التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٧
الجزء ١ الجزء ٢

الضعف متروك. ولم يخرج ابن جرير ولا ابن أبي حاتم من هذا الطريق شيئا ، وإنما أخرجها ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبّان (١).

السابع : طريق صالح ، هو طريق أبي الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الخراساني ، المروزي. أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها. وكان مشهورا بتفسير كتاب الله العزيز ، وله التفسير المشهور. قال ابن خلكان : أخذ الحديث عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح والضحاك وغيرهم ، وكان من العلماء الأجلّاء. قال الإمام الشافعي : الناس كلهم عيال على مقاتل بن سليمان في التفسير. (٢) توفّي سنة (١٥٠).

قال أحمد بن سيّار : كان من اهل بلخ ، وتحوّل إلى مرو ، وخرج إلى العراق. توفّي بالبصرة سنة (١٥٠).

كان تفسيره موضع إعجاب العلماء من أول يومه ، غير أنهم كانوا يتّهمونه بأشياء هو منها براء. قال القاسم بن أحمد الصفّار : قلت لإبراهيم الحربي : ما بال الناس يطعنون على مقاتل؟ قال : حسدا منهم له.

فعن ابن المبارك ـ لما نظر إلى شيء من تفسيره ـ : يا له من علم ، لو كان له

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٨.

(٢) وفيات الأعيان ، ج ٥ ، ص ٢٥٥ ، رقم ٧٣٣. قال شواخ : وتوجد قائمة بالتفاسير الثابتة التي أخذت من هذه التفاسير عند مسينون. وكان هذا التفسير أحد مراجع الثعلبي في كتابه «الكشف والبيان». وقد حصل الخطيب البغدادي في دمشق على إجازته وروايته. كما في مشيخته. وقد استخدمه الطبري في تفسيره وفي تاريخه. وقد حققه الدكتور شحاتة ، وهو في رواية أبي صالح الهذيل بن حبيب الدنداني الذي كان يعيش في سنة (١٩٠) ه وقد أضاف هذا في بعض المواضيع في نصّ مقاتل من أسانيد بعض الآخرين. راجع : معجم مصنّفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٧٠ ، رقم ١٠٠٧.

٢٨١

إسناد! وعن سفيان بن عبد الملك ، عنه قال : ارم به ، وما أحسن تفسيره ، لو كان ثقة!

قال عبد الرزاق : سمعت ابن عيينة يقول : قلت لمقاتل : تحدّث عن الضحّاك ، وزعموا أنك لم تسمع منه! قال : سبحان الله ، لقد كنت آتيه مع أبي ، ولقد كان يغلق عليّ وعليه الباب! كناية عن أنه كان يبادله الحديث ساعات طوال (١).

ورماه أبو حنيفة بالتشبيه. ولكن لما سأله بعضهم عن ذلك ، فقال : بلغني أنك تشبّه؟ قال : إنما أقول : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فمن قال غير ذلك فقد كذب (٢).

وأخرج الخطيب عن القاسم بن أحمد الصفار ، قال : كان إبراهيم الحربي يأخذ منّي كتب مقاتل ، فينظر فيها. فقلت له ذات يوم : أخبرني يا أبا اسحاق ، ما للناس يطعنون على مقاتل؟ قال : حسدا منهم لمقاتل ، قال : وقال مقاتل : أغلق عليّ وعلى الضحاك باب أربع سنين.

قال الخطيب : وكان له معرفة بتفسير القرآن ، ولم يكن في الحديث بذاك. وأخرج عن أحمد بن حنبل ، قال : كانت له كتب ينظر فيها ، إلّا أني أرى أنه كان له علم بالقرآن. وعن يحيى بن سبل ، قال : قال لي عباد بن كثير : ما يمنعك من مقاتل؟ قال : قلت : إن أهل بلادنا كرهوه! قال : فلا تكرهنّه ، فما بقي أحد أعلم بكتاب الله منه. وكان عند سفيان بن عيينة كتاب مقاتل ، كان يستدل به ويستعين به. وقال مقاتل بن حيان ـ لما سئل أنت أعلم أم مقاتل بن سليمان ـ : ما وجدت علم مقاتل في علم الناس إلا كالبحر الأخضر (المحيط) في سائر البحور. وعن بقية بن الوليد ، قال : كنت كثيرا أسمع شعبة وهو يسأل عن مقاتل ، فما سمعته قطّ ذكره إلّا بخير.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ١٠ ، ص ٢٨٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٢٨٢

ومن طريف ما يذكر عنه ـ وهو حالّ ببغداد ـ : إن أبا جعفر المنصور كان جالسا ذات يوم ، وكان ذباب قد ألحّ عليه يقع على وجهه وألحّ في الوقوع مرارا حتى أضجره. فأرسل من يحضر مقاتل بن سليمان ، فلما دخل عليه قال له : هل تعلم لما ذا خلق الله الذّباب؟ قال : نعم ، ليذلّ الله به الجبّارين ، فسكت المنصور (١).

نعم كان الرجل صريحا في لهجته ، واسع العلم ، بعيد النظر ، شديدا في دينه ، صلبا في عقيدته. وفوق ذلك كان يميل مع مذهب أهل البيت ، ذلك المنهج الذي انتهجه أشياخه من قبل ، من المتأثّرين بمدرسة ابن عباس رضوان الله عليه ، الأمر الذي جعل من نفسه مرمى سهام الضعفاء القاصرين ، وكم له من نظير.

يدلك على استقامة الرجل في المذهب ، كما يدل على وثاقته واعتماد الأصحاب عليه أيضا ، ما رواه أبو جعفر الصدوق بإسناده الصحيح إلى الحسن بن محبوب ـ وهو من أصحاب الإجماع ـ عن مقاتل بن سليمان عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال : أنا سيّد النبيين ووصيّي سيّد الوصيّين وأوصياؤه سادة الأوصياء ـ ثم جعل يذكر الأنبياء وأوصياءهم حتى انتهى إلى بردة ، من أوصياء عيسى بن مريم عليهما‌السلام ـ قال : ودفعها (أي الوصاية) إلى بردة ، وأنا أدفعها إليك يا عليّ ـ إلى قوله ـ ولتكفرنّ بك الأمّة ، ولتختلفنّ عليك اختلافا شديدا ، الثابت عليك كالمقيم معي ، والشاذ عنك كالشاذ منّي ، والشاذّ منّى في النار ، والنار مثوى الكافرين (٢).

هذه الرواية إن دلّت فإنما تدلّ على كون الرجل من أخصّ الخواصّ لدى الإمام عليه‌السلام. وقد عدّه الشيخ أبو جعفر الطوسي ، من أصحاب الباقر

__________________

(١) تاريخ بغداد ، ج ١٣ ، ص ١٦٠ ـ ١٦٩. وابن خلكان ، ج ٥ ، ص ٢٥٥ ، رقم ٧٣٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ، ج ٤ ، ص ١٢٩ ـ ١٣٠ ، باب ٢٧ / ١.

٢٨٣

والصادق عليهما‌السلام. (١)

وله رواية أخرى ، رواها الكليني بإسناده الصحيح إلى ابن محبوب عنه عن الصادق عليه‌السلام (٢).

وعدّه أبو عمرو الكشّي من البتريّة (الزيدية) (٣). لكن يبعّده أن عقيدته كانت امتدادا لعقيدة ابن عباس.

وبعد ، فلعلّك تعرف السبب فيما ذكره السيوطي بشأنه : الكلبي يفضّل عليه ، لما في مقاتل من المذاهب الرديئة. (٤) أما الخليلي فقد أنصف حيث قال : فمقاتل في نفسه ضعّفوه ، وقد أدرك الكبار من التابعين. والشافعي أشار إلى أن تفسيره صالح (٥).

الثامن ـ أيضا صالح ـ : طريق أبي الحسن عطية بن سعد بن جنادة ، العوفي الكوفي المتوفّى سنة (١١١) قال الذهبي : تابعي شهير (٦) ، روى عن ابن عباس وعكرمة وزيد بن أرقم وأبي سعيد. قال عطية : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرّات على وجه التفسير ، وأمّا على وجه القراءة فقرأت عليه سبعين مرة. وعن ملحقات الصراح : أنّ له تفسيرا في خمسة أجزاء (٧). قال ابن عديّ : قد روى عن جماعة من الثقات ، وهو مع ضعفه يكتب حديثه ، وكان يعدّ مع شيعة أهل

__________________

(١) رجال الطوسى ، ص ١٣٨ ، رقم ٤٩ وص ٣١٣ ، رقم ٥٣٦.

(٢) روضة الكافي ، ج ٨ ، ص ٢٣٣ ، رقم ٣٠٨.

(٣) رجال الكشّي ، ص ٣٣٤ ، رقم ٢٥٢.

(٤) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩.

(٥) المصدر نفسه ، ص ٢٠٨.

(٦) ميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ٧٩ ـ ٨٠ رقم ٥٦٦٧.

(٧) تنقيح المقال للمامقاني ، ج ٢ ، ص ٢٥٣ ، رقم ٧٩٤١.

٢٨٤

الكوفة. كتب الحجّاج إلى عامله محمد بن القاسم أن يعرضه على سبّ عليّ عليه‌السلام فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته ، فاستدعاه فأبى أن يسبّ ، فأمضى فيه حكم الحجّاج. ثم خرج إلى خراسان ، فلم يزل بها حتى ولّى عمر بن هبيرة العراق ، فقدمها فلم يزل بها إلى أن توفّي سنة (١١١) وقال ابن حجر : وكان ثقة إن شاء الله ، وله أحاديث صالحة ، قال : ومن الناس من لا يحتجّ به. وقال ابن معين : صالح الحديث.

قال أبو بكر البزّار : كان يعد في التشيّع ، وروى عنه جلّة الناس. وقال الساجي : ليس بحجّة ، وكان يقدّم عليّا على الكلّ (١).

قال السيوطي : وطريق العوفي عن ابن عباس ، أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا. والعوفي ضعيف ليس بواه. وربّما حسن له الترمذي (٢).

قلت : لا قدح فيه بعد أن كان منشأ الغمز هو تشيّعه لآل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدفاع عن حريمهم الطاهر. ومن ثم فقد اعتمده القوم ورأوا أحاديثه صالحة وكان عندهم مرضيّا.

فقد ذكر أبو عبد الله الذهبي ـ في ترجمة أبان بن تغلب ، بعد أن يصفه بأنه شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته ، وقد وثّقه ابن حنبل وابن معين وأبو حاتم ـ : فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟!

قال : وجوابه ، إن البدعة على ضربين ، فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلوّ ولا تحرّف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق.

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩.

٢٨٥

فلو ردّ حديث هؤلاء ، لذهب جملة من الآثار النبويّة ، وهذه مفسدة بيّنة (١).

قال ابن حجر ـ بعد أن ذكر توثيق ابن عديّ لأبان بن تغلب قائلا : له نسخ عامتها مستقيمة ، إذا روي عنه ثقة. وهو من أهل الصدق في الروايات ، وإن كان مذهبه مذهب الشيعة ، وهو في الرواية صالح لا بأس به ـ قال ابن حجر : هذا قول منصف ، وأما الجوزجاني فلا عبرة بحطّه على الكوفيين (٢).

وذكر النجاشي أن عطية العوفي ، روى عنه أبان بن تغلب ، وخالد بن طهمان السلولي ، وزياد بن المنذر (أبو الجارود) (٣).

قال المحدّث القمي : عطيّة العوفي أحد رجال العلم والحديث يروي عنه الأعمش وغيره ، وروي عنه أخبار كثيرة في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو الذي تشرّف بزيارة الحسين عليه‌السلام مع جابر الأنصاري يوم الأربعين ، الذي يعدّ من فضائله أنه كان أوّل من زاره بعد شهادته. قال : ويظهر من كتاب بلاغات النساء أنه سمع عبد الله الحسن يذكر خطبة فاطمة الزهراء عليهما‌السلام في أمر فدك (٤).

ومن مواقفه الحاسمة دون بني هاشم ، أنه كان رأس الفريق الذين انتدبهم أبو عبد الله الجدلي مبعوث المختار بن أبي عبيدة الثقفي في أربعة آلاف لإنقاذ بني هاشم ـ وفيهم محمد ابن الحنفية وعبد الله بن عباس ـ من دور قد جمع عبد الله بن الزبير لهم حطبا ليحرقهم بالنار ، إن لم يبايعوا ، فدخل عطية بن سعد بن جنادة العوفي مكة ، فكبّروا تكبيرة سمعها ابن الزبير ، فانطلق هاربا حتى دخل دار

__________________

(١) ميزان الاعتدال ، ج ١ ، ص ٥.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ١ ، ص ٩٣.

(٣) رجال النجاشي (ط حجرية) ، ص ٧ و ١١٠ و ١٢١.

(٤) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٢٠٥. وأما الزيارة فقد نقلها السيد أمين في اللواعج ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ عن كتاب بشارة المصطفى لعماد الدين الطبري.

٢٨٦

الندوة ، ويقال : تعلّق بأستار الكعبة ، وقال : أنا عائذ الله. فأقبل عطية فأخّر الحطب عن الأبواب ، وأنقذهم. في تفصيل ذكره محمد بن سعد كاتب الواقدي في الطبقات (١).

قال الدكتور شواخ : كان عطية شيعيّا وعدّه الكلبي حجّة في تفسير القرآن. وهذا التفسير مروي ، فقد نقل الطبري من هذا التفسير نقولا استخدمها في (١٥٦٠) موضعا من تفسيره بالسند التالي : «حدّثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمّي الحسين بن الحسن عن أبيه عن جدّه (عطيّة بن سعد العوفي) عن ابن عباس». كما استخدم الطبري في تاريخه أيضا نقولا وشواهد من هذا التفسير. وقد استخدم الثعلبي السند السابق في كتابه «الكشف والبيان». وهذا التفسير يدخل ضمن الكتب التي حصل الخطيب البغدادي على حق روايتها من أساتذته في دمشق ، كما في مشيخته ، وتاريخ التراث العربي (١ / ١٨٧ ـ ١٨٨) (٢).

وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ـ في المنتخب من ذيل المذيّل ـ فيمن توفّي سنة (١١١) ، قال : ومنهم عطيّة بن سعد بن جنادة العوفي من جديلة قيس ويكنّى أبا الحسن. قال ابن سعد : أخبرنا سعيد بن محمد بن الحسن بن عطيّة ، قال : جاء سعد بن جنادة إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وهو بالكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ، أنه ولد لي غلام فسمّه ، فقال : هذا عطيّة الله ، فسمّي عطيّة. وكانت أمّة روميّة. وخرج عطيّة مع ابن الأشعث. هرب عطيّة إلى فارس ، وكتب الحجاج

__________________

(١) الطبقات ، ج ٥ ، ص ٧٤ ـ ٧٥ في ترجمة محمد ابن الحنفية. (ط ليدن ١٣٢٢ ه‍)

(٢) معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٢ ، رقم ٩٩٧.

٢٨٧

إلى محمد بن القاسم الثقفي أن ادع عطيّة فإن لعن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وإلّا فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته. فدعاه وأقرأه كتاب الحجاج ، وأبي عطيّة أن يفعل ، فضربه أربعمائة سوط وحلق رأسه ولحيته. فلمّا ولّى قتيبة بن مسلم خراسان خرج إلى عطية ، فلم يزل بخراسان حتى ولّي عمر بن هبيرة العراق ، فكتب إليه عطيّة يسأله الإذن له في القدوم فأذن له ، فقدم الكوفة فلم يزل بها إلى أن توفّي سنة (١١١) وكان كثير الحديث ثقة إن شاء الله (١).

التاسع ـ وهو أيضا طريق صالح على الأرجح ـ : طريق أبي النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي الكوفي ، النسّابة المفسر الشهير. عن أبي صالح مولى أمّ هانئ ، عن ابن عباس.

وقد وصفه السيوطي بأنه أوهى الطرق ، وأضاف : فإن انضمّ إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدّي الصغير ، فهي سلسلة الكذب. قال : وكثيرا ما يخرّج منها الثعلبي (٢) والواحدي (٣).

ثم استدرك ذلك بقوله : لكن قال ابن عديّ في الكامل : للكلبي أحاديث صالحة ، وخاصّة عن أبي صالح ، وأخيرا قال : وهو ـ الكلبي ـ معروف بالتفسير ،

__________________

(١) منتخب ذيل المذيّل ، ص ١٢٨ الملحق بالجزء الثامن من تاريخ الطبري (ط القاهرة ١٣٥٨ ه‍)

(٢) هو أبو اسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري. وقد اعتمده أكابر المفسرين أمثال الزمخشري والطبرسي وغيرهما. قال القمي : كان يتشيّع ، أو لم يكن يتعصّب كما يتعصّب أقرانه. توفّي سنة ٤٢٧ أو ٤٣٧ (الكنى والألقاب ، ج ٢ ، ص ١٣١)

(٣) هو أبو الحسن عليّ بن أحمد النيسابوري أستاذ عصره وواحد دهره ، وكان النظام يكرمه ويعظّمه. توفّي سنة ٤٦٨. (الكنى والألقاب ، ج ٣ ، ص ٢٧٧)

٢٨٨

وليس لأحد تفسير أطول ولا أشبع منه (١).

قال ابن خلّكان : صاحب التفسير وعلم النسب ، كان إماما في هذين العلمين. (٢) قال ابن سعد : كان محمد بن السائب عالما بالتفسير وأنساب العرب وأحاديثهم ، وتوفّي بالكوفة سنة (١٤٦) في خلافة أبي جعفر المنصور (٣).

وكان يتشيّع عن إرث تليد ، وليس طارفا. قال ابن سعد : وكان جدّه بشر بن عمرو وبنوه : السائب وعبيد وعبد الرحمن ، شهدوا الجمل مع عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. (٤)

وللكليني شهادة راقية بشأن الكلبي ، يذكر قصّة استبصاره ، ثمّ يعقّبها بقوله : «فلم يزل الكلبي يدين الله بحبّ آل هذا البيت حتى مات» (٥).

ومن ثمّ رموه بالضعف تارة وبالابتداع أخرى ، ومع ذلك فلم يجدوا بدّا من الانصياع لمقام علمه الرفيع ، وأن يلمسوا أعتابه بكل خضوع وبخوع. فقد اعتمده الأئمّة وجهابذة التفسير والحديث (٦).

أما ما ألصقوه به من الغلوّ في التشيّع فلا أساس له ، وإنما وضعوه عليه قصدا لتشويه سمعته ، بعد أن لم يكن رميه بمجرّد التشيّع قدحا فيه. فعن المحاربي قال : قيل لزائدة بن قدامة : ثلاثة لا تروي عنهم ، ابن أبي ليلى ، وجابر الجعفي ، والكلبي؟

__________________

(١) الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٠٩.

(٢) وفيات الأعيان ، ج ٤ ، ص ٣٠٩ ، رقم ٦٣٤.

(٣) الطبقات ، ج ٦ ، ص ٢٤٩ (ط ليدن)

(٤) المصدر نفسه. وتهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٨٠.

(٥) الكافي الشريف ، ج ١ ، ص ٣٥١ ، رقم ٦.

(٦) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٧٨ رقم ٢٦٦.

٢٨٩

قال : أما ابن أبي ليلى فلست أذكره ، وأما جابر فكان يؤمن بالرجعة (١) ، وأما الكلبي ـ وكنت اختلف إليه ـ فسمعته يقول : مرضت مرضة فنسيت ما كنت أحفظ ، فأتيت آل محمد ، فتفلوا في فيّ فحفظت ما كنت نسيت! قال : فتركته (٢) وعن أبي عوانة : سمعت الكلبي بشيء ، من تكلّم به كفر. قال الأصمعي : فراجعت الكلبي وسألته عن ذلك ، فجحده. قال الساجي : كان ضعيفا جدّا ، لفرطه في التشيّع (٣).

هذا ، ولكن ابن عديّ قال بشأنه : له غير ذلك (الذي رموه بالغلوّ) أحاديث

__________________

(١) بما ذا يفسّر منكروا الرجعة ، قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ. وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) النمل / ٨٢ ـ ٨٣.

ما ذاك اليوم الذي تخرج الدابّة لتكلمهم ولتلزمهم الحجّة ، وقد وقع القول عليهم؟! (مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥)

وما ذاك اليوم الذي يحشر من كل أمة فوج؟ وقد صرّح المفسرون بأنّ «من» هنا للتبعيض (الفخر ، ج ٢٤ ، ص ٢١٨).

في حين أن يوم الحشر الأكبر هو اليوم الذي يحشر من كل أمة فوج؟ وقد صرّح المفسرون بأنّ «من» هنا للتبعيض (الفخر ، ج ٢٤ ، ص ٢١٨) في حين أن يوم الحشر الأكبر هو اليوم الذي يحشر فيه الناس جميعا (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) الكهف / ٤٧ ، قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) النمل / ٨٧.

(٢) هذا كلام من أعمته العصبية الجهلاء ، كيف يستنكر ذلك بشأن آل محمد الطيّبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا! أليس الله قد شافى عليّا عليه‌السلام من الرمد يوم خيبر ، بريق النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبما رواه الفريقان واتفقت عليه كلمة الأئمّة الثقات. قال أبو نعيم : فبصق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع (حلية الأولياء ، ج ١ ، ص ٦٢ ، رقم ٤)

وهذا من فضل الله على عباده المخلصين ، يجيب دعاءهم ويجعل الشفاء على يديهم رحمة منه على العباد.

(٣) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٧٩ ـ ١٨٠.

٢٩٠

صالحة ، وخاصّة عن أبي صالح ، وهو معروف بالتفسير ، وليس لأحد أطول من تفسيره. قال : وحدّث عنه ثقات من الناس ورضوه في التفسير (١).

ولأبي حاتم ـ هنا ـ كلام غريب ، ننقله بلفظه :

قال : يروي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير ، وأبو صالح لم ير ابن عباس ولا سمع منه شيئا ، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلّا الحرف بعد الحرف ، فجعل لما احتيج له ، تخرج له الأرض أفلاذ كبدها!

قال : لا يحلّ ذكره في الكتب ، فكيف الاحتجاج به! والله جلّ وعلا ولّى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفسير كلامه. (٢) ومحال أن يأمر الله نبيّه أن يبيّن لخلقه مراده ويفسره لهم ، ثمّ لا يفعل ، بل أبان عن مراد الله وفسّر لأمته ما يهمّ الحاجة إليه ، وهو سننه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن تتّبع السّنن ، حفظها وأحكمها ، فقد عرف تفسير كلام الله ، وأغناه عن الكلبي وذويه.

قال : وما لم يبيّنه من معاني الآي ، وجاز له ذلك ، كان لمن بعده من أمّته أجوز وترك التفسير لما تركه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحرى. ومن أعظم الدليل على أن الله لم يرد تفسير القرآن كله ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك من الكتاب متشابها من الآي ، وآيات ليس فيها أحكام ، فلم يبيّن كيفيّتها لأمّته ؛ فدلّ ذلك على أن المراد من قوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) كان بعض القرآن لا كلّه (٣).

قلت : هذا كلام ناشئ عن عصبيّة عمياء. كيف يجرأ مسلم متعهّد أن ينسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لم يفسّر لأمته جميع ما أبهم في القرآن إبهاما ، وقد أمره

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ١٨٠.

(٢) في الآية ، رقم ٤٤ من سورة النحل.

(٣) كتاب المجروحين لابن حبّان ، ج ٢ ، ص ٢٥٥.

٢٩١

تعالى بذلك : وقد أثبتنا فيما قبل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن الجميع إمّا في إيجاز أو تفصيل ، ولم يترك شيئا تحتاج إليه أمّته ـ ومنها فهم معاني القرآن كله ـ لم يبيّنه لهم ، إنما عليه البيان كما كان عليه البلاغ.

أما توسّع الكلبي في التفسير فأمر معقول ، بعد كونه ناجما عن توسّعه في العلم ، وتربيته في مهد العلم كوفة العلماء الأعلام من صحابة الرسول الأخيار. وهذا لا يعدّ عيبا في الرجل.

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وتفسير الكلبي هذا لا يزال موجودا منعما بالحياة ، وقد استقصى الدكتور شواخ نسخه المخطوطة في المكتبات اليوم ، منذ نسخته التي كتبت سنة (١٤٤) ه حتى القرن (١٢) (١).

وأما أبو صالح ـ ويقال له : باذام أو باذان ، مولى أم هانئ بنت أبي طالب ـ فقد روى عن علي عليه‌السلام وابن عباس ومولاته أم هانئ ، وروى عنه الأجلّاء كالأعمش والسدّي الكبير والكلبي والثوري وغيرهم.

قال عليّ بن المديني عن يحيى القطان : لم أر أحدا من أصحابنا تركه ، وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا.

قال ابن حجر : وثّقه العجلي وحده. قال : ولمّا قال عبد الحق ـ في الأحكام ـ : إن أبا صالح ضعيف جدّا ، أنكر عليه أبو الحسن ابن القطان في كتابه (٢). وقال ابن معين : ليس به بأس. وقال ابن عديّ : عامة ما يرويه تفسير (٣).

__________________

(١) معجم مصنفات القرآن الكريم ، ج ٢ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٩ ، رقم ١٠٠٥.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ١ ، ص ٤١٦.

(٣) ميزان الاعتدال ، ج ١ ، ص ٢٩٦.

٢٩٢

قلت : ما وجه تضعيفه إلّا ما ضعّف به نظراؤه ممن حام حول هذا البيت الرفيع ؛ إذ من الطبيعي أن مولى أمّ هانئ أخت الإمام أمير المؤمنين ، وقد كانت كأخيها الإمام موضع عناية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّل يومها (١) ، وكانت ذات علاقة بأخيها أمير المؤمنين عليه‌السلام تخلص له الولاء ، فلا يكون مولاها ـ وهو تحت تربيتها ـ بالذي يختار غير سبيلها المستقيم ، فلا غرو إذن ممن لا يعرف ولاء لهذا البيت أن يتّهم الموالين لهم ، وأقلّه الرمي بالضعف!

هذا الجوزجاني يقول : كان يقال له : ذو رأي غير محمود! (٢) نعم غير محمود عندهم ، ولا كان مرضيّا لديهم ، ما دام لم ينخرط في زمرتهم من ذوي الرأي العام.

وبعد ، فقد تفرّد ابن حبّان بأن أبا صالح باذان لم يسمع عن ابن عباس. كيف لم يسمع منه وهو معه في زمرة عليّ مع سائر أوليائه الكرام! قال ابن سعد : أبو صالح ، واسمه باذام ، ويقال : باذان ، مولى أم هانئ بنت أبي طالب ، وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس ، ورواه عنه الكلبي محمد ابن السائب ، وأيضا سماك بن حرب وإسماعيل بن أبي خالد (٣).

وأما محمد بن مروان بن عبد الله الكوفي ، السدّي الصغير ، فقد روى عن جماعة من أهل العلم كالأعمش ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن السائب الكلبي وأضرابهم. وروى عنه الكثير من الأعلام كالأصمعي وهشام بن عبيد الله الرازي ويوسف بن عديّ وأمثالهم. مما ينبؤك عن موضع الرجل ، وأنه موضع

__________________

(١) راجع : الإصابة لابن حجر ، ج ٤ ، ص ٥٠٣.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ١ ، ص ٤١٧.

(٣) الطبقات ، ج ٦ ، ص ٢٠٧ (ط ليدن)

٢٩٣

الثقة من أئمة الحديث.

وقد ضعّفه كثير من أصحاب التراجم (١) على ديدنهم في التحامل على الكوفيين ، على ما أسلفنا ، سوى أن محمد بن إسماعيل البخاري لم يضعّفه صريحا ؛ اذ لم يجد إلى ذلك سبيلا ، واكتفى بأن لا يكتب حديثه. قال : محمد بن مروان الكوفي ، صاحب الكلبي ، سكتوا عنه ، لا يكتب حديثه البتة. (٢) وقال النسائي : متروك الحديث (٣).

وقد عدّه ابن شهرآشوب من أصحاب الإمام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام ، قال :

ومحمد بن مروان الكوفي ، من ولد أبي الأسود (٤) ، ولعله من جهة البنت. وكذا عدّه الشيخ من رجال الباقر عليه‌السلام (٥) ، لكن وصفه بالكلبي نسبة إلى شيخه محمد بن السائب. وفي الكشّي ـ في ترجمة معروف بن خربوذ ـ رواية عن محمد بن مروان ـ ولعله السدّي ـ تدل على ملازمته للإمام الصادق عليه‌السلام عند ما كان يقدم عليه المدينة ، أو عند ما كان الإمام مبعدا إلى الحيرة في العراق (٦).

وأما التفسير الذي يحمل عنوان «تفسير ابن عباس» باسم «تنوير المقباس» (٧) ، فقد ذكروا أنه من جمع الفيروزآبادي صاحب القاموس ، لكنه بنفس

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ٤٣٦ ، رقم ٧١٩.

(٢) كتاب الضعفاء للبخاري ، ص ١٠٥ ، رقم ٣٤٠.

(٣) كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي ، ص ٩٤ ، رقم ٥٣٨.

(٤) المناقب ، ج ٤ ، ص ٢١١.

(٥) رجال الطوسي ، ص ١٣٥ ، رقم ٤.

(٦) رجال الكشّي ، ص ١٨٤ ، رقم ٨٨.

(٧) طبع مرارا وعلى هامش الدر المنثور أيضا.

٢٩٤

الإسناد الذي وصفه السيوطي بأنه سلسلة الكذب حسب تعبيره.

وإليك بعض الكلام عنه :

تفسير ابن عباس

هناك تفاسير منسوبة إلى ابن عباس ، منها : ما رواه مجاهد بن جبر. ذكره ابن النديم في الفهرست بروايتين : إحداهما عن طريق حميد بن قيس ، والأخرى عن طريق أبي نجيح يسار الثقفي الكوفي ، توفّي سنة (١٣١) يرويه عنه ابنه أبو يسار عبد الله بن أبي نجيح ، وعنه ورقاء بن عمر اليشكري (١).

وهذا الطريق صححته الأئمّة واعتمده أرباب الحديث. وقد طبع أخيرا باهتمام مجمع البحوث الإسلامية بباكستان سنة (١٣٦٧) ه. ق (٢) ، وقد مر شرحه في ترجمة مجاهد.

الثاني : تفسير ابن عباس عن الصحابة ، لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي المتوفّى سنة (٣٣٢) وهذا ذكره أبو العباس النجاشي ، قال : الجلودي الأزدي البصري أبو أحمد شيخ البصرة وأخباريّها ، وكان من أصحاب أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. وجلود : قرية في البحر ، وقيل : بطن من الأزد. قال : وله كتب ذكرها الناس ـ وعدّها أكثر من سبعين كتابا ـ وذكر منها الكتب المتعلقة بابن عباس مسندة عنه ، منها : كتاب التنزيل عنه ، وكتاب التفسير عنه ، وكتاب تفسيره عن الصحابة (٣).

الثالث : تفسير ابن عباس الموسوم ب «تنوير المقباس» من تفسير عبد الله بن

__________________

(١) الفهرست لابن النديم ، ص ٥٦.

(٢) راجع : معجم مصنفات القرآن الكريم للدكتور شواخ ، ج ٢ ، ص ١٦٠ ، برقم ٩٩٤.

(٣) فهرست مصنفي الشيعة للنجاشي ، ص ١٦٨.

٢٩٥

عباس ، في أربعة أجزاء ، من تأليف محمد بن يعقوب الفيروزآبادي صاحب القاموس (٧٢٩ ـ ٨١٧) (١). وقد طبع مكررا ، وفي هامش الدر المنثور أيضا.

والسند في أوّله هكذا : أخبرنا عبد الله ـ الثقة ـ ابن المأمون الهروي ، قال : أخبرنا أبي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله ، قال : أخبرنا أبو عبيد الله محمود بن محمد الرازي ، قال : أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروي ، قال : أخبرنا عليّ بن إسحاق السمرقندي ، عن محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس (٢).

غير أنّ عليّ بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي السمرقندي ، قال ابن حجر : مات في شوال سنة (٢٣٧) (٣). وأما محمّد بن مروان السدّي الصغير ، فقد توفّي سنة (١٨٦) وعليه فيكون تحمّله عنه في حال الصغر جدّا (٤).

وسائر رجال السند مجهولون ، كما لم يأت تصريح باسم الجامع الذي يقول : «أخبرنا عبد الله الثقة» ، هل هو الفيروزآبادي صاحب القاموس أم غيره؟ وإنما ذكره الحلبي في كشف الظنون (٥). وسار خلفه (سائر أصحاب التراجم)

وعلى أيّ تقدير فإن هذا التفسير الموجود يعتبر مجهول السند ومجهول النسبة إلى مؤلّف خاص ، فضلا عن مثل ابن عباس.

هذا ولا سيما بعد ملاحظة متن التفسير ؛ حيث لا يعدو ترجمة ألفاظ القرآن ترجمة غير مستندة ومختصرة إلى حدّ بعيد ، مما يبعّد كونه من تفسير حبر الأمّة وترجمان القرآن.

__________________

(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة لآغا بزرگ الطهراني ، ج ٤ ، ص ٢٤٤.

(٢) هامش الجزء الأول من الدر المنثور ، ص ٢.

(٣) تهذيب التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٨٣.

(٤) فلو فرض أنّ السمرقندي عاش سبعين عاما ، فيكون حين وفاة السدّي الصغير تحت العشرة.

(٥) كشف الظنون ، ج ١ ، ص ٥٠٢. وراجع : الذريعة ، ج ٤ ، ص ٢٤٤.

٢٩٦

على أنّ للكلبي ، وكذا للسدّي الصغير ، تفسير جامع وموضع اعتبار لدى الأئمّة على ما أسلفنا ، فلو كانا هما الراويين لهذا التفسير لكان فيه شيء من آثارهما ، وعلى تلك المرتبة من الجلالة والشأن.

كما أنّ المأثور من ابن عباس ، على ما جمعه الطبري وغيره ، لا يشبه شيئا من محتوى هذا التفسير الساذج جدّا ، مثلا يقول : عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بالتناسل ... (١) وهلّم جرّا.

والذي يبدو لنا من مراجعة هذا التفسير أنّ جامعه عمد إلى تفسير القرآن تفسيرا ساذجا في حدّ ترجمة بسيطة ، تسهيلا على عموم المراجعين ، وهذا أمر مطلوب ومرغوب فيه شرعا. ولكنه صدّر كل سورة برواية عن ابن عباس ، تيمّنا وتبرّكا باسم ترجمان القرآن. ولم يقصد أن كل ما ورد في تفسير السورة من تفسيره بالذات ، الأمر الذي اشتبه على الأكثر ، فزعموه تفسيرا مستندا إلى ابن عباس في الجميع. وهذا وهم أوهمه ظاهر التعبير ، فليتنبّه.

قيمة تفسير الصحابي

مما يجدر التنبّه له أن الدور الأوّل على عهد الرسالة ، كان دور تربية وتعليم ، ولا سيّما بعد الهجرة إلى المدينة ، كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ركّز جلّ حياته على تربية أصحابه الأجلاء وتعليمهم الآداب والمعارف ، والسنن والأحكام وليجعل منهم أمّة وسطا ليكونوا شهداء على النّاس (٢) ، فقد جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ل (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ

__________________

(١) أول سورة النساء (الدر المنثور ـ الهامش ، ج ١ ، ص ٢٣٣)

(٢) من الآية رقم ١٤٣ من سورة البقرة.

٢٩٧

وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١).

ولا شك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ما كان من شأنه أن يفعل وربّى من أصحابه ثلة من علماء ورثوا علمه وحملوا حكمته إلى الملأ من الناس.

وإذا كان القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٢) ، وقد بلّغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس ، فقد بيّن معالمه وأرشدهم إلى معاني حكمه ومعاني آياته ؛ إذ كان عليه البيان كما كان عليه البلاغ (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٣).

وهل كان دور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمّته ، وفي أصحابه الخلّص بالخصوص ، سوى دور معلم ومرشد حكيم؟ فلقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حريصا على تربيتهم وتعليمهم في جميع أبعاد الشريعة ، وبيان مفاهيم الإسلام.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن من صحابته الأخيار ـ ممّن رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ من كان على وفرة من الذكاء ، طالبا مجدّا في طلب العلم والحكمة والرشاد ، مولعا بالسؤال والازدياد من معارف الإسلام ، وكانوا كثرة من ذوي النباهة والفطنة والاستعداد (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)(٤) ، واستقاموا على الطريقة ، فسقاهم ربهم (ماءً غَدَقاً)(٥).

وقد عرفت كلام ابن مسعود : «كان الرجل منّا إذا تعلّم عشر آيات ، لم

__________________

(١) الجمعة / ٢.

(٢) النحل / ٨٩.

(٣) النحل / ٤٤.

(٤) الأحزاب / ٢٣.

(٥) الجنّ / ١٦.

٢٩٨

يجاوزهنّ حتى يعلم معانيهنّ والعمل بهنّ» (١).

وهو أقدم نصّ تاريخي يدلّنا على مبلغ اهتمام الصحابة بمعرفة معاني القرآن واجتهادهم في العمل بأحكامه.

وهذا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول ـ بشأن ما كان يصدر منه من عجائب أحكام وغرائب أخبار ـ : «وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، علم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي» (٢).

وهذا ابن عباس ـ تلميذه الموفّق ـ كان من أحرص الناس على تعلّم العلم ومعرفة الأحكام والحلال والحرام من شريعة الإسلام. وكان قد تدارك ـ لشدة حرصه في طلب العلم ـ ما فاته أيّام حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصغره (٣) بمراجعة العلماء من صحابته الكبار بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان النبي قد دعا له : «اللهم علّمه التأويل وفقّهه في الدين ، واجعله من أهل الإيمان» (٤).

روى الحاكم في المستدرك بشأن حرصه على طلب العلم : أنه بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل من الأنصار : هلّم ، فلنطلب العلم ، فإنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياء. فقال : عجبا لك يا ابن عباس ، ترى الناس يحتاجون إليك ، وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم. فأقبل ابن عباس يطلب العلم ، قال : إن كان الحديث ليبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سمعه منه ، فآتيه فأجلس ببابه ، فتسفي الرّيح على وجهي ، فيخرج إليّ فيقول : يا ابن عمّ رسول الله ،

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ١ ، ص ٢٧ و ٣٠.

(٢) نهج البلاغة ، خ ١٢٨ ، ص ١٨٦ (ص ص)

(٣) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين.

(٤) أخرجه الحاكم وصححه. المستدرك ، ج ٣ ، ص ٥٣٦.

٢٩٩

ما جاء بك ، ما حاجتك؟ فأقول : حديث بلغني عنك ترويه عن رسول الله ، فيقول : ألا أرسلت إليّ؟! فأقول : أنا أحقّ أن آتيك (١).

ومن ثم كان يسمّى «البحر» لكثرة علمه. وعن مجاهد : هو حبر الأمّة. وعن ابن الحنفية : ربّاني هذه الأمّة (٢) ، إلى غيرها من تعابير تنمّ عن مدى رفعته في درجات العلم.

وقد كان يجلس للتفسير فيقع موضع إعجاب. قال أبو وائل : حججت أنا وصاحب لي ، وابن عباس على الحج ، فجعل يقرأ سورة النور ويفسّرها. فقال صاحبي : يا سبحان الله ، ما ذا يخرج من رأس هذا الرجل ، لو سمعت هذا الترك لأسلمت. وفي رواية عن شقيق : ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله ، لو سمعته فارس والروم لأسلمت. وقال عبد الله بن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس (٣).

وأسلفنا حديث مسروق بن الأجدع : وجدت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالإخاذ ، فالإخاذة تكفي الراكب ، والإخاذة تكفي الراكبين ، والإخاذة تكفي الفئام من الناس. وفي لفظ آخر : لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم (٤).

كناية عن أنهم كانوا على درجات من العلم ، كانوا يصدرون الناس عن رويّ كان مستقاه ومادته الأولى ، هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ربّاهم وأدّبهم فأحسن تأديبهم ، وإن كانوا هم على تفاوت في استعداد الأخذ والتلقّي (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ

__________________

(١) المستدرك ، ج ٣ ، ص ٥٣٨.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٥٣٥.

(٣) المستدرك ، ج ٣ ، ص ٥٣٧.

(٤) التفسير والمفسرون ، ج ١ ، ص ٣٦.

٣٠٠