وجُملة : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) ، تعني كلّ الكتب السّماوية ، ومن جُملتها القرآن الكريم ، وذلك لأنّ اصولها في الواقع واحدةٌ ، رغم أنّه وبمرور الزّمان ، وحركة المجتمع الإسلامي في خط التّكامل والتّطور ، نزلت أوامر وأحكام أكثر تطوراً من السابق.
«الآية الثامنة» : نستوحي منها تعبيراً جديداً عن علاقة الحياة الطيبة بالأعمال الصالحة ، (والصّفات التي هي منشأ لتلك الأعمال) ، فتقول الآية : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
الآيات السّابقة ، كانت تؤكّد على تأثير الأخلاق على آفاق وأبعاد حركة الإنسان في الحياة الإجتماعية ، وفي الآية هذه نجد أنّها تتناول الحياة الفردية ، فيذكر فيها أنّ كلّ إنسانٍ من ذكر وانثى ، إذا ما آمن وعمل صالحاً فسيحيى حياةً طيّبةً.
ولا نرى في هذه الآية أيّةَ إشارةٍ إلى أنّ «الحياة الطيّبة» محدودةٌ بيوم القيامة فقط ، بل تشير ظاهراً إلى (الحياة الطيّبة) في الدنيا ، أو تستوعب المفهوم العام للحياة في الدنيا والآخرة.
ولكن ما هي الحياة الطيّبة؟
إختلف المفسّرون في تفسير معنى الحياة الطيّبة ، فبعض فسّرها باللقمة الحلال ، وقال آخر أنّها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى ، وقال البعض أنّها العبادة مع لقمة الحلال ، وقال آخرون أنّها التّوفيق لطاعة الله تعالى ، وتبنّى آخرون تفسيرها بالنّظافة من جميع الأوساخ والأدران ، مثل الظّلم والخيانة والعدوان والذلّة والطّهارة والنّظافة والرّاحة ، فكلّها تندرج تحت ذلك المفهوم ، ولكن بالنّظر إلى جملة : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) ، النّاظرة للأجر الاخروي ، يتبيّن أنّ المقصود من كلمة «الحياة الطيّبة» ، هو الإشارة للحياة السّليمة في هذه الدنيا.
«الآية التاسعة» : تقرر أنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى والغفلة عنه ، هو السّبب في ضَنَك العيش وصعوبة الحياة ، فيقول الله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).
ونعلم أنّ ذكر الله ومعرفة اسمائه وصفاته المقدسة ، هو منبع لكلّ الكمالات ، بل هو عَين الكمال ، فذِكره سبب لتربيه وترشيد الفضائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان ، والصّعود به إلى آفاقٍ معنويّةٍ ساميةٍ ، في عالم التّخَلّق بالأسماء والصّفات الإلهيّة ، وهذا الخُلق هو مصدر الأعمال الصَّالحة ، وهو السّبب في الإنفتاح على الحياة السعيدة وتطهيرها ، وبالعكس ، فإنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى ، يبعده عن مصدر النّور الإلهي ، ويقترب به من الخُلق الشّيطاني والجوّ الظّلماني ، ممّا يؤدي بالإنسان إلى أن يعيش ضنك العيش ، وينحدر في مُنزلق النّهاية المأساويّة في حركة الحياة ، وهذه هي آيةٌ اخرى تبيّن بصراحةٍ ، علاقة الإيمان والأخلاق مع الحياة الفردية والإجتماعية للبشر.
وقد فسّر بعض أرباب اللّغة ، كلمة «معيشةٍ ضنكا» : بالحياة والمعيشة التي يتكسّب فيها من الحرام ، لأنّ مثل هذه المعيشة ، هي سبب القَلق والإضطراب الرّوحي في كثير من الامور.
وعلى حدّ تعبير بعض المفسّرين : إنّ الأفراد غير المؤمنين ، يغلب عليهم الحِرص الشّديد في امور الدنيا ، وعندهم عطشٌ مادي لا ينفذ ، وخوف من زوال النّعمة ، ولأجل ذلك يغلب عليهم البخل ، والصّفات الذّميمة الاخرى التي تضعهم في نارٍ محرقةٍ من الآلام الروحيّة والضّغوط النفسية ، (بالرغم من توفر الإمكانات الماديّة الكثيرة عندهم).
وعند ما يعيشون العمى في الآخرة ؛ فإنّما هو بسبب العمى في هذه الدنيا عن السير في طريق الحقّ والسّعادة ، وغرقهم في ظلمات الشّهوات الماديّة.
وسنشرح في نهاية هذا القسم هذه المسألة شرحاً وافياً.
«الآية العاشرة» : تتطرق لأحد الآثار السّيئة للعداوة والنّزاع ، الموجب لتدمير عُرى الوحدة ومُصادرة القوّة والقدرة ، فتقول : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
ومن البديهي أنّ المنازعات والإختلافات في حركة الواقع الإجتماعي ، إنّما هي من إفرازات الأخلاق الرّذيلة المنحطّة الكامنة في أعماق النّفس البشريّة مثل : الأنانيّة ، التكبّر ،
الحرص ، الحقد ، الحسد ، وأمثال ذلك من عناصر الشرّ والانحراف ، ويترتب على ذلك توكيد عناصر الفشل والإنحطاط ، وزوال عناصر العزّة والقوّة من واقع المجتمع البشري.
والجدير بالذّكر ، أنّ القُرآن عبّر هنا ب : (تَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
«الريح» في الأصل بمعنى «الهواء» ، وهي كناية عن : «القدرة والقوّة والغلبة» ، ويمكن إستيحاء هذا المعنى من أنّ الرّيح عند ما تُحرّك رايات القبيلة ؛ فانّه يُعدّ مظهراً للقوّة والغَلبة ، وعليه يكون مفهوم الجُملة ؛ أنّ الإختلاف هو سبب زوال قوّتكم وعظمتكم وقدرتكم.
أو أنّ المفهوم مقتبس من هبوب الرّياح الموافقة ، والتي هي سبب في سرعة حركة السّفن للوصول إلى المكان المقصود ، ومع إنعدامها تتوقف الحركة.
ويقول صاحب «التّحقيق» : يُوجد علاقة بين الرّوح والرّيح ، فالرّوح ما يحدث في ما وراء الطّبيعة ، والرّيح بمعنى الحدوث في الطّبيعة.
وجاءت كلمة «ريح» في بعض الموارد ، بمعنى العَطر الجميل ، مثل : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)(١).
وعلى هذا يمكن القول أنّ معنى الجملة هو : أنّ الإتحاد يفضي إلى إنتشار نفوذكم ورائحتكم في العالم ، وإذا ما إختلفتم ، فستفقدون نُفوذكم في العالم.
وعلى أيّة حال فأيّاً كان السّبب في الإختلاف ، سواء كان : (الأنانيّة ، الإنتفاعيّة ، الحسد ، البخل ، والحقد وغيرها) ، فسيكون له الأثر السّلبي في الحياة الإجتماعيّة وتخلّفها ، ومن هنا تتجلى علاقة المسائل الأخلاقية بالمسائل الإجتماعية في حركة الواقع الإجتماعي للبشر.
النتيجة :
نستوحي من الآيات الآنفة الذّكر ، أنّ الخُلق السّامي الإنساني ، لا يقتصر تأثيره على السّلوك المعنوي والاخروي للإنسان فحسب ، بل له الأثر الكبير في الحياة الماديّة والدنيويّة
__________________
١ ـ سورة يوسف ، الآية ٩٤.
للبشر ، وعليه لا ينبغي أن نتصور أنّ المسائل الأخلاقيّة ، مُنحصرة بالفرد وَحده على حساب الحياة الإجتماعية ، بل العكس صحيح ؛ فالأخلاق على علاقة قويّة ووطيدة مع الحياة الإجتماعيّة ، وأيّ تحوّل إجتماعي في واقع الحياة البشرية ، لا يمكن أن يحصل إلّا على أساس التّحول الأخلاقي.
وبتعبير آخر : إنّ النّاس الذين يعيشون في مجتمع كبير ، ويرغبون في حياةٍ سعيدةٍ مقرونةٍ بالسّلم والتعاون المشترك ، يجب عليهم على الأقل أن يَصِلوا إلى رُشدٍ أخلاقي ، يدركون معه الحقائق المتعلقة بإختلاف أفراد الإنسان فكراً وروحاً وعاطفةً ، لأنّ الأفراد يختلفون عن بعضهم البعض ، فلا نتوقع أبداً من الآخرين أن يتبعونا في كلّ شيء ، والمهم في المسألة هو السّعي في الحفاظ على الاصول المشتركة بين المجتمع ، وإختلاف الأذواق والأفكار يجب التّجاوز عنه ، إلى حيث اللّيونة والحلم وسِعة الصّدر والنّظر إلى المستقبل ، فلا يمكن لنفرين أن يُجسّدا بينهما تعاوناً حقيقيّاً في حركة الحياة ولمدّةٍ طويلةٍ ، إلّا بعد التحلّي بأحد الاصول الأخلاقيّة الآنفة الذّكر.
ومن البديهي أنّ التّهيؤ الأخلاقي لهضم نقاط الإختلاف ، والوصول إلى الوحدة والقدرة والعظمة ، هو أمر لازم وضروري ، وهو أمر لا يتحقق بالكلام فقط ، بل يحتاج إلى تهذيبٍ وتعليمٍ وتربيةٍ لنفوس الأفراد ، كي يصل المجتمع إلى الّنمو والتّكامل في المجالات الأخلاقية.
علاقة الحياة الماديّة بالمسائل الأخلاقيّة في الرّوايات الإسلاميّة :
ما إستفدناه من الآيات القرآنية في الموضوع الآنف الذّكر ، له أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة أيضاً ؛ حيث يحكي عن التّأثير العميق للصفات الأخلاقيّة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة ، ونشير إلى قسمٍ منها :
١ ـ نقرأ في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «فِي سِعةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزاقِ» (١).
٢ ـ ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصّادق عليهالسلام ، قال : «حُسنُ الخُلقِ يَزيدُ في الرِّزقِ» (٢).
٣ ـ ورد في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليهالسلام : كيف أنّ الأخلاق الحسنة تُؤثّر في جلب النّاس وتحكيم أواصر الصّداقة بينهم : «مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ كَثُرَ مُحِبُّوهُ وَآنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ» (٣).
٤ ـ ورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام ، يتطرّق فيه إلى هذا المعنى بصراحةٍ أكثر ، فيقول : «إِنَّ البِرَّ وَحُسنَ الخُلقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ وَيَزيدَانِ فِي الأَعمَارِ» (٤).
ولا شكّ أنّ تصاعد العمران وتماسك المجتمعات ، يكون من خلال الإتحاد والتعاون بين أفراد المجتمع وطوائفه المختلفة ، وكلّ ما يؤدّي إلى تقوية روح الاتحاد والتّعاون بين الناس ، يُعتَبر من العوامل المهمّة في تحكيم المرتكزات الأساسيّة لبقاء المجتمع ، وتفعيل حركة العمران فيه ، وبالنسبة إلى طول العمر ، نجد أنّه معلول غالباً ، إلى الحياة الهادئة والبعيدة عن حالات القلق والإضطراب ، وفي ظلّ التّعاون المشترك بين الأفراد. وكلّ هذه الامور تُعدّ من معطيات الأخلاق الحسنة في حركة الإنسان والحياة.
٥ ـ وفي هذا المضمار ورد في حديثٍ عن الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، قال : «حُسنُ الخُلقِ يُثبِّتُ المَوَدَّة» (٥).
وتوجد أيضاً أحاديث مُتعدّدة ، تحكي عن تأثير سوء الخُلق في إيجاد الكراهيّة في النفوس ، وتوهين الرّوابط بين الأفراد ، وأنّه يورث النّفور والتّشتّت وضنك المعيشة وسلب الرّاحة والطّمأنينة.
٦ ـ ورد في حديثٍ عن الإمام علي عليهالسلام : «مَنْ ساءَ خُلْقُهُ ضاقَ رِزقُهُ» (٦).
٧ ـ وجاء في حديثٍ آخر أيضاً عن علي عليهالسلام ، أنّه قال : «مَنْ ساءَ خُلْقُهُ أَعْوَزَهُ الصَّدِيقُ والرَّفِيقُ» (٧).
__________________
١ ـ بحار الانوار ج ٧٥ ص ٥٣.
٢ ـ المصدر السابق. ٦٨ ص ٣٩٤
٣ ـ غرر الحكم.
٤ ـ بحار الانوار ج ٦٨ ص ٣٩٥.
٥ ـ المصدر السابق ٧٤ ص ١٤٨.
٦ ـ غرر الحكم.
٧ ـ المصدر السابق.
٨ ـ وجاء أيضاً عن علي عليهالسلام : «سُوءُ الخُلقِ نَكدُ العَيشِ وعَذَابُ النَّفسِ» (١).
٩ ـ سأل الإمام علي عليهالسلام : مَنْ أَدومُ النّاسِ غَمّاً ، قال : «أَسوَؤهم خُلقاً» (٢).
١٠ ـ وأخيراً نورد نصيحة لقمان الحكيم لإبنه ، وهي : «وإِيّاكَ والضَّجَرِ وَسُوءُ الخُلقِ وَقِلَّةِ الصَّبرِ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلَى هذِهِ الخِصالِ صاحِبُ» (٣)
__________________
١ ـ غرر الحكم.
٢ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٣٣٨ (الطبعة القديمة).
٣ ـ بحار الأنوار ، ج ١٠ ، ص ٤١٩.
٣
المذاهب الأخلاقيّة
يوجد في علم الأخلاق مذاهبٌ كثيرةٌ ، إنحرف أكثرها ، وآلَ بها الأمر إلى مُخالفة الأخلاق ، فمعرفتها ليس بالأمر الصّعب وخصوصاً في ظِلّ الهدي القُرآني ؛ فيقول القرآن الكريم :
(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١).
فأتت هذه الآية ، بعد ذكر قسمٌ مهمٌّ من العقائد والبرامج العمليّة والأخلاقيّة في الإسلام ، وقد تضمنّت عشرة أوامر إسلاميّة ، جاءت لِتوصي المسلمين بأن يتحركوا في العقيدة في خط الإستقامة ، بعيداً عن السّبل الاخرى التي تورثهم الفُرقة والإنحراف ، عن خطّ الإيمان بالله تعالى.
المذاهب الأخلاقيّة مثلها مِثلُ سائر المناهج الفردية الإجتماعية ، فهي تستمد اصولها من النّظرة الكليّة لمفهوم العالم ، وهذان المفهومان : «الأخلاق والنظرة الكونية» ، منسجمان ومرتبطان مع بعضهما بصورة وثيقة جدّاً ، فالّذين يفصلون : «معرفة العالم» ، النظريّة عن
__________________
١ ـ سورة الأنعام ، الآية ١٥٣.
الأخلاق والأوامر والنواهي الأخلاقية للعقل العملي ، وينكرون أية علاقة بينهما ، إنطلاقاً من أنّ معرفة العالم والكائنات الطبيعيّة تعتمد على الدلائل المنطقيّة والتجربيّة ، والحال أنّ «الأوامر» و «النّواهي» الأخلاقية ، هي سلسلة من القضايا تحكم السّلوك ، فهؤلاء أغفلوا نقطةً مهمةً ، ألا وهي أنّ الأوامر الأخلاقيّة تصبح حكيمةً ، إذا ما كوّنت لها علاقةً بالعالم الخارجي ، وإلّا فستكون اموراً اعتباريةً فارغةً وغير مقبولةٍ ، ويوجد هنا أمثلةٌ واضحةٌ تبيّن المطلب بصورةٍ جيّدةٍ :
عند ما يُصدر الإسلام حكماً ب : «حرمة شرب الخمر» ، أو في القوانين الدوليّة : حول «خطر المخدرات» ، فهذه أوامر إلهيّة أو بشريّة إستمدت اصولها من سلسلة الكائنات الواقعيّة ، لأنّ الحقيقة المحضة ؛ أنّ الشّراب والمخدّرات لها أثر تخريبي خطر على روح وجسم الإنسان ، فلا يسلم من تأثير هذه المواد الضّارة والمدمّرة أيّ إنسان ، وهذه الحقيقة هي سبب لذلك (الأمر) ، و (النّهي).
وعند ما نقول أنّ الأحكام الإلهيّة ناشئة من المصالح والمفاسد ؛ فإنّنا بالضّبط نستوحي ذلك من خلال القاعدة التي تقول : «كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع» ، وهي أيضاً تُقرر وجود علاقة وثيقة بين الواقع والأحكام : (الأوامر والنّواهي).
فما يُشرّع من قوانين في المجالس التّشريعيّة البشريّة ، ودراسة عواقبها الفرديّة والإجتماعيّة ووضع القوانين على أساسها ، يصب في نفس ذلك المصب بالضّبط.
وخلاصة القول : أنّه من الُمحال على الحكيم أن يصدر حكماً بعيداً عن الواقعيات في حياة البشر ، وإلّا فلن يكون قانوناً بل هو لَغو في لَغو ، ولأنّ الواقع هو واحد لا أكثر ، فمن الطّبيعي أن يكون الطريق الصّحيح والمستقيم والقانون الأمثل واحد لا غير ، ممّا يدعونا للسّعي الحثيث لإصابة الحق والواقع والأحكام والقوانين التي نشأت عنها.
إن ما ذُكر آنفاً يبيّن علاقة النّظريات الكليّة ، في مجموعة الوجود وخلق الإنسان بالمسائل الأخلاقيّة ، ومن هنا فإنّ نشوء المذاهب الأخلاقيّة وتنوعها ، يكمن في هذا السبب بالذات.
وبالنّظر إلى ما ذُكر أعلاه ، نستعرض الآن المذاهب الأخلاقية :
١ ـ الأخلاق في مدرسة الموحّدين :
هؤلاء يذهبون إلى أنّ الله تعالى خالق الكائنات كلّها ، فنحن منه ونعود إليه. والهدف من خلق الإنسان ، هو التّكامل في الجوانب المعنويّة والروحيّة ، وما دام التقدم المادي والتّطور الحضاري للبشرية ، يتحرك في خطّ التكامل المعنوي ، فهو يُعتبر هدفاً معنويّاً أيضاً.
ويمكن تعريف التّكامل المعنوي بأنّه : «القرب من الله تعالى ، والسّير على الطّريق الذي يقرّب الإنسان لصفات الكمال الإلهيّة».
وإعتماداً على هذا المعيار ، فإنّ الأخلاق من وجهه نظر هذا المذهب ، هي كلّ صفات الأفعال التي تساعد الإنسان في سيره على هذا الطريق ، والتّقييم الأخلاقي في هذا المذهب ، يدور حول القِيَم والمُثل والكَمالات الرّوحية والمعنويّة والقُرب من الله تعالى.
٢ ـ الأخلاق المادية :
من المعلوم أنّ المادّيين لهم مذاهب متعددّة ، والمعروف منها الشيوعيّة ، حيث يرون كلّ شيء من خلال منظار المادّة ، ولا يؤمنون بالله والمسائل الروحيّة والمعنويّة ، ويقولون بأصالة الإقتصاد ، ويعطون للتأريخ ماهيّةً ماديّةً وإقتصاديةً ، فكلّ شيء يؤدي إلى تقوية الإقتصاد الشّيوعي في المجتمع ، فانّه يعتبر من الأخلاق أو على حد تعبيرهم : «كلّ شيء يعجّل في الثورة الشيوعيّة ، فهو الأخلاق» ، فمثلاً المعيار الأخلاقي للكَذب والصّدق ، يقاس بمدى تأثير ذلك السّلوك الأخلاقي على الثّورة ، فإذا أدّى الكذب إلى التسّريع بالثورة فهو أمر أخلاقي ، وإذا أضرّ الصّدق بالثّورة ، فهو أمر غير أخلاقي!
والمذاهب الماديّة الاخرى كذلك ، فكلّ مذهب يُفسّر الأخلاق حسب ما يرتئيه مسلكه ، فالّذين يقولون بأصالة اللّذة ، والإستفادة من اللذائذ الماديّة ، لا يوجد شيء عندهم بإسم الأخلاق ، أو بالأحرى أنّ الأخلاق عندهم ، هي الصّفات والأفعال الّتي تمهد الطّريق للوصول إلى اللذّة.
وأمّا الّذين أعطوا الأصالة للفرد والمصالح الشخصيّة ، والمجتمع محترم عندهم ما دام
منسجماً مع منافع الفرد الشّخصية ، (كما هو الحال في المذاهب الغربية الرأسمالية) ، فهم يفسّرون الأخلاق بالامور التي توصلهم إلى مصالحهم الماديّة والشخصيّة ، ويضحّون بكلّ شيء لأجل هذه الغاية.
٣ ـ الأخلاق من وجهة نظر الفلاسفة العقليّين :
أمّا الفلاسفة الذين يقولون بأصالة العقل ، ويذهبون إلى أنّ غاية الفلسفة هي : (صَيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العيني) ، ففي مجال الأخلاق ، يفسّرون الأخلاق بالصّفات والأعمال التي تساعد الإنسان على تحكيم العقل ، وسيطرته على القوى والنّوازع البدنية ، بعيداً عن الخضوع للشّهوات والطّبائع الحيوانيّة ، والأهواء النّفسية في حركة الحياة.
٤ ـ الأخلاق في مذهب محوريّة الغير :
جماعة اخرى من الفلاسفة أعطت الأصاله للمجتمع ، وقالوا أنّ الأصالة للجماعة لا للفرد ، فهم يفسّرون الأخلاق بالأفعال التي يكون الغير فيها هو الهدف ، وكلّ فعل يعود بالنّفع للإنسان نفسه ، فهو فعل غير أخلاقي ، والأفعال التي يكون محورها نفع الغير تكون أخلاقيّة.
٥ ـ الأخلاق في المذهب الوجداني :
قسم من الفلاسفة قالوا بأصالة الوجدان لا العقل ، ويمكن تسميتهم ب : «الوجدانيّين» ، أو بمؤيّدي : «الحسن والقبح العقلي» ، وقصدهم من ذلك العقل العملي لا النّظري ، فالأخلاق عندهم عبارةٌ عن سلسلة من الامور الوجدانيّة غير البرهانيّة ، أي أنّها تُدرك بدون حاجةٍ إلى منطقٍ واستدلالٍ ، فمثلاً الإنسان يدرك أنّ العدل حسنٌ ، والظّلم قبيحٌ ، ويُشخّص أنّ الإيثار والشّجاعة أمران جيّدان ، الأنانيّة والظّلم والبخل امورٌ قبيحةٌ ، ولا يحتاج في إدراك هذا المعنى ، إلى إستدلال عقلي من خلال دراسة تأثير هذه الأفعال والسّلوكيات في واقع الفرد والمجتمع.
وعليه يجب أن نتحرك من موقع تقوية الوجدان الأخلاقي في الإنسان ، ونُزيل من الطّريق كلّ ما يُضعف الوجدان ، وبعدها سنرى أنّ الوجدان قاضٍ وحاكمُ جيّدٌ لتشخيص الأخلاق
الحسنة من القبيحة.
المؤيدون : «للحُسن والقُبحِ العقليين» ، رغم أنّهم يتكلّمون دائماً عن العقل ، ولكن ومن الواضح أنّهم يقصَدون العقل الوجداني ، لا العقل الإستدلالي ، فهم يقولون إنّ حُسن الإحسان ، وقبح الظّلم في الدائرة الأخلاقيّة لا يحتاج فيهما إلى دليل وبرهان ، فالإنسان السّليم النّفس يعيش هذه المفاهيم الأخلاقية ، من موقع الوضوح في الرؤيّة والبداهة ، وعلى هذا فإنّهم يقولون بالأصالة للوجدان في دائرة الأخلاق.
ولكن الكثير منهم لا ينكرون سكوت الوجدان عن بعض الامور ، وعدم إدراكه لها ، وهنا يجب الإستعانة بالشّريعة والوحي لفصل الامور الأخلاقية عن غيرها ، وبالإضافة إلى ذلك ، إذا ورد تأييد من الشّرع لما حكم به العقل ، فإنّ ذلك سيكون عاملاً مهماً في ترسيخ هذه المفاهيم في عالم الوجدان ، وترجمتها على مستوى الممارسة والعمل.
النّتيجة :
بعد الإشارة إلى أهمّ المذاهب الأخلاقية في هذا الفصل ، تتبيّن خصوصيات المذهب الأخلاقي للإسلام بصورةٍ كاملةٍ ، حيث يرى أنّ :
(أساس هذا المذهب الأخلاقي ، هو الإيمان بربوبيّة الله تعالى ، الذي هو الكمال المطلق ومُطلق الكمال وأوامره ساريةٌ وجاريةٌ على جميع العالم ، وكمال الإنسان في تطبيق صفاته الجلالية والجماليّة ، والقرب من الله تعالى أكثر فأكثر).
وهذا لا يعني أنّه لا أثر للصفات الأخلاقية في إنقاذ الإنسان والمجتمع البشري ، من عناصر الشّر وقوى الإنحراف ، ولكن وفي نظرةٍ إسلاميّةٍ عالميّةٍ صحيحةٍ ، أنّ العالم عبارةٌ عن وحدةٍ متماسكةٍ ، وأنّ واجب الوجود هو قُطب هذه الدائرة ، وما عداه مُتّصل به ومُعتمد عليه ، وفي الوقت نفسه هناك علاقة وإنسجام تام بين المخلوقات ، فكلّ شيء يساعد على إصلاح المجتمع البشري وتطهيره من البؤر وأشكال الخلل الأخلاقي ، فسيكون عاملاً مؤثراً في
إصلاح الفرد في دائرة السّلوك الأخلاقي ، وبالعكس.
وبعبارة اخرى : إنّ القيم الأخلاقيّة لها إزدواجيّة في التأثير ، فتصنع الفرد والمجتمع على السّواء ،
والذين يتصورون أنّ المسائل الأخلاقيّة هدفها الغير وليس النّفس على أشتباه كبير ، لأنّ مصلحة الإثنين في الواقع واحدةٌ ، لا تتجزّأ إلّا في مراحل مقطعيّة محدودة وقصيرة ، وقد تقدّم الحديث عن هذا المفهوم ، وسيأتي في المستقبل إن شاء الله تعالى.
ملاحظات :
١ ـ الأخلاق والنسبيّة
هل أنّ الأخلاق الحسنة والقبيحة ، والرّذائل والفضائل ، جيدةٌ أو قبيحةٌ ذات أبعاد مطلقةٌ في كلّ مكان وزمان ، أم أنّ هذه الصفات نسبيّة ؛ فربّما تكون في مكان وزمان آخر جيدة أو سيئة؟
الذين يقولون أنّ الأخلاق نسبيّة ينقسمون إلى قسمين :
الفئة الاولى : هم الّذين يقولون بنسبيّة عالم الوجود كلّه ، فإذا كان الوجود والعدم نِسبّيان ، فإنّ الأخلاق تدخل في هذه الدائرة أيضاً.
الفئة الثانية : هم الذين لا يرون أنّ هناك علاقةُ بين عالم الوجود وبين الأخلاق ، فالمعيار عندهم لمعرفة الأخلاق الجيّدة من غيرها هو المجتمع ، وقبوله وعدم قبوله لها ، وهذا يعني أنّ الشّجاعة ربّما تكون فضيلة عند مجتمعٍ ، في ما لو كانت مقبولةٌ ، وقد تكون نفس تلك الفضيلة رذيلة في مجتمعٍ آخر.
وهذه الفئة ، لا تعتقد بالحُسن والقُبح الذاتي للأفعال أيضاً ، والمعيار هو قبول وعدم قبول المجتمع لها.
وقد رأينا في البحث السّابق ، أنّ المسائل الأخلاقيّة تعتمد على معايير للقياس ، تكون وليدة النّظرات الكونيّة ، فالمذهب الذي يعتبر المجتمع هو الأصل والأساس لقبول الامور ، و
بشكلها المادي ، فان أفراده لا وسيلة لهم إلّا القبول بنسبيّة الأخلاق ، لأنّ المجتمع البشري يكون دائماً في حالة تغيّر وتحوّل ، وعلى هذا فليس من العجيب في أمر هذه الجماعة أنّهم جعلوا الرأي العام للمجتمع ، هو المرجع لتشخيص الحَسن والقَبيح من الأخلاق.
ونتيجةُ مثل هذه العقيدة ، معلومةٌ وواضحةٌ قبل أن تظهر للوجود ؛ لأنّها تُسبب في تبعيّة القيم الأخلاقية للمجتمعات البشريّة ، والتّوافق مع الظّروف ومتغيرات وأحوال ذلك المجتمع ، والحال أنّ المجتمع هو الذي يجب أن يتبع الاصول الأخلاقيّة : لِتُصلح مفاسده.
فمن وجهة نظر هذه الجماعة ، أنّ وأد البنات وهنّ أحياء ، في زمن المجتمع الجاهلي العربي القديم ، هو أمر أخلاقي ، وكذلك الغارات التي كانت تشنّها القبائل على بعضها البعض ، وتعتبر عندهم من المفاخر ، ولأجلها كانوا يُحبّون الأولاد ويقدّرونهم ، حتى يكبروا ويحملوا السّلاح ليحاربوا مع آبائهم ، فهي أيضاً أمر أخلاقي ، وكذلك الجنسيّة المثليّة المتفشيّة في الغرب ، تُعتبر من وجهة نظرهم أمراً أخلاقيّاً؟!
فالعواقب الخطيرة التي تحملها أفكار هذه المذاهب في حركة الواقع الإجتماعي ، لا تخفى على عاقلٍ طبعاً.
ولكن في الإسلام ، فإن المعيار الأخلاقي والفضائل والرّذائل ، تُعيّن من قبل الباري تعالى ، وذاته ثابتةٌ لا تتغير ، فالمُثل والقِيم الأخلاقيّة ستكون ثابتةً ولا تتغير ، ويجب أن تكونَ هي القاعدةُ الأصلُ للأفراد والمجتمع في سلوكهم الأخلاقي ، لا أن تكون الأخلاق تابعةٌ لرغبات ومُيول المجتمع.
الموحدون يعتقدون أنّ الفطرة والوجدان الإنساني إذا لم تتلوث ؛ فستبقى ثابتةً أيضاً ، بإعتبارها تمثل النّور المنعكس عن الذّات المقدسة للباري تعالى ، وعلى هذا فإنّ الأخلاقيّات تعتمد على الوجدان ، وبعبارةٍ اخرَى فإنّ القُبحَ والحُسنَ العَقليان : (المقصود العقل العملي لا النّظري) ، يثبتان أيضاً.
الإسلام ينفي نسبيّة الأخلاق :
طرح القرآن الكريم في آياتٍ عديدةٍ كلمة «الطيّب والخبيث» بصورةٍ مطلقةٍ ، ولم يجعل
للمجتمعات البشرّية دور في صياغة القيم في هذا المجال ، فنقرأ في الآية (١٠٠) من سورة المائدة : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).
وفي الآية (١٥٧) من سورة الأعراف في وضعها للرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).
وفي سورة البقرة الآية (٢٤٣) يقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).
وفي الآية (١٠٣) من سورة يوسف عليهالسلام يقول الله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
في هذه الآيات يُعتبر الإيمان والطّهارة والشّكر ، من القيم والمُثل وإن كان أكثر الناس يخالفون ذلك ، والكفر والخُبث وكفران النعمة ، تعتبر في مقابل القِيم ، رغم أنّ الأكثريّة تتحرك في هذا الخط.
وقد ذكر أمير المؤمنين عليهالسلام ، هذا المعنى كثيراً في خُطَبِه في نهج البلاغة. وأنّ قبول وعدم قبول الأكثريّة لُخلقٍ أو عملٍ ما ، لا يكون مِعياراً للفضيلة والرّذيلة وكذلك الحُسن والقُبح.
فقال الإمام عليهالسلام في خطبةٍ : «يا أَيّها النّاسُ لا تَستَوحِشُوا في طَرِيقِ الهُدى لِقِلَّةِ أَهلِهِ فإنَّ النّاسَ قَد إِجتَمَعُوا عَلى مائِدةٍ شِبَعِها قَصِيرٌ وَجُوعِها طَوِيلٌ». (١)
وقال في خطبة اخرَى : «حَقٌّ وَباطِلٌ ، وَلِكلٍّ أهلِ ؛ فَلإن أمِرَ الباطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ وَلإن قَلَّ الحَقُّ فَلَرُبَّما وَلَعَلّ» (٢).
فكلّ هذه النّصوص الإسلاميّة تنفي النسبيّة في الأخلاق ، ولا تعتبر قبول الأكثريّة في المجتمع معياراً لها.
ويوجد في القرآن الكريم والروايات الإسلاميّة ، شواهد كثيرة على هذه المسألة ، لو جمعت لبلغت كتاباً كبيراً.
__________________
١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١ و ٢.
٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٦.
سؤال :
وهنا سؤال يفرض نفسه وهو : إنّ النسبيّة في الأخلاق قد تكون مقبولةً في بعض الموارد في الشّرائع السّماويّة ، (وخُصوصاً الإسلام) ؛ فمثلاً يعتبر الكذب ضد القيم والمُثل وعملاً غير أخلاقي ، لكنّ الكذب لغرض الإصلاح بين الناس أو في مقام المشورة ، يعتبر عملاً أخلاقيّاً ، وهذه المسألة ليست بقليلة الموارد في التعاليم الإسلامية ، فيعتبر هذا نوعاً من قبول النسبيّة للأخلاق.
الجواب :
إنّ نسبيّة الأخلاق والحُسن والقُبح مطلبٌ ، والإستثناء مطلب آخر.
وبعبارةٍ اخرَى : لا يوجد أصل ثابت في النسبيّة ، فالكذب لا هو حسن ولا هو قبيح ، وكذلك العدل والإحسان أو الظّلم والطّغيان ، فحُسنها وقُبحها لا يتبيّن للإنسان إلّا إذا قبلتها الأكثريّة من موقع القيم أو رفضتها كذلك.
ولكن في الإسلام والتعاليم السّماوية ، فالكذب والظّلم والبخل والحسد والحقد ، كلّها تعتبر ضد القيم والمُثل ، سواء قبلتها أكثريّة الناس أم لا ، وبالعكس ، فالإحسان والعدالة والصّدق والأمانة ، قيم ومُثل رفيعةٌ سواء قبلها المجتمع ، أم لا.
فهذا هو الأصل الكلّي للمسألة ، ولا مانع من وجود الإستثناء له ، فالأصل كما هو واضحٌ من إسمه أساس وجذر الشيء ، والإستثناء بمنزلة بعض الفروع والأوراق الزّائدة ، ووجود بعض الإستثناءات في كلّ قاعدةٍ لا يمكن أن يكون دليلاً على نسبيّتها ، فإذا تجلّى لنا هذا الفرق بين هذين الإثنين ، أمكننا تجنّب الوقوع في كثير من الأخطاء.
ويجب الإلتفات أيضاً الى أنّ الموضوعات يمكن أن تتغيّر بمرور الزّمان أيضاً ، فالأحكام التابعة للموضوعات تتغيّر أيضاً ، وهذا الأمر لا يمكن أن يُعتبر دليلاً على النسبيّة.
بيان ذلك : إنّ لكلّ حكمٍ موضوعه الخاص ؛ العدوان على الآخرين يعتبر جنايةً قابلةً للقصاص والتّعقيب ، ولكن يمكن أن يتغيّر الموضوع ، في يد الطّبيب والجرّاح الذي يمسك
المِبضع لينقذ حياة المرضى ، فيفتح بمشرطه القلب ويخرج الغدد الخبيثة ، فالموضوع يتغيّر هنا ، فلا يمثّل هذا العمل جناية ، بل يستحق عمله التّقدير والجائزة.
فلا يمكن لأحد أن يعتبر تغيّر الأحكام والموضوعات دليلاً على النسبيّة ، والنسبيّة تقوم على أساس تبدّل الأحكام ، بالرّغم من عدم تحوّل وتغيّر الموضوع الماهَوي ، والموضوعي بالنسبة للأشخاص أو الأزمان المختلفة.
وأحكام الشّرع كذلك ، فالخمر حرام ونجس ، ولكن من الممكن وبعد مرور عدّة أيّام ، أو بإضافة مادّةٍ ما يمكن تحويله إلى خلّ طاهر محللّ ، فلا يمكن لأحدٍ أن يعتبر هذه من نسبيّة الأحكام ، والنسبيّة هنا أن يكون الخمر حلال عند مُستحلّيه وحرامٌ عند مانعيه ، من دون أن يتغيّر شيء في ماهيّة الخمر.
في المسائل الأخلاقيّة أيضاً ، يمكن أن نصادف موضوعات ، تكون للوهلة الأولى من الفضائل ، ولكن وبالتّحول في دائرة الموضوع ، يمكن أن تتغيّر إلى رذيلةٍ ؛ فعدم الخوف مثلاً وإلى حد الإعتدال يُعتبر شجاعة وفضيلةٌ ، ولكن إذا تعدّى الحدود ، فيكون تهوّراً ويدخل في حيّز الرّذائل.
وكذلك في الامور الاخرى التي تُشابهها ، فالكذب يعتبر منشأ للمفاسد الكثيرة ، وسبباً لزوال الثّقة بين النّاس ، ولكن إذا كان لغرض الإصلاح بين الناس ، فهو حلالٌ وفضيلةٌ.
ويمكن أن يعتبر البعض ، هذه الامور والتغيّرات في المواضيع من النسبيّة ، ولا نزاع فيما بيننا في التّسمية ، ومثل هذا النزاع يعتبر لفظيّاً ، لأنّه مثل هذه الموارد تعتبر من قبيل التغيّر في الموضوع والماهيّة ، وإذا كان قصد أصحاب النسبيّة هذا ، فلا بأس ، ولكنّ المشكلة في أن يكون المعيار : للفضيلة والرّذيلة والحُسن والقُبح الأخلاقيين ، هو قبول أكثريّة المجتمع.
ومن مجموع ما تقدم ، نستنتج أنّ نسبيّة الأخلاق مردودة ، من وجهة نظر الإسلام والقرآن والمنطق والعقل ، وطرح مسألة النسبيّة تلك تُعتبر أو تُساوي عدم الأخلاق ، لأنّه وطبقاً للنظريّة النسبيّة للأخلاق ، فإنّ كلّ رذيلةٍ إنتشرت في المجتمع فهي فضيلةٌ ، وكلّ مرضٍ أخلاقي تفشّى بين الناس ؛ فهو صحّةٌ وسلامةٌ ، وبدلاً من أن تكون الأخلاق عاملاً لرقيّ المجتمع في خطّ
التّكامل الحضاري ، فستتحول إلى عامل لنشر الفساد والانحطاط.
٢ ـ التّأثير المتقابل بين (الأخلاق و (السّلوك)
علاقة الأخلاق والعمل ، وتأثير الأخلاق في السّلوك أمر لا يخفى على أحد ، لأنّ الأعمال عادةً تنبع من الصّفات الداخليّة في النّفس الإنسانية ، فالشّخص الذي تسيطر حالة البخل والحسد والكِبَر على قلبه وفكره وروحه ، فمن الطّبيعي أن تكون أعماله على نفس الشّاكلة ، فالحسود يتحرك في أعماله دائماً من موضع هذه الخصلة الذميمة ، التي هي كالشّعلة المتّقدة في روحه ، تسلب الرّاحة منه ، وكذلك الأفراد المتكبرين ، مشيتهم وكلامهم وقيامهم وقعودهم ، كلّها تعطي حالة الغرور فيهم ، وتشير إلى روح التَّكبر في نفوسهم ، وهذا الحكم يشمل الصفات ، والأخلاقيّة الصّالحة والطالحة على السّواء.
ولأجل ذلك ، يعتبر بعض المحقّقين مثل هذه الأعمال ، أعمالاً أخلاقية ، يعني أعمال تنشأ من الأخلاق الصّالحة والطّالحة بصورةٍ بحتةٍ ، وفي مقابل الأعمال التي تصدر أحياناً من الإنسان ، تحت تأثير الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، والإرشاد والنّصح مثلاً ، من دون أن يكون لها جذر أخلاقي ، وطبعاً مثل هذه الأعمال تعتبر أقلّ بالنسبة للأعمال الأخلاقيّة.
وهنا يمكن أن نستنتج ، أنّه ولأجل إصلاح المجتمع وإصلاح أعمال الناس ، يتوجب علينا إصلاح جذور الأعمال الأخلاقيّة ، لأنّ أغلب الأعمال تعتمد على الجذور الأخلاقيّة ، وعلى هذا كان أكثر سعي الأنبياء عليهمالسلام والمصلحين الإجتماعيين الإسلاميين ، يصبّ في هذا السبيل ، لأنّه وبالتّربية الصّحيحة ، تنمو وتتبلور الفضائل الأخلاقيّة في كلّ فرد من أفراد المجتمع ، وتصل الرذائل إلى أدنى الحدود ، وبذلك يمكن إصلاح الأعمال التي تترشح من الصّفات الأخلاقيّة ، والإشارة في بعض الآيات القرآنية إلى «التّزكية» ، تصبّ في هذا المصب أيضاً ، هذا من جهةٍ :
ومن جهةٍ اخرى ، أنّ التّكرار لفعل ما يمكن أن يكون له الأثر في تكوين الأخلاق ، لأنّ كلّ
فعل يفعله الإنسان سيؤثر في روحه ونفسه ، وسيعمِّق ذلك الأثر حتى يصبح عادةً ، وإذا تكرّر بصورة أكبر فسيتعدّى مرحلة العادة ، ويتبدّل إلى «مَلَكةٍ» و «حالةٍ» ، تدخل في الخصوصيّات الأخلاقيّة للإنسان.
وعلى ذلك ، فإنّ العمل والأخلاق لهما تأثيرٌ مُتقابل ، ويمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر.
ولهذه المسألة شواهدٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم منها :
١ ـ في الآية (١٤) من سورة «المطفّفين» ، وبعد الإشارة إلى الصفات القبيحة لطائفةٍ من أهل النار ، والمعذبين ، قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).
وهذه الآية دليلٌ على أنّ الأعمال القبيحة تجثم على القلب ، كما يجثم الصّدأ على الحديد ، وتُزيل النّور والصّفاء الفطري الدّاخلي للإنسان وتُطفئهُ ، وتصوغه بقالبها.
٢ ـ في الآية (٨١) من سورة البقرة قال الله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
والقصد من الإحاطة للخطيئة ، هو تراكم إفرازات الخطيئة في نفس الإنسان حتى تصل النّفس إلى مرحلة الختم ، والطّبع ، وتتطبّع بالذنوب ، فلا يُفيد فيها النّصح والموعظة ولا الإرشاد ، وكأنّه قد تغيّرت ماهيّة ذلك الإنسان ، وصفاته الإخلاقية في واقعه النفسي ، بل وبالإصرار على الذّنوب ، فإن المعتقدات الدينيّة للفرد ستطالها يد التّغيير أيضاً.
كما وأشارت الآية (٧) من سورة البقرة الواردة في بعض الكفار المعاندين ، إلى هذا المعنى أيضاً ، حيث تقول : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
ومن الواضح أنّ الباري تعالى شأنه : لا يتعامل مع أحد من الناس من موقع العداوة والخُصومة ، ولكنّ الواقع أنّ آثار أعمال الناس هي التي تضع الحُجب والحواجز على الحواسّ ، فلا تُدرك الحقيقة ، (ونسبة هذه الامور للباري تعالى ، إنّما هو لأجل أنّ الله تعالى هو مُسبّب الأسباب وكلّ شيء إنّما يصدر عن ذاته المقدّسة).
وفي الآية (١٠) من سورة «الرّوم» يتعدى ذلك ويقول الله تعالى : إنّ الأفعال السيّئة تغيّر
عقيدة الإنسان وتُؤدي به إلى الحضيض : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ).
ومنها يتبيّن أنّ الأعمال والصّفات القبيحة وارتكاب الذنوب ، إذا ما أصرّ وإستمرّ عليها الإنسان ، ستمتد إلى أعماق نفس الإنسان ، ولا تؤثّر على أخلاقه فحسب ، بل تقلب عقائده رأساً على عقب أيضاً.
ونقرأ في آيةٍ اخرى من القرآن الكريم : أنّ الإصرار على الذنب وتكراره وسوء العمل ، يُميت عند الإنسان حسّ الّتمييز والتّشخيص ، بحيث يرى الحسن قبيحاً والقبيح حَسناً ، فنقرأ في الآية (١٠٣ و ١٠٤) من سورة الكهف حيث تقول : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
٣ ـ وفي آيةٍ اخرَى يصرح القرآن الكريم بأن الإصرار على الكذب وخُلف الوعد مع الله سبحانه ، سيورث الإنسان صفة النّفاق في قلبه ، فيقول الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ).
ويعلم القاري الكريم أنّ «يكذَّبون» : هو فعل مضارع ويدل على الإستمرار ، حيث يُبيّن تأثير هذا العمل السّيء وهو الكذب في ظهور روح النّفاق ؛ لأننا نعلم أنّ الكذب وخاصّةً في لباس الإنسان الصادق ، ليس هو إلّا إختلاف الظّاهر والبّاطن ، والنّفاق الباطني هو تبديل هذه الحالة إلى ملكةٍ.
التّأثير المتقابل للأخلاق والعمل في الأحاديث الإسلاميّة :
الحقيقة أنّ الأعمال الصالحة والطالحة تؤثر في روح الإنسان وتبلورها ، وتحكّم الخلق السيّ ، والحسن فيها ، ولهذا الأمر صدىً واسعاً في الأحاديث الإسلاميّة ، ونذكر منها هذه الأحاديث الثلاثة الآتية :
١ ـ نقرأ في حديثٍ عن الإمام الصادق عليهالسلام : كان أبي يقول : «ما مِن شيءٍ أفسدُ لِلقلَبِ مِن
خَطيئةٍ ، إنّ القَلبَ ليُواقِع الخَطِيئةَ فَما تَزالُ بِهِ حتّى تَغلِبَ عَلَيهِ فَيَصِيرَ أعلاهُ أسفَلَهُ» (١).
طبعاً هذا الحديث ، أكثر ما ينظر إلى تحول وتغيّر الأفكار وتأثّرها بالذنّوب ، ولكن وبصورة كليّة ، فهو يبيّن تأثير الذّنوب في تغيير روح الإنسان.
٢ ـ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام : «إذا أذنَبَ الرّجلُ خَرَجَ في قَلبِهِ نُكتَةٌ سَوداءٌ ، فإنْ تَابَ إنمَحَتْ وَإنْ زَادَ زادَتْ ، حتّى تَغلِبَ عَلى قَلبِهِ ، فَلا يَفلِحُ بَعدَها أبداً» (٢).
ولأجل ذلك نبّهت الأحاديث الإسلاميّة على خطورة الإصرار على الذّنب ، وأنّ الإصرار على الذّنوب الصّغيرة يتحول إلى الكبائر (٣).
وجاء هذا المعنى في الحديث المعروف ، عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليهالسلام ، في معرض جوابه للمأمون ، وفيه تبيان كُلّي حول مسائل الحلال والحرام ، والفرائض والسّنن ، فمن المسائل التي أكّد عليها الإمام عليهالسلام ، هو أنّه جعل الأصرار على الذّنب ، من الذّنوب الكبيرة (٤).
٣ ـ جاء في كتاب (الخصال) ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أنّه قال : «أربعُ خِصالٍ يُمِتْنَ القَلبَ : الذَّنبُ عَلَى الذَّنبِ ...». (٥)
وجاء مُشابه لهذا المعنى في تفسير «الدُّر المنثور» (٦).
هذه التّعبيرات توضّح جيّداً أنّ تكرار عملٍ ما ، له تأثير في قلب وروح الإنسان بصورةٍ قطعيةٍ ، ويصبح مصدراً لتكوين الصّفات : الرّذيلة والقبيحة ، ولأجل ذلك جاءت الأوامر للمؤمن إذا ما أذنب وأخطأ ، بالتّوبة السّريعة ، ليمحي آثارها من القلب ، ولئلّا تصبح عنده على شكل «حالةٍ» و «مَلكةٍ» وصفةٍ باطنيّةٍ ، فجاء في الأحاديث الشّريفة ، أنّه يتوجب على الإنسان أن يجلو الصّدأ من على قلبه ، كما نقرأ في الحديث عن الرّسول الكريم صلىاللهعليهوآله :
__________________
١ ـ أصول الكافي ، ج ١٢ ، بابّ الذّنوب ، ح ١ ص ٢٦٨.
٢ ـ المصدر السابق ، ج ١٣ ، ص ٢٧١.
٣ ـ بحار الأنوار ، ج ١ ، ٣٥١.
٤ ـ المصدر الساق ، ص ٣٦٦.
٥ ـ الخصال ، ج ١ ، ص ٢٥٢.
٦ ـ الدر المنثور ، ج ٦ ، ص ٣٢٦.