شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة - ج ٤

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٩

وهذا التقريب غير تامّ ؛ لأنّه لا يوجب الانحلال الحكمي ، ما لم يرجع إلى التقريب السابق.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا لجميع أطرافه وموجبا للموافقة القطعيّة على أساس أنّ الأصول الترخيصيّة الجارية في كلّ أطرافه سوف تؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أنّ تعارض الأصول الترخيصيّة الجارية في جميع الأطراف يمنع من جريانها في بعض الأطراف ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ويمنع من جريانها في جميع الأطراف ؛ لكونه مؤدّيا للوقوع في المخالفة القطعيّة ، فيتعيّن عدم جريانها في شيء لتعارضها وتساقطها.

إذا فالملاك في وجوب الموافقة القطعيّة لكلّ الأطراف هو تعارض الأصول الترخيصيّة وعدم إمكان الأخذ بها في بعض الأطراف أو في جميعها.

وليس الملاك لذلك هو نفس العلم الإجمالي بناء على المسلك الصحيح ؛ لأنّه إنّما يتمّ ذلك لو قيل بأنّه علّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيّة ، وهذا لا يقول به الميرزا ولا مدرسته ، وإنّما هذا مسلك المحقّق العراقي كما تقدّم في الحلقة السابقة وكما سيأتي هنا.

وحينئذ ، فإن كان المقصود من الانحلال الحكمي ما تقدّم من اختلال الركن الثالث فهو صحيح سواء كان العلم الإجمالي موجودا أم لا ، إذ وجوده وعدمه لا يؤثّر في الانحلال وعدمه.

وإن كان المقصود أنّ الانحلال الحكمي يتحقّق باختلال الركن الأوّل وهو زوال العلم عن الجامع تعبّدا وسريانه إلى الفرد ، كذلك مع كون الركن الثالث لا يزال موجودا فهو غير صحيح ؛ لأنّ المنجّزيّة من آثار تعارض الأصول ، فإن كانت الأصول الترخيصيّة لا تزال متعارضة فكيف تزول المنجّزيّة مع وجود ملاكها وسببها؟!

ومجرّد القول بأنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالجامع قد ألغي تعبّدا لا يفيد في زوال المنجّزيّة ، إذ لا تأثير له في إيجادها ليكون مؤثّرا في زوالها.

نعم ، هذا الإلغاء التعبّدي يفيد في تفسير زوال المنجّزيّة بأن يقال : إنّه مع قيام الأمارات المثبتة للتكليف يثبت العلم التعبّدي في هذه الشبهات ، وبالتالي لا تجري

١٤١

فيها الأصول الترخيصيّة ؛ لأنّ الأمارات حاكمة على الأصول لأنّها تلغي موردها تعبّدا.

وعليه تكون الأصول الترخيصيّة جارية في الشبهات الأخرى من دون معارض ، فإنّ هذا تفسير لكيفيّة اختلال الركن الثالث وهو شبيه بما تقدّم أوّلا من أنّ الشبهات التي تقوم عليها أمارة أو أصل مثبت للتكليف لا تجري فيها الأصول الترخيصيّة ؛ لكونها قد تنجّزت بمنجّز سابق ، والأصول الترخيصيّة إنّما تجري في الشبهات البدوية غير المنجّزة ، فلا تجري فيها بل تجري في الشبهات الأخرى بلا معارض ، وهذا تفسير أيضا لاختلال الركن الثالث.

والحاصل : أنّ تمام نكتة الانحلال الحكمي تنصبّ حول اختلال الركن الثالث ، من دون فرق بين المسالك في جعل الحكم الظاهري وحقيقته ومعنى الحجّيّة ، فإنّ هذه كلّها تفسيرات لكيفيّة الاختلال وعدم جريان الأصول الترخيصيّة في تمام الأطراف.

* * *

١٤٢

تحديد مفاد البراءة

١٤٣
١٤٤

تحديد مفاد البراءة

وبعد أن اتّضح أنّ البراءة تجري عند الشكّ لوجود الدليل عليها وعدم المانع ، يجب أن نعرف أنّ الضابط في جريانها أن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو موضوع دليل البراءة ، وأمّا إذا كان التكليف معلوما والشكّ في الامتثال فلا تجري البراءة ، وإنّما تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ضابط جريان البراءة : بعد تماميّة الكلام عن الأدلّة على البراءة حيث ثبت أنّ البراءة تستفاد من تلك الأدلّة بنحو تكون مرجّحة على أدلّة الاحتياط المدّعاة عند تعارضهما ، وبعد أن كان موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي ، نأتي الآن لتحديد الضابط والميزان لجريان البراءة بعد أن كان الدليل عليها تامّا وهو المقتضي والمانع مرتفعا وهو أدلّة الاحتياط.

فنقول : إنّ الضابط لجريان البراءة هو أن يكون الشكّ في التكليف ؛ لأنّ هذا هو المأخوذ في لسان أدلّتها كما في قوله : « رفع ما لا يعلمون » أي الحكم والتكليف غير المعلوم مرفوع ، وكما في قوله : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أي التكليف الذي لم يصل إلى المكلّف فهو غير داخل في العهدة.

فإذا كان الشكّ في الحكم جرت البراءة ، وأمّا إذا كان الحكم معلوما ولكن شكّ في امتثاله في الخارج فهذا النحو من الشكّ ليس مجرى للبراءة ؛ وذلك لأنّ التكليف معلوم وواصل إلى المكلّف ولا شكّ فيه ، وإنّما الشكّ تعلّق في امتثال المأمور به وعدم امتثاله ، سواء في ذلك قبل الشروع في العمل أم بعده ، كما إذا شكّ في أنّه هل صلّى الظهر أم لا؟ أو شكّ أنّه هل الصلاة التي صلاّها هي الظهر أم غيرها؟ أو شكّ في أنّ الشخص الذي تصدّق عليه فقير أم لا؟

فهذه كلّها من أنحاء الشكّ في الامتثال ، وفي مثل هذه الموارد تجري أصالة

١٤٥

الاشتغال التي مفادها أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، أي ما دام المكلّف يعلم أنّ ذمّته مشغولة بالصلاة أو التصدّق يقينا فعليه أن يعلم بفراغها من ذلك يقينا ، ولا يكفي البراءة الاحتماليّة والفراغ غير اليقيني.

وهذا يعني أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف لا في الامتثال.

والوجه في هذا الضابط هو :

وهذا واضح على مسلكنا المتقدّم (١) القائل بأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل من أسباب انتهاء فاعليّته ، إذ على هذا المسلك لا يكون الشكّ في الامتثال شكّا في فعليّة التكليف ، فلا موضوع لدليل البراءة بوجه.

المناط في هذا الضابط : أمّا أنّ الشكّ في الامتثال ليس من الشكّ في التكليف فلأنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ليكون الشكّ فيهما شكّا في التكليف ، وإنّما هما من مسقطات فاعليّة التكليف ، بناء على ما هو الصحيح والمختار ، وعليه فموضوع البراءة وهو الشكّ في التكليف منتف ، فلا تجري البراءة لانتفاء موضوعها.

وتوضيح ذلك : أنّ التكليف ينشأ من وجود ملاك ومبادئ ، فالوجوب مثلا فيه مصلحة ملزمة أكيدة وفيه محبوبيّة وشوق مولوي ، فإذا قال المولى : ( يجب أكرم العالم ) كان الوجوب ثابتا لثبوت الملاك والمبادئ فيجب على المكلّف الامتثال تحقيقا لحقّ الطاعة الواجب عليه ، فإذا امتثله سقطت فاعليّة التكليف ومحرّكيّته إلا أنّ التكليف نفسه لا يسقط لبقاء المصلحة والمحبوبيّة والشوق في إكرام العالم ، وهكذا الحال في عصيانه.

وبتعبير آخر : أنّ المكلّف إذا امتثل فقد حقّق المحبوب ، وتحقّق المحبوب لا يعني انتفاء الحبّ أصلا بل هو باق على حاله.

وعليه ، فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في تحقّق المحبوب للمولى بعد الفراغ عن وجود وبقاء هذا الحبّ والشوق المولوي اللذين هما قوام الوجوب.

ولا يمكن أن يكون الامتثال أو العصيان من مسقطات التكليف ؛ لأنّ لازم ذلك كونهما دخيلين في الملاك والمبادئ ، وهذا يعني أنّ وجوب الإكرام للعالم مقيّد بامتثال

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

١٤٦

إكرامه أو بعصيانه ، وهذا اللازم واضح البطلان ؛ لأنّه على الأوّل يكون مفاده أكرم العالم إذا أكرمت العالم ، وهو لغو وتحصيل للحاصل ، وعلى الثاني يكون مفاده أكرم العالم إذا عصيت إكرامه وهو من أخذ عدم الشيء في موضوع نفسه ، أو تعليق أحد الضدّين على عدم الضدّ الآخر ، وهو محال لاستلزامه الدور.

وأمّا إذا قيل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فالشكّ فيه شكّ في التكليف لا محالة.

ومن هنا قد يتوهّم تحقّق موضوع البراءة وإطلاق أدلّتها لمثل ذلك ، ولا بدّ للتخلّص من ذلك إمّا من دعوى انصراف أدلّة البراءة إلى الشكّ الناشئ من غير ناحية الامتثال ، أو التمسّك بأصل موضوعيّ حاكم وهو الاستصحاب عدم الامتثال.

وأمّا علي المسلك القائل بأنّ الامتثال من مسقطات التكليف فيكون الشكّ في الامتثال شكّا في التكليف أيضا ؛ لأنّه إذا تحقّق الامتثال خارجا بهذا الفعل الذي أتى به فقد سقط التكليف وإن لم يتحقّق به فالتكليف باق على حاله ، فيعود الشكّ إلى أنّه هل لا يزال التكليف فعليّا بحقّه أم لا؟

وهنا قد يقال : إنّه ما دام الشكّ في الامتثال يعود إلى الشكّ في التكليف فموضوع البراءة متحقّق إذا فتجري لنفي التكليف في الحالة المذكورة.

إلا أنّ هذا القول مجرّد توهّم لا أساس له ، ويمكن التخلّص منه بجوابين :

الأوّل : أنّ أدلّة البراءة لا إطلاق لها للحالة المذكورة ، بمعنى أنّ الشكّ الذي هو موضوع البراءة لا إطلاق له للشكّ في التكليف الناشئ من ناحية الامتثال ، وإنّما يختصّ بالشكّ في التكليف من غير هذه الناحية ، فيرفع اليد عن إطلاق أدلّة البراءة لهذه الحالة.

والوجه في عدم الإطلاق هو أنّ مثل قوله : « رفع ما لا يعلمون » ينظر إلى أنّه مع عدم العلم بأصل التكليف أو بفعليّة التكليف تجري البراءة وفي غير هذين الموردين لا تجري.

وعليه ، فإذا علم المكلّف بالتكليف وعلم بفعليّة التكليف بأن تحقّقت تمام الشروط والقيود المأخوذة في موضوعه ، فهو عالم بالتكليف فلا تجري البراءة.

ولذلك إذا شكّ في أنّ ما فعله في الخارج هل يحقّق الامتثال المسقط للتكليف أو

١٤٧

لا؟ فهذا يعني أنّه يشكّ في دائرة الامتثال وأنّها واسعة وتشمل الفعل الذي أتى به أو أنّها ضيّقة فلا تشمل هذا الفعل ، فالشكّ هنا في الحقيقة شكّ في سعة دائرة الامتثال وعدمها ، وليس شكّا في التكليف لا بأصله ولا بفعليّته.

نعم ، الشكّ في السعة يستتبع الشكّ في التكليف بقاء وارتفاعا ، إلا أنّه مترتّب على سعة دائرة الامتثال وعدمها لا على الشكّ في نفس التكليف أو فعليّته ، والأدلّة ظاهرة في الشكّ في التكليف ابتداء كما في الشبهات الحكميّة أو بالفعليّة كما في الشبهات الموضوعيّة ؛ لأنّه يصدق فيها الشكّ في التكليف الكلّي أو الجزئي.

وأمّا في الامتثال فالشكّ في سعة دائرته وعدمها وليس شكّا في التكليف الكلّي أو الجزئي.

الثاني : أن يتمسّك باستصحاب عدم الامتثال الحاكم على أصالة البراءة.

وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف إذا شكّ في تحقّق الامتثال بما أتى به من فعل ، وقلنا : إنّه في مثل هذه الحالة تجري البراءة لتحقّق موضوعها وهو الشكّ في التكليف ، إلا أنّه لا بدّ من رفع اليد عن البراءة هنا لوجود أصل عملي موضوعي حاكم عليها وهو استصحاب عدم الامتثال المتيقّن سابقا ولو قبل الشروع بالامتثال ، وهذا الاستصحاب يحقّق التعبّد بعدم الامتثال خارجا فيرتفع الشكّ الذي هو موضوع البراءة ، فيكون مثل هذا الاستصحاب حاكما على البراءة ؛ لأنّه ينظر إلى موضوعها فهو من الأصل السببي الحاكم على الأصل المسبّبي ؛ لأنّ الأوّل ينظر إلى موضوع الثاني نفيا أو إثباتا ، فيتنقّح به موضوع الأصل الثاني.

ثمّ بعد الفراغ عن الفرق بين الشكّ في التكليف والشكّ في الامتثال ـ أي المكلّف به ـ باتّخاذ الأوّل ضابطا للبراءة والثاني ضابطا لأصالة الاشتغال ، يقع الكلام في ميزان التمييز الذي به يعرف كون الشكّ في التكليف لكي تجري البراءة.

الضابط للشكّ في التكليف أو المكلّف به : ثمّ بعد أن فرغنا عن التمييز بين الشكّ في التكليف وبين الشكّ في المكلّف به أي الامتثال ، وبعد أن عرفنا أنّ الضابط لجريان البراءة هو الشكّ في التكليف ، والضابط في أصالة الاشتغال هو الشكّ في المكلّف به ، لا بدّ أن نعرف الميزان لكون الشكّ تارة في التكليف وأخرى في المكلّف به.

ووجه الحاجة إلى هذا الضابط أنّه في بعض الموارد يكون التمييز بينهما دقيقا جدّا ،

١٤٨

وفي أكثرها يكون واضحا وجليّا ، فمثلا إذا شككنا في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال فهذا من الشكّ في التكليف ، وإذا شككنا في تحقّق الإكرام بمجرّد إلقاء السلام فهذا من الشكّ في المكلّف به ؛ لأنّنا نعلم بوجوب إكرام العالم ونشكّ في أنّ هذا السلام هل يحقّق المأمور به ويكفي لامتثال الأمر أم لا؟

إلا أنّه في بعض الموارد يكون دقيقا جدّا ، ولا بدّ من إعمال الدقّة والنظر لاكتشاف أنّ هذا الشكّ من أي النحوين هو؟ ولذلك نقول :

وهذا الميزان إنّما يراد في الشبهات الموضوعيّة التي قد يحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، دون الشبهات الحكميّة التي يكون الشكّ فيها عادة شكّا في التكليف ، كما هو واضح.

وهذا الميزان المذكور نحتاج إليه في الشبهات الموضوعيّة لا الحكميّة ؛ وذلك لأنّ الشبهات الحكميّة يكون الشكّ فيها من الشكّ في التكليف بمعنى الجعل الكلّي كما في الشكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو في التكليف بمعنى المجعول الجزئي كالشكّ في تحقّق قيود التكليف كالاستطاعة بالنسبة للحجّ.

إلا أنّه يمكن تحقّق الشكّ في المكلّف به في الشبهات الحكميّة أيضا لكنّه نادر وقليل كما في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ، أو التعيين والتخيير ، مثال الأوّل أن يشكّ هل أنّ الواجب هو عشرة دراهم أو تسعة أي أنّ ذمّته مشغولة بهذا أو بذاك فهو من الشكّ في الامتثال ؛ لأنّه يعود إلى أنّ دفع التسعة هل يكفي في تحقّق الامتثال أم لا؟ فهو شكّ في سعة دائرة الامتثال وعدمها.

ومثال الثاني أن يشكّ في هل أنّ الواجب خصوص العتق من أصناف الكفّارة أو هو والتصدّق والصوم بنحو التعيين أو التخيير ، فمرجعه أيضا إلى المكلّف به وسعة دائرة الامتثال.

وأمّا الشبهات الموضوعيّة فيوجد فيها من كلا النحوين فيحتاج التمييز فيها إلى دقّة ، ولذلك نعقد البحث فيها :

وتوضيح الحال في المقام : أنّ الشبهة الموضوعيّة تستبطن دائما الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت كلّها معلومة فلا يتصوّر شكّ إلا من أصل حكم الشارع ، وتكون الشبهة حينئذ حكميّة.

١٤٩

وهذه الأطراف هي عبارة عن قيد التكليف ، ومتعلّقه ، ومتعلّق المتعلّق له المسمّى بالموضوع الخارجي ، فحرمة شرب الخمر المشروطة بالبلوغ قيدها ( البلوغ ) ، ومتعلّقها ( الشرب ) ، ومتعلّق متعلّقها ( الخمر ) ، وخطاب ( أكرم عالما إذا جاء العيد ) قيد الوجوب فيه ( مجيء العيد ) ، ومتعلّقه ( الإكرام ) ، ومتعلّق متعلّقه ( العالم ).

إنّ الشكّ في الشبهات الموضوعيّة يكون من الشكّ في أحد أطراف الحكم الشرعي ، إذ لو كانت أطراف الحكم الشرعي كلّها معلومة لم يكن الشكّ حينئذ إلا من ناحية الحكم الشرعي ، وهذا خروج عن محلّ الكلام ؛ لأنّه سوف يدخل في الشبهات الحكميّة وكلامنا الآن في الشبهات الموضوعيّة.

والمقصود من أطراف الحكم التي يكون الشكّ في أحدها من الشبهة الموضوعيّة أمور ثلاثة :

١ ـ قيود التكليف كالبلوغ والعقل ، والاستطاعة للحجّ ، والزوال للصلاة ، ونحو ذلك.

٢ ـ متعلّق التكليف كالكذب في قولنا : ( لا تكذب ) ، والإكرام في قولنا : ( أكرم العالم ).

٣ ـ متعلّق المتعلّق للتكليف كالخمر في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) ، والعالم في قولنا : ( أكرم العالم ) ، ويسمّى بالموضوع.

فالتكليف إذا فيه أطراف ثلاثة : قيوده ومتعلّقه ومتعلّق متعلقه ، سواء في ذلك الجملة الحمليّة أم الشرطيّة.

ففي قولنا : ( لا تشرب الخمر ) تكون قيود التكليف البلوغ والعقل ، ومتعلّقه الشرب ؛ لأنّ الحرمة تعلّقت بالشرب ، ومتعلّق متعلّقه الخمر ؛ لأنّ الشرب تعلّق بالخمر لا بغيره.

وفي قولنا : ( إذا جاء العيد فأكرم عالما ) كانت قيود التكليف مجيء العيد ؛ لأنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجيء العيد لا مطلقا ، ومتعلّق التكليف الإكرام ؛ لأنّه هو الذي تعلّق به الوجوب ، ومتعلّق المتعلّق ( العالم ) ؛ لأنّه هو الذي تعلّق به وجوب الإكرام.

فإذا كانت الشبهة موضوعيّة فهذا يعني الشكّ في أحد هذه الأطراف الثلاثة بعد

١٥٠

الفراغ عن كون الحكم في مرحلة الجعل معلوما ، إذ لو لم يكن الشكّ في أحد الثلاثة فهو إذا شكّ في الحكم بلحاظ عالم الجعل ، وهو من الشبهة الحكميّة لا محالة.

ولتوضيح صور الشكّ نقول :

فإن كان الشكّ في صدور المتعلّق مع إحراز القيود والموضوع الخارجي فهذا شكّ في الامتثال بلا إشكال ، وتجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّ التكليف معلوم ولا شكّ فيه لبداهة أنّ فعليّة التكليف غير منوطة بوجود متعلّقه خارجا ، وإنّما الشكّ في الخروج عن عهدته ، فلا مجال للبراءة.

الصورة الأولى : أن يكون كلّ من الحكم والقيود والموضوع محرزا ، وإنّما الشكّ في صدور المتعلّق.

كما إذا قيل : ( أكرم العالم إذا جاء العيد ) فهذا الحكم معلوم في مرحلة الجعل ، والمفروض أنّ العيد قد جاء وحلّ برؤية الهلال فقيد الوجوب وهو مجيء العيد محرز أيضا ، وهذا يعني أنّ الحكم صار فعليّا بحقّ المكلّف لفعليّة قيود الحكم ، والمفروض أيضا أنّ العالم موجود في الخارج والمكلّف أحرزه كذلك.

يبقى المتعلّق وهو ( الإكرام ) فإنّه يشكّ في صدوره وتحقّقه ؛ وذلك بسبب الشكّ في أنّ ما أتى به في الخارج هل ينطبق عليه عنوان الإكرام أم لا؟

فلو فرض أنّه ألقى السلام على هذا العالم أو قبّل يديه يوم العيد فشكّ في أنّ هذا الفعل هل هو مصداق للمأمور به والمتعلّق للوجوب أو لا؟ فالشك هنا في صدور المتعلّق.

وحينئذ نقول : لمّا كان الحكم معلوما وفعليّا لفعليّة القيود فلا يمكن الشكّ فيه لا بلحاظ عالم الجعل ولا بلحاظ الفعليّة أي عالم المجعول ؛ لأنّ فعليّته منوطة بتحقّق قيوده في الخارج ، والمفروض تحقّقها.

وإنّما يشكّ فيه بلحاظ الشكّ في سعة دائرة الامتثال وعدم سعتها ، أي أنّ الإكرام الذي هو المتعلّق للوجوب والمأمور به هل يكفي فيه هذا الفعل الذي صدر منه خارجا أو لا يكفي فيه ذلك؟ فهو شكّ في براءة الذمّة وخروجها عن العهدة وعدم ذلك ، وفي هذه الحالة تجري أصالة الاشتغال ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته يقينا ويشكّ في براءتها كذلك ، فهنا يقال : الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

١٥١

والشكّ في صدور المتعلّق وعدم صدوره الذي هو شكّ في الامتثال وعدمه قلنا : إنّه ليس من الشكّ في التكليف ؛ لأنّ الامتثال وعدمه ليس من مسقطات التكليف كما تقدّم ، وإنّما من أسباب سقوط فاعليّته ومحرّكيّته فقط.

وأمّا إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجي ، كما إذا لم يحرز كون فرد ما مصداقا للموضوع الخارجي.

الصورة الثانية : أن يكون الشكّ في الموضوع الخارجي ، وذلك بأن يحرز الحكم ويحرز قيوده الدخيلة في فعليّته ، ولكن يشكّ في أنّ هذا الفرد هل هو مصداق للموضوع المأخوذ طرفا في التكليف أو ليس مصداقا لهذا الموضوع؟ فإذا قيل : ( أكرم العالم إذا جاء العيد ) وعلم بالحكم وأحرز قيده بأن حلّ العيد ، غايته الشكّ في أنّ زيدا هل هو عالم أو لا؟ أي هل هو مصداق للموضوع الذي هو العالم أو ليس مصداقا له؟

وفي هذه الصورة يوجد نحوان من أنحاء الشكّ في الموضوع بالمعنى المذكور هما :

فإن كان إطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليّا جرت البراءة ؛ لأنّ الشكّ حينئذ يستبطن الشكّ في التكليف الزائد ، كما إذا قيل : ( لا تشرب الخمر ) و ( أكرم الفقراء ) وشكّ في أنّ هذا خمر وفي أنّ ذاك فقير.

النحو الأوّل : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع شموليّا.

ففي هذه الحالة سوف ينحلّ الحكم إلى أحكام بعدد مصاديق هذا الموضوع في الخارج بحيث يكون لكلّ منها امتثال خاصّ وعصيان خاصّ ، فكلّما وجد مصداق ثبت له الحكم ، فإذا شكّ في كون فرد ما مصداقا للموضوع فهذا يعني الشكّ في ثبوت تكليف زائد ، فتجري البراءة لتحقّق موضوعها.

ومثاله أن يقال : ( لا تشرب الخمر ) أو ( أكرم العالم ) أو ( تصدّق على الفقراء ) ، ففي المثال الأوّل يكون النهي عن الشرب شاملا لكلّ فرد من أفراد الموضوع في الخارج ، أي كلّ ما صدق عليه عنوان الخمريّة في الخارج فيحرم شربه. وعليه ، فإذا شكّ في أنّ هذا السائل خمر أو لا ، فهذا يعني الشكّ في أنّه يجب الاجتناب عن شربه أو لا ، فهو شكّ في تكليف زائد فتجري البراءة.

١٥٢

وفي المثال الثاني والثالث يقال كذلك ؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد العالم أو من أفراد الفقراء له وجوب مستقلّ عن الفرد الآخر ، فإذا شكّ في فرد أنّه عالم أو فقير فهو شكّ في وجوب زائد فتجري عنه البراءة.

والحاصل : أنّ الشكّ في الفرد يستبطن الشكّ في التكليف ؛ لأنّه على تقدير كونه فردا ومصداقا للموضوع فهو حكم آخر مستقلّ عن غيره من الأفراد ، وهذا يتحقّق في الإطلاق الشمولي والعموم الاستغراقي.

وإن كان إطلاق التكليف بالنسبة إليه بدليّا لم تجر البراءة ، كما إذا ورد ( أكرم فقيرا ) وشكّ في أنّ زيدا فقير ، فلا يجوز الاكتفاء بإكرامه ؛ لأنّ الشكّ المذكور لا يستبطن الشكّ في تكليف زائد ، بل في سعة دائرة البدائل الممكن امتثال التكليف المعلوم ضمنها.

النحو الثاني : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع بدليّا.

وفي هذه الحالة يكون لدينا حكم واحد فقط ، ولا ينحلّ إلى الأفراد والمصاديق ؛ لأنّ المطلوب هنا إيجاد الموضوع وهو يتحقّق بفرد من أفراده على سبيل البدل ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق الحكم على أي فرد أراده.

وحينئذ إذا شكّ في أنّ هذا فرد ومصداق للموضوع أو لا ، فلا يمكن الاكتفاء بامتثال المأمور به فيه ؛ لأنّه على تقدير ثبوته فهو ليس وجوبا زائدا ، وإنّما هو على تقدير ثبوت مصداقيّته للموضوع يكون محقّقا للامتثال ، فالشكّ يعود إلى أنّ الامتثال متحقّق أو لا ، فهو شكّ في المكلّف به ؛ لأنّ مرجعه إلى الشكّ في سعة دائرة الامتثال وكونها شاملة لهذا الفرد المشكوك وعدم سعتها كذلك.

ومثاله ما إذا قيل : ( أكرم فقيرا ) أو ( اغتسل بالماء ) ، فإنّ الحكم ثابت لموضوعه هنا بنحو الإطلاق البدلي ، أي أنّ المكلّف يجب عليه إكرام فقير واحد على سبيل البدل ، أو يجب عليه الاغتسال بالماء على سبيل البدل والتخيير بين هذا الفرد أو ذاك ، فهناك امتثال واحد وهو الإتيان بالغسل بالماء أو إكرام فقير واحد ، وأمّا سائر الأفراد فهي ليست واجبة ، بل هي محقّقة للامتثال فقط على تقدير كونها مصداقا للموضوع.

وعليه ، فإذا شكّ في أنّ زيدا من الناس فقير أو لا يكون الشكّ في الحقيقة إلى أنّه هل

١٥٣

يتحقّق الامتثال بإكرامه هو أو لا يتحقّق كذلك؟ فيكون من الشكّ في المكلّف به.

ولا يعقل هنا الشموليّة ؛ لأنّه من الواضح أنّ المكلّف لا يجب عليه الاغتسال بكلّ ماء في الوجود ، بل بصرف الوجود ومطلقه ، وفي الفقير لا يجب إلا إكرام فقير واحد ؛ لأنّ حيثيّة التنكير تدلّ على ذلك.

وعلى هذا الضوء يعرف أنّ لجريان البراءة إذن ميزانين :

أحدهما : أن يكون المشكوك من قيود التكليف الدخيلة في فعليّته.

والآخر : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة إليه شموليّا لا بدليّا.

وبهذا ظهر أنّ الميزان لمعرفة كون الشكّ في التكليف وبالتالي موردا لجريان البراءة ، أحد أمرين :

الأوّل : أن يكون الشكّ في قيود التكليف ، بمعنى أنّ المشكوك قيد دخيل في فعليّة التكليف ، فإذا شكّ في وجوده وعدمه فسوف يشكّ في فعليّة التكليف وعدمها فتجري البراءة.

كما إذا قيل : ( إذا حصل الخسوف فتجب صلاة الآيات ) وشكّ في حصول الخسوف ، فهنا الخسوف قيد دخيل في فعليّة وجوب صلاة الآيات ، بمعنى أنّ تحقّقه في الخارج يوجب فعليّة الصلاة على المكلّف ، وإذا لم يتحقّق فلا تجب الصلاة فعلا على المكلّف وإن كانت ثابتة في عالم الجعل والتشريع ، فالشكّ في هذا القيد شكّ في التكليف المجعول الجزئي ، وهو مجرى للبراءة.

الثاني : أن يكون إطلاق التكليف بالنسبة للمشكوك شموليّا لا بدليّا ، كما تقدّم بيانه آنفا.

والنكتة فيه هي أنّ الشموليّة تعني انحلال الحكم إلى أحكام عديدة ، بحيث يكون لكلّ فرد ومصداق على تقدير كونه مصداقا وفردا حكما مستقلاّ عن الفرد الآخر ، فله امتثال خاصّ به وعصيان كذلك ، فإنّه على هذا يكون الشكّ فيه شكّا في تكليف زائد فتجري البراءة.

فإن قيل : إنّ مردّ الشكّ في الموضوع الخارجي إلى الشكّ في قيد التكليف ؛ لأنّ الموضوع قيد فيه ، فحرمة شرب الخمر مقيّدة بوجود الخمر خارجا ، فمع الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في فعليّة التكليف المقيّد ، وتجري البراءة.

١٥٤

وبهذا يمكن الاقتصار على الميزان الأوّل فقط ، كما يظهر من كلمات المحقّق النائيني قدّس الله روحه (١).

الإشكال على ما تقدّم : ثمّ إنّ المحقّق النائيني اقتصر على الميزان الأوّل فقط ، وهو أن يكون الشكّ في قيود التكليف ، وجعلها تعمّ كلاّ من القيود المأخوذة شروطا كالبلوغ والعقل أو الاستطاعة والزوال ، والقيود المأخوذة في متعلّق الحكم كالشرب في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) ، والقيود المأخوذة في متعلّق المتعلّق أي الموضوع كالخمر في المثال المذكور.

أما الشكّ في قيود التكليف بالنحو الأوّل أي الشروط فهذا من الواضح كونه شكّا في فعليّة التكليف فتجري البراءة ؛ لأنّ الشكّ فيها شكّ في التكليف.

وأما الشكّ في القيود بالنحو الثاني أي المتعلّق فهو شكّ في فعليّة التكليف أيضا ، فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه إذا شكّ في فعل ما أنّه شرب للخمر أو لا فهو شكّ في فعليّة الحرمة وعدمها ، فيكون شكّا في التكليف.

وأمّا الشكّ في القيود بالنحو الثالث أي الموضوع ، فمرجعه أيضا إلى الشكّ في التكليف ؛ لأنّ كون هذا المائع خمرا في الخارج قيدا في فعليّة الحرمة ؛ لأنّ الحرمة مقيّدة بالشرب لما هو خمر في الخارج ، فمع الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في فعليّة الحرمة وعدمها فتجري البراءة.

وهكذا ظهر أنّه يمكن أن يقال : إنّ الضابط لجريان البراءة هو أن يكون الشكّ في قيود التكليف بالنحو المذكور ، ولا نحتاج إلى الميزان الثاني.

كان الجواب : أنّه ليس من الضروري دائما أن يكون متعلّق المتعلّق مأخوذا قيدا في التكليف سواء كان إيجابا أو تحريما ، وإنّما قد تتّفق ضرورة ذلك فيما إذا كان أمرا غير اختياري كالقبلة مثلا.

وعليه فإذا افترضنا أنّ حرمة شرب الخمر لم يؤخذ وجود الخمر خارجا قيدا فيها على نحو كانت الحرمة فعليّة حتّى قبل وجود الخمر خارجا صحّ مع ذلك إجراء البراءة عند الشكّ في الموضوع الخارجي ؛ لأنّ إطلاق التكليف بالنسبة إلى المشكوك شمولي.

__________________

(١) فوائد الأصول ٣ : ٣٩١ ـ ٣٩٤.

١٥٥

إلا أنّه يمكن الجواب عمّا ذكره الميرزا بأنّ الميزان الثاني لا يمكن الاستغناء عنه مطلقا ؛ إذ لا يمكننا إرجاع سائر القيود إلى قيود التكليف ليكون الشكّ فيها شكّا في فعليّة التكليف.

وتوضيح ذلك : أنّ متعلّق المتعلق أي الموضوع تارة يكون مأخوذا قيدا في التكليف وأخرى لا يكون كذلك ، فإذا كان الموضوع من الأمور الخارجة عن اختيار المكلّف تعيّن أخذه قيدا في التكليف.

كما في مثل قولنا : ( إذا زالت الشمس فصلّ ) و ( صلّ للقبلة ) فهنا زوال الشمس خارج عن اختيار المكلّف ، فلا بدّ أن يكون من قيود التكليف كما تقدّم في محلّه ، حتّى وإن كان موضوعا.

فهنا يكون الشكّ في الزوال شكّا في فعليّة التكليف كما ذكر الميرزا ، ومثله ( صلّ للقبلة ) ؛ لأنّ القبلة وإن كانت موضوعا لكنّها ليست تحت اختيار المكلّف ، فيكون المعنى أنّ الصلاة واجبة للجهة التي توجد فيها القبلة أي إذا كانت هذه الجهة قبلة فصلّ فيها.

وأمّا إذا كان الموضوع من الأمور الاختياريّة للمكلّف فهنا ليس من الضروري أخذها قيدا في التكليف ، بل قد تؤخذ قيدا في التكليف كما في الاستطاعة بالنسبة للحجّ ، فإنّها من الأمور الاختياريّة لكنّها مأخوذة قيدا لوجوب الحجّ ، والغاية أنّ الحجّ ليس فعليّا ليكون مطالبا بتحصيل الاستطاعة ، وإنّما يكون الحجّ فعليّا على تقدير حصولها فإن حصلت تحقّقت الفعليّة وإن لم تحصل لم تتحقّق.

وقد لا تكون مأخوذة قيدا في التكليف كما في ( لا تشرب الخمر ) فإنّ الخمر يمكن ألاّ يكون مأخوذا من قيود التكليف ، والغاية من ذلك أن تكون الحرمة فعليّة على تقدير تحقّق الخمريّة سواء تحقّق الخمر في الخارج أم لا ، فالحرمة فعليّة ، وتكون فائدته في النهي عن إيجاده وصنعه أيضا إذا كان ذلك مستلزما لشربه ؛ لأنّه يكون مقدّمة للوقوع في الحرمة الفعليّة.

وحينئذ فالشكّ في كون المائع الموجود في الخارج خمرا أو لا ، لا يعني الشكّ في فعليّة التكليف ؛ لأنّ المفروض أنّه ليس دخيلا في قيود التكليف ، بل التكليف فعلي حتّى قبل وجود الخمر في الخارج ، إلا أنّه مع ذلك يكون الشكّ المذكور موردا للبراءة

١٥٦

وليس ذلك إلا من باب كون الإطلاق بالنسبة للموضوع شموليّا لا بدليّا ؛ لأنّه على تقدير الخمريّة فالحرمة ثابتة وفعليّة وهي محرّكة نحو الاجتناب عن كلّ خمر أو ما يوجد الخمر ، وهذا المائع إن كان خمرا يجب الاجتناب عنه وإلا فلا ، فهنا شكّ في التكليف من باب أنّ التكليف شمولي يشمل كلّ خمر في الخارج ، لا من باب الشكّ في فعليّة التكليف.

ولكن بتدقيق أعمق نستطيع أن نردّ الشكّ في خمريّة المائع إلى الشكّ في قيد التكليف ، لا عن طريق افتراض تقيّد الحرمة بوجود الخمر خارجا ، بل بتقريب : أنّ خطاب ( لا تشرب الخمر ) مرجعه إلى قضيّة شرطيّة مفادها ( كلّما كان مائع ما خمرا فلا تشربه ) ، فحرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا سواء وجد خارجا أم لا ، فإذا شكّ في أنّ الفقّاع خمر أو لا مثلا جرت البراءة عن الحرمة فيه.

والتحقيق أنّه يمكن الاستغناء عن الميزان الثاني كما ذكر الميرزا ، لكن لا على أساس إرجاع الشكّ في الموضوع أو المتعلّق أو الشروط إلى الشكّ في فعليّة التكليف ، بل على أساس آخر وهو : أنّ الضابط لجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة كون الشكّ فيما يستتبع الحكم الفعلي الشامل للقيد والموضوع والمتعلّق والشروط.

وتوضيح ذلك : أنّ خطاب ( لا تشرب الخمر ) مفاده جعل الحرمة على نهج القضيّة الحقيقيّة التي جوهرها وروحها القضيّة الشرطيّة كما تقدّم في محلّه ، فيكون المقصود ( أنّه كلّما كان المائع خمرا فلا تشربه ) ، وحينئذ تكون الحرمة مقيّدة بكون المائع خمرا على تقدير وجوده ؛ لأنّ القضيّة الحقيقيّة يكون الموضوع فيها مقدّر ومفترض الوجود ، والحكم ينصبّ على الصورة الذهنيّة للموضوع بقصد كونها حاكية ومرآة للخارج.

وعليه ، فالحرمة ثابتة على تقدير كون المائع متّصفا بالخمريّة سواء وجد الخمر في الخارج أم لا ، وهذا يعني أنّ قيد الحرمة هو اتّصاف المائع بالخمر ، وهذا ثابت في مرحلة جعل الحكم.

وأمّا وجود الخمر في الخارج فهو ليس قيدا في الحرمة ، لا في مرحلة الجعل ؛ لاستحالة إناطة جعل الحرمة في عالم التشريع والجعل بقيد خارجي لاختلاف السنخيّة بينهما ؛ لأنّ الحرمة تنصبّ على الموضوع الذهني وهو غير الموضوع الخارجي

١٥٧

بالحمل الشائع والنظر التصديقي ، ولا في مرحلة المجعول الفعلي للحكم ؛ لأنّ الحكم مقيّد بغير الوجود الخارجي للخمر بحسب الفرض.

وحينئذ إذا شكّ في مائع أنّه خمر أو لا ، فهذا يعني الشكّ في كونه متّصفا بالخمريّة أو لا ، فيكون الشكّ في قيود التكليف ؛ لأنّ اتّصاف المائع بالخمريّة قيد في التكليف كما قلنا ، وهنا تجري البراءة ؛ لأنّه حينما يشكّ في تحقّق قيد التكليف سوف يشكّ بالتبع بالتكليف الفعلي ؛ لأنّه تابع لقيوده ، وبهذا نستغني عن كون إطلاق التكليف بالنسبة للموضوع شموليّا ؛ لأنّ الميزان الأوّل متحقّق حيث إنّ الشكّ في الموضوع شكّ في قيود التكليف بالمعنى الذي ذكرناه.

وبهذا صحّ القول بأنّ البراءة تجري كلّما كان الشكّ في قيود التكليف ، وأنّ قيود التكليف تارة تكون على وزان مفاد كان التامّة بمعنى إناطته بوجود شيء خارجا ، فيكون الوجود الخارجي قيدا.

وأخرى تكون على وزان مفاد ( كان ) الناقصة بمعنى إناطته باتّصاف شيء بعنوان ، فيكون الاتّصاف قيدا.

فإذا شكّ في الوجود الخارجي على الأوّل أو في الاتّصاف على الثاني جرت البراءة وإلا فلا.

وبهذا يصحّ لنا إطلاق القول بأنّه كلّما كان الشكّ في قيود التكليف كان مجرى للبراءة.

وقيود التكليف التي يشكّ فيها على قسمين :

الأوّل : أن يشكّ في أصل تحقّق القيد أو الشرط كالشكّ في تحقّق الاستطاعة أو الزوال ، فإنّ الشكّ هنا في أصل تحقّق هذا القيد في الخارج ، فإنّ وجوده في الخارج يعني فعليّة الحجّ وفعليّة الصلاة ، والشكّ فيه شكّ في الوجوب الفعلي للصلاة أو الحجّ ، فهو شكّ في التكليف فتجري البراءة عنه ، ويسمّى هذا النحو من الشكّ في القيود بمفاد ( كان ) التامّة ؛ لأنّ المراد من كان التامّة هو أصل وجود وثبوت الشيء كما يقال : كان زيد ، أي وجد زيد فالشكّ في أصل وجود القيد وعدم وجوده شكّ في تحقّق مفاد كان التامّة وعدم تحقّقه كذلك.

الثاني : أن يشكّ في اتّصاف الموضوع في الخارج بوصف بحيث يكون اتصافه

١٥٨

بهذا الوصف هو القيد للتكليف ، كما إذا شكّ في أنّ المائع الموجود في الخارج خمر ، فهنا الشكّ في اتّصافه بهذا العنوان ، والمفروض أنّ الاتّصاف هو المأخوذ قيدا في التكليف ، لا نفس الموضوع الخارجي.

والشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في تحقّق التكليف الفعلي وعدمه فتجري البراءة ، وهذا النحو يسمّى بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ ( كان ) الناقصة مفادها إثبات شيء لشيء كقولنا : كان زيد عالما ، أي أنّه متّصف بالعلم ، ولذلك سمّيت قيود الاتّصاف بمفاد ( كان ) الناقصة ؛ لأنّ القيد ليس بلحاظ أصل الوجود الخارجي ، بل بلحاظ الوجود الخارجي المتّصف بهذا العنوان الخاصّ ، أي كون السائل متّصفا بعنوان الخمريّة لا وجود الخمر في الخارج.

فإذا كان الشكّ في القيود بأحد هذين النحوين جرت البراءة لنفي التكليف الفعلي المشكوك.

والنحو الأوّل يكون في القيود المأخوذة شرطا في التكليف ، بينما النحو الثاني يكون في القيود المأخوذة موضوعا للتكليف.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نعمّم فكرة قيود التكليف التي هي على وزان مفاد ( كان ) الناقصة على عنوان الموضوع وعنوان المتعلّق معا ، فكما أنّ حرمة الشرب مقيّدة بأن يكون المائع خمرا كذلك الحال في حرمة الكذب ، فإنّ ثبوتها لكلام مقيّد بأن يكون الكلام كذبا ، فإذا شكّ في كون كلام كذبا كان ذلك شكّا في قيد التكليف.

ومن خلال هذا الضابط يمكننا تعميم فكرة قيود التكليف التي تكون من القسم الثاني أي التي على وزان مفاد ( كان ) الناقصة إلى الموضوع وإلى المتعلّق أيضا ، وتكون قيود التكليف من القسم الأوّل أي التي على وزان مفاد ( كان ) التامّة شاملة للقيود والشروط فقط.

وتوضيح ذلك : أنّ المراد من قيود التكليف التي على وزان ( كان ) الناقصة اتّصاف الشيء بعنوان ما ، وهذا المعنى كما يتحقّق بالنسبة للموضوع في قولنا : ( لا تشرب الخمر ) حيث يكون اتّصاف المائع بكونه خمرا قيدا في التكليف ، كذلك يتحقّق بالنسبة للمتعلّق كما في قولنا : ( لا تكذب ) فإنّ القيد ليس هو الكذب الموجود في

١٥٩

الخارج ، وإلا كانت حرمة الكذب مقيّدة بوجود الكذب في الخارج ، فيكون المفاد إذا تحقّق الكذب فلا تكذب وهو واضح البطلان.

وإنّما القيد اتّصاف الكلام بكونه كذبا أي الكلام الصادر من المتكلّم في الخارج إن اتصف بكونه كذبا فهو حرام ، فتكون الحرمة مقيّدة باتّصاف الكلام بالكذب سواء وجد في الخارج أم لا ، وعليه فإذا شكّ في كلام أنّه كذب أو لا جرت البراءة عنه لنفي حرمته ؛ لعدم إحراز اتّصافه بالكذب.

نعم ، المتعلّق إن كان متعلّقا للوجوب جرت أصالة الاشتغال عند الشكّ في اتّصاف الفعل به كما في قولنا : ( صلّ ) ، فإنّه إذا شكّ في كون فعل ما صلاة جرت أصالة الاشتغال ؛ لأنّه شكّ في المكلّف به حيث إنّ إطلاق الحكم بالنسبة للصلاة بدلي.

وهكذا نستخلص أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة هو الشكّ في قيود التكليف ، وهي تارة على وزان مفاد ( كان ) التامّة كالشكّ في موضوع الزلزلة الخارجي التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، وأخرى على وزان مفاد ( كان ) الناقصة بالنسبة إلى عنوان الموضوع كالشكّ في خمريّة المائع ، وثالثة على وزان كان الناقصة بالنسبة إلى عنوان المتعلّق كالشكّ في كون الكلام الفلاني كذبا.

والحاصل : أنّ الميزان الأساسي لجريان البراءة كون الشكّ في قيود التكليف ، والقيود على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن تكون القيود على وزان كان التامّة أي أصل وجود وتحقّق القيد ، كما في الزلزلة التي هي قيد لوجوب صلاة الآيات ، فإنّ الشكّ في أصل تحقّق الزلزلة شكّ في تحقّق القيد للتكليف فتجري البراءة عنه.

الثاني : أن تكون القيود على وزان كان الناقصة بالنسبة للموضوع كما تقدّم بالنسبة لاتّصاف المائع بكونه خمرا ، فإنّه عند الشكّ في خمريّة المائع يشكّ في تحقّق قيد التكليف الذي هو اتّصاف المائع بالخمر فتجري البراءة.

الثالث : أن تكون على وزان ( كان ) الناقصة بالنسبة للمتعلّق كما في قولنا : ( لا تكذب ) ؛ لأنّ القيد هو اتّصاف الكلام بكونه كذبا ، فمع الشكّ في كون الكلام الفلاني كذبا تجري البراءة ؛ لأنّه لا يحرز اتّصافه بالكذب.

* * *

١٦٠