بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وهذا النحو من الاستدلال ، متعذر في محل الكلام ، لأنّا لا نتكلم عن دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بلحاظ قرينة معيّنة لتكون الحيثيّة التعليليّة قابلة للإدراك المباشر ، وإنّما نتكلّم بلحاظ دعوى كون الجملة موضوعة لما يستفاد منه المفهوم.

٤ ـ النحو الرابع : هو دعوى الانصراف والتبادر ، وهذا النحو ، هو المتعيّن سلوكه في المقام ، فنقول : انّ المنسبق من الجملة الشرطيّة ، هو ثبوت المفهوم ، وذلك باعتبار انّ المنصرف عرفا من الربط المستفاد من أداة الشرط ، إنّما هو النسبة التوقفيّة ، ومعه ، يثبت المفهوم ، كما عرفت سابقا.

وعلى ضوء إثبات المفهوم بهذا النحو ، ينبغي أن نغيّر منهجيّة البحث في المقام ، من المنهجيّة التي سار عليها المشهور ، حيث طرحوا قضيّة مشكوكة ، وهي ثبوت المفهوم للجملة الشرطية ، وصاروا في مقام الاستدلال عليها ، بما عرفته من التقريبات ، إلى منهجيّة أخرى ، وهي أن نقول : بأنّ الجملة الشرطية بحسب الوجدان العرفي ، تدل على المفهوم ، الّا انّه يبقى عندنا وجدانات متعددة لا بدّ من تنسيقها ، ضمن نظريّة موحدة ، قابلة لتفسيرها كلها ، وفائدة هذا التفسير أولا ، هي باعتبار انّ التمكن من تفسيرها ضمن نظرية موحدة ، يكشف لنا أحقيّة وصحة هذه الوجدانات «كما انّ العجز عن تفسيرها ، كذلك يكشف عن خطأ بعضها ، ومن هنا أنكر بعضهم المفهوم ، حيث عجز عن تفسيرها بنحو تتوافق كلها.

وثانيا : هو انّه من خلال هذا البحث التفسيري للوجدانات ، نكتشف جوهر دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، وهذا يساعدنا على تقييم هذه الدلالة عند معارضتها مع غيرها من الدلالات ، وعليه ، فيقع الكلام في مقامين.

الأول : في ذكر هذه الوجدانات.

والثاني : في تفسيرها.

٦٤١

١ ـ المقام الأول : وفيه نذكر خمس وجدانات بالنسبة للقضيّة الشرطيّة.

أ ـ الوجدان الأول : وهو الوجدان القاضي بثبوت المفهوم ، لكل جملة شرطيّة يكون الجزاء فيها جملة إنشائيّة ، كما في قولنا : «إذا جاء زيد فاكرمه».

ب ـ الوجدان الثاني : وهو الوجدان القاضي بأن دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، ليست على نحو ، بحيث لو لم تدل عليه ، لكان استعمالها مجازا.

ج ـ الوجدان الثالث : وهو الوجدان القاضي بعدم التجوز ، في الجملة الشرطيّة ، فيما إذا استعملت في مورد كان الشرط فيه عدل علة أخرى ، بحيث لم تكن دالة على المفهوم لا هي ولا الشرط ، فإنه مع ذلك لا يسقط المفهوم ، بل يثبت بلحاظ ما عدا هاتين العلتين ، دون أن يتضرّر بسبب عدم انحصار العلة في الشرط.

٤ ـ الوجدان الرابع : وهو الوجدان القاضي ، بأنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، سنخ دلالة قابلة للتبعيض ، وذلك في الموارد التي تتعدّد فيها علة الجزاء ، كما إذا قال ، «إذا خفي الآذان فقصر» ، وعلمنا بدليل آخر ، بأنّ «خفاء الجدران» سبب التقصير أيضا ، ففي مثل ذلك ، لا يلغوا المفهوم رأسا ، بل يتبعّض ، فيقال : بأنّا نلتزم بوجود علة أخرى للتقصير ، غير خفاء الآذان ، وهي ، «خفاء الجدران» ، ولكن لا نلتزم بوجود علة ثالثة.

وأمّا لو كنّا نستند في إثبات المفهوم ، إلى إثبات الانحصار ، للغى المفهوم بالمرة ، باعتبار انهدام الانحصار ، بمجرد وجود علة ثانية.

٥ ـ الوجدان الخامس : وهو الوجدان القاضي ، بعدم ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ، التي يكون جزاؤها جملة خبريّة ، كما في قولنا : «إذا شربت السمّ ، متّ» ، فإنّه لا يدل على عدم الموت ، إذا لم يأكل السم.

٦٤٢

٢ ـ المقام الثاني : وهو في وضع تفسير نظري لتمام هذه الوجدانات.

أمّا بالنسبة للوجدان الأول والثاني ، فقد اعترف بهما المحققون المتأخرون ، وهذا ما جعلهم أمام مشكلة التوفيق بينهما ، باعتبار انّ ذلك لا يتلائم مع مبناهم ، لأنّهم يرون انّ ضابط المفهوم ، هو دلالة الجملة الشرطيّة على اللزوم العلّي الانحصاري ، وحينئذ ، فإن كان هذا اللزوم العلّي الانحصاري مأخوذا في مدلول الجملة الشرطيّة وضعا ، فيصدق الوجدان الأول ، لأنّ لازم ذلك ، هو ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة ، إلّا انّ هذا يكذّب الوجدان الثاني ، لأنّه إذا فرض انّ اللزوم العلّي الانحصاري مأخوذ في مدلول الجملة الشرطيّة وضعا ، فلازمه ، انّه إذا استعملت الجملة الشرطيّة في مورد ، ولم يكن لها مفهوم من جهة عدم دلالتها على اللزوم مثلا ، لكان هذا الاستعمال لها مجازي ، لأنّ اللزوم ، داخل في ما هو الموضوع له ، والالتزام بالمجاز في ذلك ، تكذيب للوجدان الثاني.

وأمّا إذا لم يكن اللزوم العلّي الانحصاري مأخوذا في مدلول الجملة الشرطيّة وضعا ، فحينئذ ، يصدق الوجدان الثاني ، لعدم لزوم المجاز فيما إذا استعملت الجملة الشرطيّة في غير اللزوم العلّي الانحصاري ، بحيث لم تكن دالة على المفهوم ، إلّا انّه يكذّب الوجدان الأول ، لأنّ الجملة الشرطية إذا لم تكن دالة على اللزوم العلّي الانحصاري الذي هو ضابط المفهوم ، فحينئذ ، لا تكون دالة على المفهوم ، وهذا تكذيب للوجدان الأول ، القاضي بثبوت المفهوم.

وباعتبار اعتراف المحققين المتأخرين بالوجدان الأول والثاني من ناحية ، وعدم ملائمة هذين الوجدانين مع مبناهم في كون اللزوم العلّي الانحصاري هو الضابط في مفهوم الجملة الشرطيّة من ناحية أخرى ، فقد وقعوا أمام مشكلة التوفيق بينهما ، وفي مقام حلّ هذه المشكلة ذكر اتجاهان.

١ ـ الإتجاه الأول : هو انّ هذه الخصوصيّات ، أي ، اللّزوم ، والعليّة ،

٦٤٣

والانحصاريّة ، غير مأخوذة في مدلول الجملة الشرطيّة وضعا ، وحينئذ ، يصدق الوجدان الثاني ، إلّا انّ هذه الخصوصيّات ، نثبتها بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وبذلك ، يصدق الوجدان الأول.

ومن هنا نشأت محاولة الميرزا «قده» ، لإثبات العليّة بأصالة التطابق وإثبات الانحصار بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، كما عرفت (١) ، وهذا الإتجاه غير تام ، إذ قد اتضح ممّا ذكرنا عدم إمكان إثبات العلية بأصالة التطابق ، وعدم إمكان إثبات الانحصار بمقدمات الحكمة.

٢ ـ الإتجاه الثاني : وقد سلكه صاحب الكفاية «قده» (٢) ، فإنّه بعد أن أدرك ، انّ الإطلاق ومقدمات الحكمة ، لا تفي بإثبات الانحصار والعليّة ، تزلزل وجدانه الأوّل ، القاضي بثبوت المفهوم ، باعتبار انّه لم يجد حلا لهذه المشكلة ، بينما نجد انّه يعمل بالمفهوم في الفقه ، فهذا يدل على انّه طرح الوجدان الأول أصوليا فقط ، باعتبار عدم تمكّنه من حل المشكلة.

والتحقيق في المقام ، بحيث يتلائم الوجدان الأول ، مع الوجدان الثاني ، هو أن يقال : بأنّ هذه الخصوصيّات ، وهي اللزوم ، والعليّة ، والانحصاريّة ، غير مأخوذة في مدلول الجملة الشرطية وضعا ، وبهذا ، يصدق الوجدان الثاني.

ويقال أيضا : بأنّ المأخوذ في مدلول الجملة الشرطيّة وضعا ، هو النسبة التوقفيّة ، بالمعنى الذي عرفته ، وحينئذ ، يصدق الوجدان الأول ، القاضي بثبوت المفهوم ، لأنّه إذا كانت الجملة الشرطيّة دالة على النسبة التوقفيّة ، يكون لها مفهوما ، وقد اتضح ذلك سابقا.

وفي قولنا : إذا كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ، وإن كنّا نشعر

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي ج ١ ـ ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ـ ٣٠٣.

أجود التقريرات ـ ج ٢ ص ٤١٧ ـ ٤١٨.

(٢) كفاية الأصول ـ الخراساني ج ١ ص ٣٠٠ ـ ٣٠١.

٦٤٤

بالتجوّز والعناية ، إلّا انّه ليس ذلك ، من جهة انّه لا تلازم بين الشرط والجزاء ، ليكون ذلك كاشفا عن أخذ اللزوم في مدلول الجملة وضعا ، بل التجوز من جهة انّه لا توقف للجزاء على الشرط ، فتكون الجملة مستعملة في غير ما وضعت له ، فتكون مجازا ، فبهذا التفسير النظري ، اتضحت ملائمة الوجدان الأول مع الوجدان الثاني.

وأمّا الوجدان الثالث ، القاضي بعدم التجوّز في صورة عدم المفهوم ، من جهة ثبوت عدل للشرط ، كما لو قال : «إن جاء زيد فاكرمه» ، وعلمنا انّ مرضه أيضا سبب لإكرامه ، فهنا لا مفهوم للجملة المذكورة بقول مطلق ، ومع ذلك لا تجوّز فيها ، فهذا الوجدان أيضا متلائم مع الوجدانين السابقين ، والوجه في ذلك هو : إنّك قد عرفت ، انّه متى ما كانت الجملة الشرطيّة دالة على النسبة التوقّفيّة ، يكون لها مفهوم ، لكن بعد ضم إطلاقين.

الأول : هو الإطلاق الذي يمثّله الركن الثاني من ضابط المفهوم ، وهو ان يكون المعلّق ، طبيعي الوجوب ، وإلّا لما كان لقولنا : «إذا جاء زيد فأكرمه» مفهوما ، لأنّ المنفي حينئذ ، هو شخص هذا الوجوب ، وهذا لا ينافي ثبوت شخص آخر من الوجوب عند مرضه مثلا.

وعليه ، فثبوت إطلاق الجزاء ، وكون المعلّق طبيعي الحكم ، شرط في ثبوت المفهوم ، وحينئذ ، نقول : انّه إذا علمنا انّ للشرط عدل ، فكما يجب إكرامه لمجيئه ، كذلك يجب إكرامه عند مرضه ، ففي مثل ذلك ينهدم هذا الإطلاق ، لكن لا تنتفي دلالة الجملة الشرطيّة على النسبة التوقفيّة ، حيث انّه لا موجب لانتفائها ، ومعه لا يلزم التجوّز ، لأنّ الإطلاق الذي رفعنا اليد عنه ، ليس مدلولا وضعيا للجملة الشرطيّة ، ليلزم التجوّز.

وما هو مدلول وضعي ، وهو النسبة التوقفيّة ، لم نرفع اليد عنه.

هذا هو الإطلاق الأول.

الإطلاق الثاني : هو الإطلاق الأحوالي للتوقف ، ففي قولنا ، «إذا جاء

٦٤٥

زيد فاكرمه» بعد تحويله للمكافئ الاسمي وهو قولنا ، وجوب إكرامه ، موقوف على مجيئه ، فهنا نثبت ان الوجوب موقوف مطلقا على المجيء بواسطة الإطلاق الأحوالي للتوقف ، فلو فرض انّه قيّد هذا التوقف بحال الصحة ، فقال : «إذا جاء زيد فاكرمه ما دام صحيحا» ، فإنه لا يلزم التجوّز حينئذ ، لأنّه تقييد لدائرة التوقف وليس من باب استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، وحينئذ نقول : إذا فرض وجود عدل للشرط ، فهنا يمكن أن نرجع ذلك إلى تقييد في الإطلاق الأحوالي للتوقف ، ومعه لا يلزم التجوز.

والحاصل انّه في صورة وجود عدل للشرط ، فإمّا أن يرجع ذلك إلى انهدام إطلاق المعلّق ، أو إلى انهدام الإطلاق الأحوالي للتوقف ، وفي كلتا الصورتين ، لا تجوّز ، لأنّ المدلول الوضعي للجملة الشرطيّة ، وهو النسبة التوقفيّة لم نرفع اليد عنه ، بل يبقى ثابتا ، ومعه ، لا موجب للتجوّز.

وبهذا التفسير النظري ، يتلائم الوجدان الثالث مع سابقيه.

وأمّا الوجدان الرابع القاضي بأنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، سنخ دلالة قابلة للتجزئة والتبعيض ، وذلك في صورة وجود عدل للشرط ، كما في قولنا : «إذا خفي الآذان فقصّر» ، حيث علمنا بوجود عدل للشرط ، وهو «خفاء الجدران» ، فهذا الوجدان ، يتنافى مع الوجدان الأول القاضي بثبوت المفهوم لكل جملة شرطيّة إذا كان جزاؤها جملة إنشائيّة ، وذلك ، بناء على مذهب المشهور ، من كون الضابط في دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، هو دلالتها على اللزوم العلّي الانحصاري ، فانّه بناء على ذلك ، يقال : إذا كان اللزوم العلّي الانحصاري مأخوذا في مدلول الجملة الشرطية وضعا ، فحينئذ ، يكذب الوجدان الرابع ، وذلك لأنّه بمجرد وجود عدل للشرط ، ينثلم الانحصار ، ومعه يلزم التجوّز في الجملة ، وحينئذ ، لا يبقى ملاك ينفى به بقيّة الأسباب التي يحتمل كونها عدلا ، فيبطل الوجدان الرابع ، القاضي بتجزئة المفهوم ، باعتبار انّ لازم ذلك ، عدم ثبوت المفهوم أصلا.

وأمّا إذا لم يكن اللزوم العلّي الانحصاري مأخوذا في مدلول الجملة

٦٤٦

الشرطيّة وضعا ، فيبطل الوجدان الأول القاضي بثبوت المفهوم ، لأنّ ضابطه حسب الفرض ، هو ثبوت اللزوم العلّي الانحصاري ، وكون هذه الخصوصيّات مدلولة للجملة الشرطيّة ، فإذا فرض انّها غير مدلولة لها ، فلا وجه حينئذ لثبوت المفهوم.

وأمّا بناء على ما ذكرناه من ضابط المفهوم ، فلا تنافي بين هذين الوجدانين ، وذلك لأنّ ضابطه هو ، دلالة الجملة الشرطيّة على النسبة التوقفيّة مع توفر إطلاق الجزاء والإطلاق الأحوالي للتوقف ، والمفروض انّ هذين الإطلاقين قابلين للتقييد والتجزئة ، فيكون المفهوم قابلا لذلك ، ولا يلزم التجوّز ، باعتبار انّا لم نرفع اليد عن النسبة التوقفيّة التي هي المدلول الوضعي للجملة الشرطيّة ، كما مرّ تحقيقه.

وأمّا الوجدان الخامس ، القاضي بعدم ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة إذا كان جزاؤها جملة خبرية ، فهنا قد يقال : بأن أداة الشرط لها وضع نوعي واحد ، سواء بلحاظ الجملة الخبريّة ، أو الإنشائية ، وحينئذ ، فإن كانت النسبة التوقفيّة مأخوذة في مدلول الأداة ، فتكون الجملة الشرطية دالة على المفهوم ، سواء كان جزاؤها إخبارا أو إنشاء ، وإذا لم تكن مأخوذة في مدلولها ، فينبغي عدم دلالتها على المفهوم سواء كان جزاؤها إخبارا أو انشاء ، وبهذا يكذب الوجدان الأول. إذن لا بدّ من معرفة الفرق بين الجملة الخبريّة والإنشائيّة ، حتى قيل بثبوت المفهوم في الثانية ، وبعدم ثبوته في الأولى.

ولتحقيق الفرق بينهما ، لا بدّ وأن نرجع إلى ما ذكرناه مفصلا في بحث الوضع ، في مقام التفرقة ، بين مفاد الجملة الخبريّة ، ومفاد الجملة الإنشائيّة ، والتفرقة بين النسبة التامة ، والنسبة الناقصة ، ونذكر ذلك بنحو مجمل ، بحيث يتضح حل هذا الإشكال.

فنقول انّ النسبة على قسمين.

٦٤٧

١ ـ القسم الأول : النسب التي يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، من قبيل ، نسبة الموت إلى الميّت.

٢ ـ القسم الثاني : النسب التي يكون موطنها الأصلي هو الذهن ، من قبيل ، النسبة الحكميّة ، أي نسبة المحمول إلى الموضوع في أفق الحكم ، كما في قولنا ، «هذا عالم» ، فالنسبة في هذا المثال ذهنيّة ، ببرهان ، انّ النسبة تستدعي طرفين ، فلو كانت خارجيّة للزم ان يكون لها طرفان في الخارج ، مع انّه في الخارج ليس عندنا إلّا طرف واحد ، لأنّ هذا ، هو عين العالم ، وليس طرفا غيره في الخارج ، لكن في عالم الذهن ، فإن الذهن يحلّل ذلك إلى مفهومين ، ويربط بينهما ، إذن ، فالنسبة في المقام ذهنيّة ، ولا موطن لها إلّا الذهن.

ثم انه قد برهنّا في بحث الوضع على انّ كل نسبة يكون موطنها الأصلي هو الخارج ، يكون ما بإزائها في الذهن ، نسبة ناقصة دائما ، ولهذا نعبّر عنها بجملة ناقصة ، فنقول : «موت زيد».

وكل نسبة يكون موطنها الأصلي هو الذهن ، تكون نسبة تامة ، لأنّها توجد في الذهن بما هي نسبة واقعيّة.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ كلا من الجملة الخبريّة والجملة الإنشائيّة جملة تامة ، ومفاد الجملة التامة نسبة تامة ، وحينئذ ، فتكون الجملتان من القسم الثاني ، أي إن موطن النسبة في كل منهما هو الذهن ، وعليه ، فيكون مفاد قولنا ، «زيد ميّت» ، هو النسبة الحكميّة ، لا النسبة الخارجيّة لما عرفت ، وحينئذ ، ففي قولنا : «إذا شرب زيد السمّ يموت» ، وفي قولنا ، «إذا جاء زيد فأكرمه» ، يكون المعلّق هو النسبة الحكمية فيرجع قولنا «إذا شرب زيد السم يموت» ، إلى انّ الحكم على زيد ، مشروط بشربه السم ، فإذا لم يشرب السم ، فلا حكم عليه ، وليس معنى ذلك ، انّه إذا لم يشرب السم لا يموت ، لأنّ المعلّق هو الحكم وليس النسبة الخارجيّة.

٦٤٨

وبهذا اتضح ، انّه لا مفهوم للجملة الشرطيّة إذا كان جزاؤها جملة خبريّة.

نعم لو قال : «موت زيد موقوف على شربه السم» ، لكان لها مفهوم ، لأنّ المعلّق هو النسبة الخارجية ، لا الحكميّة ، إلّا انّ المفروض انّ المستفاد من قولنا ، «إذا شرب زيد السم يموت» ، هو انّ المعلق هو النسبة الحكميّة لما عرفت ، فلا يكون لها مفهوم.

وأمّا بالنسبة إلى الجملة الإنشائية ، كما في قولنا ، «إذا جاء زيد فاكرمه» ، فالمعلّق هو الحكم أيضا ، فيرجع قولنا هذا ، إلى انّ النسبة الإرساليّة والحكم بالوجوب ، معلّق على مجيئه ، لكن بما انّه ليس للحكم واقع إلّا واقع النسبة الإرسالية ، فتكون هذه الجملة ، دالة على المفهوم ، فإنّ عالم حكم هذه النسبة ، هو عالم خارجها ، لأنّ خارجيّتها بالجعل والحكم ، وبهذا كان لها مفهوم.

وبهذا ، اتضح وجه الفرق بين الجملة الشرطيّة التي يكون جزاؤها جملة إنشائيّة ، وبين الجملة الشرطيّة التي يكون جزاؤها إخبارا ، بحيث كان للأول مفهوم دون الثانية ، مع فرض انّ الأداة في الجملة الشرطيّة موضوعة بوضع نوعي واحد بلحاظ كلتا الجملتين كما عرفت في بحث الوضع ، وبهذا اتّضحت ملائمة الوجدان الخامس ، مع الوجدان الأول.

ومن مجموع ما ذكرنا ، ثبت دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بالضابط المتقدم ، وهو كون الجملة الشرطيّة دالة على النسبة التوقفيّة وضعا ، بشرط أن ينضم لذلك إطلاق الجزاء ، وكون المعلّق طبيعي الحكم ، وإطلاق التوقّف كما عرفت.

وعلى ضوء ذلك ، أمكننا وضع نظريّة تفسّر هذه الوجدانات الخمسة.

وإن شئت ، قلت في تحقيق الفرق بين الجملتين ، بأن هذا التهافت في الدلالة بين الجملتين مبنيّ على تخيّل انّ مفاد الجملة الشرطيّة الخبريّة ، إذا

٦٤٩

كان على وزان الجملة الشرطيّة الإنشائيّة من حيث الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، وتعليق النسبة الواقعيّة بين المخبر والمخبر به على الشرط ، فلا بدّ وأن يكون المثال السابق على تقدير وجود المفهوم ، مكافئا مع قولنا : «موت زيد معلّق على شربه السم» ، الدال بمقتضى إطلاقه ، على عدم موته ، إذا لم يشرب السم ، في حين انّه تحقّق في محله ، بأنّ مفاد الجملة الخبريّة ليس هو النسبة الواقعيّة الخارجيّة ، وإنّما النسبة الحكمية التصادقيّة التي لا موطن لها إلّا في الذهن ، وهي نسبة انّ هذا ذاك ، التي هي نسبة غير خارجيّة ، بل في الخارج لا توجد إلّا وحدة وعينيّة بين هذا وذاك ، وأمّا النسبة الخارجيّة فتأتي في الذهن بصورها التي لا تكون نسبة حقيقية في الذهن ، بل تحليليّة ومختزلة ، أي صورة نسبة.

وقد برهنّا في بحث الوضع ـ في مقام التفرقة بين مفاد الجمل الخبرية ، ومفاد الجمل الإنشائيّة ، وبين النسب التامة ، والنسب الناقصة ـ انّ جميع النسب الخارجيّة ، كالظرفيّة أو الابتدائيّة أو غيرهما ، وممّا وضع بإزائها الحروف والهيئات الناقصة ، يكون ما بإزائها في الذهن نسبة ناقصة تحليليّة ، وكل النسب التي موطنها في الذهن ، وتكون نشأتها فيه ، فهي نسب تامة ، وتوضع بإزائها الجمل التامة.

وعلى هذا الأساس ، يتّضح انّ المعلّق على الشرط في قولنا : «إذا شرب زيد السم سوف يموت» ليس هو موت زيد المتضمن لنسبة خارجيّة ناقصة ، هي نسبة عروض الموت إلى زيد ، بل المعلّق ، هو النسبة التصادقيّة الذهنيّة بين الذات التي عرض عليها الموت ، وبين زيد ، وهذه النسبة ، هي مدلول الجملة التامة في الجزاء ، أي النسبة الحكميّة الإخباريّة ، فيكون المعلّق ، هو إخباره بالموت ، لا واقع الموت ، فيكون الناتج من دلالة الجملة على التعليق ، هو انتفاء النسبة الحكميّة والإخبار عن موته عند انتفاء الشرط ، لا انتفاء موته الخارجي.

وأمّا الجملة الشرطيّة الإنشائيّة ، فهي وإن كانت متضمّنة لنسبة تامة

٦٥٠

إنشائيّة ، هي النسبة الإرساليّة مثلا ، وتكون هي المعلّقة على الشرط ، لا النسبة الإرساليّة الخارجيّة ، ولكن حيث انّ الحكم لا واقع ولا حقيقة له وراء الإنشاء والنسبة الحكميّة ، فلا محالة ، يدل انتفاء هذه النسبة الحكميّة الإنشائيّة عند انتفاء الشرط على انتفاء الحكم واقعا ، إذ لا واقع له في غير أفق الإنشاء المنتفي بحسب الفرض ، وهذا بخلاف الإخبار الذي يبقى واقع المخبر به محفوظا مع انتفاء الإخبار أيضا.

وبهذا تمّ الكلام في أصل دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، وبقي تنبيهات ، نعالج فيها ما تبقى من مشاكل المفهوم.

١ ـ التنبيه الأول : ونعالج فيه عدم ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة المسوقة لبيان تحقّق الموضوع مثل قوله : إذا رزقت ولدا فاختنه.

ولتوضيح ذلك ، نذكر مقدمة ، وحاصلها هو : إنّه في قولنا : «إذا جاء زيد فاكرمه» ، فالحكم في الجزاء وهو ، وجوب الإكرام ، له تقييدان.

الأول : تقييد لموضوعه ، وهو «زيد» ، وهذا التقييد ، تستبطنه جملة الجزاء بلا حاجة لضم الشرطيّة إليها ، والثاني ، تقييده بشرط وهو «المجيء» ، وهذا التقييد يحصل بملاحظة الجزاء داخل الجملة الشرطيّة ، وهذان التقييدان للحكم ، طوليّان ، فتقييده بالشرط ، في طول تقييده بالموضوع ، بمعنى انّ تقييد وجوب الإكرام بالشرط ، إنّما يكون بالنسبة لوجوب الإكرام المفروغ عن تقييده بموضوعه وهو زيد ، وهذا أمر عرفي ، ويمكن إقامة البرهان عليه صناعيا أيضا.

وحاصل هذا البرهان هو ، انّ تقييد الحكم بالموضوع ، مرجعه إلى نسبة ناقصة ، لأنّ الحكم ، هو مفاد الهيئة التي تدل عليها النسبة الإرساليّة ، وهذه النسبة ، نسبة بين المادة ، وهي الإكرام ، وبين الفاعل له ، وهو عمرو مثلا ، فحينئذ ، يحصل التقييد بالموضوع عن طريق تحصص المادة بالموضوع ، فيرجع ذلك إلى قولنا ، «إكرام عمرو» ، فتكون كالنسبة الإضافيّة

٦٥١

ولا إشكال في كونها ناقصة ، هذا بالنسبة إلى تقييد الحكم بالموضوع ، وقد عرفت انّ مرجعه إلى نسبة ناقصة.

وأمّا تقييد الحكم بالشرط ، فمرجعه إلى النسبة التوقفيّة كما عرفت ، وهي نسبة تامة ، وبهذا كانت الجملة الشرطيّة جملة تامة ، وكلما اجتمعت نسبة ناقصة ونسبة تامة ، فيجب أن تكون الناقصة مأخوذة في طرف التامة ، لتتم الناقصة بذلك ، وحينئذ ، يصح السكوت على الكلام المتضمن لهما ، وأمّا إذا لم تندمج الناقصة في طرف التامة ، وفرض وقوعها في عرضها ، فحينئذ ، تبقى الناقصة على نقصانها ، وهذا معناه ، اشتمال الكلام على ما لا يصح السكوت عليه ، وهو خلاف الفرض.

وبهذا ، يثبت انّ تقييد الحكم بموضوعه الذي مرجعه إلى نسبة ناقصة ، هو في رتبة ، أسبق من تقييده بشرطه ، الذي يرجع إلى نسبة تامة ، وبذلك تكون النسبة الناقصة ، طرفا في النسبة التامة ، ولأجله تمّت وصح السكوت بالنسبة لمجموع الكلام.

وحاصل هذه المقدمة هو : إن الحكم المفروض في الجزاء من الجملة الشرطيّة ، «كوجوب إكرام زيد» ، على تقدير مجيئه ، يتصوّر له تقييدان أحدهما ، التقييد بموضوعه ، والآخر التقييد بالشرط ، والتقييد الأول ، تستبطنه جملة الجزاء ، بينما التقييد الثاني ، تدل عليه أداة الشرط.

وهذان التقييدان طوليّان بحسب الفهم العرفي والتخريج الصناعي أيضا ، بمعنى انّ التقييد بالشرط ، يطرأ على وجوب الإكرام المفروغ عن تقييده بموضوعه ، فالمقيّد بالشرط هو «وجوب إكرام زيد» ، «لا ذات وجوب الإكرام» ، وذلك باعتبار انّ التقييد الأول ، مرجعه إلى النسبة الناقصة بين المادة ، وهو «الإكرام» ، وبين الموضوع ، لأنّ الموضوع في الجزاء طرف لنسبة ناقصة بينه وبين المادة ، فتكون النسبة الإرساليّة ، أي «الوجوب» ، أيضا متقيدة بالموضوع ، لأنّ الموضوع ، تحصيص لمتعلّق الحكم ، وتكون النسبة بينه وبين المادة بحسب الروح ، نسبة الإضافة

٦٥٢

الناقصة ، وإن كان المتعلق بحسب قواعد النحو ، مفعولا به.

وأمّا التقييد الثاني ، أعني تقييد الجزاء بالشرط ، فهو نسبة توقفيّة تامة كما عرفت سابقا ، وكلما اجتمعت نسبتان ، إحداهما تامة ، والأخرى ناقصة ، كانت النسبة الناقصة مأخوذة في طرف النسبة التامة لكي تتم بها ، إذ لو كانت في عرضها ، كان الكلام ناقصا وبحاجة إلى تتمة ، وهذا هو معنى الطوليّة المقصودة.

وفي ضوء هذه المقدمة نقول : إنّ الشرط ، تارة ، يفرض انّه أمر مغاير مع الموضوع ، من قبيل ، «المجيء» ، بالنسبة «لزيد» ، فإنّه مغاير له ، كما في قولنا : «إذا جاء زيد فاكرمه» وفي مثله لا إشكال في ثبوت المفهوم ، باعتبار أنّ مرجع التقييد بالشرط ، إلى النسبة التوقفيّة ، وهذا يقتضي انتفاء وجوب الإكرام ، عند انتفاء المجيء ، إلّا انّ وجوب الإكرام الذي ينتفي ، هو وجوب الإكرام المقيّد بموضوعه ، وهو «زيد» ، بناء على ما عرفته في المقدمة ، وعليه فتكون هذه الجملة دالة على انتفاء وجوب إكرام زيد ، عند انتفاء مجيئه ، ولا تدل على انتفاء وجوب إكرام غيره.

وتارة أخرى ، يفرض انّ الشرط ملازم مع وجود الموضوع ، فيكون عدمه مساوقا لعدم وجود الموضوع ، وهذا ما يسمّى بالشرط المسوق لتحقّق الموضوع كما في قوله ، «إذا رزقت ولدا فاختنه» ، فوجود الشرط ، وهو الرزق ، مساوق وملازم لوجود الموضوع ، وهو الولد ، وعدمه ، مساوق لعدمه ، كما هو واضح.

وبتطبيق المقدمة المذكورة ، يتّضح انّه لا مفهوم لهذه الجملة وأمثالها ، حيث نقول : إنّ وجوب الختان ، قيّد بتقيدين.

أحدهما بالموضوع ، وهو الولد ، والثاني ، بالشرط ، وهو الرزق ، والتقييد الثاني ، يجب أن يكون في طول الأول كما عرفت ، فالتقييد بالشرط ، مصبّه وجوب الختان المقيّد بالولد ، وحينئذ ، لا يكون لهذه الجملة مفهوم ، لأنّه إن أريد بالمفهوم ، نفي مصبّ التقييد بالشرط ، وهو

٦٥٣

وجوب ختان الابن ، عند انتفاء الشرط ، وهو الرزق ، ففيه ، انّ هذا الانتفاء ، قهري ، سواء وجدت هناك أداة شرط ، أو لم توجد ، لأنّ انتفاء الشرط ، مساوق لانتفاء الموضوع حسب الفرض ، وإن أريد بالمفهوم ، نفي مصبّ أوسع من مصب التقييد بالشرط ، كما لو أريد نفي ختان أيّ ولد إذا انتفى الشرط المذكور ، ففيه ، ان هذا الانتفاء ، لا يدل عليه الكلام ، لأنّ التقييد بالشرط ، إنّما يقتضي انتفاء مصبّه عند انتفاء الشرط ، ولا يقتضي أكثر من ذلك.

نعم لو كان التقييدان المذكوران عرضيّان ، بأن يكون مصبّ التقييد بالشرط ، هو وجوب الختان في نفسه ، لا وجوب ختان الابن ، كما لو قال ، «إذا رزقت ولدا فيجب الختان» ، ففي مثله ، يكون التقيدان عرضيان ، ولأجله ، يثبت المفهوم ، لكن لمّا كان التقييدان في قولنا ، «إذا رزقت ولدا فاختنه» ، طوليّين بالبرهان المتقدم ، يثبت حينئذ انّه لا مفهوم لمثل هذه الجملة كما تقدم لأنه خلاف الطولية بين التقييدين وممّا ذكرنا ، ظهر انّ كل جملة شرطيّة كان الشرط فيها مغايرا مع الموضوع ، يكون لها مفهوم ، من قبيل قولنا ، «إذا جاء زيد فاكرمه» ، وكل جملة شرطيّة كان الشرط فيها مسوقا لتحقّق الموضوع ، فلا مفهوم لها ، من قبيل قولنا ، «إذا رزقت ولدا فاختنه» ، وهناك جمل وسط بين هاتين الجملتين ، كما في قوله تعالى ، (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ،) فإنّ موضوع الحكم هو النبأ ، والشرط ، هو مجيء الفاسق به ، ومن الواضح انّ مجيء الفاسق بالنبإ ، هو إيجاد للنبإ ، فمن هذه الناحية ، تكون هذه الآية ، شبيهة بالجملة المسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، باعتبار انّ تحقّق الشرط في الآية ، يحقق موضوع الحكم.

إلّا انّ تحقق هذا الموضوع ، غير منحصر بالشرط ، وهو مجيء الفاسق ، وذلك ، لإمكان أن يحقّق العادل هذا الموضوع ، وبهذا اختلفت الآية عن الجملة المسوقة لبيان تحقق الموضوع ، باعتبار انّ الشرط ، وهو الرزق ، في تلك الجملة ، هو المحقق الوحيد للموضوع ، وهو الولد ، ومن هنا كانت هذه الآية المباركة ، حدّ وسط بين الجملتين.

٦٥٤

ولكنّ الصحيح ، هو ثبوت المفهوم فيها أيضا ، لأنّ التقييد بالشرط الذي يفيد النسبة التوقفيّة ، يقتضي انتفاء مصبّه إذا انتفى الشرط ، بحيث يكون التعليق مفيدا لأمر لا يتحصل لولاه ، وهذا متوفر في المقام ، لأنّ انتفاء الشرط ، وهو مجيء الفاسق ، غير مساوق لانتفاء الموضوع ، كما هو الحال في الجملة المسوقة لبيان تحقق الموضوع ، أي جملة ، إذا رزقت ولدا فاختنه وعليه ، فالتعليق في الآية ، أفاد أمرا ، لا يتحصّل لولاه ، وحينئذ ، فإذا انتفى الشرط ، وهو مجيء الفاسق ، ينتفي وجوب التبيّن ، كما في صورة مجيء العادل بالنبإ. وهكذا يكون مقتضى إطلاق التعليق في الآية ، ثبوت المفهوم فيها أيضا.

٢ ـ التنبيه الثاني : وفيه نعالج ، إشكال كون المنتفي بالمفهوم ، هل هو ، مطلق الوجوب ، أو الوجوب المطلق ، حيث يقال : انّ المفهوم في قولنا : «إذا جاء زيد فاكرمه» هل يدل على انتفاء مطلق وجوب الاكرام ، بحيث إذا لم يجيء ، ينتفي أيّ وجوب إكرام له؟ ، أو انّه يدل على انتفاء الوجوب المطلق للإكرام؟ ، بحيث انّه إذا لم يجيء يكون المنفي هو الوجوب المطلق؟ ، وهذا لا ينافي ثبوت الوجوب المقيّد.

ومن هنا ، كان لا بدّ من وضع ميزان فني لبيان انّ المفهوم هل يقتضي انتفاء مطلق الوجوب ، أو الوجوب المطلق.

وبتعبير آخر يقال : انّه لا إشكال في انّ جملة الجزاء في الشرطيّة مطلقة ، فقولنا ، «إذا جاءك زيد فاكرمه» ، يدل على وجوب مطلق الإكرام لزيد إذا جاء ، وحينئذ ، يستشكل في دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ، حيث يقال : انّ الجزاء المعلّق على الشرط إن كان هو وجوب مطلق الإكرام ، فغاية ما تقتضيه دلالة الجملة الشرطيّة على الانتفاء عند الانتفاء ، هو انتفاء هذا الوجوب ، وهذا لا ينافي ثبوت وجوب إكرام مقيّد له ، كالإكرام بنحو الضيافة مثلا ، وإنّما الذي ينافيه ، انتفاء مطلق وجوب الإكرام.

٦٥٥

والجواب هو : انه في القضية الشرطية يوجد أمران :

الأمر الأول : التعليق ، والأمر الثاني ، وجوب الإكرام.

وحينئذ ، فتارة يفرض انّا نثبت أولا ، الإطلاق في وجوب الإكرام ثم نعلقه بعد ذلك ، فتكون النتيجة ان المعلق على الشرط هو الوجوب المطلق للإكرام.

وأخرى يفرض العكس ، فيقال : ان المعلق على الشرط هو طبيعة وجوب الإكرام ، وبعد التعليق يشك في انّ المعلّق ، هل هو مطلق الوجوب؟

أو الوجوب المقيّد؟

فبمقدمات الحكمة يثبت انّ المعلّق هو مطلق الوجوب.

إذن ففي المقام دعويان.

أ ـ الدعوى الأولى : هي أن يكون إجراء مقدمات الحكمة ، في مرتبة سابقة على التعليق.

وهذا يفيد انتفاء الوجوب المطلق ، عند انتفاء الشرط.

ب ـ الدعوى الثانية : هي أن يكون إجراء مقدمات الحكمة ، في طول التعليق.

وهذا يفيد انتفاء مطلق وجوب الإكرام.

والصحيح في المقام ، هي الثانية ، وأنّ التعليق في مرتبة سابقة على إجراء مقدمات الحكمة ، فيكون المفهوم مقيّدا لانتفاء مطلق الوجوب ، وهذا ، ينافي ثبوت أيّ حصة من حصص الوجوب.

وهذه الدعوى الثانية ، مطابقة مع الوجدان العرفي ، كما أنّها مطابقة للبرهان.

وتوضيح ذلك هو : إنه قد يدّعى قيام البرهان على الدعوى الأولى ،

٦٥٦

وأنّ التعليق يطرأ على الوجوب بعد إثبات إطلاقه ، بدليل انّ التعليق حكم ، وموضوعه ، هو وجوب الإكرام ، وهذا الموضوع ، ينبغي معاملته كأيّ موضوع آخر ، فمثلا في قوله : أحلّ الله البيع ، فإنّ الموضوع هو البيع ، وهذا الموضوع ، يدور أمره ، بين المطلق ، والمقيّد ، فنثبت إطلاقه بمقدمات الحكمة ، وبعد إثبات إطلاقه ، يجعل موضوعا للحكم.

ومحل كلامنا من هذا القبيل ، فإنّ وجوب الإكرام ، موضوع للتعليق ، فإذا دار أمر هذا الموضوع بين المطلق ، والمقيّد فإنّا نثبت إطلاقه بمقدمات الحكمة ، وحينئذ يثبت انّ موضوع التعليق ، هو الوجوب المطلق للإكرام ، فيكون التعليق طارئا على الوجوب المطلق.

وبهذا يتبيّن صحة الدعوى الأولى.

إلّا أنّ هذا الكلام غير تام ، أمّا أولا ، فإنّ هناك فرقا بين الموضوعين ، فالبيع ، وهو الموضوع في قوله تعالى ، (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ،) لا يمكن أن يراد به طبيعة البيع الجامعة بين البيع المطلق ، والبيع المقيّد ، باعتبار انّه لا وجود مستقل لهذه الطبيعة مع قطع النظر عن حصتيها ، ومعه لا يعقل أن تكون موضوعا للحكم الشرعي.

وحينئذ ، فيدور الأمر ، بين أن يكون المراد ، هو البيع المطلق ، أو البيع المقيّد ، وبمقدمات الحكمة نثبت كون المراد ، هو البيع المطلق.

وهكذا ، بالنسبة لكل موضوع لا يعقل بقاؤه على الجامع.

وأمّا الموضوع في محل الكلام ، وهو وجوب الإكرام ، فلا يدور أمره بين المطلق والمقيّد فقط ، بل هناك طرف ثالث ، وهو أن يكون المقصود به مطلق الوجوب الجامع بين المطلق والمقيّد ، وهذا الجامع ، وإن لم يكن له وجود مستقل عن حصّتيه ، إلّا انّه يعقل أن يجعل موضوعا للتعليق ولا محذور فيه.

وحينئذ ، فمقدّمات الحكمة ، تعيّن هذا الطرف الثالث ، لأنّه أوسع

٦٥٧

دائرة ، وبهذا يكون الإطلاق طارئا على التعليق ، كما هو لسان الدعوى الثانية.

وأمّا ثانيا : فإنّ إجراء مقدمات الحكمة قبل التعليق ، يثبت انّ المعلّق هو الوجوب المطلق للإكرام ، وهذا تضييق لدائرة التعليق ، لأنّ مرجعه ، إلى انّ المعلّق ليس هو طبيعة الوجوب على إطلاقها وبكلتا حصتيها ، بل المعلّق هو الطبيعة في ضمن إحدى الحصتين ، وهي الوجوب المطلق ، وهذا خلف مقدمات الحكمة.

وهذا بخلاف ما لو أجرينا مقدمات الحكمة بعد التعليق ، فإنّها تفيد كون المطلق هو الطبيعة ، كما عرفت.

وهذا الجواب الثاني ، يستفاد من الأول.

وقد يتوهم في مقام إثبات الدعوى الأولى ، فيقال : إنّ الإكرام الذي هو موضوع الوجوب ، يحتمل الإطلاق ، والتقييد ، فنثبت إطلاقه بمقدمات الحكمة ، فيكون المقصود منه مطلق الإكرام ، فبعد تعلّق الوجوب به وتعليق هذا الوجوب على الشرط ، تكون النتيجة ، انّ المعلّق على الشرط ، هو وجوب مطلق الإكرام ، وحينئذ ، بانتفاء الشرط ، ينتفي وجوب مطلق الإكرام ، وهذا لا ينافي ثبوت وجوب بعض حصص الإكرام.

وبهذا ، يثبت مضمون الدعوى الأولى.

إلّا انّ هذا الكلام ، لو تمّ ، لانتفى مفهوم الجملة رأسا ، وبيان ذلك هو : انّا ذكرنا انّ ضابط المفهوم ، مؤلف من ركنين ، والركن الثاني ، هو كون المعلّق على الشرط ، هو مطلق الحكم وطبيعته ، لا شخصه.

وقد عرفت ، انّ إثبات ذلك ، موقوف على إجراء مقدمات الحكمة ، وإجراؤها ، يتوقف على شروطها ، وبعض هذه الشروط ، يرجع إلى أن لا يكون المدلول التصديقي بإزاء جملة الجزاء ، بل لا بدّ وأن يكون بإزاء جملة الشرط نفسها ، أي بإزاء النسبة التوقفيّة ، إذ لو كان بإزاء جملة الجزاء ، للزم

٦٥٨

عدم جريان مقدمات الحكمة ، ومعه لا يثبت انّ المعلّق طبيعي الحكم ، بل يكون شخص الحكم ، لأنّ المدلول التصديقي شخصي دائما ، وقد عرفت تفصيله.

وممّا ذكرنا ، يفهم انّ المعلّق هو طبيعي الحكم الذي هو مدلول تصوري ، وحينئذ نقول.

إذا كان مدلول جملة الجزاء هو الحكم كمفهوم كلّي ، فلا يعقل إجراء مقدمات الحكمة لإثبات الإطلاق في الإكرام ، لأنّ مقدمات الحكمة ، إنّما تجري لأجل التوفيق بين مرحلتي الثبوت والإثبات ، أي بين المدلول التصوري ، والمدلول التصديقي.

وقد عرفت انّه لا مدلول تصديقي لجملة الجزاء ، لأنّ المدلول التصديقي قد فرض جعله بإزاء جملة الشرط نفسها.

نعم ، إذا فرض انّ المدلول التصديقي بإزاء جملة الجزاء ، فحينئذ ، يكون للجزاء مدلول تصديقي ، ومعه يمكن إثبات الإطلاق ، لأنّه لا مانع حينئذ من جريان مقدمات الحكمة.

إلّا انّه بناء على هذا الفرض ، لا يمكن أن نثبت كون المعلّق هو طبيعي الحكم ، أي الركن الثاني ، لما عرفت أولا.

وبهذا يثبت ، انّ تمامية الركن الثاني ، ملازمة لاستحالة إثبات الإطلاق في نفس الإكرام قبل التعليق.

فإن قيل : انّه من المتسالم عليه ، انّ ما يثبته المنطوق ، هو الذي ينفيه المفهوم ، وفي قولنا : «إذا جاء زيد فاكرمه» ، فهنا المنطوق ، يثبت وجوب مطلق الإكرام ، ومن هنا صحّ امتثاله بإكرامه ، بنحو الضيافة ، والهدية ، ونحو ذلك مما هو إكرام ، وحينئذ فالمفهوم لا بدّ وأن ينفي وجوب مطلق الإكرام ، وهذا لا ينافي وجوب بعض حصص الإكرام ، فبهذا تثبت صحة مضمون الدعوى الأولى.

٦٥٩

قلنا : ما ذكر من انّ الثابت بالمنطوق هو الذي ينفى بالمفهوم ، صحيح إلّا أنّا نقول ، انّ الثابت بالمنطوق ، والمعلّق على الشرط هو مطلق وجوب الإكرام ، وهذا له حصتان كما عرفت سابقا ، إحداهما ، الوجوب المطلق ، والثانية ، الوجوب المقيد ، وحينئذ ، فبانتفاء الشرط ، ينتفي الجامع ، وانتفاء الجامع لا يكون إلّا بانتفاء كلتا حصتيه ، وأمّا إذا وجد الشرط فحينئذ يوجد الجامع ، ووجود الجامع ، يتحقق ولو في ضمن إحدى حصصه ، فالذي أثبته المنطوق هو عين ما نفاه المفهوم ، وهو الجامع.

فإن قيل : انّ وجود الشرط يقتضي وجود الجامع بين المطلق والمقيد ، وحينئذ ، فما هو المعيّن لهذه الحصة؟.

قلنا ، المعيّن لها ، هو مقدمات الحكمة ، فإنّها تقتضي تحقق الجامع في ضمن حصته المطلقة ، ومقدمات الحكمة هذه ، لا بدّ وان تكون في طول التعليق كما عرفت.

٣ ـ التنبيه الثالث : إذا فرض عموم الجزاء كما في قوله ، «إذا رزقت مالا فتصدق به ، على كل الفقراء» ، ففي مثله ، يقع الكلام في مرحلتين :

أ ـ المرحلة الأولى : مرحلة الثبوت ، وفي هذه المرحلة ، يوجد عندنا ثلاث احتمالات.

أ ـ الاحتمال الأول : هو ان يكون المعلّق على الشرط هو نفس العموم ، أي بما هو صفة ، وفي مثله ، يكون المفهوم مقتضيا لانتفاء العموم عند انتفاء الشرط ، فيكون المنفي هو وجوب الإكرام بنحو العموم ، وهذا لا ينافي وجوب إكرام بعض الأفراد.

ب ـ الاحتمال الثاني : هو أن يكون المعلّق على الشرط ، ذات العام ، أي نفس الأفراد ، على نحو ، تكون ملحوظة بنحو العموم الاستغراقي ، وفي مثله : المفهوم يقتضي انتفاء الحكم بوجوب الإكرام عن سائر الأفراد ، فيكون المفهوم مقتضيا للسالبة الكليّة.

٦٦٠