الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-14-8
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٠٤
وشهيداً ، ولازم هذا الاستدلال حينئذٍ أن يكون كلّ فرد من أفراد الامّة معصوماً عن الخطأ ، وهو كما ترى.
ولو سلّم كونها عاماً مجموعياً ، أي كان النظر إلى الامّة من حيث إنّها امّة فغاية ما تقتضيه الآية هي إثبات العدالة لها لا العصمة ، والذي ينفع في المقام إنّما هو إثبات العصمة لا العدالة لتتمّ كاشفيتها عن الواقع.
ومنها قوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ ) (١).
بتقريب أنّ الله تعالى وصف الامّة في هذه الآية بأنّها خير الامّة وأنّها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، فلا يجوز أن يقع منها الخطأ ، لأنّ ذلك يخرجها عن كونها خياراً ويخرجها عن كونها آمرة بالمعروف وناهيّة عن المنكر.
وفيه : أنّه لا ملازمة بين عدم جواز وقوع الخطأ وبين كونهم خياراً ، لأنّ الخيار قد يقع منهم الخطأ وإن كانوا معذورين ، كما هو الشأن في غير المعصومين من العدول فإنّه يقال : إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله مثلاً من الخيار أو أنّ أبا ذر رضى الله عنه كان من خيار الامّة مع عدم كونهما معصومين.
ومنها قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا ) (٢) بتقريب أنّ الإجماع حبل الله فيجب الاعتصام به ولا يجوز التفرّق عنه.
وفيه أوّلاً : أنّ الآية تأمر بإيجاد الاتّحاد بين المسلمين ، والاتّحاد شيء وقبول كلّ رأي وعقيدة تعبّداً شيء آخر ، ولا ملازمة بينهما.
ثانياً : دلالة الآية على المدّعى موقوفة على أن يكون الإجماع مصداقاً لمفهوم حبل الله ، مع أنّ من الواضح أنّ الحكم لا يثبت موضوعه ، بل تدلّ على لزوم الاعتصام بحبل ثبت كونه حبل الله تعالى بدليل آخر.
هذا كلّه من ناحية استدلالهم بالكتاب وقد عرفت أنّها تكلّفات بعيدة وتشبّثات واهيّة.
وأمّا السنّة : فاستدلّوا منها بحديث نبوي نقل بطرق مختلفة على مضامين متفاوتة ، فنقل
__________________
(١) سورة آل عمران : الآية ١١٠.
(٢) سورة آل عمران : الآية ١٠٣.
من طريق عمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم (١).
ففي سنن ابن ماجة (٢) : حدّثني أبو خلف الأعمى قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : « إنّ امّتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم » وفي نقل آخر : « لم يكن الله ليجمع امّتي على الضلالة » وفي ثالث : « سألت الله أن لا يجمع امّتي على الضلالة فأعطانيها » وفي رابع : « لا تزال طائفة من امّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم » ( وفي تعبير آخر : لا يضرّهم خلاف من خالفهم ).
وقد نوقش فيه : تارةً من ناحية السند ، واخرى من ناحية الدلالة ، أمّا السند فقد ناقش فيه أهل السنّة أنفسهم ، منهم بعض شرّاح سنن ابن ماجة فإنّه قال في ذيل هذا الحديث : « وفي إسناده ابو خلف الاعمى واسمه حازم ابن عطاء وهو ضعيف ، وقد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر ».
أمّا الدلالة فلو كان في التعبير الوارد في الحديث كلمة « خطأ » كما هو المعروف في الألسنة أي كان الحديث هكذا : لا تجتمع امّتي على خطأ ، فلا إشكال في دلالته لكن لم يرد الحديث بهذا التعبير في الجوامع الموجودة ، بل التعبيرات منحصرة فيما نقلناه (٣) ، وحينئذٍ لقائل أن يقول : إنّ التعبير بالضلالة الموجود فيها ظاهرة في الضلالة في اصول الدين لأنّ هذا هو المتبادر من الضلالة ، فلا يثبت بها حجّية الإجماع في الأحكام الفرعيّة ، هذا أوّلاً.
وثانياً : سلّمنا الإطلاق وصحّة السند إلاّ أن متعلّق الضلالة فيها هو لفظ الامّة ، فيكون المفاد حينئذٍ أنّ جميع المسلمين لا يجتمعون على باطل ( لأنّ الظاهر من الامّة هو تمام الامّة ) وهذا لا يفيد إلاّمن يقول بأنّ إجماع الامّة حجّة ، أمّا سائر الأقوال كإجماع العلماء أو إجماع
__________________
(١) راجع الاصول العامّة للفقه المقارن : ص ٢٦١.
(٢) سنن ابن ماجة : ج ٢ ، ح ١٣٠٣.
(٣) نعم في شرح ابن أبي الحديد : ج ٨ ، الخطبة ١٢٨ ، ص ١٢٢ : « قوله عليهالسلام : والزموا السواد الأعظم » وهو الجماعة وقد جاء في الخبر من رسول الله صلىاللهعليهوآله هذه اللفظة التي ذكرها عليهالسلام وهي : « يد الله على الجماعة لا يبالي بشذوذ من شذّ » وجاء في معناها كثير نحو قوله عليهالسلام : « الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد » وقوله : « لا تجتمع امّتي على خطأ » وقوله : « سألت الله ألاّ تجتمع امّتي على خطأ فأعطانيها » وقوله : « لم يكن الله ليجمع امّتي على ضلالة ولا خطأ ».
أهل الحرمين أو الصحابة أو أهل المدينة وغيرها من الأقوال ، فإنّ هذا الحديث لا يصلح لإثباتها ، فالذي يثبت به إنّما هو حجّية إجماع الامّة وهذا ممّا لا بأس بالالتزام به عند الإماميّة أيضاً لاعتقادهم بوجود المعصوم عليهالسلام في الامّة في كلّ زمان ، فلعلّ جعل الحجّية من ناحية النبي صلىاللهعليهوآله لاشتمالها على المعصوم عليهالسلام لا من حيث هي هي ، ولا يخفى أنّ هذا الجواب يجري حتّى لو كان في متن الحديث كلمة « الخطأ » لا الضلالة.
وعلى كلّ ، هذه الرّواية لا تصدق فيما إذا خالفت طائفة من الامّة فتنحصر طبعاً في خصوص الضروريات ، وإذن يكون مفادها مقبولاً معقولاً بل يمكن تأييدها بدليل العقل لأنّ الخطأ في ما ثبتت ضرورته من الدين محال عادة.
وأما قوله صلىاللهعليهوآله في ذيل النقل الأوّل : « فعليكم بالسواد الأعظم » فقد ورد مثل هذا التعبير في نهج البلاغة في كلام الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام حيث قال : « والزموا السواد الأعظم فإنّ يد الله مع الجماعة وإيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب » (١).
والإنصاف أنّه لا ربط له بمسألة الإجماع في الفروع بل هذا الذيل بقرينة صدره وهو : « لا تجتمع على ضلالة » منصرف إلى الاصول كما مرّ.
كما أنّ ذيل ما نقلناه من كلام أمير المؤمنين عليهالسلام وهو : « إيّاكم والفُرقة فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان » شاهد على أنّ المقصود من صدره أيضاً المسائل الاعتقاديّة ولا ربط له بالفروع لأنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّه لو خالف بعض الفقهاء بعضاً في بعض الفروع الدينيّة لم يكن فيه محذور وليست هذه الفرقة مذمومة ناشئة من الشيطان ، وكم له من نظير في المباحث الفقهيّة.
هذا كلّه بالنسبة إلى دليل السنّة.
٢ ـ دليل حجّية الإجماع عند الأصحاب
أمّا الخاصّة فلهم في حجّية الإجماع المحصّل مسالك أربعة :
__________________
(١) نهج البلاغة : صبحي الصالح ، خ ١٢٧.
المسلك الأوّل : الإجماع الدخولي
وهو دخول الإمام عليهالسلام في المجمعين والمتّفقين بشخصه ، وإن كان لا يعرفه المحصّل للإجماع ، فيخبر بالحكم عنه بصورة الإجماع ، فملاك حجّيته دخول المعصوم بنفسه في المجمعين ، ولذلك قال المحقّق رحمهالله في المعتبر : « فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجّة ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة » (١).
ولا إشكال في هذا النوع من الإجماع من ناحية الكبرى ، إنّما الكلام في الصغرى لأنّ الإجماعات المنقولة الموجودة في الكتب الفقهيّة ليست من هذا القبيل قطعاً ، فإنّ الناقل لم يسمع الحكم من جماعة بحيث يعلم بأنّ الإمام عليهالسلام أحدهم قطعاً ، نعم هذا المعنى كان ممكناً في عصر حضور الإمام عليهالسلام ولكن نقلة الإجماع وأرباب الكتب الفقهيّة متأخّرون عن ذلك العصر يقيناً.
المسلك الثاني : الإجماع اللطفي
وصاحب هذا المسلك هو شيخ الطائفة رحمهالله فإنّه قال فيما حكي عنه : اجتماع الأصحاب على الباطل وعلى خلاف حكم الله الواقعي خلاف اللطف ، فيجب لطفاً القاء الخلاف بينهم بإظهار الحقّ ولو لبعضهم ، فلو حصل إجماع واتّفاق من الكلّ نستكشف بقاعدة اللطف إنّه حقّ وهو حكم الله الواقعي.
أقول : تنبغي الإشارة إجمالاً إلى قاعدة اللطف التي تفيدنا هنا وفي أبواب العقائد أيضاً فنقول : قال العلاّمة رحمهالله في شرح التجريد : « اللطف هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظّ في التمكين ( أي القدرة ) ولم يبلغ حدّ الإلجاء ( أي الإجبار ) » (٢) ، وحاصله أنّ اللطف عبارة عمّا يقرّب العبد نحو الطاعة ويبعّده عن المعصية ما دام لم يسلم العبد لقدرته فقط ولم يجبره أيضاً على الطاعة أو ترك المعصية بل كان هناك مضافاً إلى قدرة العبد على الفعل أو الترك معاونة على الطاعة وترك المعصية ، مع عدم وصولها إلى حدّ الإلجاء والإجبار.
__________________
(١) المعتبر : ص ٦ ، الطبع الحجري.
(٢) كشف المراد : المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الثانية عشرة.
وقال بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا : أنّ مراد المتكلّمين من قاعدة اللطف هو ما يسمّى عند علماء الحقوق في يومنا هذا بضمانة الإجراء ، فإنّهم بعد وضع القوانين يضعون لإجرائها ضامناً من الحبس والجريمة وغيرها ممّا يوجب الحركة نحو امتثال الواجبات والإجتناب عن المحرّمات ، فهي بحسب الحقيقة لطف بالنسبة إلى من يكون مكلّفاً بهذه القونين ، فكذلك في ما نحن فيه.
ولكن الإنصاف أنّ المراد من اللطف في كلماتهم معنى أوسع من ذلك ، لأنّه يشمل أيضاً ما يوجب إيجاد ظروف ثقافيّة وفكريّة لتكميل النفوس القابلة والإرشاد إلى مناهج الصلاح من بعث الرسل وإنزال الكتب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنذار والتبشير ، ولذلك يعدّ من أهمّ أدلّة لزوم بعث الرسل قاعدة اللطف ، ولا إشكال في أن الغرض من إنزال الكتب السماويّة وإرسال الرسل الإلهية ليس منحصراً في الإنذار والوعد والوعيد بل يعمّ إيجاد تلك الظروف التربويّة أيضاً.
وكيف كان ، لا بدّ من البحث أوّلاً : في كبرى القاعدة وثانياً : في تطبيقها على المقام.
أمّا الكبرى فاستدلّ لها بلزوم نقض الغرض ، لأنّ المولى أو المقنّن المشرّع عليه أن يوجد شرائط ومقدّمات إجراء أحكامه وقوانينه ، ولو كان الغرض من الجعل إنفاذها في الخارج فهو ، وإلاّ لنقض غرضه ، وهذا كمن يدعو رجلاً إلى داره ويريد إكرامه ومع ذلك لا يهيىء مقدّماته من إرسال رسالة إليه مثلاً وغيرها من سائر المقدّمات التي يعلم أنّه لولاها لما استجاب دعوته فيعدّ عند العقلاء ناقضاً للغرض ، كذلك في المقام فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليوصله إلى الكمال بطاعته وترك معصيته ، وهذا يحتاج إلى بعث الرسل وإنزال الكتب والإرشادات المستمرّة وجعل تكاليف كالصلاة والصّوم والحجّ ، وإلاّ فقد نقض غرضه.
قلنا : أنّ هذا مقبول تامّ ولكنه بالنسبة إلى الشرائط والمقدّمات التي يوجب عدمها نقض الغرض لا غير.
وبعبارة اخرى : المقدّمات على ثلاثة أقسام : قسم منها يعدّ من شرائط القدرة ، ولا إشكال في لزوم حصول هذا القسم.
وقسم آخر منها يوجب حصولها الإجبار في العمل أو الترك ، ولا إشكال في منافاته للتكليف لأنّ المفروض كون العبد مختاراً.
وقسم ثالث ليس لا من هذا ولا من ذاك ، وهو بنفسه على قسمين : قسم يرجع إلى العبد ، وقسم يرجع إلى المولى ، فالأوّل كالتعلّم إمّا اجتهاداً أو تقليداً ، ولا ريب في أنّ تحصيل هذا يكون على عهدة العبد ، فلو لم يحصّله يعدّ عند العقلاء مقصّراً ، وأمّا الثاني فهو أيضاً يكون على قسمين : قسم منه يجب إيجاده من جانب المولى بحيث لو لم يفعله يعدّ مقصّراً وناقضاً لغرضه ، وقسم آخر ليس إلى هذا الحدّ فلا يصدق عليه نقض الغرض.
وإن شئت فمثّل لهذين القسمين بالقوانين المجعولة للسياقة وحركة المرور حيث إنّه لا إشكال في أنّها يمكن أن تكون على نوعين : منها ما يكون نظير بسط الشوارع ورسم الخطوط وأخذ الغرامة ونصب العلامات فإنّها من المقدّمات التي لو لم يحقّقها المسؤولون وحصل من هذه الناحية الهرج والمرج كانوا مقصّرين في أداء وظائفهم ، ومنها ما ليس على هذا المستوى كنصب مراقب على كلّ سيارة فلا ريب في عدم لزومه عليهم.
كذلك في ما نحن فيه ، فإنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وتعيين الثواب والعقاب والحدود والتعزيرات وإيجاد ظروف التعليم والتعلّم يكون من القسم الأوّل ، وهي مقتضى قاعدة اللطف ، فإنّ اللطف يقتضي إيجاد المقدار اللازم من المقدّمات ، وأمّا الأكثر من ذلك فلا يستفاد لزومه من هذه القاعدة.
فتحصّل من جميع ذلك أنّ اللطف الواجب هو ما يعدّ تركه من المولى الحكيم نقضاً للغرض.
هذا كلّه بالنسبة إلى الكبرى.
أمّا الصغرى وتطبيق القاعدة على المقام فلم يقبلها أكثر الفقهاء لعدم وضوح المصلحة التي اقتضت اختفاء الإمام عليهالسلام ، فلعلّها هي إمتحان الناس بالغيبة كما امتحن قوم بني إسرائيل بغيبة موسى عليهالسلام وذهابه إلى جبل طور في فترة من الزمان ، أو أنّها حفظ نفس الإمام عليهالسلام كما ورد في بعض الرّوايات ، واقتضت الحكمة الإلهيّة حصر عددهم في اثني عشر ، أو عدم قابلية الناس وعصيانهم ، فلو صلحوا وأطاعوا أوامرهم لظهر الإمام عليهالسلام.
وعلى كلّ حال نفس المصلحة التي تقتضي خفاءه وغيبته قد تكون موجودة في اختفاء بعض الأحكام فتقتضي عدم إظهارها على كلّ حال.
وبعبارة اخرى : نفس السبب الذي أوجب غيبة الإمام عليهالسلام يشمل بعض الأحكام الفرعيّة التي أجمع العلماء على الخطأ فيها في عصر واحد.
ولقد أجاد المحقّق الطوسي رحمهالله حيث قال : « وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّاً » (١) يعني أنّ لوجود الإمام عليهالسلام ألطافاً عديدة :
أحدها : أصل وجوده الشريف وقوام نظام الكون به ، وهذا باقٍ في عصر الغيبة أيضاً فإنّه خزينة أسرار الشرع في كلّ عصر وزمان ، والعلّة الغائيّة لخلقة العالم لأنّه من أتمّ مصاديق الإنسان الكامل الذي خلق الكون لأجله ، ونور الله الذي يهتدي به المهتدون بولايته على القلوب.
ثانيها : ظهوره وتصرّفه فإنّ حكومته وقيادته لطف آخر ، ولكن عدم هذا اللطف وانقطاعه منّا ، « فقوله : عدمه منّا » أي عدم تصرّفه لا عدم وجوده ، ولا يلازم قطع هذا القسم من اللطف قطع القسم الأوّل منه.
وإن شئت قلت : من شؤون تصرّف الإمام وظهوره أن يمنع العباد عن الخطأ وإذا لم يكن عدم أصل الظهور والتصرّف مخالفاً للّطف على المفروض فليكن عدم ما هو من شؤونه أيضاً كذلك. هذا أوّلاً.
وثانياً : سلّمنا أنّ مقتضى القاعدة ، القاء الخلاف إلاّ أنّه لا تحلّ المشكلة ما لم يمنع الأكثر عن الوقوع في الخطأ ( على الأقل ) لأنّ مجرّد إلقاء الخلاف لبعض شاذّ لا يهدي إلى سبيل ، وهذا يستلزم حجّية الشهرة أيضاً مع أنّ المستدلّ لا يلتزم به على الظاهر.
المسلك الثالث : الإجماع التشرّفي
وهو تشرّف الأوحدي من العلماء بمحضر الإمام عليهالسلام في زمان الغيبة واستفساره عن بعض المسائل المشكلة ، ثمّ إعلانه رأي الإمام عليهالسلام بشكل الإجماع لأنّه يعلم أنّ مدّعي الرؤية لا يقبل قوله بل لابدّ من تكذيبه كما في الحديث ، فيعلن حكم الإمام بصورة الإجماع ويقول مثلاً : هذا ثابت بالإجماع.
إن قلت : كيف يمكن الجمع بين ما حكي متظافراً أو متواتراً من تحقّق رؤيته عليهالسلام لبعض عدول الثقات ، وبين ما ورد في بعض الرّوايات من الأمر بتكذيب مدّعى الرؤية.
__________________
(١) كشف المراد : المقصد الخامس ، المسألة الاولى.
قلنا : لا يبعد أن تكون الرّوايات الآمرة بالتكذيب ناظرة إلى من يدّعي نيابة أو رسالة أو حكماً ، وأمّا مجرّد دعوى الرؤية بدون ذلك فلا دليل على تكذيبه.
ولكن غاية ما يقتضيه هذا البيان هو إمكان الإجماع التشرّفي ثبوتاً ، وأمّا في مقام الإثبات فلم نجد مصداقاً له في ما بأيدينا من الإجماعات المنقولة.
المسلك الرابع : الإجماع الحدسي
وهو كما قال في الفصول : « أن يستكشف عن قول المعصوم عليهالسلام أو عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الأعلام الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة عليهمالسلام في الأحكام ، وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي ومستحسنات الأوهام فإنّ اتّفاقهم على قول وتسالمهم عليه مع ما يرى من اختلاف أنظارهم وتباين أفكارهم ممّا يؤدّي بمقتضى العقل والعادة عند أُولي الحدس الصائب والنظر الثاقب إلى العلم بأنّ ذلك قول أئمّتهم ومذهب رؤسائهم وأنّهم إنّما أخذوه منهم إمّا بتنصيص أو بتقرير » (١).
وقال شيخنا العلاّمة الحائري رحمهالله في الدرر : « ولا اختصاص لهذه الطريقة باستكشاف قول المعصوم عليهالسلام بل قد يستكشف بها عن رأي سائر الرؤساء المتبوعين ، مثلاً إذا رأيت تمام خدمة السلطان ( الذين لا يُصدرون إلاّعن رأيه ) اتّفقوا على إكرام شخص خاصّ يستكشف منه إنّ هذا إنّما هو من توصيته » (٢).
أقول : يمكن تقريب هذا المسلك بثلاثة وجوه :
الوجه الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله في فوائد الاصول وهو أن نقول بوجود الملازمة العادية بين اتّفاق المرؤوسين على أمر ورضا الرئيس إن كان نشأ الاتّفاق عن تواطئهم على ذلك (٣) فكما يكشف قول الشافعي من العلماء الشافعيين وقول أبي حنيفة من تلامذته وكذا غيرهم ، كذلك يكشف من إجماع علماء الشيعة قول الإمام المعصوم عليهالسلام.
ويرد عليه : إنّ هذا ثابت في زمان الحضور ولا يفيدنا اليوم لأنّ كشف قول الرئيس أو
__________________
(١) حكي عنه في عناية الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٣.
(٢) درر الفوائد : ج ٢ ، ص ٣٧٢.
(٣) راجع فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٥٠ ، طبع جماعة المدرّسين.
الإمام أو الاستاذ من أقوال المرؤوسين أو المأمونين أو التلامذة مبني على وجود صلة بين الطرفين ، وهي حاصلة في خصوص عصر الحضور.
لكن الحقّ هو وجود هذه الملازمة في زمن الغيبة أيضاً ، لأنّ الصلة مع الواسطة حاصلة ، ويكفي في ذلك الفترة التي كان ديدنهم في الفتوى على التعبّد بمتون الرّوايات وعلى أساس الكتب المتلقّاة من كلمات المعصومين من دون تفريع واستنباط.
الوجه الثاني : ما حكي عن السيّد محمّد المجاهد صاحب مفاتيح الاصول وهو : أنّ تراكم الظنون من الفتاوى تنتهي بالأخرة إلى القطع ، فمن فتوى كلّ واحد منهم يحصل ظنّ ما بحكم الله الواقعي ، فإذا كثرت فمن تراكم تلك الظنون يحصل القطع بالحكم الواقعي الصادر عن الإمام عليهالسلام كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.
أقول : إنّ هذا ممكن في نفسه ولكن لا يندرج تحت ضابط كلّي ، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص ، فقد يحصل القطع من تراكم الظنون لشخص ولا يحصل لآخر ، إذن فيمكن قبول الصغرى والكبرى في الجملة لا بالجملة.
الوجه الثالث : ما مرّ بيانه من صاحب الفصول ، ونقول توضيحاً لذلك : أنّ اتّفاق العلماء كاشف على وجود دليل معتبر عندهم ، لكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتّفقوا عليه ، فإنّه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الإجماع أحد هذه الامور ، فلا يكشف اتّفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك.
كما إذا اتّفقوا على أنّ حدّ الكرّ في باب المياه ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ، والمفروض في هذا الفرع عدم وجود أصل أو قاعدة عقليّة أو دليل معتبر نقلي يدلّ على ذلك ، فإنّ هذا الاتّفاق يكشف عن وجود دليل آخر معتبر عند الكلّ ، سيّما إذا لاحظنا ديدن قدماء أصحابنا فإنّه كان على التعبّد بالرجوع إلى الإخبار والإفتاء على وفق متون الرّوايات حتّى كانوا معرضين عن النقل بالمعنى إلاّبمقدار ثبت جوازه في نقل الرّواية.
ويشهد على هذا ما ورد في مقدّمة كتاب المبسوط (١) لشيخ الطائفة رحمهالله الذي كانت لسيّدنا الاستاذ البروجردي رحمهالله عناية خاصّة بها وكان يقول : إنّ هذه المقدّمة تمثّل لنا الجوّ الفكري
__________________
(١) وهو كتاب كثير الفروع في فقه الشيعة ، ويدلّ على تسلّط مؤلّفه على فقه الإماميّة والمذاهب الأربعة ، ولا نجد قبله كتاباً يحتوي على هذه الكثرة من التفريعات.
والاجتماعي الموجود في عصر الشيخ الطوسي رحمهالله ، وإليك نصّها : « أمّا بعد فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإماميّة ويستنزرونه وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل ، ويقولون : إنّهم حشو ومناقضة ، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الاصول ، لأنّ جلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين ، وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلّة تأمّل لُاصولنا ، ولو نظروا في أخبارنا لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تلويحاً من أئمّتنا ... ( إلى أن قال ) : وكنت على قديم الوقت وحديثه مشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك ( التفريعات ) تتشوّق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني الشواغل وتضعف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به لأنّهم ألفوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ حتّى أنّ مسألة لو غيّر لفظها وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها ، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم واصولها من المسائل وفرّقوه في كتبهم ، ورتّبته ترتيب الفقه وجمعت من النظائر ، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّناها هناك ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتّى لا يستوحشوا من ذلك » (١) ( انتهى ).
فالمستفاد من هذه العبارات وصريحها أنّ المقبول من التأليفات في ذلك العصر وما تقدّمه إنّما هو ما كان مأخوذاً من متون الرّوايات وصريح ألفاظها ، فإذا اتّفق علماء ذلك الزمان على مسألة فالإنصاف أنّه يمكن الحدس القطعي من ذلك عن وجود دليل معتبر سنداً ودلالة ( أمّا من ناحية السند فلو فرض ضعفه لجبر بعملهم ، وأمّا من ناحية الدلالة فلأنّه لو كان له من هذه الناحية خفاء لخالف بعضهم على الأقل ) أو يكشف ذلك عن أخذ هذا الحكم عن المعصوم عليهالسلام جيلاً بعد جيل وإن لم يذكر في رواياتهم.
فقد ظهر ممّا ذكرناه أوّلاً : أنّ ثلاثة من الأقسام الأربعة للإجماع تامّة كبرى ، وهي الإجماع
__________________
(١) المبسوط : ج ١ ، ص ١ ـ ٣ ، الطبعة الثانية ، طبع المطبعة الحيدرية.
الدخولي والحدسي والتشرفي ، وأمّا الإجماع اللطفي فلا يتمّ من ناحية الكبرى فضلاً عن الصغرى ، وأنّ قسمين من هذه الثلاثة وهما : الدخولي والتشرّفي ليس لهما صغرى معروفة ، فالذي يكون تاماً صغرى وكبرى هو الإجماع الحدسي ، وهو المقصود من الإجماعات المنقولة في الكتب الفقهيّة بين المتأخّرين.
ثانياً : لابدّ في كشف مراد ناقل الإجماع من ملاحظة التعبير الذي ذكره ، فلو قال مثلاً : « مخالفة فلان لا تضرّ بالإجماع لأنّه معلوم النسب » فنعلم أنّ مبناه على الإجماع الدخولي ، وإذا قال مثلاً : « مخالفة الفلان لا تضرّ لانقراض عصره حين الإجماع » أو قال : « إنعقد الإجماع قبله وبعده » فنعلم أنّ مبناه على الإجماع اللطفي لاعتبارهم اتّفاق أهل عصر واحد على حكم ، وإن قال : « لا أصل ولا قاعدة في هذه المسألة » (١) فنستكشف كون المبنى على الحدس ، نعم لا يوجد تعبير يناسب الإجماع التشرّفي في الكلمات.
ثالثاً : أنّه لا يعدّ الإجماع دليلاً مستقلاً في مقابل الأدلّة الثلاثة الاخرى بناءً على مذاق الإماميّة.
هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل من الامور التي نذكرها بعنوان المقدّمة للبحث عن الإجماع المنقول.
الأمر الثاني : حجّية الخبر المنقول ...
إنّ حجّية الإجماع المنقول مبنية على دخوله تحت مصاديق خبر الواحد فلا بدّ من توفّر شرائط حجّية خبر الواحد فيه ، وهي ثلاثة :
أحدها : أن يكون الخبر عن حسّ فلا تشتمل أدلّة حجّية خبر الواحد الخبر الصادر عن الحدس ( كما إذا قال مثلاً : يستنبط من قرائن عقليّة أنّ الإمام عليهالسلام قال كذا وكذا ) إمّا لأنّ سيرة العقلاء التي هي عمدة دليل الحجّية لم تقم إلاّعلى قبول خبر الثقة فيما إذا كان إخباره عن حسّ وسائر الأدلّة تقرير وإمضاء لتلك السيرة ، وإمّا من جهة أنّ أدلّة حجّية خبر العادل والثقة تنفي
__________________
(١) كما أنّه كذلك في كثير من المسائل الفقهيّة فلا يوجد فيها دليل معتبر غير الإجماع بل إنّها انتهت إلى خمسمائة مورد على ما سمعته من السيّد الاستاذ المحقّق البروجري رحمهالله.
احتمال تعمّد الكذب ، فبضميمة أصالة عدم الخطأ والغفلة في المحسوسات أو ما يكون قريباً من الحسّ ( لقلّة الخطأ والغفلة فيها ) يتمّ المطلوب ، أي حجّيته ووجوب تصديقه ولزوم العمل على طبق قوله ، وأمّا في الحدسيات فلكثرة الخطأ والغفلة فيها ، فلا تجري أصالة عدم الخطأ والغفلة عند العقلاء ، فلا تشملها أدلّة حجّية خبر الواحد ، ولا شكّ أنّ ناقل الإجماع لا ينقل الحكم عن الإمام عليهالسلام عن حسّ خصوصاً في زمن الغيبة.
الثاني : كون الإخبار عن المعصوم عليهالسلام في الأحكام الشرعيّة لا في الموضوعات الخارجيّة ، بل يعتبر في الموضوعات التعدّد والعدالة ( ولا يكفي الوحدة والوثاقة ) وهذا هو المشهور ، ولكن المختار عدم اعتبار هذا الشرط كما سيأتي.
الثالث : أن لا يكون الخبر من الامور الغريبة والمستبعدة ، فلو كان أمراً غريباً فقد لا يكفي فيه خبر الواحد بل لابدّ من استفاضته.
وهنا شرط رابع ، وهو أن لا يكون الخبر عن مسائل مهمّة كاصول الفقه ، لأنّ سيرة العقلاء لم تثبت في المسائل المهمّة التي تترتّب عليها آلاف المسائل ، ولذلك قد يقال : إنّ خبر الواحد ليس بحجّة في الاصول ، والمراد من الاصول هنا هو اصول الفقه لا اصول الدين كما زعمه بعض.
بقي هنا شيء :
وهو أنّه إذا شككنا في نقل المسبّب أو السبب هل هو مستند إلى الحسّ حتّى تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد ، أو إلى الحدس حتّى لا تشمله الأدلّة ، فما هو مقتضى القاعدة؟
قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا يبعد أن يقال بشمول أدلّة حجّية الواحد لهذه الصورة أيضاً ، لأنّ عمدة أدلّة الحجّية هو بناء العقلاء ، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنّه عن حسّ يعملون به أيضاً فيما يحتمل كونه عن حدس ، فليس بناؤهم فيما إذا أخبر بشيء التوقّف والتفتيش في أنّه هل يكون عن حدس أو عن حسّ بل يعملون على طبقه بدون ذلك.
أقول : كلامه هذا صحيح بالنسبة إلى الموارد التي كانت طبيعة الإخبار عنها مبنية على الحسّ ، وأمّا الموارد التي يخبر فيها كثيراً عن حدس فقد يقال بعدم ثبوت بنائهم على الحجّية في مورد الشكّ.
ولهذا قال المحقّق الخراساني رحمهالله بعد هذا الكلام : « لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل أو على اعتقاد الملازمة عقلاً لقاعدة اللطف فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل السبب كان مستنداً إلى الحسّ ».
الأمر الثالث : في تقويم الإجماعات المنقولة من جانب كيفية النقل والإخبار
المنقول في حكاية الإجماع تارةً يكون هو المسبّب وهو قول الإمام عليهالسلام كما إذا قال : « أجمع المسلمون عامّة » أو « المؤمنون كافّة » أو « امّة محمّد » أو نحو ذلك إذا كان ظاهره إرادة الإمام عليهالسلام معهم ، ويسمّى حينئذٍ بنقل المسبّب أو بنقل السبب والمسبّب معاً ، واخرى السبب ، أي قول من سوى الإمام الكاشف عن قوله كما إذا قال : أجمع علمائنا أو أصحابنا أو فقهائنا أو نحو ذلك ممّا ظاهره من سوى الإمام عليهالسلام ويسمّى بنقل السبب فقط.
ويستفاد كون المنقول سبباً أو مسبّباً من طريقين :
أحدهما : المسلك الذي اختاره الناقل والمدرك الذي اعتمد عليه ، فإن كان مسلكه الإجماع الدخولي أو التشرّفي وكان مدرك نقله هو الحسّ والسماع من الإمام بنفسه ولو ضمن اشخاص يعلم إجمالاً أنّ الإمام عليهالسلام أحدهم ولا يعرفه بشخصه كان المنقول حينئذٍ المسبّب أو السبب والمسبّب جميعاً ، وإن كان مبناه الإجماع الحدسي أو اللطفي ، أي كان مدرك نقله هو الحدس المقابل للحسّ كان المنقول هو السبب لا محالة.
ثانيهما : اختلاف ألفاظ النقل من حيث الصراحة والظهور والإجمال في أنّه نقل للسبب ، أي نقل قول من عدى الإمام عليهالسلام ، أو أنّه نقل للسبب والمسبّب جميعاً.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل المسألة ، وهو حجّية الإجماع المنقول ، فأي قسم من أقسام نقل الإجماع حجّة شرعاً بأدلّة حجّية خبر الواحد نظراً إلى كونه من أفراده ومصاديقه وأي قسم منها لا يكون حجّة شرعاً لعدم كونه كذلك؟
فنقول : إذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً عن حسّ كما إذا حصّل السبب وهو قول من عدى الإمام عليهالسلام ، وهكذا المسبّب وهو قول الإمام عليهالسلام بالسمع من المنقول عنه شخصاً كأن يقول : أجمع المسلمون أو المؤمنون أو أهل الحقّ قاطبة ـ إن قلنا أنّ ظاهره إرادة الإمام عليهالسلام
معهم ـ فهذا القسم حجّة قطعاً نظراً إلى كونه من أفراد خبر الواحد ومن مصاديقه ، إذ لا فرق في الأخبار عن قول الإمام عليهالسلام بين أن يكون إخباراً عنه بالمطابقة أو التضمّن ، غايته أنّه في الأوّل سمع من شخص الإمام عليهالسلام وهو يعرفه فيقول : سمعته يقول كذا وكذا ، وفي الثاني سمع عن جماعة يعلم إجمالاً أنّ الإمام أحدهم.
ولكن اعتبار هذا القسم بالنسبة إلى زمان الغيبة موهون جدّاً ، فلا نجد له مصداقاً ، لأنّ الإجماع المنقول عن حسّ في هذا الزمان إنّما هو الإجماع التشرّفي أو الدخولي ، وهما غير تامّين من ناحية الصغرى كما مرّ ، فالحجّة غير الموجود ، والموجود غير الحجّة.
وإذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً ولكن المسبّب وهو قول الإمام عليهالسلام ليس عن حسّ بل بملازمة ثابتة عند الناقل والمنقول إليه جميعاً كما إذا حصّل مثلاً أقوال العلماء من الأوّل إلى الآخر عن حسّ وقطع برأي الإمام عليهالسلام للملازمة العادية بينهما فقال : أجمع المسلمون أو المؤمنون أو نحو ذلك ممّا ظاهره إرادة الإمام عليهالسلام معهم وكان المنقول إليه يعتقد بهذه الملازمة ، فهذا القسم أيضاً حجّة لأنّ الإخبار عن الشيء ( ولو لم يكن عن حسّ ) إذا كان مستنداً إلى أمر محسوس لو أحسّه المنقول إليه لحصل له القطع أيضاً بالمخبر به ، فهو حجّة بلا كلام كالإخبار عن حسّ عيناً.
وهكذا إذا كان المنقول هو المسبّب فقط وكان نقله عن حسّ ، والسبب تامّ في نظر الناقل والمنقول إليه جميعاً كما إذا نقل اتّفاق جميع الفقهاء عن حسّ ، والمنقول إليه أيضاً يرى أنّ لازمه العادي هو قول الإمام عليهالسلام ، فيكون هذا القسم أيضاً حجّة لأنّ المخبر في هذا القسم وإن لم يخبر إلاّ عن السبب فقط ولكن السبب حيث كان بنظر المنقول إليه تامّاً ملازماً لقول الإمام عليهالسلام عادةً فهو مخبر عن قوله بالالتزام ، ومن المعلوم أنّه لا فرق في نقل قول الإمام عليهالسلام بين أن يكون بالمطابقة كما في الرّوايات المصطلحة ، أو بالتضمّن كما في القسمين السابقين ، أو بالالتزام كما في المقام ، فالكلّ إخبار عن قوله وحكاية لرأيه فتشمله أدلّة حجّية الخبر.
نعم ، إذا كان المنقول السبب والمسبّب جميعاً ولم يكن المسبّب وهو قول الإمام عليهالسلام عن حسّ ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل دون المنقول إليه ، فليس هذا بحجّة ، لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو الرجوع إلى خبر الثقة في المحسوسات أو الحدسيّات القريبة بالحسّ ، أي الحدسيّات المستندة إلى امور لو أحسّوها بأنفسهم لقطعوا بالمخبر به مثل قطع الناقل.
وكذلك إذا كان المنقول السبب فقط وكان عن حسّ ولكن السبب لا يكون تامّاً بنظر المنقول إليه ، كما إذا نقل أقوال علماء عصر واحد عن حسّ ولكن المنقول إليه لا يراه سبباً لكشف قول المعصوم لعدم تماميّة قاعدة اللطف عنده ، أو كان المنقول السبب فقط لكن كان نقله عن حدس ، كما إذا تتبّع أقوال جمع من مشاهير الأصحاب فحصل له الحدس باتّفاق الكلّ وادّعى الإجماع في المسألة ، فليس الإجماع في هاتين الصورتين بحجّة بل على المنقول إليه في الصورة الاولى أن يضيف إلى المنقول ما يتمّ به السبب في نظره بأن يحصّل أقوال سائر الفقهاء لبقيّة الأعصار ويرتّب على المجمع لازمه العادي ، وهو قول الإمام عليهالسلام ، وفي الصورة الثانية أن يأخذ بالمتيقّن من ذلك الحدس ، وهو اتّفاق المشاهير مثلاً ويضيف إليه أقوال سائر العلماء ليتمّ به السبب ويحكم بثبوت اللازم وهو قول الإمام عليهالسلام.
إن قلت : إنّ نقل السبب والقول بأنّ الشيخ الطوسي رحمهالله مثلاً قال كذا وكذا يكون من الموضوعات لا من الأحكام ، فلا بدّ من توفّر شروط الشهادة فيه من التعدّد والعدالة.
قلنا : ليس هذا من الموضوعات المجرّدة ، بل من الموضوعات التي يستفاد منها الحكم الإلهي ، لأنّها تجعل مقدّمة لفهم قول المعصوم عليهالسلام ولا تقبل بما هي هي أي لا يقبل كلام الشيخ الطوسي رحمهالله بما أنّه كلامه بل بما أنّه جزء السبب لاستفادة رأي الإمام عليهالسلام ، ومن هنا يكون الخبر حجّة في تعيين حال السائل من أنّه ثقة أو ممدوح أو ضعيف ، وفي خصوصيّة القضيّة التي وقعت مسؤولة عنها ونحو ذلك ممّا له دخل في ثبوت كلام الإمام عليهالسلام أو في تعيين مرامه بعد ثبوت أصل كلامه ، وبعبارة اخرى : لا فرق في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمام السبب أو ما له دخل في السبب.
بقي هنا امور ثلاثة :
الأمر الأول : الإجماع القاعدة
وهو مهمّ في المقام وإن لم يتكلّم المحقّق الخراساني رحمهالله عنه بشيء ، ولكن شيخنا الأعظم الأنصاري رحمهالله بحثه وأدّى حقّه.
إنّ ممّا يوجب قلّة الاعتماد بالنسبة إلى الإجماعات المنقولة عن قدماء الأصحاب سواء من ناحية السبب أو المسبّب اكتفاؤهم في دعوى الإجماع في مسألة خاصّة بوجود الإجماع على
قاعدة أو أصل أو عموم أو إطلاق أو غير ذلك ممّا يؤدّي إلى هذا الحكم في نظرهم.
ومن ذلك الإجماعات المتعارضة من شخص واحد أو من معاصرين أو متقاربي العصر ، ومن ذلك أيضاً رجوع المدّعى للإجماع عن الفتوى التي ادّعى الإجماع فيها ، وكذلك دعوى الإجماع في مسائل غير معنونة في كلام من تقدّم على المدّعى ، أو في مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدّعي بل في زمانه بل قبله ، فكلّ ذلك مبني على هذا الوجه من الاستناد في نسبة القول إلى العلماء.
وقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمهالله لهذا القسم من الإجماعات موارد كثيرة نذكر ثلاثة منها أوضح من غيرها :
أحدها : ما وجّه به المحقّق رحمهالله دعوى السيّد المرتضى رحمهالله : « إنّ مذهبنا جواز إزالة النجاسة بغير الماء من المايعات » ( أي المايعات المضافة ) فقال : إنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المايعات ، ثمّ قال : وأمّا المفيد رحمهالله فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف إنّ ذلك مروي عن الأئمّة ( إشارة إلى قوله عليهالسلام : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ).
فظهر أنّ نسبة السيّد قدسسره الحكم المذكور إلى مذهبنا من جهة الاتّفاق على الأصل مع أنّ تطبيقه على هذا المورد خطأ لأنّه أوّلاً : أنّ المورد من موارد استصحاب النجاسة لا الرجوع إلى البراءة ، وثانياً : أنّه من الموارد التي يوجد فيها الدليل الاجتهادي ، وهو في المقام ظاهر قوله عليهالسلام « اغسل » في روايات كثيرة ، فإنّ ظاهره وجوب الغسل بالماء المطلق فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي.
ثانيهما : ما عن المفيد رحمهالله في فصوله حيث إنّه سئل عن الدليل على أنّ المطلّقة ثلاثاً في مجلس واحد يقع منها واحدة ، فأجاب بموافقته لقوله تعالى : « الطلاق مرّتان » (١) ، ثمّ استدلّ بالإجماع نظراً إلى أنّهم مطبقون على أنّ ما خالف الكتاب فهو باطل ، فحصل الإجماع على إبطاله.
فقد ادّعى ثبوت إجماع الامّة على المسألة لأنّ الكبرى المنطبقة عليها مجمع عليها الامّة.
ثالثها : ما ادّعاه ابن إدريس الحلّي رحمهالله من الإجماع على وجوب فطرة الزوجة ولو كانت
__________________
(١) وقد أفتى الشيخ الشلتوت بمقتضى مذهب الشيعة بعدم وقوع ثلاث تطليقات في مجلس واحد نظراً إلى موافقته لظاهر هذه الآية ولم يعتن بمخالفة جمّ غفير من علماء السنّة له.
ناشزة على الزوج ، وردّه المحقّق رحمهالله بأنّ أحداً من علماء الإسلام لم يذهب إلى ذلك ، فإنّ الظاهر أنّ الحلّي إنّما اعتمد في استكشاف أقوال العلماء على تدوينهم للروايات الدالّة بإطلاقها على وجوب فطرة الزوجة على الزوج متخيّلاً أنّ الحكم معلّق على الزوجة من حيث هي زوجة ، ولم يتفطّن لكون الحكم من حيث العيلولة أو وجوب الإنفاق.
فنستنتج ممّا ذكرناه عدم إمكان الاعتماد على الإجماعات المنقولة في كلمات القدماء وسقوطها عن الحجّية ، وبعكس الإجماعات المنقولة في كلمات المتأخّرين كصاحب الجواهر وصاحب الحدائق وصاحب مفتاح الكرامة فإنّها ليست من قبيل الإجماع على القاعدة بل ناظرة إلى حكاية أقوال العلماء في خصوص المسألة المبحوث عنها.
الأمر الثاني : في لزوم ملاحظة الفاظ الإجماعات
لابدّ في الإجماعات المنقولة من ملاحظة مقدار دلالة ألفاظها ، فإنّ دلالة ألفاظ الإجماع تختلف في القوّة والضعف ، فقد يقال : « أجمع الأصحاب » وقد يقال : « لا خلاف بينهم » وقد يقال « لم نعرف مخالفاً » وهكذا.
ولابدّ أيضاً من ملاحظة حال الناقل فإنّه قد يكون في أعلى درجة التتبّع ، وقد يكون دون ذلك ، وقد يكون ضعيفاً في تتبّعه ، وكذلك لابدّ من ملاحظة حال المسألة التي نقل فيها الإجماع فإنّها قد تكون مشهورة معروفة عند الأصحاب مدوّنة في كتبهم تصل إليها الأيدي غالباً ، وقد تكون دون ذلك ، وقد تكون في غاية الخفاء ليس لها مكان مضبوط وإنّما عنونها الأصحاب في مواضع مختلفة لا تصل إليها إلاّيد الأوحدي من الأعلام ، فإذا استفيد من مجموع ذلك أنّ السبب المنقول هو سبب تامّ فهو ، وإلاّ فلا بدّ من الأخذ بالمتيقّن وضمّ سائر الأقوال إليه ليكون سبباً تامّاً تترتّب عليه الثمرة والنتيجة.
الأمر الثالث : في التواتر المنقول بخبر الواحد
إذا قيل : تواترت الأخبار على كذا ، فهل يمكن التمسّك بأدلّة حجّية خبر الواحد لإثبات
حجّية مثل هذا التواتر؟ وهل يجري فيه القياس المتقدّم في الإجماع المنقول المتشكّل من صغرى وكبرى؟
لابدّ لتحقيق المسألة من الرجوع إلى ماهيّة الخبر المتواتر وأنّه ما هو؟ وقد ذكر له تعريفان :
أحدهما : « أنّه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم »
وإستشكل عليه بأنّه لا يوجد خبر يفيد بنفسه العلم بل يدخل في حصول العلم امور أربعة : نوع الخبر ( المخبر به ) ، حال المخبرين ، حالة المخبر له وكيفية الإخبار ( مثل كون الخبر مكتوباً في كتاب مطبوع أو مخطوط معتبر وعدمه ) وإلاّ لابدّ من اعتبار عدد خاصّ في التواتر مع أنّه ممّا لم يقل به أحد.
ولذلك ذكر بعض من ذهب إلى هذا التعريف هذا القيد فيه : « إلاّ القرائن الملازمة للخبر » ومراده منها هذه الامور الأربعة ، فيكون المراد من القرائن الخارجيّة حينئذٍ شيئاً غيرها ، كاعتضاد مضمون الخبر بخبر ظنّي آخر أو دليل عقلي كذلك.
ثانيهما : « أنّه خبر جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عادةً »
وقد اورد على هذا التعريف أيضاً أوّلاً : بأنّه لا ينفي احتمال الخطأ فلا بدّ تقييد ذيله بهذا القيد : « ويحصل من قولهم العلم ».
وثانياً : بأنّه ما المراد من التواطؤ؟ فإن كان المقصود منه التوافق على أمر فلا وجه لاعتباره لإمكان كذب كلّ واحد من المخبرين على حدة ومستقلاً بدواع شتّى أو كانوا بداعٍ واحدٍ على نشر اكذوبة خاصّة من غير التواطؤ.
فالصحيح في التعريف أن يقال : « إنّه خبر جماعة كثيرة يؤمن اجتماعهم على الكذب والخطأ عادةً » والتقييد بقيد « كثيرة » لازم لأنّه لو حصل القطع مثلاً من اجتماع ثلاثة أفراد على خبر لا يقال أنّه متواتر في مصطلحهم بل إنّه خبر واحد محفوف بقرائن قطعية أو مستفيض.
وإذا كان هذا هو معنى الخبر المتواتر فإنّه يختلف بحسب الأشخاص ، فيمكن أن يكون خبر متواتراً عند شخص وغير متواتر عند شخص آخر.
وعليه بمتا أنّ التواتر المنقول من حيث المسبّب لا يكون مشمولاً لأدلّة حجّية خبر الواحد
لأنّ المسبّب وهو قول الإمام عليهالسلام لا يكون عن حسّ ولا شبيهاً بالحسّ فلا بدّ وأن يكون نقل التواتر إخباراً نقطع منه بقول الإمام.
وأمّا من ناحية السبب فإنّه وإن كان عن حسّ ، أي أنّ الشيخ الطوسي رحمهالله مثلاً إذا قال : « تواترت عليه الأخبار » يحصل العلم بمشاهدته عدداً من الأخبار ، لكن حيث إنّه مردّد عند المنقول إليه بين الأقل والأكثر يأخذ بالقدر المتيقّن ، ويلاحظ ما أشرنا إليه سابقاً من الامور التي لها دخل في حصول التواتر وعدمه من ألفاظ النقل من حيث القوّة والضعف وحال الناقل من حيث الضبط والدقّة أو المسامحة والمبالغة ، وحال الأمر المتواتر ( أي المخبر به ) من حيث شيوع الأخبار به لسهولة الإطّلاع عليه أو ندرة الإخبار به لصعوبة الإطّلاع عليه أو لغير ذلك من الخصوصيّات والجهات ، فإن كان مجموع ذلك كافياً عند المنقول إليه في إثبات التواتر فهو نقل للسبب التامّ ويثبت به المسبّب ، وإلاّ فلا بدّ من إلحاق مقدار آخر من إخبار المخبرين ليكمل به السبب ويثبت به المسبّب ، لأنّه ليس حينئذٍ على حدّ خبر واحد مسند أيضاً ، لعدم وجود الإسناد فيه ، فليس داخلاً لا في باب الخبر المتواتر ولا في باب خبر الواحد ، بل يعدّ حينئذٍ بحكم الخبر المتظافر.