آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الحبالة فانقطع منه شيء فهو ميتة». وعن الكاهلي قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وأنا عنده عن قطع أليات الغنم؟ فقال عليهالسلام : لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال عليهالسلام : إن في كتاب علي عليهالسلام إن ما قطع منها ميت ، لا ينتفع به». وعنه عليهالسلام أيضا «في أليات الضأن فقطع وهي أحياء ، أنها ميتة». وعن الحسن ابن علي : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام فقلت جعلت فداك : إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها ، قال عليهالسلام : هي حرام. قلت : نستصبح بها؟ قال عليهالسلام : أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام». وعن البزنطي عنه عليهالسلام أيضا : «الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء ، أيصلح أن ينتفع بما قطع؟ قال عليهالسلام : نعم ، يذيبها ويسرج بها ، ولا يأكلها ، ولا يبيعها».
وفيه : أن أهم آثار الميتة إنما هو حرمة الأكل ، فالتنزيل من هذه الجهة مسلّم. وأما من حيث النجاسة فهي مشكوك فيها ، يرجع فيها إلى الأصل. وأما قوله عليهالسلام : «أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام» ، فلا بد من حمله على بعض المحامل ، لأن تنجيس اليد والثوب ليس بحرام قطعا ، ويحتمل الحرمة الغيرية بالنسبة إلى الصلاة وهي تكون بالنسبة إلى غير المذكى أيضا ، لقوله عليهالسلام : «فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره ، وبوله ، وشعره ، وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز ، إذا علمت أنه ذكي ، وقد ذكاه». وفي خبر الصيقل : «كتبت إلى الرضا عليهالسلام : أنه أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة تصيب ثيابي فأصلي فيها ، فكتب عليهالسلام إليّ : اتخذ ثوبا لصلاتك». واستفادة النجاسة من هذه الرواية أيضا مشكلة لاحتمال تلطخ الثوب بأجزاء الميتة ، فلا تصح فيه الصلاة من هذه الجهة مع أن ثبوت النجاسة فيها لا تلازم نجاسة غير المذكى إلا بالدليل ، وقد مرّ ما فيه.
وما أبعد ما بين ما نسب إلى المشهور من نجاسة غير المذكى لأنه كالميتة ، وما يظهر من صاحب المدارك من عدم دليل على نجاسة الميتة أصلا فضلا عما
يكون نازلا منزلتها.
الثاني : أن الحيوان بالنسبة إلى التذكية وعدمها على أقسام ..
فتارة : يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أصلا ، لا بالنسبة إلى الطهارة ولا الحلية ، فهو نجس وحرام مطلقا ذكّي أو لم يذكّ ، كالكلب والخنزير.
واخرى : يكون مما لا أثر للتذكية بالنسبة إليه أيضا من حيث الطهارة والحرمة ، كالحشرات فإنها طاهرة في حال الحياة والموت والتذكية ، وحرام كذلك أيضا.
وثالثة : مما يكون الأثر بالنسبة إلى الطهارة فقط دون الحلية ، كالسباع فإنها إن ماتت حتف الأنف تكون حراما ونجسة ، وإن ذكيت تكون حراما وطاهرة.
ورابعة : ما يكون لها الأثر بالنسبة إلى كل من الطهارة والحلية ، كالأنعام الثلاثة مثلا ، حيث أنها بالموت تتنجس وتحرم ، وبالتذكية تكون حلالا وطاهرة.
إذا تبين هذا نقول : إن الشك في التذكية.
تارة : في الشبهة الحكمية ، أي الحكم الكلي لنوع حيوان خاص ، كما إذا لم يعلم مثلا أن الحيوان المتولد بين الحيوانين الذي لا يتبعهما في الاسم والصفة قابل لها أو لا.
واخرى : في الشبهة الموضوعية الخارجية.
أما الاولى فلا وجه لأصالة عدم التذكية فيها أصلا ، لما عن صاحب الحدائق الإجماع على أن كل حيوان يقبل التذكية إلا ما خرج بالدليل ، وعن صاحب الجواهر : «مؤيدا بما يفهم من مجموع النصوص المتقدمة في لباس المصلي من قبول التذكية لكل حيوان طاهر العين حال الحياة ، وإن لم يكن مأكول اللحم ، ولكن لا يصلي فيه عدا ما استثني». وفي صحيح ابن يقطين : «سألت أبا الحسن عليهالسلام : عن لباس الفراء ، والسمور ، والفنك ، والثعالب وجميع الجلود؟ قال عليهالسلام : لا بأس». فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية فيها مع مثل هذه
الإطلاقات ، ودعوى الإجماع ، مع أنها من العرفيات التي يكفي فيها عدم الردع. مع أن عدم التذكية فيها إما لأجل توهم حرمتها النفسية ، أو لأجل الحرمة الغيرية ، كالاستعمال في ما يعتبر فيه الطهارة ، وقد مرّ أن الشك في الحرمة مطلقا من مجاري البراءة ، نفسية كانت أو غيرية ، فراجع.
وأما الثانية فخلاصة القول فيه ، أن التذكية إما عبارة عما يقوم بالمذكي (بالكسر) من التسمية والاستقبال ، وفري الأوداج ونحوها مع قابلية المحل ، وبعبارة اخرى تكون مركبة من امور خاصة. أو تكون بسيطة ومن التوليديات الحاصلة من هذه الامور ، نظير الطهارة التي يمكن أن تكون عبارة عن الغسلات والمسحات ، فتكون مركبة. أو الحالة النفسانية الحاصلة منها ، فتكون بسيطة. ولا ريب في أن الشك في حصول التوليديات إنما يكون من ناحية الشك في أسبابها ، وسيأتي أن الأصل الجاري في السبب يغني عن جريانه في المسبب ولو كان توليديا ، لمكان اتحاد التوليديات مع أسبابها عرفا يصح كونها مجرى الأصل ، بل يصح انتساب الأصل الجاري في أسبابها إليها أيضا ، فلا ثمرة عملية بل ولا علمية في تنقيح أنها مركبة أو بسيطة.
وحينئذ فنقول : إن كان الشك في ما عدا قابلية المحل من سائر الشرائط فلا ريب في كونها مسبوقة بالعدم ، فتجري أصالة عدم تحقق الشرط مع عدم وجود أمارة على الخلاف من يد مسلم أو سوقه أو أرضه أو نحوها ، فيثبت عدم التذكية الذي هو عبارة اخرى عن الميتة شرعا ، لكونهما متحدين في اصطلاح الشرع ، كما نسب إلى المشهور ، فتثبت النجاسة والحرمة ، وأما بناء على صحة التفكيك بينهما كما مرّ ، فتثبت حرمة الأكل دون النجاسة.
وإن كان الشك في قابلية المحل وعدمها ، فالأصل الجاري حينئذ منحصر بالأصل الجاري في العدم الأزلي ، ومفاد ليس التامة ، لأن كل حيوان حين تكوّنه إما أن يتكوّن قابلا لها أو غير قابل ، وهذه القابلية أو عدمها كلوازم الذات غير
المنفكة عنه ، فلا يتصور فيها جريان أصالة العدم بالعدم النعتي العارض على الموضوع ، بل ما هو المتصور منها إنما هو (أصالة عدم تحقق القابلية للتذكية) بالعدم الأزلي السابق على كل حادث ، لأن القابلية أيضا حادث من الحوادث مسبوق بالعدم الأزلي ، فيجري الأصل فيه حينئذ كجريانه في جميع الحوادث المسبوقة بالعدم ، سواء كانت من الذوات أو من لوازمها.
إن قلت : نعم ، ولكن المستصحب هو كلي عدم تحقق قابلية التذكية ، والمطلوب هو إثبات عدم قابلية هذا الموضوع الخارجي لها ، فيصير الاستصحاب مثبتا بالنسبة إليه.
قلت : هذا الإشكال جار في جميع استصحابات الأعدام الأزلية ، ولا اختصاص له بخصوص المورد ، والجواب أن الكلي والحصة متحدان مع الفرد الخارجي وإن كان بينهما فرق اعتباري عقلي ، فلا يكون الأصل مثبتا ، فهو كاستصحاب عدم العام لإثبات عدم الخاص المتحد معه.
هذا ، ولكن الاستصحاب في الأعدام الأزلية بعيد عن الأذهان العرفية المنزلة عليها الأدلة ، مع أنه معارض باستصحاب عدم الخصوصية المقتضية للحرمة ، وبعد المعارضة والسقوط تصل النوبة إلى الأصل الحكمي الذي هو أصالة الحلية والطهارة ، فيكون حلالا وطاهرا ، والتفكيك بينهما بالحرمة والطهارة بدعوى : أن المحللات محصورة وليس المورد منها ، فيكون حراما.
مردود : بدعوى العكس ، فيحل حينئذ لا محالة.
وكذا دعوى أن الحلية تعلقت بأمر وجودي وهو الطيبات ، فلا بد من إحراز الطيبية ، وإلا فتشمله أدلة الخبائث فيكون حراما.
مردودة : أيضا بالنقض بأن الحرمة تعلّقت بالأمر الوجودي الذي هو الخبائث ، فلا بد من إحرازه ، وإلا فيكون حراما ، مع أنه يمكن منع كون الطيب أمرا وجوديا ، بل هو عدمي أي ما لا يستقذره الطبع ، فراجع المطولات.
والحق أن يقال : إنه لا وجه لجريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك في القابلية وعدمها ، لأن عدم القابلية لها مما لا يعلم إلا من طريق الوحي وينحصر العلم بها فيه ، فلو كان حيوان حراما واقعا ، وكانت فيه خصوصية الحرمة ، وجب على الشارع بيانها لانحصار طريق معرفتها ببيانه ، فعدم البيان في مثله يكفي في الحلية مع أن عمومات الحلية بيان ، مضافا إلى أن لنا أن نقلب الأصل ، ونقول مقتضى سهولة الشريعة المقدسة ، وإطلاقات الحلية ، أن الحرمة تتقوّم بخصوصية خاصة ، ومع الشك في تلك الخصوصية يجري الأصل الأزلي في عدمها ، فالحلية مرسلة مطلقة ، والحرمة مقيدة بالخصوصية.
وبالجملة : مقتضى عمومات الحلية وقاعدتها حلية كل حيوان ، وكذا مقتضى حصر ما لا تقع عليه التذكية في ما نص عليه بالخصوص ، ووقوع التذكية على كل حيوان إلا ما خرج بالدليل ، فلا موضوع لأصالة عدم التذكية من هذه الجهة.
نعم ، تجري في مثل الشك في الاستقبال ، والتسمية ما لم تكن أمارة على الخلاف.
ويشهد لذلك الأخبار التي يستفاد منها أصالة عدم التذكية ، فإن جلّها واردة في الشبهات الموضوعية ، ففي خبر أبي بصير : «فلما مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لا يعرفون له صاحبا فاشترك جميعا في الصيد ، فقال عليهالسلام : لا يؤكل ، لأنك لا تدري أخذه معلم أو لا». وفي خبر آخر : «فإن يتردى في جب ، أو وهدة من الأرض ، فلا تأكله ولا تطعمه ، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في الشبهات الموضوعية.
التنبيه الثاني : لا ريب في حسن الاحتياط غير المخلّ بالنظام نصا وإجماعا ، بل باتفاق العقلاء ، ولا إشكال فيه في التوصليات. بل يترتب عليه الثواب أيضا إن كان بعنوان الرجاء ، وكذا في العباديات مع دوران الأمر فيها بين الوجوب
والندب ، لثبوت الأمر الذي يتقوّم به العبادية ، فيتحقق موضوع حسن الاحتياط حينئذ.
وأما مع دوران الأمر بين الوجوب وغير الندب أو الندب وغير الوجوب ، فقد اشكل في جريانه فيها بعدم إحراز الأمر حينئذ ، والمفروض أن العبادية متقوّمة بذلك ، ومع عدم تحقق العبادية لا يتحقق موضوع حسن الاحتياط أيضا ، لأنه عبارة عن إتيان المتعلق بجميع ما اعتبر فيه جزء وشرطا بعنوان الاحتياط.
واجيب عن هذا الإشكال بوجوه :
منها : ما عن المحقق الأنصاري قدسسره من إنكار الاحتياط فيها رأسا ، فقال : (وفي جريان ذلك في العباديات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان : أقواهما العدم).
ويرد عليه : أنه مخالف مع ما في رسائله العملية وكتبه الاستدلالية الفقهية ، كما لا يخفى على من راجعها.
ومنها : أن من حسن الاحتياط عقلا يستكشف الأمر بقاعدة الملازمة شرعا.
وفيه .. أولا : أن الحسن يتعلّق بذات الاحتياط من حيث هو ، والأمر الذي يراد إثباته إنما هو بالنسبة إلى متعلّقه لا ذاته ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.
وثانيا : أن مورد قاعدة الملازمة هو الحسن الذاتي الذي يكون وصفا بحال الذات ، وحسن الاحتياط طريقي محض لا ذاتية فيه بوجه ، فلا وجه لأن يكون مورد قاعدة الملازمة.
ومنها : أن من ترتب الثواب يستكشف الأمر ، لكون الثواب معلولا للامتثال وهو معلول الأمر.
وفيه : أن ترتب الثواب أعمّ من امتثال الأمر ، كما مرّ في بعض المباحث السابقة ، مع أن الكلام في أصل ثبوت الأمر واقعا لا في طريق استكشافه في
الظاهر ، وحينئذ فمعلول الشيء لا يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته ، لأنه دور باطل.
ومنها : أن نفس الأوامر التي وردت في الاحتياط تكفي للداعوية ، فيقصد نفس الأمر الاحتياطي.
وفيه .. أولا : أنها ليست عبادية ، فمن أين يحصل الأمر العبادي في المتعلق.
وثانيا : أنها طريقية محضة ، لا بد وأن يكون الأمر العبادي ثابتا في المتعلق قبل عروض الأمر الاحتياطي حتى يتحقق الاحتياط في العبادة ، فهذا الوجه كالوجه الأول مغالطة بين نفس الاحتياط والعمل المحتاط فيه.
ومنها غير ذلك مما ذكر في المطولات مع ما فيه من ظهور الخدشة.
والحق أن يقال : إن كيفية الامتثال موكولة إلى العقلاء ، وهي لديهم إما علمية تفصيلية ، أو إجمالية ، أو احتمالية رجائية ، والامتثال برجاء المطلوبية نحو من الامتثال لديهم ، ولم يردع عنه الشارع بل قرره بالترغيب إلى الاحتياط. فكما أن الامتثال في موارد إحراز الأمر بالأمارات أو الاصول المعتبرة صحيح شرعا ، فكذا في موارد رجاء الأمر ، بل يكون الانقياد فيها أشد ، كما لا يخفى.
وقد يتمسك لإثبات الأمر في المقام بأخبار «من بلغ».
بدعوى : أن مفادها تحقق الأمر الشرعي في مورد احتمال ثبوت الأمر ، وقد يعبر عن ذلك ب «قاعدة التسامح في أدلة السنن».
والبحث فيها من جهات :
الجهة الاولى : في الأخبار الدالة على القاعدة ، منها قول أبي عبد الله عليهالسلام : «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به ، كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقله». وعنه عليهالسلام أيضا : «من بلغه عن النبي صلىاللهعليهوآله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقله». وعنه عليهالسلام : «من بلغه عن النبي صلىاللهعليهوآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلىاللهعليهوآله كان ذلك له
وإن كان النبي صلىاللهعليهوآله لم يقله». وعنه عليهالسلام أيضا : «من سمع شيئا من الثواب ، فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه». وعن أبي جعفر عليهالسلام : «من بلغه ثواب من الله تعالى على عمل ففعل ذلك العمل التماس ذلك الثواب ، أوتيه وإن لم يكن الحديث ، كما بلغه». ويقتضي ذلك في الجملة ما ورد في أخبار كثيرة «إن الله تعالى عند ظن عبده المؤمن» ، وعموم قوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً). وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) ، وقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن يمكن المناقشة فيها بأنها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأن المراد من «أحسن عملا» ، و «ثواب الآخرة» وعمل الخير ما ثبت الأمر به شرعا ، لا ما لم يحرز الأمر به بعد.
ولكنها مدفوعة بأن المراد ما صدق عليه الخير والثواب عرفا ، فلا يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية.
وكيف كان ، فإن أخبار المقام تحتمل وجوها :
الأول : أنها في مقام بيان الأخبار عن تفضل الله تعالى ، وأنه غير متوقف على شيء غير البلوغ إلى العباد ، فلا يتوقف على قصد الأمر ولا على غيره ، بل المناط فيه إتيان العمل الذي وعد فيه الثواب ، فتكون مثل الأخبار التي يستفاد منها عدم توقف الثواب على قصد الأمر.
وأورد عليه : أن توقف الثواب على إضافة العمل إلى الله تعالى غالبا من القرائن الحالية التي تمنع عن التمسك بهذا الإطلاق ، مع أن في بعض ما مرّ من الأخبار قرينة لفظية على لزوم الإضافة إلى الشارع ، وهو قوله عليهالسلام : «ففعل ذلك طلب قول النبي صلىاللهعليهوآله» ، وقوله عليهالسلام : «التماس ذلك الثواب».
وهو مدفوع .. أولا : بأنه أول الدعوى.
وثانيا : بأن الإتيان لأجل تفضّل الله تعالى عليه نحو إضافة إلى الله تعالى ، ولا نحتاج في ترتب الثواب أزيد من هذه الإضافة لو قلنا باعتبار الإضافة إلى الله
في ترتب الثواب.
الثاني : أنها في مقام بيان أن كمية الثواب وكيفيته بأي نحو بلغ إلى العبد ، يؤتى تلك الكمية والكيفية وإن لم تكن صادرة واقعا عن النبي صلىاللهعليهوآله ، فعلى هذا يعتبر أن يكون المتعلّق أمرا عباديا بدليل معتبر شرعي.
نعم ، كمية الثواب وكيفيته يتسامح فيهما.
وفيه : أنه خلاف ظاهر تلك الأخبار ، حيث أنها في مقام بيان بلوغ أصل الثواب على نحو الطبيعة المهملة الصادقة على الذات والكمية.
الثالث : أن هذه الأخبار من الجملة الخبرية الواقعة موقع الإنشاء ، فيكون معنى (فعمل به) أي فليعمله.
ويرد عليه : أنه خلاف المنساق منها عرفا.
الرابع : أن يكون في مقام بيان أن نفس البلوغ من حيث هو بلوغ موجب لحدوث الملاك والأمر ، وتكون هذه الأخبار حاكمة على ما يدل على اعتبار الوثوق في الصدور ، فيعتبر الوثوق بالصدور في الروايات إلا في الروايات الدالة على السنن. وهذا الوجه قريب من فضل الله تعالى ، ومناسب لمذاق الشرع ، ولكنه بعيد عن صناعة الاستدلال ، كما لا يخفى.
وعلى أي حال فاستفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل جدا.
نعم ، يصح ذلك إن كان برجاء الثواب والتماسه ، كما وقع التصريح به فيها. فما نسب إلى المشهور من إطلاق الفتوى بالاستحباب في موردها من غير تقييد بالإتيان برجاء المطلوبية ، لعله منزّل على مرتكزات نوع المتشرعة من أنهم يأتون بمعلوم الأمر برجاء الثواب ، فكيف بمحتمل الأمر.
الجهة الثانية : على فرض استفادة الاستحباب منها ـ إما مطلقا ، أو في ما إذا كان لأجل درك الثواب ـ هل تترتب عليه جميع آثار المطلوب الشرعي مطلقا أو لا؟ وجهان ، بل قولان : أحوطهما الثاني ، لعدم ورود الأدلة في مقام البيان من هذه الجهة ، فلو دلّ خبر ضعيف على غسل المسترسل من اللحية ، وقلنا
باستحبابه ، فالمتيقن ترتب الثواب عليه ، وأما أنه لو جفت بلة يده ولم يتمكن من المسح بها ، ففي جواز أخذها من محل الاسترسال والمسح بها إشكال ، لقصور الأدلة عن إثبات غير الثواب.
الجهة الثالثة : قد جرت سيرة العلماء على التسامح في المندوبات التوصلية ، وفي أدلة المكروهات ، والفضائل ، والمعاجز ، والأخلاقيات ، وما ورد لدفع الأوجاع والأمراض ، وما ورد لقضاء الحوائج من الصلوات والدعوات وغيرها ، وما ورد في الامور التي لها آثار وضعية دنيوية. مع أن أدلة المقام مشتملة على الثواب ـ كما مرّ ـ ولا يبعد أن يكون الوجه في ذلك أنهم قدس سرّهم حملوا الثواب على مجرد المثالية ، وأنه ذكر من باب الغالب والترغيب لا الخصوصية ، فيكون المعنى : أن من بلغه شيء عن النبي صلىاللهعليهوآله في غير الواجب والحرام ، يترتب أثر ذلك الشيء عليه وإن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقله ؛ ويمكن أن يكون مدرك التسامح في غير الثواب الإجماع على التسامح فيه أيضا. ويمكن الاستدلال على التسامح في ذلك كله بقولهم عليهمالسلام في جملة من الأخبار : «الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث ما وجد أحدكم ضالته فليأخذها» ، إذ لا ريب في أن ذلك كله فيه من الحكمة ، وقد فسّرت بكل ما فيه خير وصلاح. فتأمل.
وكيف كان ، فهل تشمل قاعدة التسامح فتوى المشهور أو الفقيه الواحد باستحباب شيء مع عدم ذكر المدرك؟ وجهان ، بل قولان : من أنه لم ينسب إلى السنة أولا وبالذات فلا تشمل ، ومن انتهائهما إليها فتشمل ، ومقتضى التسامح في المندوبات هو الثاني.
التنبيه الثالث : قد مرّ الاتفاق على البراءة في الشبهات الوجوبية ، بلا فرق فيها بين العيني والكفائي وغيرهما من أقسام الوجوب ، لكن مع احتمال الإباحة أيضا ، وأما لو علم بالوجوب وتردد بين كونه تعيينيا أو تخييريا ، فهذه هي المسألة المعروفة في الفقه والاصول بدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والمشهور فيها هو الأول ، لكنه من موارد قاعدة الاشتغال ، ولما مرّ في مباحث
الألفاظ من أن مقتضى الإطلاق كون الوجوب عينيا تعيينيا نفسيا إلا إذا دلّ دليل على الخلاف ، فيطابق الأصل اللفظي والعملي على التعيينية.
وكذا الكلام بعينه في ما إذا علم بالوجوب وتردد بين كونه عينيا أو كفائيا ، هذا خلاصة ما قالوه في الأخذ بالوجوب التعييني عند الدوران بينه وبين التخييري ، ونسب ذلك إلى المشهور.
ويرد عليه : أن خصوصية التعيينية والعينية قيد زائد مشكوك فيه ، فيرجع فيه إلى البراءة ، كما في سائر القيود الزائدة المشكوكة فيها فالمقام من مجاري البراءة لا الاشتغال ، لعدم العلم بأصل التكليف بحدوده وقيوده ، وعدم تمحض الشك في الشك في الامتثال فقط.
نعم ، لو اكتفينا في وجوب الاحتياط بمجرد العلم بجنس التكليف من دون أن يعلم نوعه ، لوجب الاحتياط في المقام. ولكنه ممنوع ، بل التكليف المنجز ما إذا علم نوع التكليف بحسب الطرق والأمارات والاصول المعتبرة من جهة النوع.
وعن بعض مشايخنا قدس سرّهم عدم صحة البراءة هنا ، وخلاصة كلامه قدسسره : أنه يعتبر في مجرى البراءة أن يكون من الامور الوجودية لا العدمية ، والمقام من الأخيرة دون الاولى ، لأن التعيينية عبارة عن عدم العدل والبدل للواجب ، وذلك عدمي ، كما هو واضح ، ولا يتعلّق الجعل الشرعي بالعدم والعدمي.
وفيه .. أولا : أنه مخالف للعمومات والإطلاقات الواردة بالنسبة إلى البراءة والتوسعة والتسهيل مهما وجد للشارع إليه سبيل ، وهذه كلها تشمل الوجودي والعدمي مطلقا.
وثانيا : أنه منقوض بالاستصحاب والاصول العدمية المقررة شرعا ، سواء كانت تأسيسية أو إمضائية.
وثالثا : أن هذه كلها من إعدام الملكات ولها حظ من الوجود ، كما ثبت في محله.
ورابعا : أنه لا وجه لكون مورد البراءة في المقام عدميا ، بل هو عبارة عن خصوصية خاصة في الواجب التعييني تقتضي إتيانه بذاته فقط. كما أن التمسك لتعيين التعييني ، بما مرّ في مباحث الألفاظ أن إطلاق الوجوب يقتضي كونه عينيا نفسيا تعيينيا باطل ، لأنه في مقام الإثبات ، وما نحن فيه في مقام الثبوت ، فلا وجه للخلط بينهما.
ثم إن الواجب التخييري ..
تارة : في ظاهر الخطاب الشرعي ، كخصال الكفارات مثلا.
واخرى : عقلي ، كما في المتزاحمين المتساويين خطابا وملاكا.
وثالثة : التخيير في المسألة الاصولية ـ أي التخيير في أخذ الحجة ـ والرجوع إلى البراءة إنما يصح في القسم الأول فقط. وأما الأخيرين فاحتمال التعيين في أحدهما مرجح يتعين الأخذ به ، فلا وجه للبراءة حينئذ.
فتلخّص من جميع ما مرّ : تعين الرجوع إلى البراءة في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وهي أربعة :
الأول : الشك في أصل تشريع الوجوب ابتداء ، ثم الشك في أنه على فرض الثبوت تعييني أو تخييري ، فيكون في البين شكان طوليان ، ويرجع فيهما إلى البراءة عند الكل.
الثاني : العلم بأصل الوجوب ، والشك في أن هذا بالخصوص تعييني ، أو أنه أحد فردي الواجب التخييري ، وقد أثبتنا فيه الرجوع إلى البراءة أيضا.
الثالث : العلم بوجوب كل واحد من الطرفين ، والشك في أن هذا الوجوب من كل منهما تعييني أو تخييري ، والمرجع فيه البراءة أيضا ، لعين ما تقدم في سابقه.
الرابع : العلم بوجوب شيء والعمل بأن الشيء الآخر مسقط عنه ، سواء كان مباحا أو مندوبا ، والشك في أنه واجب تعييني أو لا ، والمرجع فيه البراءة أيضا ، لعين ما تقدم.
ومن ذلك يظهر الأمر في ما دار الأمر بين الواجب العيني والكفائي ، فإنه يجب الإتيان به سواء كان في الواقع عينيا أو كفائيا ، لوجوب قيام الكل بالإتيان بالواجب الكفائي ، ولكن لو أتى به أحد يشك في تعلّق الوجوب بالنسبة إليه للشك في العينية ، فيرجع فيه إلى البراءة.
ولكن مع ذلك كله ، فالأحوط ما هو المشهور ، لاحتمال كون العلم بجنس التكليف مع إمكان الاحتياط منجزا ، وإن لم يمكن إثباته بالدليل كما عرفت.
التنبيه الرابع : لا ريب في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ـ وجوبية كانت أو تحريمية بجميع أقسامهما ـ لعدم كفاية مجرد العلم بالتكليف فقط في تنجزه وصحة المؤاخذة عليه ، بل لا بد مع ذلك من إحراز متعلّقه وموضوعه. لأن إحرازهما من حدود إحراز الحكم وقيوده ، ومع عدم إحراز ذلك يجري دليل البراءة عقليا كان أو نقليا ـ كما مرّ ـ سواء كان تعلّق الحكم بالموضوع على نحو العام السرياني الانحلالي ، أو على نحو صرف الوجود ، أو على نحو العام المجموعي من حيث المجموع. ففي الشبهات الموضوعية في جميع ذلك يرجع إلى البراءة.
وتوهم : أنه لا مجرى لها في الأخير لمعلومية التكليف فيه بحدوده وقيوده ، فيكون من مورد الاشتغال لا البراءة.
مردود .. أولا : بأن المجموع ليس إلّا الأفراد ولا تحقق له في غيرها ، والشك في بعضها شك في أصل التكليف بالنسبة إليه ، ويكون من موارد الأقل والأكثر ، فتجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر لوجود المقتضي وفقد المانع.
وثانيا : بأنه ليس في الشرعيات تكليف يكون كذلك بالنسبة إلى الأفراد ، فيكون من مجرد الفرض.
نعم ، يصح ذلك بالنسبة إلى أجزاء المركب الذي تعلّق به التكليف ، زمانا كانت تلك الأجزاء ـ كما في الصوم ـ أو غيره ـ كما في الصلاة مثلا ـ فإن صحة الصوم متوقفة على الإمساك في جميع أجزاء الزمان الصومي من حيث
المجموع ، فلو تخلّف في جزء من أوله ، أو وسطه ، أو آخره بطل الصوم. كما تتوقف صحة الصلاة على تحقق سائر شرائطها من أولها إلى آخرها ، فلو تخلّف بعضها في جزء من أجزائها بطلت ، وهكذا في جميع المركبات التي تعتبر فيها شروط خاصة ، ولكن ذلك كله ليس من العام المجموعي بالنسبة إلى الأفراد ، كما لا يخفى.
والحاصل أن مقتضى القاعدة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وجوبية كانت أو غيرها ، ففي الدّين أو الفائتة المرددة بين الأقل والأكثر ، تجري البراءة عن الأكثر ، لكونه من الشك في أصل التكليف ، ولكن نسب إلى المشهور الاحتياط في خصوص الفائتة المرددة بين الأقل والأكثر مع ذهابهم إلى البراءة في نظائرها ، فإن كان ذلك لأجل القاعدة فهي تدلّ على البراءة ، كما مرّ. مع أن مقتضى قاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت عدم الوجوب أيضا ، واستصحاب عدم الإتيان محكوم بقاعدة عدم الاعتناء بالشك بعد الوقت ، كما هو معلوم. وإن كان لأجل نص خاص بها فهو مفقود ، كما اعترف به جمع ، وإن كان لأجل أن كثرة اهتمام الشارع بالصلاة تقتضي ذلك فهو لا يقتضي إيجاب الاحتياط. وإن اقتضى حسنه واستحبابه ، كما لا وجه للتفرقة فيه بما عن بعض من أنه إن علم عدد الفوائت ثم عرض النسيان ، وتردد بين الأقل والأكثر ، وجب الاحتياط بإتيان الأكثر. وإن كان التردد من أول الأمر بلا سبق العلم فلا يجب ، وذلك لأن المسألة من صغريات الشك في أصل التكليف على كل تقدير ، كما لا يخفى. هذا كله لباب القول في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، ودورانه بين الوجوب وغير الحرمة. وأما دوران الأمر بين الحرمة والوجوب ـ المعبر عنه بدوران الأمر بين المحذورين ـ فالكلام فيه يأتي في الفصل الآتي.
الفصل الثالث
أصالة التخيير
والبحث فيها من جهات :
الجهة الاولى : في بيان موضوعها : تقدم أن المشكوك إما أن يلحظ فيه الحالة السابقة ، فيكون مجرى الاستصحاب. أو لا يلحظ ذلك ، وحينئذ فإن لم يعلم التكليف أصلا. ولو بجنسه ـ فهو مجرى البراءة ، وإن علم به وأمكن الاحتياط ، فيكون مورد الاشتغال ، وإن لم يمكن ذلك فيكون مجرى التخيير. فمورد التخيير المبحوث عنه في المقام متقوّم بأمرين : العلم بجنس التكليف ، أي : الالزام في الجملة فعلا أو تركا ، وعدم إمكان الاحتياط رأسا.
الجهة الثانية : أقسام التخيير ومجرى كل واحد منها في التوصليات والتعبديات الجهة الثانية : أن العلم بجنس التكليف إما في التوصليات أو في غيرها. أما الأول ، كما إذا علم بأن السكوت في آن واحد إما واجب أو حرام عليه ، فليس فيه إلا التخيير الفطري التكويني ، لأنه بحسب إرادته الارتكازية إما فاعل أو تارك ، ولا يجري فيه التخيير العقلي ، لأنه فيما إذا كان في البين خطابان فعليان تاما الملاك من كل جهة ولفقد الترجيح ، وعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما يحكم العقل حينئذ بالتخيير ، أو كان خطاب واحد فعلي معلوم بنوعه وله أفراد متساوية من كل جهة ، فالعقل حينئذ يحكم بالتخيير بين الأفراد ، والمفروض أنه ليس في المقام إلا خطاب واحد مردد بين الوجوب والحرمة ، فالتكليف ليس
معلوما بنوعه ، بل بجنسه المهمل فقط ، فيكون المقام خارجا عن التخيير العقلي بقسميه تخصصا.
نعم ، يحكم العقل بأنه إما فاعل أو تارك تكوينا ، وليس ذلك من التخيير العقلي المبحوث عنه في الاصول في شيء ، كما لا وجه لجريان التخيير الشرعي المولوي الواقعي فيه ، للعلم بعدم وجوب فردين أو أكثر للتكليف واقعا ، بل المعلوم وحدته من كل جهة ، مع أن الخطابات المولوية ـ تعينية كانت أو تخييرية ـ لا بد وأن تصلح للداعوية ومع كون المكلف بحسب إرادته الفطرية الارتكازية إما فاعل أو تارك ، لا يصلح الخطاب لها فيكون لغوا إلا أن يكون إرشادا محضا إلى ما عليه المكلف بحسب ذاته وتكوينه ، ولا كلام فيه ، إنما الكلام في الحكم المولوي ، ولا فرق فيه بين التخيير الواقعي ، كما في خصال الكفارات. أو الظاهري ، كما في التخيير الشرعي في الأمارات المتعارضة ، مع أنه في التخيير الشرعي الواقعي لا بد وأن يكون كل واحد من الطرفين أو الأطراف تام الملاك والخطاب ، وليس المقام كذلك ، لعدم الملاك إلا في الواحد.
وكذا لا وجه لجريان الحلية والبراءة الشرعية ، لأن جريانهما في خصوص الوجوب أو الحرمة ترجيح بلا مرجح ، وفيهما معا مخالفة للعلم بأصل الإلزام ، وبالنسبة إلى أصل العقاب في الجملة لا أثر لها للعلم بعدم العقاب ، إذ لا عقاب لدى العقلاء في مورد العلم بجنس التكليف ، لعدم كفايته في تنجزه بعد عدم إمكان المخالفة القطعية ، وإنما هو على مخالفة نوع التكليف بعد العلم به وتنجزه ، إلا أن يكون الجريان إرشادا إلى حكم العقل بعدم صحة العقاب.
ومن ذلك يظهر عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا ، لاختصاص جريانها بمورد الشك في العقاب ، فلا مجرى لها مع العلم بالعدم. هذا كله إذا كان المورد توصليا ولم يتصور فيه المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية.
وأما لو كان كل واحد منهما أو أحدهما المعين تعبّديا ، فيتصور فيه حينئذ المخالفة القطعية بترك قصد القربة ، فتحرم وإن لم تجب الموافقة لعدم إمكانها ، ولكن الظاهر أنه مع عدم ثبوت أحدهما بالخصوص يكون الحكم هو التخيير أيضا ، بدعوى أنه الأصل لدى العقلاء في كل ما تردد بين شيئين مثلا ولم يعلم بالخصوص.
نعم ، فرّق بين التخيير هنا وما مر في التوصلي ، فإنه فيه فطري تكويني وهنا عقلائي اختياري ولا بد من قصد القربة في ما يعتبر فيه ، سواء كان كل منهما أو أحدهما.
ثم إن ما تقدم إنما هو في ما إذا كان الطرفان ، أو الأطراف متساوية من جميع الجهات ، وأما لو كانت مزية في البين ، فيكون من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ، وقد مرّ البحث فيه ، فراجع.
الجهة الثالثة : مقتضى بقاء مناط التخيير ـ وهو التّحير والجهل بالواقع وعدم الترجيح ـ كون التخيير استمراريا ، فلا موجب لزواله بعد الأخذ بأحدهما إلّا لزوم المخالفة القطعية ، ولكنها ليست بمانعة لحصول العلم بها بعد العمل ، وما هو الحرام إنما هو المخالفة عن علم وعمد عند الارتكاب ، بأن يكون حين العمل عالما ، وكان عاصيا ، هكذا قيل.
ولكنه مشكل ، فإنه يعلم بوقوعه في الحرام في صورة استمرار التخيير ، فيكون مثل العلم الإجمالي بالوقوع في الحرام في الأطراف التدريجية فلا يصح ، كما يأتي من عدم الفرق بين التدريجية منها والدفعية. ومقتضى مرتكزات المتشرعة عدم الفرق بينها أيضا ، وليس من شأن الفقيه الترخيص فيها. ومن هنا يصح أن يقال بأولوية الموافقة الاحتمالية في المقام عن الموافقة القطعية ، لاستلزام الأخيرة المخالفة القطعية أيضا.
الشك في المكلف به :
كلما كان الشك فيه في أصل التشريع وثبوته واقعا ، فهو شك في أصل التكليف ، ويكون مورد البراءة ، وتقدّم ما يتعلّق بها. وكلما علم بثبوت أصل التشريع فيه وشك في جهات اخرى ، فهو من الشك في المكلف به ، ويكون مورد الاحتياط والاشتغال. والجهات الاخرى التي تكون مورد الشك كثيرة.
فتارة : تكون في نوع التكليف بعد العلم بأصل جنسه ، كما إذا علم أصل الإلزام وتردد بين الوجوب والحرمة مع إمكان الاحتياط.
واخرى : تكون في المتعلّق ، كما إذا علم الوجوب تفصيلا وتردد متعلّقه بين الظهر والجمعة مثلا.
وثالثة : تكون في الموضوع الخارجي ، كما إذا ترددت القبلة بين جهتين أو جهات.
وكل ذلك ..
تارة : في الشبهة التحريمية.
واخرى : في الوجوبية.
وكل منهما ..
تارة : يكون من المتباينين ، وهو ما لم يكن معلوم التنجز في البين.
واخرى : من الأقل والأكثر وهو ما تحقق فيه معلوم التنجز ، وشك في الزائد.
فالكلام في مقامين :
الأول : في المتباينين.
والثاني : في الأقل والأكثر.
المقام الأول : في المتباينين
اعلم أن البحث إنما هو بناء على كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز ، لا أن يكون علة تامة له ، وإلا فالبحث ساقط من أصله لحكم العقل بوجوب الاحتياط حينئذ.
ولباب البحث يرجع إلى أن الاصول تجري في أطراف العلم الإجمالي بناء على كونه مقتضيا للتنجز حتى يسقط عن الاقتضاء ، أو لا تجري فيكون حينئذ المقتضي للتنجز موجودا والمانع عنه مفقودا ، فيكون مثلما إذا كان علة تامة للتنجز ، والحق هو الثاني ، واستدل عليه بوجوه :
الأول : ـ وهو أسدّها وأخصرها ـ ما ارتكز في الأذهان من أن مورد الشك الذي تجري فيه الاصول لا بد وأن يكون لا اقتضاء بالنسبة إلى الحجية والتنجز من كل حيثية وجهة ، فلو كان فيه الاقتضاء لها فلا مورد للاصول حينئذ ، ولا أقل من الشك في ذلك ، فلا يمكن حينئذ التمسك بأدلتها اللفظية ، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، ولا بأدلتها اللبية ، لأن المتيقن منها غير ذلك ، فلا محيص إلا من الاحتياط ، ولا ريب في ثبوت الاقتضاء في كل من أطراف العلم الإجمالي.
إن قلت : نعم ، ولكنه إذا لوحظت الأطراف بنحو الجمع والوحدة ، وأما إذا لوحظ كل طرف مستقلا مع قطع النظر عن الآخر ، فيكون لا اقتضاء من كل جهة فيجري الأصل ، وحيث لا يمكن الجمع يحكم بالتخيير ، كما في الأمارتين المتعارضتين.
قلت : لحاظ الوحدة والجمع إنما هو في متعلّق العلم التفصيلي وهو علة تامة للتنجز ، وإنما يثبت الاقتضاء بملاحظة كل طرف مع قطع النظر عن الآخر بنحو عدم الاعتبار لا اعتبار العدم ، إذ يلزم الخلف لأنه حينئذ مستلزم لعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي مع أنه أحد طرفيه في الواقع.
مع أن التخيير إما عقلي أو شرعي ، والأول إنما هو في ما إذا ثبت فيه الملاك التام في كل طرف ، والثاني لا يثبت إلا بدليل خاص ، ولا ملاك في كل واحد منهما حتى يثبت التخيير العقلي ، فهو منفي ثبوتا ولم يرد دليل على التخيير الشرعي فهو منفي إثباتا ، فلا وجه له أصلا.
نعم ، لو قلنا بأن التخيير في المتعارضين عقلائي ، ولا يحتاج إلى ورود دليل بالخصوص يثبت التخيير العقلائي في المقام ، أيضا لو فرض جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي وكان المانع منحصرا في لزوم المخالفة العملية من العمل بها مع ثبوت المقتضي للجريان من كل جهة ، ولكنه ممنوع لما مرّ من عدم المقتضي لجريانها في أطراف العلم الإجمالي أصلا.
الثاني : أن الاصول العملية بحسب ملاحظاتها مع أطراف العلم الإجمالي على أقسام ثلاثة :
الأول : ما يكون منافيا لنفس المعلوم بالإجمال ومضادا له ، كأصالة الإباحة في مورد دوران الأمر بين المحذورين ، فإن الإباحة تضاد الإلزام المعلوم في البين ، فلا يجري مثل هذا الأصل في أطراف مثل هذا العلم الإجمالي ، للمضادة.
الثاني : الاصول الإحرازية ـ وتسمى التنزيلية أيضا ـ كالاستصحاب ، وحيث إنها متكفلة للإحراز والتنزيل في الجملة عرفا ، وتنزيل أطراف المعلوم بالإجمال منزلة خلافه مضاد ومناف له ، فلا مجرى لها من هذه الجهة ، كاستصحاب الطهارة مثلا في أطراف ما علم إجمالا بوقوع النجاسة فيها.
الثالث : ما تجري وتسقط بالمعارضة ، كأصالة البراءة.
وفيه : أن هذا التفصيل إما مع فرض كون العلم الإجمالي مقتضيا للتنجز وأنه مانع عن جريان الاصول ، أو مع فرض عدمه ، فعلى الأول لا وجه لهذا التفصيل ، لأن وجود ما فيه الاقتضاء بنفسه مانع عن جريانها ، كما مرّ ولا تصل النوبة إلى الموانع الخارجية.