنى حقيقي ومجازي إذا استغرق جميع أفراد أحدهما ، ولولاه لزم أن يشترط في عمومه استغراقه لجميع أفراد مفهوميه معا.

وقيل : إنّه لإخراج المشترك والحقيقة والمجاز أيضا (١) ، إذا اريد من الأوّل جميع معانيه عند من يجوّزه ، ومن الثاني المعنى الحقيقي والمجازي عند من جوّز إرادتهما من اللفظ الواحد.

وفيه : أنّهما يخرجان بالقيد الأوّل ؛ لأنّ الأوّل يصلح لجميع أفراد جميع معانيه ، والثاني يصلح لجميع أفراد معنييه ، فإذا اريد من كلّ منهما بعض أفراد جميع معانيه لم يكن مستغرقا لجميع ما يصلح له.

واورد عليه بأنّه ينتقض عكسا بالجموع المعرّفة إن اريد من الموصول (٢) الجزئيّات ؛ لأنّها من صيغ العموم مع أنّها لا تستغرق جزئيّاتها ـ أي كلّ جمع جمع ـ بل تستغرق

__________________

(١) قاله الفخر الرازي في المحصول ٢ : ٣١٠.

(٢) والمراد به الموصول في التعريف في قوله : « ما يصلح له ».

١١٥

أجزاءها (١) ، أي كلّ واحد واحد كما هو الحقّ. وب « الرجل » و « لا رجل » إن اريد منه (٢) الأجزاء ؛ لأنّهما يفيدان العموم مع أنّ ما يصلحان له من جزئيّاتهما لا من أجزائهما. وبالبسائط العامّة ، كـ « النقطة » و « الوحدة » باعتبار تناولها الجزئيّات إن اريد منه (٣) كلاهما ؛ فتعيّن إرادة الأعمّ ـ أي أحدهما (٤) لا بعينه ـ فينتقض طردا بالجمل والمثنّى والمجموع المنكّر (٥) ، كزيدين وزيدين ، والعشرة والمائة ، وغيرهما من أسماء الأعداد ؛ لأنّ الجمل مستغرقة لما يصلح (٦) لها من أجزائها من الفعل والفاعل والمفعول ، والبواقي أيضا مستغرقة لما يصلح لها من الأجزاء ، أي الاثنين والثلاثة والعشرة وغيرها (٧).

وجوابه : أنّ المراد منه (٨) الجزئيّات ، ولا يرد النقض بالجموع المعرّفة ، لا لمنع كون عمومها باعتبار كلّ فرد بل لكلّ جمع كما قيل ؛ لأنّ ذلك خلاف التحقيق ؛ للزوم التكرار ، وانتقال أهل اللسان منها ابتداء إلى كلّ فرد فرد من دون خطور الجمع ببالهم ، بل لأنّ اللام (٩) يبطل الجمعيّة كما اشتهر بينهم ، فيكون جزئيّات مفهومها (١٠) كلّ فرد فرد لا كلّ جمع.

وقيل : هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئيّاته (١١).

وينتقض طردا بالمثنّى ، والمجموع المنكّر ، والعشرة كما تقدّم (١٢).

وقيل : هو اللفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا (١٣).

__________________

(١) أي أجزاء الجزئيّات.

(٢ و ٣) أي الموصول في التعريف.

(٤) أي يراد من الموصول في التعريف أحد من الجزئيّات والأجزاء. وحاصل الإيراد أنّ المراد من الموصول إن كان هو الجزئيّات وحدها ، أو الأجزاء وحدها ، أو كليهما يخرج عن التعريف بعض مصاديق العامّ. وإن كان المراد هو الأعمّ منها ومن الأجزاء ـ بمعنى أحدهما لا بعينه ـ يدخل في التعريف ما ليس عامّا.

(٥) كذا في النسختين. والأولى : الجمع المنكّر أو الجموع المنكّرة ، والمراد به ما ليس مدخولا للاّم كزيدين.

(٦) أي ما يصلح أن يكون مقوّما للجملة.

(٧) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٢.

(٨) أي الموصول في التعريف.

(٩) والمراد هو اللام في مثل الرجال.

(١٠) أي مفهوم الجموع المعرّفة مثل الرجال.

(١١) قاله البهائي في زبدة الاصول : ١٢٣.

(١٢) تقدّم آنفا.

(١٣) المستصفى : ٢٢٤ ، والإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٢١٧.

١١٦

واعترض عليه بوجوه يمكن دفعها بتكلّفات ، وما لا يندفع عنه أنّه ينتقض عكسا بالمثنّى والجمع المنكّر (١).

وللمتكلّف أن يقول : المراد من « الشيئين فصاعدا » الجزئيّات ، فيسلم من النقض.

وقيل : هو ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة (٢).

ويخرج بـ « مسمّيات » مثل : زيد ، وب « اشتركت » نحو : عشرة ، وب « مطلق » المعهود ، فإنّه يدلّ على مسمّيات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصّصه بالمعهودين ، وب « ضربة » ما يدلّ على مسمّيات على البدل ، كرجل (٣).

وينتقض طردا بالجموع المنكّرة ، وعكسا بالجموع المضافة ، كعلماء البلد ؛ فإنّها تدلّ على مسمّيات مع قيد التخصيص.

وقيل : هو اللفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح بالقوّة مع تعدّد موارده (٤).

واورد عليه بأنّه ينتقض عكسا بمثل « علماء البلد » ، والموصولات ، كـ « الذي يأتي (٥) » وأسماء الشرط ، كـ « مهما يضرب » ؛ لتناولها قوّة ما لا يتناوله فعلا (٦).

فصل [١]

العامّ أخصّ مطلقا من المطلق ؛ لأنّ مدلوله الماهيّة المقيّدة بالكثرة الشاملة غير المحصورة ، ومدلول المطلق ـ كما هو الظاهر من عبارات القوم ـ الماهيّة من حيث هي.

وتوضيح ذلك : أنّ لكلّ شيء حقيقة هو بها هو ، وهي من حيث هي ليست واحدة ولا كثيرة ، ولا عامّة ولا خاصّة ، ولا مسلوبا عنها شيء من ذلك ؛ لأنّها قابلة للاتّصاف بكلّ منها على البدل ، فإن اخذت مع الوحدة تكون واحدة ، ومع الكثرة تكون كثيرة ، وهكذا بالقياس إلى باقي العوارض.

__________________

(١ و ٣) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٢.

(٢) قاله ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٠٢. وقوله : « ضربة » أي دفعة.

(٤) قاله العلاّمة في نهاية الوصول إلى علم الاصول ٢ : ١١٤.

(٥) لم يرد في « ب » : « يأتي ».

(٦) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٢.

١١٧

وإذا تقرّر ذلك ، فنقول : اللفظ الدالّ عليها من حيث هي « المطلق ». وعليها مع كلّ جزئيّاتها « العامّ ». ومع وحدات محصورة « العدد ». ومع واحدة معيّنة « المعرفة ». وغير معيّنة « النكرة ».

وأنت خبير بأنّ كون المطلق ما اريد به الحقيقة من حيث هي ينافي تعليق الأحكام بالأفراد دون الماهيّات ، ولذا قيل : « إنّه ما دلّ على شائع في جنسه » (١). أي على حصّة ممكنة الصدق على حصص كثيرة من الحصص المندرجة تحت مفهوم كلّي ، فيخرج ما ليس لحصّة محتملة ، كالمعارف بأسرها ؛ لأنّها إمّا أن تدلّ على فرد معيّن ، نحو : « زيد » و « هذا » ، أو على الحقيقة من حيث هي ، نحو : « الرجل » و « اسامة » ، أو على حصّة معيّنة ، مثل : ( فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ )(٢) أو على استغراق الأفراد وعمومها ، نحو : « الرجال » و « كلّ رجل » و « لا رجل » ، فالمطلق لا تعيين فيه بوجه. والمعارف فيها التعيين إمّا شخصا ، أو حقيقة ، أو حصّة ، أو استغراقا. هذا.

ويمكن توجيه ما هو الظاهر من كلام القوم بأنّ الأحكام لا يلزم أن تجري أوّلا على الأفراد ، بل اللازم أعمّ من ذلك ، فيمكن أن تجري عليها أوّلا وعلى الكلّيات باعتبارها ، فأيّ مانع أن يكون مدلول المطلق الماهيّة من حيث هي باعتبار وجودها.

فصل [٢]

لا خلاف في عروض العموم للألفاظ حقيقة ، وإنّما اختلفوا في عروضه للمعاني على أقوال : ثالثها : عروضه لها مجازا لا حقيقة (٣).

والحقّ ، أنّه إن اريد بالعموم استغراق اللفظ لمسمّياته ـ كما هو اصطلاح الاصوليّين (٤) ـ فهو من عوارض الألفاظ خاصّة ، وإن اريد به شمول مفهوم لأفراده ـ كما هو اصطلاح أهل النظر (٥) ـ فهو من عوارض المعاني خاصّة ، وإن اريد به شمول أمر لمتعدّد ، فهو من عوارضهما معا لغة وعقلا.

__________________

(١) قاله الشيخ حسن في معالم الدين : ١٥٠ ، والبهائي في زبدة الاصول : ١٤٣.

(٢) المزّمّل (٧٣) : ١٦.

( ٣ ـ ٤ ـ ٥ ). راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٢.

١١٨

أمّا كونه عارضا للألفاظ بحسبهما ، فلا ريب فيه.

وأمّا كونه عارضا للمعاني لغة ، فظاهر من إطلاق الادباء واستعمال الفصحاء إطلاقا شائعا ، واستعمالا ذائعا ، كقولهم : « عمّ العطاء » و « عمّ البلاء » و « عمّ الخصب » و « عمّ الجدب » و « عمّ المطر » و « عمّ الخير » وغير ذلك (١).

وأمّا كونه عارضا لها عقلا ؛ فلأنّه كما يصحّ في الألفاظ أن يوجد لفظ واحد شامل لألفاظ كثيرة متعلّق بها تعلّق الصدق والحمل لا تعلّق الحلول ، فكذلك يصحّ أن يوجد معنى ذهني يشمل أفرادا كثيرة يحمل عليها بالحمل الإيجابي. وإنكار ذلك مكابرة. والظاهر أنّ من أنكره من الاصوليّين ممّن أنكر وجود المعاني الذهنيّة.

وظهر من ذلك أنّ الأمر العامّ إذا لم يكن من الألفاظ لا بدّ أن يكون من المعقولات الذهنيّة لا الأعيان الخارجيّة ؛ لأنّه لا يمكن أن يوجد في الخارج ما يتّصف بالعموم ـ أي يكون صادقا ومحمولا على كثيرين ـ إلاّ أن يثبت وجود الكلّي الطبيعي في الخارج.

فصل [٣]

ما يفيد العموم إمّا يفيده عرفا ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ )(٢) ، فإنّه يوجب عرفا حرمة جميع الاستمتاعات.

أو عقلا ، وهو إمّا ترتّب الحكم على الوصف بإحدى الطرق المثبتة للعلّيّة ؛ لأنّه إذا ثبتت العلّيّة ، يحكم العقل بعمومها ، أي ثبوت الحكم أينما وجدت ، كقوله : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا )(٣) ، ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا )(٤).

أو دليل الخطاب عند من يقول به ، كقوله عليه‌السلام : « في سائمة الغنم زكاة » (٥) فإنّه يفيد انتفاء الزكاة عن جميع ما عدا السائمة. أو اشتمال السؤال على ما يحكم العقل لأجله بعموم الحكم

__________________

(١) راجع منتهى الوصول لابن الحاجب : ١٠٢.

(٢) النساء (٤) : ٢٣.

(٣) المائدة (٥) : ٣٨.

(٤) النور (٢٤) : ٢.

(٥) انظر تهذيب الأحكام ٤ : ٢ ، ح ٢ ، والاستبصار ٢ : ٢ ، ح ٢.

١١٩

الذي يشتمل عليه الجواب ، كأن يسأل عن كلّ (١) من أفطر في نهار رمضان ، فيقال : عليه الكفّارة ، فيعلم شمول هذا الحكم لكلّ من أفطر.

أو لغة ، وهو الصيغ المخصوصة التي يثبت بعد ذلك إفادتها العموم ، ومنه يثبت أنّ للعموم في لغة العرب صيغا تخصّه ، كما ذهب إليه أهل التحقيق (٢).

وقال جماعة : إنّ جميع الصيغ التي يدّعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص وإنّما تستعمل في العموم مجازا (٣).

وذهب طائفة ، منهم المرتضى إلى أنّها مشتركة بين الخصوص والعموم لغة ، إلاّ أنّه جزم بأنّها نقلت في عرف الشرع إلى العموم (٤).

وقيل بالوقف مطلقا (٥).

وقيل به في الأخبار دون الأمر والنهي (٦).

واحتجّ القائل بأنّها حقيقة في الخصوص بأنّ الخصوص متيقّن ؛ لأنّها إن كانت للخصوص فمراد ، وإن كانت للعموم فهو داخل في المراد ، والعموم مشكوك فيه ، فجعلها للمتيقّن أولى من جعلها للمشكوك فيه.

وبأنّه اشتهر في الألسن ـ حتّى صار مثلا ـ : « أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه » وهو ليس محمولا على ظاهره وإلاّ لزم من صدقه كذبه ؛ فهو أيضا مخصّص بمثل قوله تعالى : ( أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(٧). والمراد منه المبالغة في تخصيص العمومات وإلحاق القليل ـ وهو العموم ـ بالمعدوم. والظاهر يقتضي كون ما يدّعى عمومه حقيقة (٨) في الأغلب وهو

__________________

(١) كذا في النسختين. والظاهر زيادة « كلّ ».

(٢) راجع : معارج الاصول : ٨١ ، وتمهيد القواعد : ١٤٧ ، ومعالم الدين : ١٠٢.

(٣) راجع : معارج الاصول : ٨٢ ، ومعالم الدين : ١٠٢.

(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٩٨ ـ ٢٠١.

(٥) قاله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٢٢٢.

(٦) حكاه ابن الحاجب في منتهى الوصول : ١٠٣ ، والأسنوي في التمهيد : ٢٩٧ ، والفاضل التوني في الوافية : ١١٢. ونقله الزركشي عن الشيخ أبي الحسن ومعظم المحقّقين في البحر المحيط ٢ : ١٩٢.

(٧) البقرة (٢) : ٢٣١.

(٨) منصوبان بالخبريّة للكون.

١٢٠