منتقى الأصول - ج ١

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ١

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ممنوعة ، بعدم الوجه في التقدير المذكور بلا قيام قرينة خاصة ، بل يمكن دعوى ان المراد من نفي الصلاة في الموارد التي يعلم بإرادة نفي الكمال هو نفى حقيقة الصلاة لكن بنحو الادعاء ، لكي يكون آكد في الدلالة على المبالغة التي تقصد بالحديث كما لا يخفى.

الرابع : دعوى ان طريقة الواضعين في الوضع للمركبات هو الوضع للمركبات التامة بلحاظ الحكمة الداعية إليه وهي غلبة الحاجة إلى تفهيمه ، دون الناقص فانه وان دعت الحاجة إلى تفهيمه أحيانا إلاّ انه ليس غالبا ، فيمكن الاستعمال فيه بنحو المجاز أو الادعاء ، والشارع لم يتخط هذه الطريقة العقلائية ، فيثبت الوضع للصحيح.

إلا ان هذه الدعوى عهدتها على مدعيها ، وقد ناقش فيها صاحب الكفاية ، بدعوى كونها قابلة للمنع (١). ولعل الوجه فيه ما قيل : من أنه على تقدير تسليم مجاراة الشارع مسيرة العقلاء وعدم تخطيه طريقتهم ، إلا ان أساس تحقق الوضع للتام ـ في هذه الدعوى ـ هو كونه قضية الحكمة الناشئة من كثرة الحاجة إلى تفهيمه وقلة الحاجة إلى تفهيم الفاسد ، وهذا غير مسلم في المركبات الشرعية لكثرة الحاجة إلى تفهيم الفرد الفاسد منها ، فالوضع للأعم لا ينافي الحكمة الداعية إلى الوضع ، فتدبر.

وعليه ، فالوجوه التي يظهر اعتماد صاحب الكفاية عليها في إثبات الوضع للصحيح هي الثلاثة الأول (٢).

اما الوجه الأول والثاني : فهما وجهان يرجعان إلى تحكيم الوجدان ، لذلك كانت المناقشة فيهما سهلة لإمكان إنكار التبادر وصحة السلب ودعوى العكس وان المتبادر هو الأعم ، كما حدث فعلا ، فقد جاء في استدلال الأعمي على دعواه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦١

ادعاء التبادر وعدم صحة السلب.

وعليه ، فالالتزام بأحد الطرفين مما لا يمكن الجزم به وفرضه ، بل أمر يوكل إلى ما يلمسه وجدان كل فرد من أهل العرف.

واما الوجه الثالث : فهو وجه أشبه بالبرهاني ، والاستدلال بالطائفة الثانية واضح التقريب ، ولكنه قابل للخدشة بأنه من المعلوم ان الصلاة الصحيحة يتحقق بدون فاتحة الكتاب في بعض الحالات ، فلا يمكن ان يراد نفى الحقيقة بانتفاء فاتحة الكتاب حتى على القول بالصحيح ، إذ الجامع يشمل الفاقدة والواجدة فكيف يقيد بالواجدة؟. فلا بد ان يكون النفي راجعا إلى غير الحقيقة من الكمال أو غيره. فتدبر.

وانما الإشكال في تقريب الاستدلال بالطائفة الأولى من الأخبار. فقد قرب : بأنه حيث يعلم بان المراد من : « الصلاة » في الحديث خصوص الصلاة الصحيحة ، لأن الأثر انما يترتب عليها ، وعليه فيدور الأمر بين الوضع لخصوص الصحيح فيكون الاستعمال حقيقيا والوضع للأعم فيكون مجازيا لعدم إرادة الأعم. وبما ان ظاهر الاستعمال كونه حقيقيا ـ كما هو مقتضى أصالة الحقيقة ـ يستكشف من استعمال اللفظ في الرواية في خصوص الصحيح الوضع لخصوصه.

وللإشكال في هذا التقريب مجال واسع ، فان أصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي. اما في مورد يعلم بالمراد إلا انه يشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز فلم يثبت جريان أصالة الحقيقة فيه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني للعلم بان المراد هو الصلاة الصحيحة وانما الشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز للشك في الوضع لخصوص الصحيح أو الأعم فلا تجري فيه أصالة الحقيقة ، بل هو مورد لما اشتهر من قولهم : « الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ».

مضافا إلى ان الأمر لا يدور بين الحقيقة والمجاز ، لأن إرادة الصحيح مع

٢٦٢

الوضع للأعم لا تستلزم المجاز ، إذ هي من باب التطبيق كما هو شأن كل لفظ موضوع للكلي ويراد به فرده ، لا من باب الاستعمال فلا مجاز في البين كي ينفى بأصالة الحقيقة.

وقد أشير إلى التقريب المذكور والإشكال فيه أولا في حاشية منسوبة إلى صاحب الكفاية رحمه‌الله على المقام (١). لكنه يبعد منه ذلك لوضوح الإشكال في التقريب المذكور ، فيبعد ان يلتزم به وهو مما لا يخفى على مثل صاحب الكفاية.

فالأولى ـ بل المتعين ـ ان يقال في تقريبه : إن الأثر رتب على الصلاة بما لها من معنى مرتكز في الأذهان ، وحيث انه يعلم ان هذا الأثر الّذي رتب على الصلاة انما يترتب على الصحيح منها يكون ذلك كاشفا عن كون معنى الصلاة هو الصحيح. وبعبارة أخرى : انه حين أطلق لفظ : « الصلاة » كان لها معنى إجمالي في الذهن غير متميز من حيث كونه خصوص الصحيح أو الأعم ، وقد رتب الأثر وحمل العنوان المنتزع عن مقام ترتب الأثر على اللفظ بما له من المعنى الإجمالي ، ونحن نعلم بان الأثر انما يترتب على الصحيح دون الأعم ، فقد علمنا بان ذلك المعنى الارتكازي هو الصحيح دون الأعم ، ولم يحدث بذلك أي تغيير في المنتقل له من لفظ الصلاة قبل الحكم والحمل ، بل المنتقل إليه واحد في كلا الحالين ـ قبل الحكم وبعده ـ ، فيعلم بالوضع للصحيح فيكون الحمل المزبور نظير التبادر الموجب للعلم التفصيليّ بان المعنى الارتكازي الإجمالي هو الصحيح.

وهذا وجه متين ـ في نفسه ـ ، وهو لا يرجع إلى التبادر ونحوه كما لا يخفى على من تأمل فيه واستوضحه.

ومن مجموع ما ذكرنا يتضح ان عمدة أدلة القول بالوضع للصحيح هو الوجه الثالث.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠ هامش رقم (١) ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٣

أدلة القول بالأعم

الأول : التبادر ، واستشكل فيه صاحب الكفاية بما تقدم من دعوى تبادر الصحيح ، مضافا إلى امتناع دعواه هاهنا بعد امتناع تصوير الجامع الأعمي ، إذ ليس هناك ما يتبادر إليه مما يجمع بين الصحيح والفاسد.

الثاني : عدم صحة السلب عن الفاسد ، ومنعه صاحب الكفاية لما تقدم من صحة السلب.

الثالث : صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والفاسد ، فيقال : « الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ».

وقد منعه صاحب الكفاية بما نصه : « وفيه : انه انما يشهد على انها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح وقد عرفتها ، فلا بد ان يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ولو بالعناية » (١).

وقد حملت عبارته قدس‌سره على ان نظره في تقريب الاستدلال إلى انه حيث استعمل اللفظ في الأعم كما يدل عليه التقسيم ، فيدور الأمر بين كونه حقيقيا ـ فيثبت الوضع للأعم لأنه لازمه ـ أو مجازيا ، فلا يثبت الوضع للأعم ، وأصالة الحقيقة تعين الأول فيثبت الوضع للأعم.

فيشكل فيه بما ذكره من : ان أصالة الحقيقة انما تجري مع عدم وجود الدليل على خلافها لأن موضوعها الشك وهو يرتفع بالدليل. وقد عرفت قيام الدليل على الوضع للصحيح من التبادر ونحوه الموجب للعلم بمجازية الاستعمال ، فلا مجال لإجراء أصالة الحقيقة.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٤

ولكن يبعد ان يكون نظره ذلك ، لما عرفت من وضوح وهن جريان أصالة الحقيقة في إثبات كون الاستعمال حقيقيا ، فيبعد ان يستدل بهذا الطريق أحد ، وذلك مما لا يخفى عليه قدس‌سره. مضافا إلى انه أهمل الإشكال فيه بما هو واضح ، وما تكرر منه مرارا من ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز وان أصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد لا مع العلم به والشك في كيفيته ، مع أنه أولى بالذكر.

والّذي يخطر في البال في تقريب الدليل هو : ان من المعلوم كون التقسيم بلحاظ ما للصلاة من معنى ، ولا يخفى انّه لا يرى في استعمال لفظ الصلاة في المثال المزبور أي تجوز وعناية ، فهو دليل على انّ معنى الصلاة هو الأعم وقد وضع له اللفظ ، وإلاّ لكان استعمال اللفظ فيه عنائيا وهو خلاف الفرض. ولا يخفى ان هذا أجنبي عن التمسك بأصالة الحقيقة ، كما انه لا يعرف لعبارة الكفاية وجه يتلاءم ـ في مقام الإشكال ـ مع هذا التقريب فتدبر.

الرابع : استعمال الصلاة وغيرها في الأخبار في الأعم ، فقد جاء في الخبر : « بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه. فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة » (١). ومركز الاستشهاد موردان :

الأول : قوله عليه‌السلام : « بالأربع » ، فانه ناظر إلى الأربع المذكورة في صدر الحديث ، ولا يخفى انه بقرينة ترك الولاية يعلم ان المراد ليس الصحيح ، إذ لا صحة بدون الولاية ، فكان يلزم ان يقال لم يأخذ الناس بشيء منها ، بل المراد منها الأعم.

__________________

(١) الكافي ٢ ـ ١٨ باب : دعائم الإسلام ، حديث : ٣.

٢٦٥

الثاني : قوله عليه‌السلام : « فلو ان أحدا صام نهاره » ، فان المفروض ان الصيام هاهنا بدون ولاية وهو غير صحيح ، فيكشف عن إرادة الأعم من اللفظ لا خصوص الصحيح.

وجاء في الخبر أيضا : « دعي الصلاة أيام أقرائك » (١) ، فان النهي قد تعلق بالصلاة ، وليس المراد بها الصحيحة ، إذ الحائض لا تقدر عليها وأخذ القدرة في متعلق النهي ـ كسائر أنواع التكليف ـ ضروري ، فلا بد ان يكون المراد هو الأعم.

وجهة الاستدلال بالاستعمال في الأعم في الروايتين ليس ما قد يتوهم من ظهوره في كونه بنحو الحقيقة ، كي يستشكل فيه رأسا بان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

بل هي : انه مما لا ينكر ان اللفظ قد استعمل في الأعم بلا عناية ومسامحة في البين ، إذ لا يرى بهذا الاستعمال أي تجوز وعناية ، بل مما تقتضيه طبيعة اللفظ.

وقد استشكل صاحب الكفاية في الرواية الأولى بإنكار المقدمة الأولى ـ أعني الاستعمال في الأعم ـ بدعوى : ان المراد بها خصوص الصحيح ، وذلك بقرينة كونها مما بني عليها الإسلام ، وظاهر أن الإسلام انما بني على الصحيح دون الأعم.

واما قوله عليه‌السلام : « فأخذ الناس بالأربع » ، فلا يتنافى مع ذلك ، إذ يمكن ان يراد به الأخذ بحسب اعتقادهم لا الأخذ حقيقة ، فيكون المستعمل فيه هو الصحيح. وهكذا قوله « فلو ان أحدا صام نهاره » ، فان المراد به يمكن ان يكون أنه صام بحسب اعتقاده لا حقيقة ، فيكون الاستعمال في الصحيح ، ويمكن ان يكون الاستعمال في الأعم ولكن يكون مجازيا بعلاقة المشابهة والمشاكلة في

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ ـ ٣٨٤ باب ١٩ الحيض والاستحاضة والنفاس.

٢٦٦

الصورة.

واما الرواية الثانية ، فقد استشكل في الاستدلال بها أيضا بإنكار كون الاستعمال في الأعم ، بدعوى : ان النهي هاهنا إرشاد إلى عدم قدرة الحائض على الصلاة الصحيحة لحدث الحيض. وعليه فالمستعمل فيه هو خصوص الصحيح ، وليس مولويا كي يأتي فيه ما ذكر ، وإلاّ للزم منه ما لا يلتزم به أحد ، وهو حرمة الإتيان بصورة الصلاة وما يصدق عليه لفظ الصلاة بلا قصد القربة ذاتا ، لتعلق النهي بالأعم (١).

الخامس : ان هناك امرين وقع التسالم عليهما :

أحدهما : انعقاد النذر وشبهه ـ العهد واليمين ـ إذا تعلق بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، كالصلاة في الحمام.

والآخر : حصول الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان الّذي تعلق النذر بترك الصلاة فيه كالحمّام. وذلك يدل على ان متعلق النذر ليس هو الصلاة الصحيحة بل الأعم ، وذلك لأنه لو كان المنذور تركه هو الصلاة الصحيحة لزم ..

أولا : عدم حصول الحنث أصلا لفساد الصلاة المأتي بها لتعلق الحرمة بها بعد النذر ، فلا يكون المأتي به هو المنذور تركه فلا يحصل الحنث.

وثانيا : المحال ، وذلك لأن انعقاد النذر يستلزم عدم تحقق الصلاة الصحيحة للنهي عن الصلاة ، وذلك يعني عدم القدرة على الصلاة الصحيحة ، وهو يستلزم عدم انعقاد النذر لاشتراط القدرة على متعلقه في انعقاده. وعليه ، فيكون انعقاد النذر مستلزما لعدم انعقاده ، واستلزام وجود الشيء لعدمه محال.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : أولا : بان غاية ما يثبته هذا الوجه هو امتناع تعلق النذر بالصحيح ، وهو أجنبي من نفي الوضع له ، فانه يمتنع ذلك ولو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٧

قلنا بالوضع للأعم. فهذا الوجه لا يثبت الوضع للأعم كما لا يخفى ، لأنه أجنبي عن مقام التسمية.

وثانيا : بإنكار امتناع تعلقه بالصحيح ، فان متعلق النذر ـ على تقدير كونه هو الصحيح ـ هو الصحيح لو لا تعلق النذر وهو الجامع لجميع ما يعتبر من اجزاء وشرائط في مرحلة سابقة على النذر ، فلا ينفيه تعلق النهي به من قبل النذر.

وعليه ، فيحصل الحنث بالإتيان بما هو جامع لجميع الاجزاء والشرائط سوى عدم النهي من قبل النذر. كما انه لا يلزم من وجوده عدمه ، لأن الفساد الناشئ من قبل النذر لم يؤخذ عدمه في متعلق النذر كي لا يكون مقدورا بعد النذر فيلزم ذلك.

ومما يدل على ان المتعلق هو الصحيح بهذا المعنى لا الفاسد ولا الأعم : ان الناذر لا يقصد نذر ترك العمل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط ولذا لو صلى بدون طهارة لم يكن حنثا لنذره (١).

لكن الّذي ينبغي ان يقال : هو إنكار صحة تعلق النذر بترك الصلاة في الحمام ومثله. وذلك لأن الصلاة في الحمام وان تعنونت بعنوان مرجوح وهو الكون في الحمام ، إلا انه لا يستلزم مرجوحيتها بنفسها ، بل انما يستلزم تقليل جهة رجحانها وكون غيرها من افراد الصلاة أرجح منها ـ كما هو معنى الكراهة في العبادة ـ فان مرجوحية الصلاة لا تتحقق الا باستلزامها لجهة مبغوضة شرعا. وبعبارة أخرى : استلزامها لجهة محرمة بحيث يرتفع الأمر بها. وليس الكون في الحمام كذلك ، وإلاّ لما تحقق الأمر بها لعدم ملاكه. وعليه ، فإذا اعتبر ان يكون متعلق النذر راجحا كما هو المفروض امتنع تعلق النذر بمثل ترك الصلاة في الحمام ، لأن تركها ليس براجح بعد ان كان فعلها راجحا. فلا وجه للالتزام بصحة تعلق النذر وحصول الحنث كي يفرض ذلك دليلا على الوضع للأعم.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٨

نعم ، إذا فرض كون متعلق النذر عنوانا ملازما لترك الصلاة في الحمام ـ وهو الإتيان بالصلاة في غير الحمام ـ فانه امر راجح في نفسه صح النذر لتحقق شرطه ، إلاّ انه لا يستلزم حصول الحنث بالصلاة في الحمام وفسادها ، بل يحصل التزاحم بين الأمر النذري بخصوص الصلاة التي تعلق النذر بها والأمر بالصلاة في الحمام المحرز بالإطلاق ، فتبتني صحة الصلاة فيه وفسادها على ما يتقرر في باب المزاحمة من صحة المزاحم المهم وعدم صحته ، والمتأخرون على صحته وعدم تعلق النهي به ، فيكون الإتيان بالصلاة الصحيحة بعد النذر مقدورا.

وهكذا لو فرض كون متعلقه هو الكون في الحمام الملازم للصلاة. وبتعبير آخر : الحصة الخاصة من الكون في الحمام ، فانه لا مانع من صحة النذر لمرجوحية متعلقه ، إلاّ انه لا يستلزم النهي عن العبادة وعدم صحتها لعدم تعلق النذر بتركها ، بل تقع صحيحة ولو بملاك الأمر ، لو التزم بعدم الأمر للنهي عن الملازم وامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

ومحصل ما ذكرناه : ان النذر ان فرض متعلقه ترك نفس العبادة ـ كما هو ظاهر كلامهم حيث يلتزمون بحرمة العبادة وحصول الحنث بها بنفسها ـ ، فصحته ممنوعة لعدم رجحان متعلقه لبقاء العبادة على رجحانها وان قلّت مرتبته. وان فرض متعلقه ترك الكون الملازم للعبادة فهو وان صح لرجحان متعلقه لكنه لا يستلزم فساد العبادة بل تكون صحيحة. وان فرض متعلقه الإتيان بالعبادة في غير الحمام الملازم لتركها في الحمام ، فهو وان صح أيضا لكن لا يستلزم بطلان العبادة ، بل تكون صحيحة على التحقيق.

وعليه ، فما ذكر من الوجه لا يظهر له محصل.

ومن مجموع ما ذكرناه يتضح : ان عمدة أدلة القول بالأعم هو الثالث ـ أعني صحة التقسيم ـ. كما ان عمدة أدلة القول بالصحيح هو الثالث أيضا ، أعني الروايات المثبتة للآثار. اما دعوى التبادر وصحة السلب فقد عرفت انها

٢٦٩

دعاو ليست برهانية يسهل إنكارها ودعوى خلافها ، كما ثبت ذلك بدعوى تبادر الأعم وعدم صحة السلب عن الفاسد.

وقد عرفت تقريب الوجه الثالث من أدلة القولين بنحو متشابه ومن جهة واحدة. فقد قربت دلالة الروايات : بان الأثر أثبت الصلاة بما لها من المعنى المرتكز في الأذهان ، وهو لازم خاص للصحيح. وقربت صحة التقسيم بان التقسيم للصلاة بما لها من المعنى. وعليه فهما دليلان وجيهان أحدهما ينفى الآخر ، ولا مجال لنا لنفي أحدهما وتعيين الآخر فانه بلا وجه ظاهر.

لكن الّذي نستطيع ان نقوله فاصلا في المقام هو : ان أسامي العبادات عند العرف لا تفترق عن سائر أسامي المركبات وكون حالها حال غيرها ، ونحن نرى بالوجدان القاطع بان اللفظ لا يختص في المركبات العرفية بالصحيح فقط ، بل يصدق عليه وعلى الفاسد ، فيقال : بيض صحيح وفاسد ، ودار عامرة وخربة ـ صحيحة وفاسدة ـ ونحو ذلك. ولا أرى أن هذا مما يقبل الإنكار ، وحال أسامي العبادات حال أسامي المركبات الأخرى عند العرف بمعنى ان العرف لا يرى لها نحوا آخر من الصدق والوضع ، ولا يراها تفترق في الانطباق على الصحيح والفاسد عن غيرها. وهذا يثبت الوضع للأعم ، وهو غاية ما يقال في إثباته.

ويبقى في المقام شيء وهو : انه بعد ثبوت الوضع للأعم لا بد من تعيين المقدار الّذي يتقوم به معنى الصلاة ويتحقق به الصدق لوضوح وجود بعض الموارد من الفاسد لا يصدق عليه اللفظ أصلا كالإتيان بالتكبير والقراءة فقط ، فهناك مقدار يتقوم به الصدق ومعنى الصلاة ، وهو يدور في كلمات الاعلام بين ان يكون معظم الاجزاء ، وان يكون اجزاء معينة خاصة. والتزم السيد الخوئي بالثاني وان المقدار الّذي يتقوم به معنى الصلاة على الأعم هو التكبير والركوع والسجود والتسليم والطهارة.

والوجه فيه ما ذكره : من ان المرجع في تعيين قوام المسمى هو نفس

٢٧٠

المخترع للعمل المركب ، وعليه فالمرجع في تعيين قوام مسمى الصلاة هو الشارع ، وقد ورد في النصوص ما يدل على ان الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم (١). وان ثلثها ركوع وثلثها سجود وثلثها الطهارة (٢). وذلك ظاهر في ان قوام الصلاة بهذه الخمسة. هذا مجمل ما ذكره (٣).

ولكنه غير ظاهر ، ولا يمكن الالتزام به ، وذلك فان ما ذكره تمهيدا لمدعاه من كون المرجع في تعيين المسمى هو المخترع ، يمكن منعه بان المرجع انما هو الواضع سواء كان هو المخترع أو غيره ، إذ لا ملازمة بين الاختراع والوضع فقد يختلف الواضع عن المخترع.

وهذا الأمر ليس بذي أهمية ، وانما المهم ما ذكره دليلا على الدعوى من ورود النص الدال على تقوم الصلاة بهذه الخمسة ، وهو واضح المنع ، فانه من الظاهر كون الشارع ليس في مقام بيان قوام المسمى ، بل في مقام بيان قوام المأمور به. وذلك : فان الظاهر من النص ابتداء وان كان ما ذكره من أن قوام الصلاة بهذه الخمسة ، إلاّ انه بملاحظة مقام الشارع وما يتناسب معه بما انه شارع المقتضي لعدم كونه في مقام بيان المسمى ، فانه لا يرتبط به بما انه شارع ، بل كونه في مقام بيان المأمور به وأهمية هذه الاجزاء فيه وفي دخلها في الأثر المترتب عليه ، فانه هو الّذي يتناسب معه بما انه شارع ، بملاحظة هذا الأمر يكون النص ظاهرا في ان هذه الخمسة قوام المأمور به لا المسمى ولا يبقى الظهور الابتدائي للكلام.

ويؤيد هذا المطلب ، بل يدل عليه : انه لم تكن لبيان المسمى وتحديده حاجة في تلك العصور ـ أعني عصور الأئمة عليهم‌السلام ـ اما لأجل وضوح

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٦٦ باب وجوب الوضوء للصلاة حديث : ٤.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٦٦ باب وجوب الوضوء للصلاة حديث : ٨.

(٣) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ١٦٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٧١

المسمى في ذلك العرف لقربهم من زمان الشارع واطلاعهم على كيفية استعماله ، أو لعدم ترتب أثر عملي على معرفته بالنسبة إليهم من تمسك بإطلاق ونحوه ، لقربهم من الأئمة وإمكان استفسارهم عن كل شيء يشك فيه عندهم ، فلا يعقل مع هذا ان يكون الإمام عليه‌السلام في مقام بيان المسمى للسائل.

وبالجملة : لا يظهر لما ذكره السيد الخوئي وجه وجيه ، فالمتعين الالتزام بان المقوم للمسمى هو معظم الاجزاء بلا تعيين جزء خاص دون غيره ، وأما تحديد المعظم فذلك أمر مرجعه العرف وتعيينه بنظره.

ومن هذه الجهة فقط يكون الجامع المبهم المفروض لافراد الأعم مبينا ، فهو عمل مبهم من جميع الجهات إلا من جهة كونه يشتمل على معظم الاجزاء ، وبذلك لا ينطبق على الجزء الواحد أو الجزءين ونحوهما في القلة ، فلاحظ وتدبر والله ولي التوفيق ، هذا تمام الكلام في العبادات.

ويقع الكلام بعد ذلك في المعاملات.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان ألفاظ المعاملات إن قلنا بأنها موضوعة للمسببات فلا يقع النزاع أصلا في الوضع للصحيح أو للأعم ، لعدم اتصاف المسببات بالصحّة والفساد ، بل إنما تتصف بالوجود والعدم. وان قلنا بأنها موضوعة للأسباب ، فللنزاع مجال لقابلية السبب للصحة والفساد.

ثم التزم بالوضع للعقد المؤثر ـ يعني الصحيح ـ المؤثر لأثر ما شرعا أو عرفا. ثم تعرض إلى دفع ما قد يتوهم من : انه من المتسالم عليه ان الشارع ليس له اختراع خاص في باب المعاملات ، بل المعاملات عرفية عقلائية أمضاها الشارع. ومن الواضح ان العقد الصحيح المؤثر قد يختلف لدى الشارع عنه في العرف ، فعقد الصبيّ مؤثر عرفا ، ولكنه غير مؤثر شرعا. وعليه فان التزم بالوضع للأعم من الصحيح والفاسد فلا إشكال ، وان التزم بالوضع لخصوص الصحيح فيلزمه ان يختلف الموضوع له شرعا عن الموضوع له عرفا ، وهذا خلاف

٢٧٢

ما تقرر أولا من ان الشارع في باب المعاملات جرى مجرى العرف وليس له استقلال في الوضع والجعل.

وبيان ما ذكره من الدفع : هو ان اختلاف الشرع والعرف في صحة العقد لا يرجع إلى الاختلاف في أصل الموضوع له ومفهومه ، بل يرجع إلى الاختلاف في مصداق الصحيح وتخطئة الشرع العرف في اعتباره الفرد مصداقا للصحيح لمعرفته بدقائق الأمور واطلاعه الأوسع على خصوصيات الأشياء ، فمفهوم الصحيح لدى كل من الشرع والعرف واحد وهو العقد المؤثر ، لكن اختلافهما في المصداق وان أيّ العقود هو المؤثر ، فالعرف باعتبار عدم معرفته بدقائق الأمور يبني على تأثير عقد ، ولكن الشرع بما انه مطلع على الدقائق يرى عدم قابلية العقد للتأثير فيخطئ العرف في ذلك. نظير ما يفرض ان اللفظ المخصوص موضوع للدواء المسهل ، فيرى بعض الأطباء ان التركيب الخاصّ مسهل ، ولكن طبيبا آخر أوسع علما يرى عدم تأثيره في الإسهال لبعض الخصوصيات التي اطلع عليها فيه دون الطبيب الأول ، فان ذلك لا يعدو أن يكون اختلافا في المصداق ومن باب تخطئة الثاني للأول دون ان يكون اختلافا في المفهوم بل هما متفقان على وحدة المفهوم.

هذا مجمل ما ذكره في الكفاية (١) ، وقد أوضحنا الجهة الأخيرة في كلامه.

ولا بد في تحقيق الحال من الكلام في كل جهة من جهات كلامه وبيان ما لا بد ان يذكر فيها.

اما ما ذكر قدس‌سره من : عدم جريان النزاع لو التزم بوضع الألفاظ للمسببات وجريانه لو التزم بوضعها للأسباب. فتوضيحه يتوقف على بيان المراد من السبب والمسبب ، وبيان ذلك : ان في كل معاملة يحصل أمران :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٣

أحدهما : القول أو الفعل المقصود به إيجاد المعنى في وعائه المناسب له ، كالإيجاب والقبول أو إشارة الأخرس.

ثانيهما : المعنى المقصود إيجاده كالملكية الحاصلة بعقد البيع أو التمليك ـ إذ لا فرق بينهما ذاتا ، بل الاختلاف اعتباري كالاختلاف بين الإيجاد والوجود ـ.

ويصطلح على الأول ـ أعني ما يستعمل لغرض إيجاد المعنى به في عالم الاعتبار ـ سبب ، لأنه يتسبب به إلى حصول المعنى وبدونه لا يحصل. كما يصطلح على الثاني مسبب ، لأنه يحصل بالعقد وينشأ من حصوله ، فهو مسبب عن العقد لترتبه عليه كما يترتب المسبب على السبب.

وإذا عرفت المراد من المسبب وانه الملكية أو التمليك ونحوهما ، يتضح الوجه في عدم جريان النزاع لو قيل بالوضع للمسبب ، وذلك لأن جريان النزاع انما يجري في المورد القابل للاتصاف بالصحّة والفساد بان يكون له وجودان أحدهما يترتب عليه الأثر والآخر لا يترتب عليه الأثر ، إذ يقال حينئذ بان اللفظ موضوع لخصوص ما يترتب عليه الأثر أو للأعم منه ومن غيره. اما ما لا يقبل الاتصاف بهما لعدم تعدد نحو وجوده ، بل ليس له إلا نحو وجود واحد فلا مجال للنزاع فيه في الوضع للصحيح أو للأعم ، إذ هو لا يقبل الصحة والفساد بل الوجود والعدم ، وما نحن فيه كذلك ، لأن الملكية لا تتصف بالصحّة والفساد ، إذ ليس لها نحو وجود ، بل هي ان وجدت ترتبت عليها الآثار العقلائية وإلاّ فهي معدومة ، فأمرها دائر بين الوجود والعدم ، لا بين الصحة والفساد.

وهذا هو الوجه العرفي الواضح لبيان عدم جريان النزاع لو قيل بوضع اللفظ للمسبب ، فلا حاجة إلى تكلف الدقة في بيانه ، كما نهجه المحقق الأصفهاني ، وان كان ما ذكره متينا في نفسه ، فراجع حاشيته على الكفاية (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٥٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٤

واما الأسباب ، فحيث انها تقبل الاتصاف بالصحّة والفساد ، لأن لها وجودين أحدهما يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر ممن له أهلية الإنشاء شرعا. والآخر لا يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر من غير من له أهلية الإنشاء شرعا كالصبي ، فان العقد في كليهما واحد وهو له شأن التسبيب لإيجاد المعنى ، إلاّ انه فعلي التسبيب في صورة ويترتب عليه الأثر ، وليس بفعليّ التسبيب ولا يترتب عليه الأثر في صورة أخرى ، وبذلك يقال : هذا العقد صحيح وذاك فاسد.

كان للنزاع فيه مجال ، إذ يمكن ان يقال : بان اللفظ موضوع لخصوص العقد المؤثر أو للأعم منه ومن غير المؤثر كما لا يخفى. لكن قد يقال : إن إمكان جريان النزاع ثبوتا لا يصحح فعلية جريانه وتحققه إثباتا ، إذ ذلك يتوقف على فرض ترتب ثمرة عملية على النزاع ، وإلاّ لما تحقق ، لصيرورته لغوا ، والثمرة العملية منتفية ـ برأي صاحب الكفاية (١) ـ في المعاملات ، لأنه يرى إمكان التمسك بالإطلاق حتى على الصحيح ، فلا ثمرة. ففرض النزاع بمجرد القول بالوضع للأسباب ليس بوجيه بعد ان بنى على عدم الثمرة ، لأن القول بالوضع للأسباب انما يوجب قابلية المورد للنزاع ، اما فعلية النزاع فيه فهي تتوقف على ترتب ثمرة عملية عليه.

ويدفع : بان ما ذكر انما يتجه لو كان التمسك بالإطلاق في المعاملات على الصحيح من الأمور البديهية المسلمة التي لا تقبل المناقشة والخلاف ، اما لو كان من الأمور النظرية المبتنية على بعض المقدمات التي يمكن ان يقع فيها الخلاف والمناقشة ـ كما هو الحال فيما نحن فيه ، إذ لم يؤخذ إمكان التمسك بالإطلاق بنحو مسلم لا جدال فيه ولا مراء ، بل كان موضع المناقشة والفرد والبدل ـ ، فلا يتجه ما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٥

ذكر ، إذ يمكن فرض ترتب الثمرة على النزاع ولو عند بعض ، فلا بد من تعيين أحد طرفي الخلاف كي تترتب عليه الثمرة.

وبالجملة : من لا يرى جواز التمسك بالإطلاق على الصحيح يلزمه تنقيح هذه المسألة واختيار أحد طرفيها ليتوصل إلى النتيجة ، وذلك كاف في تحرير النزاع كما لا يخفى.

ثم انه هل يتصور الوضع للأسباب أو المسببات بالمعنى الّذي ذكرناه لهما ، أولا يتصور ذلك ثبوتا؟. التحقيق عدم إمكان الالتزام به.

اما السبب : فقد عرفت انه اللفظ المستعمل بقصد إيجاد المعنى في وعائه ، أو انه استعمال اللفظ بهذا القصد. ولا يخفى ان كلا من اللفظ والاستعمال ليس من المعاني الإنشائية ، بل من الأمور الواقعية التي لا تقبل الإنشاء.

وعليه : فدعوى ان البيع ـ مثلا ـ موضوع للفظ المستعمل في إيجاد المعنى في عالم الاعتبار أو للاستعمال وإنشاء المعنى باللفظ ، يردّها استعمال لفظ البيع في الإنشاء ، فيقال : « بعت » ، وذلك لا يتفق مع وضع المادة لما ذكر ، إذ قد عرفت ان معناها غير إنشائي فلا معنى لإنشائه. مضافا إلى ان معنى : « بعت » يكون بذلك : استعملت اللفظ في المعنى بقصد إيجاده ، أو نفس اللفظ المستعمل في معناه بقصد إيجاده اعتبارا ، وهو مما لا محصل له ظاهرا.

واما المسبب : فقد عرفت انه الأثر المترتب على الإنشاء الحاصل باعتبار العقلاء ، كالملكية المترتبة على البيع. ولا يخفى ان ذلك من فعل الشارع أو العقلاء ، وليس من فعل الشخص ، فوضع اللفظ له ينافيه اسناد اللفظ بما له المعنى للشخص ، فيقال : ان الشخص قد باع ، إذ لازمه ان يقال : الشارع باع ، أو العقلاء باعوا ، لأن البيع بهذا المعنى من فعلهم لا من فعل الشخص. كما انه بذلك يمتنع توجه النهي عنه إلى المكلف ، كما يفرض ذلك ، بل تفرض دلالة النهي عن المسبب على صحة المعاملة ـ كما هو رأي صاحب الكفاية تبعا لأبي

٢٧٦

حنيفة (١) ـ ، إذ ليس من أفعاله ، فلا معنى لنهيه عنه.

وبالجملة : فلا يتصور وجه معقول يتضح به جواز الوضع للسبب أو المسبب بالمعنى المشهور لهما.

وعلى كل ، وللتخلص عن الإشكال الّذي ذكرناه ينبغي ان يقال : ان الإنشاء كما عرفت عبارة عن استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى ، وقد عرفت ان صاحب الكفاية يختلف عن المشهور في ان المعنى يوجد بوجود إنشائي من قبيل الاعتباريات يكون موضوعا لوجوده في عالم الاعتبار العقلائي ـ لو كان من المعاني الاعتبارية كالملكية ـ ، بخلاف المشهور فانهم يذهبون إلى ان المعنى يوجد بالإنشاء في وعائه المناسب له وهو الاعتبار العقلائي ، ولذلك يشكل عدّ صيغ التمني ونحوها من الإنشائيات كما عرفت. فالملكية بقول الموجب : « بعت » توجد ـ على رأي صاحب الكفاية ـ بوجود إنشائي غير وجودها في وعائها المقرر لها ، ثم يترتب على ذلك الاعتبار العقلائي. وتوجد ـ على الرّأي المشهور ـ في عالم الاعتبار وهو الوعاء المناسب لها. وعلى ذلك : فالإشكال ينحل على رأي صاحب الكفاية في الإنشاء بوضوح وسهولة ، إذ يمكن دعوى ان الموضوع له هو الشيء بوجوده الإنشائي ، فانه قابل للإنشاء ويستند إلى نفس الشخص فلا محذور فيه ، كما ان هذا الوجود الإنشائي بلحاظ ترتبه على الإيجاب والقبول يسمى بالمسبب ، وبلحاظ انه موضوع للاعتبار العقلائي ويترتب عليه الاعتبار من قبل العقلاء يسمى بالسبب ، فهو بلحاظ مسبب وبلحاظ آخر سبب.

وعليه ، فلا يبقى فرق بين دعوى الوضع للمسبب والوضع للسبب في الحقيقة ، وانما الفرق في الملحوظ حال الوضع ، فمن لاحظ جهة ترتبه على العقد ادعى الوضع للمسبب لأن الموضوع له بهذا اللحاظ مسبب ، ومن لاحظ جهة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٧

ترتب الاعتبار العقلائي عليه ادعى الوضع للسبب لأنه بهذا اللحاظ سبب.

وبما ان هذا الوجود قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ قد يترتب عليه الاعتبار العقلائي فيكون صحيحا وقد لا يترتب فيكون فاسدا ، كان للنزاع مجال على كلا القولين ، القول بالوضع للسبب والقول بالوضع للمسبب ، بالمعنى المشار إليه.

ويمكن ان يقال : انه ان أريد من المسبب هو الوجود العقلائي للأثر أمكن ان يتصف بالصحّة والفساد أيضا ، إذ الأثر الشرعي ان ترتب عليه كان صحيحا وان لم يترتب عليه كان فاسدا ، فالنزاع في الوضع للصحيح أو للأعم كما يجري بناء على إرادة الوجود الإنشائي ، كذلك يجري بناء على إرادة الوجود العقلائي.

واما ما تقدم من الإشكال : بان الوجود العقلائي ليس من فعل الشخص والحال ان لفظ المعاملة يسند إلى الشخص نفسه ، فيقال : « باع زيد داره ».

فيمكن دفعه : أولا : بالنقض بإسناد الأحكام الشرعية الصرفة إلى المكلف ، كالطهارة والنجاسة والحل والحرمة ، فيقال : طهّر الثوب ونجسه وحلل الذبيحة وحرّم الأكل على نفسه ، بل وقع التكليف لحرمة تنجيس المسجد.

وثانيا : بالحل ، بأنه بعد جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المقدر الوجود تكون فعلية الحكم منوطة بوجود موضوعه ، فمن يوجد الموضوع يصح إسناد الحكم إليه ، نظير من رمى رصاصة فدفع شخص شخصا وجعله في طريق الرصاصة فأصابته ، فان القتل كما يسند إلى الرّامي يسند إلى الدافع أيضا.

هذا ولكن لا ينفع ذلك في فرض اتصاف المسبب بالصحّة والفساد.

واما على الرّأي المشهور ، فقد يشكل حل الإشكال ، باعتبار عدم تحقق وجود للمنشإ غير وجوده في وعائه ، كي يدعى الوضع له.

إلاّ انه من المسلم انه ينتزع من إنشاء المنشئ وجود إنشائي للمنشإ غير

٢٧٨

وجوده الاعتباري ، بل هو الّذي يكون موضوعا للاعتبار ، فان من المسلم انه يتحقق بقول البائع : « بعت أو ملكت » تمليك إنشائي غير التمليك الاعتباري ، وهو يسند إلى نفس الشخص ، فيقال : ملكه إنشاء ونحوه.

وعليه ، فيمكن ان يدعى كون اللفظ موضوعا بإزائه ، وهو ـ أيضا ـ بلحاظ ترتبه على الإنشاء مسبب وبلحاظ ترتب الاعتبار عليه سبب ، وإلى اختلاف اللحاظ يرجع الاختلاف في الوضع للسبب والمسبب لا إلى اختلاف واقع الموضوع له وحقيقته ، ولا يرد على الالتزام بذلك أي محذور مما تقدم ، فانه قابل للإنشاء ومن فعل الشخص نفسه ، ولذلك يسند إليه ، فيمكن الوضع له.

وبالجملة : الموضوع له هو المعنى الإنشائي ، فلفظ البيع موضوع للتمليك الإنشائي لا للعقد ولا للتمليك الاعتباري ، وهو قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ قد لا يترتب عليه الأثر العقلائي ، فللنزاع مجال حينئذ على كلا القولين أيضا.

وبما ذكرنا ينحل الإشكال ويتجه الالتزام بالوضع للسبب وللمسبب بالمعنى الّذي ذكرناه أخيرا لهما ، ولا نعرف وجها آخر لحل الإشكال ولا طريقا يلتزم به بلا ورود محذور.

هذا بناء على تفسير الإنشاء بما عرفت. واما بناء على تفسيره بالاعتبار الشخصي القائم بالنفس وإبرازه باللفظ ، وانه متقوم بهذين الأمرين : الاعتبار النفسانيّ ، والمبرز. وانه ليس هناك شيء آخر وراء هذين الأمرين ، فلا يبقى موضوع للإشكال وحلّه ، إذ لا سبب ولا مسبب في البين ، إذ ليس هناك إلاّ ما عرفت من الاعتبار النفسانيّ واللفظ المبرز ، فليس أحدهما سببا للآخر ، إذ وظيفة اللفظ ليس إلاّ الإبراز والكشف ، والاعتبار حاصل بأسبابه التكوينية لأنه فعل الشخص ولا يترتب على اللفظ ، فلا يكون مسببا عنه ولا اللفظ سببا له ، فلا مجال بعد هذا لدعوى كون الموضوع له هو السبب أو المسبب.

٢٧٩

وللمحقق النائيني قدس‌سره كلام حول سببية العقد للأثر لا يخلو عن ارتباك كما سيتضح ، فانه جرى أولا مجرى المشهور من دعوى كون العقد سببا والأثر مسببا. ثم ادعى ان التحقيق خلاف ذلك ، وان نسبة العقد إلى المعاملة والأثر نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب التوليدي إلى المسبب ، ولذلك فهما موجودان بوجود واحد ، وليس هناك موجودان خارجيان هما السببية والمسببية. وعليه بنى كون إمضاء ـ المعاملة ـ المسببات على الرّأي المشهور إمضاء للأسباب ـ للعقد ـ.

ثم ذكر بعد ذلك ان الفرق بين العقد والمعاملة كالفرق بين المصدر واسم المصدر ، وان العقد بمنزلة المصدر والمعاملة بمنزلة اسم المصدر.

والّذي يظهر منه هو إطلاق السبب على نفس العقد. غاية الأمر أن الاختلاف في كونه سببا أو آلة.

وقد قرب قدس‌سره كون نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذيها لا السبب إلى المسبب ، بان المسبب التوليدي ما كان يترتب على سببه بمجرد وجوده بلا توسط أي إرادة له ، بل ترتبه قهري ، ولذلك لم يكن بنفسه متعلقا للإرادة بل الإرادة تتعلق به بتبع تعلقها بالسبب ، وذلك نظير الإحراق بالنسبة إلى الإلقاء ، فانه يترتب قهرا على الإلقاء أريد أم لم يرد ، بخلاف ذي الآلة فانه اختياري بنفسه وبالمباشرة فلا يترتب على تحقق الآلة قهرا ، بل تتعلق به الإرادة بنفسه ، نظير الكتابة بالنسبة إلى القلم والقطع بالنسبة إلى السكين ، فان آلة الكتابة القلم وآلة القطع السكين وهما ـ أعني الكتابة والقطع ـ من الأمور الاختيارية بنفسها والتي تتعلق بها الإرادة مباشرة ، فلا تترتب على وجود القلم والسكين قهرا ـ كما لا يخفى ـ. ومن ذلك العقود والإيقاعات ، فان البيع والأثر من الأمور الاختيارية ، التي يتعلق بها الاختيار بنفسها ولا تتحقق بمجرد تحقق العقد ما لم تتعلق به الإرادة كما لا يخفى. فلا تكون النسبة بينهما نسبة السبب

٢٨٠