فرائد الأصول - ج ٥

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٥

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-68-3
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٦٢٤

بها (٢٤٩٢) وإمّا ترتّب الأثر عليها : أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل أم لا ؛ لأنّ فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء المأتيّ بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك ؛ ضرورة عدم انقلاب الشيء عمّا وجد عليه.

وأمّا ترتّب الأثر ، فليس الثابت منه للجزء ـ من حيث إنّه جزء ـ إلّا كونه بحيث لو ضمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكلّ. ومن المعلوم أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية أم قطع بعدمه أم شكّ في ذلك ، فإذا شكّ في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء ، فالقطع ببقاء صحّة تلك الأجزاء لا ينفع في تحقّق الكلّ مع وصف هذا الشكّ ، فضلا عن استصحاب الصحّة ، مع ما عرفت من أنّه ليس الشكّ (٢٤٩٣) في بقاء صحّة تلك الأجزاء بأيّ معنى اعتبر من معاني الصحّة.

ومن هنا ، ردّ هذا الاستصحاب جماعة من المعاصرين ممّن يرى حجّية الاستصحاب مطلقا ، لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسّك. بيانه : أنّه قد يكون الشكّ (٢٤٩٤) في الفساد من جهة احتمال فقد أمر معتبر أو وجود أمر مانع ، وهذا هو الذي لا يعتنى في نفيه باستصحاب الصحّة ؛ لما عرفت : من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الامور اللاحقة لا يقدح في صحّة الأجزاء السابقة.

وقد يكون من جهة عروض ما ينقطع معه الهيئة الاتّصالية المعتبرة في الصلاة ، فإنّا استكشفنا من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع. أنّ للصلاة هيئة اتّصاليّة ينافيها توسط بعض الأشياء في خلال أجزائها ، الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابليّة الانضمام والأجزاء السابقة عن قابليّة الانضمام إليها ، فإذا شكّ في شيء من ذلك وجودا أو صفة جرى استصحاب صحّة الأجزاء ، بمعنى

______________________________________________________

٢٤٩٢. أعني الأمر المقدّمي الناشئ من الأمر بالكلّ.

٢٤٩٣. للعلم بالصحّة فيها بكلا معنييها كما تقدّم.

٢٤٩٤. حاصل الفرق بين المانع والقاطع : أنّ المانع ما كان مانعا من تأثير

٤٦١

بقائها على القابلية المذكورة ، فيتفرّع على ذلك عدم وجوب استئنافها أو استصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة وما يلحقها من الأجزاء الباقية ، فيتفرّع عليه بقاء الأمر بالإتمام. وهذا الكلام وإن كان قابلا للنقض والإبرام (٢٤٩٥) ، إلّا أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفيّة في كثير من الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام.

______________________________________________________

الماهيّة ، ولذا كان عدمها بمنزلة الشرائط ، بل يعدّ منها مسامحة أو غفلة. والقاطع ما كان قاطعا للهيئة الاتصاليّة ، ومانعا من تأثير الجزء الصوري دون الماهيّة من حيث هي. وأمّا تمييز مصاديقهما الخارجة فهو موكول على نظر الفقيه وملاحظة الأدلّة.

٢٤٩٥. قد تقدّم الكلام في النقض والإبرام ، وكيفيّة تصحيح الاستصحاب بحسب العرف ، في مسألة البراءة في مقام بيان زيادة الجزء ، ولكن نزيد هنا ونقول تقريبا إلى فهم المبتدئ وتوفيرا لحظّ المنتهى : إنّ ما يمكن استصحابه هنا امور :

أحدها : بقاء الأجزاء السابقة على قابليّة اللحوق. وأثر استصحابه عدم وجوب استئنافها.

وثانيها : الاتّصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة واللاحقة. وأثر استصحابه أيضا بقاء الأمر بالإتمام.

وثالثها : عدم قاطعيّة الموجود. وأثر استصحابه بقاء الاتّصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة واللاحقة.

أمّا الأوّل ، فيرد عليه : أنّ عدم وجوب الاستئناف ليس من آثار قابليّة الأجزاء السابقة للاتّصال ، بل من آثار صحّة تمام العمل. ومع التسليم فلا أقلّ من كونه من آثار فعليّة الاتّصال لا قابليّته. ومع التسليم فهو أثر عقلي لا شرعيّ ، فاستصحاب القابليّة لإثبات عدم وجوب الاستئناف لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة.

وأمّا الثاني ، فيرد عليه : أنّه إن اريد به الاتّصال الموجود بين الأجزاء السابقة

٤٦٢

وربّما يتمسّك في مطلق الشكّ (٢٤٩٦) في الفساد باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ. وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض الشكّ في الصحّة.

______________________________________________________

واللاحقة ، فالشكّ في وجوده لا في بقائه ، بل القطع حاصل بعدمه ، لفرض عروض الشكّ في أثناء العمل. وإن اريد به قابليّة الأجزاء السابقة واللاحقة للاتّصال على تقدير الإتيان باللاحقة ، يظهر ضعفه أيضا ممّا ذكرناه.

وأمّا الثالث ، فيرد عليه : أنّه إن اريد باستصحاب عدم قاطعيّة الموجود ، عدم قاطعيّة هذا الموجود ، فهو غير مسبوق بحالة العدم. وإن اريد عدم تحقّق قاطع في هذا المورد ، فهو لا يثبت عدم كون الموجود قاطعا إلّا على القول بالاصول المثبتة. وسيجيء زيادة توضيح لذلك في الحواشي الآتية.

ويمكن دفع ما يرد على الأوّل بأنّ عدم وجوب الاستئناف وإن كان من آثار صحّة مجموع العمل أو الاتّصال الفعلي في الواقع ، إلّا أنّه مرتّب في نظر أهل العرف على قابليّة الأجزاء السابقة وصلاحيّتها للاتصال ، فتأمّل. نعم ، يبقى فيه كونه من اللوازم العقليّة دون الشرعيّة.

والثاني بأنّ الاتّصال الفعلي بين الأجزاء السابقة واللاحقة وإن لم يكن موجودا ، لفرض عدم الإتيان باللاحقة بعد ، إلّا أنّ المكلّف لمّا كان عازما بالإتيان بها متّصلة بالسابقة فهو في نظر أهل العرف كالموجود فعلا. وأمّا الثالث فلا مدفع له.

٢٤٩٦. سواء كان الشكّ في المانع أو القاطع. وقد يتمسّك في المقام أيضا بأصالة عدم طروّ المبطل. وفيه ما لا يخفى. ويتوقّف بيانه على بيان أقسام الشكّ في المبطل ، لأنّ الشكّ فيه قد يكون في وجوده ، واخرى في صفته ، أعني : إبطال الشيء الموجود.

وعلى الأوّل : إمّا أن يكون المبطل وجوديّا ، كالشكّ في أثناء الصلاة في

٤٦٣

وربّما يتمسّك في إثبات الصحّة في محلّ الشكّ ، بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٢٨). وقد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصالة البراءة عند الكلام في مسألة الشكّ في الشرطيّة (٢٤٩٧) ، وكذلك التمسّك بما عداها من

______________________________________________________

خروج البول منه ، واخرى عدميّا ، مثل الشكّ في ترك الركوع. وأيضا قد يكون الشكّ في وجود المبطل ناشئا من الشكّ في أمر خارجي. وهو أيضا قد يكون وجوديّا ، كالبلل المشتبه بين البول وغيره. وقد يكون عدميّا ، كما إذا علم بترك السجدتين وتردّد بين تركهما من ركعة واحدة ، وترك كلّ واحدة من ركعة.

وعلى الثاني : قد يكون الشكّ في الصفة من جهة الشكّ في الحكم الكلّي للعارض مع تبيّن مفهومه ، وجوديّا كان مثل التأمين في أثناء الصلاة ، أو عدميّا مثل ترك ردّ السلام مع الاشتغال بالصلاة. وقد يكون من جهة الشكّ في اندراج الفرد في مفهوم اللفظ المجمل ، وجوديّا كان مثل التكفير ، بناء على إجماله وأنّ المتيقّن منه وضع اليمنى على اليسرى دون العكس ، فبذلك يحصل الشكّ في صحّة الصلاة في صورة العكس ، أو عدميّا مثل ترك الطمأنينة ، بناء على احتمال ركنيّتها ، وإجمال لفظ الركن ، ووقوعه في كلام الحكيم فهذه أقسام ثمانية.

والتمسّك بأصالة العدم إنّما يتمّ في قسمي الوجودي من الشكّ في تحقّق المبطل ، وأمّا قسمي العدمي منه فلا ، لأنّ مقتضى الأصل فيهما البطلان. وأمّا أقسام الشكّ في الصفة فهي ليست من موارد هذا الأصل ، لعدم الحالة السابقة فيها إن اريد به إثبات عدم مانعيّة الموجود. وإن اريد به إثبات عدم المانع مطلقا في هذا المورد ، فهو لا يثبت عدم مانعيّة هذا الموجود المشكوك المانعيّة إلّا على القول بالاصول المثبتة.

وكيف كان ، فلا وجه للتمسّك بالأصل على إطلاقه في المقام. وقد يتمسّك أيضا بأصالة وجوب الإتمام المفيدة لصحّة العبادة. ويظهر ضعفه أيضا ممّا أورده المصنّف رحمه‌الله على أصالة حرمة القطع.

٢٤٩٧. الأولى أن يقول : في مسألة زيادة الجزء عمدا.

٤٦٤

العمومات (٢٤٩٨) المقتضية للصحّة.

الأمر التاسع : لا فرق في المستصحب بين أن يكون (٢٤٩٩) من الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة أو الأحكام الشرعيّة العمليّة ، اصوليّة كانت أو فرعيّة.

______________________________________________________

٢٤٩٨. كإطلاقات الصلاة. ووجه ضعف التمسّك بها : أنّها على القول بالصحيح مجملة ، وعلى القول بالأعمّ واردة في مقام بيان أحكام أخر ، كالتشريع أو بيان الفضيلة أو الخاصيّة أو نحو ذلك.

٢٤٩٩. توضيح المقام : أنّه لا إشكال في أنّه لا فرق في مفاد أدلّة الاستصحاب ـ من العقل والشرع ـ بين موارد جريانه بعد استجماعه لشرائط جريانه ، وإنّما الإشكال في تشخيص موارد استجماعه لشرائط جريانه وعدمه. فلا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات أو الأحكام.

وعلى الأوّل بين أن يكون من الموضوعات الخارجة الصرفة ، والموضوعات المستنبطة. والمراد بالأوّل هو المصاديق الخارجة للمفاهيم الكلّية ، وبالثاني نفس مفاهيم الألفاظ. ولا اختصاص لها بمثل الصلاة والصوم ونحوهما ، بل هي عامّة لجميع المفاهيم ، سواء كانت شرعيّة أم عرفيّة أم لغويّة ، فيدخل فيها مفهوم الوجوب والحرمة أيضا. ونسبت إلى الاستنباط لمدخليّتها في استنباط الأحكام الشرعيّة التي هي إرادة الشارع وإنشائه ، مثل أنّ إرادته للصلاة وطلبه لها إنّما يستنبط بواسطة فهم معنى الصلاة والأمر ، وهكذا.

وعلى الثاني بين أن يكون ممّا كان موضوعه عمل المكلّف ، وأن يكون ممّا أخذ في موضوعه الاعتقاد كاصول الدين. وعلى الأوّل بين أن يكون ممّا يجب في العمل به الفحص عن الأدلّة ، كي يختصّ العمل به بالمجتهد كالاصول العمليّة ، وأن لا يجب في العمل به ذلك ، بأن يشترك العمل به بين المجتهد والمقلّد كالفروع. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى تفصيل الكلام فيما أخذ في موضوعه الاعتقاد.

٤٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبقي الكلام في تحقيق الحال في باقي الأقسام المذكورة ، فنقول : لا إشكال في جريانه في الموضوعات الصرفة ، ولا فيما كان موضوعه عمل المكلّف ، سواء كان من الاصول العمليّة أم الفروع. وأمّا الموضوعات المستنبطة ، فاعلم أنّ الاصول التي يتمسّك بها فيها كثيرة ، ومرجع جميعها إلى أصلين : أحدهما : ما تمسّكوا به في مقام تعيين الأوضاع ، وهي أصالة عدم الوضع. والآخر : ما تمسّكوا به في مقام تعيين المرادات من الألفاظ ، وهي أصالة عدم القرينة ، وإليها ترجع أصالة عدم التقييد أو التخصيص أو الإضمار ونحوها. وأمّا أصالة عدم الوضع فأكثر ما يدور من أقسامها في ألسنة الاصوليّين أربعة ، وإن كان مرجعها إلى أمر واحد ، وهي أصالة عدم الوضع. وبيانه أنّ وضع اللفظ إمّا أن يعلم ويقع الشكّ في تقدّمه وتأخّره ، وإمّا أن لا يعلم وضعه لمعنى ، ويقع الشكّ في وضعه لمعنى آخر.

والأوّل كالحقائق الشرعيّة ، لأنّا قد علمنا وضع الصلاة والصوم والحجّ مثلا لحقائق شرعيّة ، وحصل الشكّ في أنّ ذلك بوضع الشارع تعيينا أو تعيّنا ، أو أنّ الشارع استعملها في الحقائق المخترعة مجازا ووصلت إلى مرتبة الحقيقة ، لكثرة الاستعمال ودورانها في لسان المتشرّعة ، فيقولون حينئذ : إنّ الأصل عدم وضع الشارع ، فيثبتون به حقيقة المتشرّعة. وهذا هو المراد بقولهم : الأصل تأخّر الحادث ، وإلّا فوصف التأخّر لم يكن ثابتا حتّى يستصحب ، غاية الأمر أن يكون في التعبير به نوع مسامحة.

والثاني إمّا أن لا يلزم من فرض ثبوت المعنى المشكوك فيه هجر معنى أصلا ، وإمّا أن يلزم فيه ذلك.

والأوّل مثل ما لو ثبت وضع اللفظ لمعنى ، وشكّ في وضعه لمعنى آخر ، بحيث لو ثبت الوضع الآخر كان مشتركا بينهما ، كما لو ثبت وضع الأمر للوجوب ، وشكّ في وضعه للندب على الوجه المذكور ، فيقال : الأصل عدم الوضع الآخر. وهذا ما يقال : الأصل عدم تعدّد الوضع أو الاشتراك.

٤٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والثاني أيضا إمّا أن يلزم من فرض ثبوت المعنى المشكوك فيه هجره أو هجر المعنى المعلوم.

والأوّل مثل ما لو ثبت كون اللفظ حقيقة في العرف في معنى ، وشكّ في كونه حقيقة في اللغة أيضا في هذا المعنى أو في معنى آخر بحيث لو ثبت كان مهجورا ، مثل ما لو ثبت كون الأمر حقيقة في العرف في الوجوب ، وشكّ في كونه لغة أيضا كذلك أو حقيقة في الندب ، فيقال : الأصل عدم وضعه في اللغة للمعنى الآخر ، فيثبت به اتّحاد العرف واللغة. وهذا ما يقال : الأصل عدم النقل. وكذا يقال : إذا ثبت ذلك عرفا ثبت لغة أيضا بضميمة الأصل.

والثاني مثل ما لو ثبت كون اللفظ حقيقة لغة في معنى ، وشكّ في وضعه عرفا لمعنى آخر ، بحيث لو ثبت المعنى العرفي كان اللغوي مهجورا ، كما في المجاز المشهور ، فيقال : الأصل عدم النقل وعدم وضعه للمعنى العرفي.

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ الأصلين المذكورين ـ أعني : أصالة عدم الوضع ، وأصالة عدم القرينة ـ ممّا لا إشكال ـ كما أنّه لا خلاف ـ في اعتبارهما ، لبناء العقلاء في محاوراتهم ومخاطباتهم عليهما. وربّما يحتجّ له أيضا بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) بتقريب أنّ البناء على العدم في المقامين من لسان القوم. والعمدة في المقام أنّ بناء العقلاء على العمل بالأصلين من باب الظنّ النوعي ، أو التعبّد العقلائي ، أو غيرهما ، وفيه وجوه :

أحدها : كون بنائهم عليها من باب الظنّ الفعلي ، لأجل بنائهم عليه في مباحث الألفاظ ، فيكون اعتبارهما لأجل اندراجهما تحت الظنون المطلقة ، ولذا استند الفاضل الأصبهاني في إثبات الحقيقة الشرعيّة إلى شهرة القول بها.

وثانيها : أن يكون لأجل إفادتهما بالخصوص للظنّ الفعلي بالعدم كالظنّ الخبري ، فيكون لخصوصيّة السبب مدخل في اعتبار الظنّ الحاصل منه.

وثالثها : أن يكون لأجل إفادتهما الظنّ النوعي. وهو على وجهين : أحدهما :

٤٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أن يكون اعتبارهما حينئذ مطلقا. والآخر : أن يكون مقيّدا بعدم الظنّ بالخلاف.

ورابعها : أن يكون من باب السببيّة والتعبّد المحض. ويأتي فيه أيضا الوجهان المتقدّمان وعلى الوجهين : إمّا أن يكون تعبّدهم لأجل إحراز المقتضي والشكّ في المانع ، لأنّ الوضع مقتض للاستعمال في الموضوع له ، والقرينة مانعة من الحمل عليه ، فمع الشكّ في وجود القرينة أو كون الموجود قرينة يحمل على المعنى الحقيقي ، إعمالا للمقتضي ما لم يثبت المانع. وهذا الوجه مختصّ بأصالة عدم القرينة ، لعدم تأتّيه في أصالة عدم الوضع ، لعدم العلم فيه بالمقتضي بالنسبة إلى الوضع المشكوك فيه. وإمّا أن يكون من جهة استصحاب العدم أو قاعدة العدم ، أعني : البناء على العدم عند الشكّ في الوجود ، من دون ملاحظة حالة سابقة له ، كما هو المبرهن عليه في كلمات القدماء. والوجه : أنّ المحتاج إلى العلّة هو الوجود دون العدم ، فيكفي فيه عدم العلم بعلّة الوجود.

وفيه نظر ، لما قرّرناه في محلّه من احتياج كلّ من الوجود والعدم إلى العلّة ، غاية الأمر أن تكون علّة العدم عدم علّة الوجود ، كما صرّح به المحقّق الطوسي وغيره. والذي يسهّل الخطب أنّه ليس علينا بيان المستند بعد ثبوت بنائهم على العدم عند الشكّ في الوجود ، وإنّا إن لم نقل باعتبار هذه القاعدة في إثبات الشرعيّات ، إلّا أنّ بنائهم على اعتبار الأصلين في مباحث الألفاظ لعلّه مبنيّ عليها.

وكيف كان ، فالوجوه المذكورة ترتقي إلى تسعة أقسام. والكلّ محتمل ، لكنّ الظاهر أنّ بنائهم على اعتبار الأصلين إنّما هو من باب التعبّد المطلق ، ولذا يتمسّكون بالعمومات والمطلقات مع حصول الظنّ غير المعتبر على خلافها ، وكذا في باب الأقارير والشهادات والوصايا يؤخذ بظاهر الكلام مطلقا. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذا يأتي على الظنّ النوعي أيضا.

وربّما يتمسّك في اعتبار الأصلين بالاستصحاب المأخوذ من الأخبار ، نظرا إلى صدق النقض مع عدم ترتيب ما يترتّب على عدم الوضع والقرينة.

٤٦٨

وأمّا الشرعيّة الاعتقاديّة (٢٥٠٠) ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها ؛ لأنّه : إن كان من باب الأخبار فليس مؤدّاها إلّا الحكم على ما كان معمولا به على تقدير اليقين به ، والمفروض أنّ وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به لا يمكن الحكم به عند الشكّ ؛ لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف. وإن كان من باب الظنّ فهو مبنيّ على اعتبار الظنّ في اصول الدين ، بل الظنّ غير حاصل فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة

______________________________________________________

وهو ظاهر الفساد ، لعدم تماميّته إلّا على القول بالاصول المثبتة ، لعدم ترتّب أثر شرعيّ على العدمين إلّا بواسطة أمر عقلي أو عادي أو اتّفاقي ، وهو واضح. مع أنّا إن قلنا بنهوض الأخبار لإثبات اعتبار الاصول المثبتة ، فهي لا تنهض لإثبات اعتبار الأصلين على إطلاقهما ، لأنّا إن قلنا باعتبارها إنّما نقول بها في إثبات اللوازم العقليّة والعادّية ، دون الامور المقارنة للمستصحب اتّفاقا ، ودون الملزومات مطلقا ، والثابت بالأصلين غالبا إن لم نقل دائما من أحد القبيلين ، لأنّ عدم القرينة من لوازم إرادة المعنى الحقيقي ، فإثباته بأصالة عدمها من قبيل إثبات الملزوم بإثبات لازمه. وكذا إثبات اتّحاد الموضوع له بأصالة عدم النقل من قبيل إثبات أحد المتقارنين بإثبات الآخر ، لعدم تفرّع الثابت على المثبت ، وعدم تقدّم أحدهما وتأخّر الآخر طبعا ولا وضعا ، كما هو شأن اللوازم والملزومات ، بل هما لازمان ومتفرّعان على عدم الوضع لغة لمعنى آخر مغاير للمعنى العرفي ، فيما علم للفظ معنى عرفي وشكّ في وضعه لغة لمعنى آخر أيضا ، وهكذا في سائر المقامات والموارد.

٢٥٠٠. مثل ما لو وجب الاعتقاد بوجود نبيّ ، ثمّ شكّ فيه من جهة الشكّ في نسخ شريعته ، لظهور شخص آخر مدّع للنبوّة. وما يمكن استصحابه هنا إمّا وجوب الاعتقاد ، أو نفس الاعتقاد ، أو وجوب النظر لتحصيل الاعتقاد الذي كان ثابتا قبل حصوله. والأوّل قد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى ضعفه. والثاني من الامور الوجدانيّة التي لا مسرح للاستصحاب فيها. والثالث مدفوع بأنّ الدليل الذي أثبت

٤٦٩

بالعقل أو النقل القطعيّ ؛ لأنّ الشكّ إنّما ينشأ (٢٥٠١) من تغيّر بعض ما

______________________________________________________

وجوب النظر في السابق موجود في اللاحق أيضا ، لأنّه من لوازم القول بعدم خلوّ الزمان من معصوم ، ولا فرق في مؤدّاه بين الزمانين.

وفذلكة المقام : أنّ كلّ مورد كان المستصحب هو نفس الاعتقاد ، أو كان الاعتقاد جزءا منه أو موضوعا له ، أو جزءا من موضوعه ، لا مسرح للاستصحاب فيه. نعم ، يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب متيقّنا ، بمعنى كون اليقين طريقا إلى إثباته أو إثبات أحكامه ، لا موضوعا أو جزءا منه. فالمستصحب هو ذات المتيقّن لا بوصف التيقّن ، وإلّا لا يصحّ استصحابه كما عرفت. ولا فرق فيما قدّمناه بين الاعتقاد الجزمي والوثوقي والظنّي ، بل ولا يجري الاستصحاب أيضا فيما أخذ الشكّ والوهم فيه أيضا. فالشيء بوصف كونه مشكوكا فيه لا يجري فيه الاستصحاب بعد زوال الشكّ عنه. والوجه في الكلّ متّحد.

ومن هنا يظهر عدم الفرق في عدم جريان الاستصحاب في اصول الدين بين القول باعتبار اليقين فيها ، وبين القول بكفاية الوثوق أو الظنّ فيها ، على اختلاف الأقوال. نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أمكن الفرق بينها كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله.

٢٥٠١. حاصله : أنّ المستصحب إذا كان من العقائد الثابتة بالعقل أو النقل القطعي لا يتصوّر فيه الشكّ في بقاء الحكم السابق ، بل إمّا أن يحصل العلم بالبقاء أو الارتفاع. وإن فرض حصول الشكّ فإنّما هو في ثبوت مثل الحكم السابق في موضوع آخر.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في بقاء الحكم السابق إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في المستصحب ، وذلك غير متصوّر في الأحكام العقليّة ، كما تقدّم في الأمر الثالث من أنّ العقل لا يحكم بشيء إلّا بعد إحراز جميع قيود موضوع حكمه ، وأنّ الإجمال لا يتصوّر في موضوع حكم العقل. فلو فرض

٤٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الشكّ مع انتفاء بعض قيود موضوعه في ثبوت الحكم السابق ، فهو شكّ في ثبوت مثل الحكم السابق في موضوع آخر لا في بقائه. ومثله الكلام في الدليل النقلي المثبت للحكم وموضوعه مع جميع مشخّصاته التي لها مدخل في ثبوت الحكم ، كما هو ظاهر فرض كون النقل قطعيّا. هكذا قد قرّر توضيح المقام.

ولكنّك خبير بأنّه خلاف ظاهر عبارة المتن ، لأنّ ظاهرها تسليم جواز فرض الإجمال في موضوع حكم العقل بسبب تغيّر ما يحتمل مدخليّته فيه وجودا أو عدما.

ثمّ إنّ المناسب كان إدراج البحث عن الاستصحاب في الاصول الاعتقاديّة في الأمر الثالث ، لفرض كون المستصحب هنا أيضا عقليّا. ثمّ أيّ وجه في حصر الشكّ في بقاء المستصحب في الشكّ في المقتضي من غير جهة الشكّ في النسخ؟

أقول : يمكن دفع الأوّل بأنّ الأحكام العقليّة على قسمين :

أحدهما : ما استقلّ العقل بحسن فعل أو قبحه بمجرّد ملاحظة عنوانه الخاصّ ، كحسن الإحسان وقبح العدول.

وثانيهما : ما يستقلّ به العقل بملاحظة مقدّمات خارجة ، مثل حكمه فيما نحن فيه بنبوّة موسى وعيسى عليهما‌السلام بعد ملاحظة معجزتهما ، لأنّ غاية ما يستقلّ به العقل ـ بعد عدم جريان عادة الله تعالى على إلهام أحكامه على أحد ـ هو وجود نبيّ أو وصيّه في كلّ زمان مبلّغ لأحكامه إلى الناس ، لا خصوص كون موسى أو عيسى عليهما‌السلام نبيّا.

وموضوع البحث في الأمر الثالث هو القسم الأوّل ، لأنّه هو الذي لا يمكن فرض الإجمال في موضوع حكم العقل فيه. وموضوع البحث في هذا الأمر هو القسم الثاني ، وهو ممّا يمكن فرض الإجمال في موضوع حكم العقل فيه ، لأنّ المعجزة لا يلزم أن تكون دالّة على كونه نبيّا على جميع الامم وفي جميع الأحوال ، ولا على استمرار نبوّة صاحبها إلى آخر الأبد ما لم يخبر به النبيّ بعد ثبوت نبوّته.

فإذا ثبتت نبوّة شخص بإظهار المعجزة ، يجوز أن يحصل الشكّ بعد مضيّ زمان أو

٤٧١

يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في المستصحب. نعم ، لو شكّ في نسخه (٢٥٠٢)

______________________________________________________

تغيّر حالة في بقاء نبوّته ، لأجل الشكّ في كون نبوّته مطلقة أو مقيّدة بحالة أو زمان ، لأجل عدم دلالة المعجزة على استمرار نبوّته وفي جميع الأحوال. ومن هنا يندفع الإشكال الثاني أيضا ، لما عرفت من تغاير موضوع المسألتين.

وأمّا الثالث فيمكن دفعه أيضا بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في تضاعيف ما أورده على الفاضل التوني ، من انحصار الشكّ في بقاء الأحكام الكلّية من جهة الشكّ في الرافع وجودا أو صدقا في الشكّ في النسخ ، وعدم إمكان الشكّ في بقائها من جهة الرافع في غيره ، فلاحظ.

ومن هنا يظهر الوجه فيما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله من عدم حصول الظنّ فيما كان دليله العقل أو النقل القطعي ، لأنّه مع فرض انحصار مورد الشكّ في بقاء الحكم الكلّي ـ من غير جهة الشكّ في نسخه ـ في الشكّ في المقتضي ، الراجع إلى الشكّ في الموضوع ولو باعتبار الشكّ في بعض قيوده ، صحّت الدعوى المذكورة ، لأنّ الظاهر عدم إفادة الاستصحاب للظنّ في غير موارد الشكّ في الرافع.

وهذا الوجه محكيّ عن مجلس بحث المصنّف رحمه‌الله. ولعلّ الوجه فيه : أنّ المحتاج إلى العلّة هو الوجود دون العدم ، بمعنى كفاية عدم ثبوت علّة الوجود في حصول الظنّ بالعدم ، وإن كان عدم علّة الوجود علّة العدم كما قرّر في محلّه ، فمع الشكّ في الرافع بعد إحراز المقتضي يكفي في الظنّ بعدم الرافع عدم ثبوت علّة وجود الرافع ، وهذا الوجه غير آت في الشكّ في المقتضي.

ولكن يشكل المقام حينئذ بأنّه لا يفرّق في هذا الوجه بين ما كان دليل الحكم مع الشكّ في الرافع نقلا قطعيّا أو ظنيّا. اللهمّ إلّا أن يكون مراده من النقل القطعي أعمّ من القطعي بالوجدان وبالشرع ، فتأمّل ، فإنّ المقام بعد لم يصفو عن شوب إجمال وإشكال ، والله أعلم.

٢٥٠٢. أي : في نسخ حكم واحد من الأحكام الاعتقاديّة.

٤٧٢

أمكن دعوى الظنّ لو لم يكن احتمال النسخ ناشئا عن احتمال نسخ أصل الشريعة ، لا نسخ الحكم في تلك الشريعة. أمّا الاحتمال الناشئ عن احتمال نسخ الشريعة فلا يحصل الظنّ بعدمه ؛ لأنّ نسخ الشرائع شائع ، بخلاف نسخ الحكم في شريعة واحدة ؛ فإنّ الغالب بقاء الأحكام.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو شكّ في نسخ أصل الشريعة لم يجز التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقائها ، مع أنّه لو سلّمنا حصول الظنّ فلا دليل على حجيّته حينئذ ؛ لعدم مساعدة العقل عليه وإن انسدّ باب العلم ؛ لإمكان الاحتياط (٢٥٠٣) إلّا فيما لا يمكن. والدليل النقليّ الدالّ عليه لا يجدي ؛ لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ ما يحكى من تمسّك بعض أهل الكتاب في مناظرة بعض الفضلاء (٢٥٠٤) السادة باستصحاب شرعه ، ممّا لا وجه له ، إلّا أن يريد جعل

______________________________________________________

وقد يورد عليه : بأنّه إذا ثبت حكم اعتقادي بدليل عقلي أو نقلي قطعي ، فكيف يعقل الفرق بين ما كان الشكّ في بقائه من جهة الشكّ في نسخه وغيره ، حيث منع حصول الظنّ بالبقاء على الثاني وسلّمه على الأوّل ، لأنّ المنع إن كان من جهة اعتبار تبيّن موضوع حكم العقل ، وكذا الحكم التعبّدي المقطوع به ، فلا بدّ من اعتبار تبيّنه أيضا من حيث وجود ما يقتضي استمرار الحكم فيه وعدمه. وإن كان من جهة اخرى فلتبيّن حتّى ينظر فيها.

ويمكن دفعه بما تقدّم في الحاشية السابقة. نعم ، لا بدّ من تخصيص الكلام في محتمل النسخ بما كان أصله ثابتا بالشرع دون العقل ، لعدم تأتّي احتمال النسخ في الأحكام العقليّة كما لا يخفى.

٢٥٠٣. سيشير في الجواب الثاني من الأجوبة التي سيذكرها إلى وجه عدم جواز التمسّك بنفي الحرج في العمل بأحكام الشريعتين.

٢٥٠٤. قد ذكر بعض مشايخنا أنّه السيّد حسين القزويني. وقيل : إنّه السيّد محسن الكاظمي. ولكنّي قد رأيت رسالة من بعض تلامذة السيّد السّند العلّامة

٤٧٣

البيّنة (٢٥٠٥) على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة ، إمّا لدفع كلفة الاستدلال عن نفسه ، وإمّا لإبطال دعوى المدّعي ؛ بناء على أنّ مدّعي الدين الجديد كمدّعي النبوّة يحتاج إلى برهان قاطع ، فعدم الدليل القاطع للعذر على الدين الجديد ـ كالنبيّ

______________________________________________________

الطباطبائي الملقّب ببحر العلوم قدس‌سره قد نسب هذه المناظرة فيها إليه ، وقد وقعت حين سافر من النجف الأشرف إلى زيارة جدّه أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في البلدة المعروفة الآن بذي الكفل ، وهي مجمع اليهود. وقد كانت الرسالة عندي مدّة ، ثمّ أخذها بعض الطلبة مع عدّة من الرسائل فذهب بها منذ خمس سنين أو أزيد. ولكن ببالي أنّ الموجود فيها أنّ اليهودي الذي ناظره قد عجز في الجواب ، وكلّ لسانه في الخطاب ، على عكس ما نقله المحقّق القمّي رحمه‌الله من إفحام الفاضل. وينبغي أن يكون الأمر كما وصفناه ، إذ كيف يمكن أن ينسب إليه العجز في مناظرة اليهود ، وهو مفتاح كنوز الدلائل ، وكشّاف رموز المسائل؟ لم تسمح الأيّام بمثله ، ولم تلد الأعوام بشكله ، وهو ذو مفاخر وكرامات ، ومآثر وعلامات ، قدس الله روحه روحه ، وطيّب رمسه ، وجزاه الله عنّا خير الجزاء. ويحتمل في المقام تعدّد الواقعة.

٢٥٠٥. بأن لا يريد الكتابي بقوله : «إنّ المسلمين قائلون بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنحن وهم متّفقون على حقيّة نبوّته في أوّل الأمر ، فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان دينه» استصحاب نبوّة موسى أو عيسى عليهما‌السلام ، وإثبات حقيّة نبوّتهما بمجرّد هذا الاستصحاب. بل جعل البيّنة على المسلمين في دعوى الشريعة الناسخة إمّا لدفع كلفة الاستدلال عن نفسه ، لصيرورته حينئذ منكرا باعتراف المسلمين ، وإمّا لإبطال دعوى المدّعي بالتقريب الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله.

هذا بناء على كون مفهوم المدّعي والمنكر عرفيّا ، وعدم احتياج النافي إلى دليل ، وإلّا فعلى تقدير تفسير الأوّل بمن كان قوله موافقا للأصل ، أو احتياج النافي إلى دليل ، فصيرورته منكرا فرع صحّة التمسّك بالاستصحاب في المقام ولو باعتراف المسلمين ، وهو خلاف الفرض.

٤٧٤

الجديد ـ دليل قطعيّ على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ، فغرض الكتابيّ إثبات حقّية دينه بأسهل الوجهين (٢٥٠٦).

ثمّ إنّه قد اجيب عن استصحاب الكتابي المذكور بأجوبة : منها : ما حكي عن بعض الفضلاء المناظرين له : وهو أنّا نؤمن ونعترف بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكافر بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك. وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق. وهذا الجواب بظاهره مخدوش بما عن الكتابيّ : من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئيّ حقيقيّ اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين نسخها. وأمّا ما ذكره الإمام عليه‌السلام ، فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق. وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل (٢٥٠٧) به.

ومنها : ما ذكره بعض المعاصرين (٢٥٠٨) من أنّ استصحاب النبوّة معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل حدوث أصل النبوّة ؛ بناء على أصل فاسد تقدّم حكايته عنه ، وهو : أنّ الحكم الشرعيّ الموجود يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وبعده يتعارض استصحاب وجوده واستصحاب عدمه. وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه.

ومنها : ما ذكره في القوانين بانيا له على ما تقدّم منه في الأمر الأوّل من : أنّ الاستصحاب مشروط بمعرفة استعداد المستصحب ، فلا يجوز استصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد بعد انقضاء مدّة استعداد أقلّهما استعدادا ، قال : إنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلّا النبوّة في الجملة ، وهي كلّي من حيث إنّها قابلة للنبوّة إلى آخر الأبد ،

______________________________________________________

٢٥٠٦. لأنّ إثبات الكتابي لحقيّة دينه إمّا بتكلّف إقامة الدليل ، وإمّا بجعل البيّنة على المسلمين ، والثاني أسهل من الأوّل.

٢٥٠٧. سيأتي منّا أيضا وجهان آخران يحتمل كلّ منهما أن يكون مرادا للإمام عليه‌السلام ، فانتظرهما.

٢٥٠٨. هو النراقي.

٤٧٥

بأن يقول الله جلّ ذكره لموسى عليه‌السلام : " أنت نبيّي وصاحب ديني إلى آخر الأبد" ، ولأن يكون إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأن يقول له : " أنت نبيّي ودينك باق إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله". ولأن يكون غير مغيّا بغاية ، بأن يقول : " أنت نبيّي" بدون أحد القيدين. فعلى الخصم أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد أو الإطلاق. ولا سبيل إلى الأوّل ، مع أنّه يخرج عن الاستصحاب. ولا إلى الثاني ؛ لأنّ الإطلاق في معنى القيد ، فلا بدّ من إثباته. ومن المعلوم أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو الثاني دون الأوّل ؛ إذ الكلّي لا يمكن استصحابه إلّا بما يمكن من بقاء أقل أفراده (٢٩) ، انتهى موضع الحاجة.

وفيه اوّلا : ما تقدّم (٢٥٠٩) من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز استعداد المستصحب.

______________________________________________________

٢٥٠٩. يعني : على مذهب المشهور من اعتبار الاستصحاب مطلقا ، سواء كان الشكّ في الرافع أو المقتضي. والمحقّق القمّي رحمه‌الله أيضا قد ذهب هذا المذهب ، فيكون هذا الجواب منه منافيا لمختاره.

ثمّ إنّ المحقّق المذكور قد ذكر هذا الجواب على تقدير تسليم جريان الاستصحاب في اصول الدين ، فما ذكره في الحقيقة يرجع إلى جوابين : أحدهما : منع جريانه في اصول الدين. والآخر : ما نقله المصنّف رحمه‌الله عنه هنا.

والوجه في الأوّل أنّ المأخوذ في موضوع الأحكام الاعتقاديّة هو الاعتقاد ، فلا وجه لاستصحاب حكمه بعد زواله.

وفيه : ما سنشير إليه من أنّ المقصود من استصحاب الشريعة السابقة ليس تحصيل الاعتقاد بها حتّى يمنع صحّة استصحاب الحكم المتعلّق به ، بل المقصود هو التديّن بأحكام الشريعة السابقة في مقام الشكّ ، فلا بأس باستصحابها لإثبات ذلك. فانتظر لتمام الكلام فيه.

وأمّا الجواب الثاني الذي نقله عنه المصنّف رحمه‌الله ، فتحقيق الكلام فيما أورده المصنّف رحمه‌الله عليه أوّلا : أنّ ما ذكره من اعتبار استعداد قابليّة المستصحب للبقاء وإن

٤٧٦

وثانيا : أنّ ما ذكره ـ من أنّ الإطلاق (٢٥١٠)

______________________________________________________

كان لا يخلو في خصوص مسألة النبوّة من وجه ، لعدم صحّة التمسّك فيها بالأخبار ، لفرض الشكّ في حقّية الشريعة السابقة واللاحقة ، وبناء العقلاء أيضا لم يثبت على أزيد ممّا ذكره ، إلّا أنّه قد فرّع إبطال مناظرة اليهود وإبطال ما تمسّك به من الاستصحاب على ما حقّقه في جواز التمسّك بالاستصحاب مطلقا. وحينئذ نقول : إنّ اشتراط الاستعداد للبقاء إن كان مستفادا من الأخبار ، فقد تقدّم في محلّه أنّها أعمّ من ذلك. وإن كان مستفادا من بناء العقلاء ، ففيه : أنّ مقتضى ما ذكره من اشتراط استعداد المستصحب للبقاء هو التفصيل بين الشكّ في الرافع والمقتضي ، لا القول باعتبار الاستصحاب مطلقا كما اختاره. مضافا إلى منع نهوض الأدلّة الاعتباريّة لإثبات اعتباره ، كما تقدّم في محلّه.

٢٥١٠. توضيح المقام : أنّ النبوّة المطلقة تارة يطلق ويراد بها النبوّة التي ثبتت على الإطلاق الراجع إلى العموم ولو بحسب الأحوال. واخرى يراد بها النبوّة في الجملة ، أعني : ما لم يثبت له قيد. وهي شاملة للمقيّدة بالأبد ، وإليها يرجع الإطلاق الأوّل ، وللمقيّدة بمدّة معيّنة. فالاولى قسم من الثانية ، وليست بكلّي ، والكلّي هي النبوّة بالإطلاق الثاني. وهي ـ أعني : النبوّة في الجملة ـ ومطلق النبوّة مترادفتان. فما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله من أنّ المطلقة في حكم المقيّدة ، وأنّ النبوّة في الجملة كلّي له أفراد ثلاثة : النبوّة المستدامة ، والمقيّدة بمدّة معيّنة ، وغير المقيّدة بأحد القيدين. وكذا ما ذكره من التفصيل من تسليم جريان الاستصحاب في الأخيرة ـ أعني : المطلقة ـ دون المقيّدة بمدّة معيّنة ، أو بالاستدامة ، ودون النبوّة في الجملة التي هي في معنى مطلق النبوّة ، ضعيف. أمّا الأوّل فإنّه إنّما يتمّ على الإطلاق الأوّل دون الثاني ، فلا وجه لإطلاق كونها في معنى المقيّدة.

٤٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثاني ، فإنّ النبوّة غير المقيّدة ـ أعني : النبوّة المطلقة التي جعلها فردا ثالثا للنبوّة في الجملة ـ إن أخذت بالإطلاق الأوّل فهي راجعة إلى المستدامة ، فليست فردا آخر من الكلّي في عرضها. وإن أخذت بالإطلاق الثاني فهي في معنى النبوّة في الجملة ، وهي ومطلق النبوّة مترادفتان.

وبالجملة ، إنّ هنا كلّيا وهو النبوّة في الجملة ، ومطلق النبوّة ، وله فردان في الواقع ، أعني : المستدامة والمقيّدة بمدّة معيّنة ، والنبوّة المطلقة ليست فردا ثالثا منه في عرضهما.

وأمّا الثالث ، فلما عرفت من أنّ المطلقة إمّا راجعة إلى المستدامة ، أو هي في معنى النبوّة في الجملة ومطلق النبوّة ، والفرض عدم جريان الاستصحاب في شيء منهما. اللهمّ إلّا أن يفرّق بين المطلقة ومطلق النبوّة ، بقرينة ما ذكره بعد ذلك من أنّ المراد من مطلقات كلّ شريعة بحكم الاستقراء الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ، بأنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ، فإنّ استعداده غير محرز عند الشكّ ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد. وأنت خبير بما فيه من الضعف ، كما يظهر وجهه ممّا أورد عليه ثالثا ، فتدبّر.

ثمّ ، إنّه أورد عليه في الفصول أيضا بأنّ منع حجيّة الاستصحاب في إبقاء الشريعة التي لم يعلم نسخها وارتفاعها ، كما يرشد إليه : «قوله بعد فرض تسليم ...» ، غير سديد ، لأنّ شرائع الأنبياء السلف وإن لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها لم تكن في الظاهر محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبيّ اللاحق. ولا ريب أنّها حينئذ تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ، ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم ، من حيث تجويزهم في كلّ عهد وآن ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ونسخه لشريعتهم ، فلا يستقرّ لهم البناء على شيء من أحكامها.

٤٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ودعوى أنّ شرائعهم كانت محدودة في الظاهر بغاية زمانيّة معلومة ، بحيث يمتنع توجّه النسخ إليها في تلك المدّة ، وكان الكلّ عالمين بذلك ، مجازفة بيّنة ومكابرة واضحة. وهذا عين ألفاظه.

وأورد عليه شريف العلماء أيضا بأنّ ظاهر كلامه التفرقة بين النبوّة في الجملة فلا يجري الاستصحاب ، وبين النبوّة المطلقة فيجري. وهو ممّا لم يقل به أحد ، إذ المدار في قابليّة الاستعداد في المستصحب حيث تعتبر في جريانه هو قابليّته لذلك بحسب نفس الأمر وفي الخارج ، لا بحسب دلالة الأدلّة على الاستمرار وعدم دلالتها. فإذا كانت النبوّة قابلة للاستمرار في الخارج تستصحب عند الشكّ في بقائها مطلقا ، سواء كان الدليل على ثبوتها مطلقا أو كانت دلالتها في الجملة.

وأقول : توضيح ما رامه بهذا الإيراد أنّ الدليل الدالّ على حكم إمّا أن يكون موضوعه مقيّدا ، أو مطلقا.

وعلى الأوّل : إمّا أن يكون دالّا على ثبوت الحكم في محلّ القيد وعدم ثبوته في غيره ، كما إذا قيل : الماء المتغيّر ينجس بالملاقاة ، بناء على مفهوم الصفة. وإمّا أن يكون الحكم في غير محلّ القيد مسكوتا عنه ، كالمثال بناء على عدم اعتبار مفهومها.

وعلى الثاني : إمّا أن يكون جميع الأفراد متساوية الاندراج تحت الإطلاق ، أو مختلفة ، بأن كان المطلق من قبيل المشكّك. وعلى الثاني : إمّا أن يظهر بعد التأمّل شموله لجميع الأفراد ، بأن كان الشكّ بدويّا. وإمّا أن يظهر عدم شموله لبعض الأفراد. وإمّا أن لا يظهر شموله لبعضها حتّى بعد التأمّل والتدبّر فيه أيضا ، بأن كان التشكيك مضرّا إجماليّا. وإمّا أن يكون موضوع الحكم مردّدا بين الإهمال وغيره أو بين الإطلاق وغيره ، بأن لم تظهر كيفيّة صدور اللفظ من المتكلّم ، هل هو على وجه الإهمال ـ أعني : ما كان من قبيل المضرّ الإجمالي ـ أم غيره ، أو على وجه الإطلاق أو غيره؟ فالأقسام ترتقي إلى ثمانية ، لكن صورة الشكّ البدويّ تندرج

٤٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

تحت صورة الإطلاق ، لفرض شمول اللفظ لجميع الأفراد ولو بعد التأمّل. وأمّا صورة ظهور عدم شموله لبعضها فهي مندرجة تحت الصورة الاولى من المقيّد ، أعني : ذا المفهوم منه ، فتبقى ستّة أقسام.

ويمكن إجراء جميعها في مسألة النبوّة ، بأن يقال : إنّ الدليل الدالّ عليها إمّا مقيّد بزمان مجيء نبيّ آخر ، أو مطلق ... إلى آخر ما ذكرناه.

ومقتضى ظاهر كلام المحقّق القمّي رحمه‌الله عدم جريان الاستصحاب إلّا في قسم واحد منها ، أعني : صورة إهمال الدليل ، بأن كان من قبيل المضرّ الإجمالي الذي لم يظهر شموله لبعض الأفراد ولا تقيّده بعدمه. وأمّا باقي الأقسام فلا مسرح للاستصحاب فيها ، إمّا لوجود إطلاق الدليل كما في بعضها ، وإمّا لتقيّده كما في بعض آخر ، وإمّا لكون دلالته في الجملة ، كما في القسمين الأخيرين.

ووجه الاعتراض عليه : أنّ المدار في جريان الاستصحاب على قابليّة المستصحب للبقاء والاستمرار بحسب الواقع وظرف الخارج ، لا بحسب اقتضاء ظاهر الأدلّة ، فإذا كانت النبوّة قابلة للبقاء فلا يفرّق فيها بين كون دليلها مهملا وكونه دالّا في الجملة. نعم ، لا يجري مع إطلاق دليلها أو تقيّده ، نظرا إلى إطلاقه أو تقيّده ، لعدم جريانه مع وجود الدليل الاجتهادي في مورده.

هذا ، ويرد عليه أنّ المدار في جريان الاستصحاب وإن كانت قابليّة المستصحب للبقاء والاستمرار في الخارج إن قلنا باعتبار ذلك في جريانه ، إلّا أنّ الكاشف عنه هو الدليل الدالّ عليه ، لأنّ قابليّة الاستمرار وعدمها في مسألة النبوّة إنّما هي بحسب جعل الشارع وإرادته ، نظير سائر الأحكام الشرعيّة ، فربّما يعتبرها إلى زمان معيّن ، فلا تستعدّ للبقاء بعده ، فلا بدّ من ملاحظة الدليل المثبت لها على نحو ما فصّله المحقّق القمّي رحمه‌الله. ومجرّد الصلاحيّة للبقاء ولو بعد جعل الشارع غير كاف في المقام ، كما هو واضح.

٤٨٠