بحوث في علم الأصول - ج ٦

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: الدار الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٤٩

وبعد تماميّة هاتين المقدمتين يقال : إنّنا لو كنّا نقول بالامتناع ، وبتقديم جانب النّهي على الأمر ، فحينئذ نلتزم بصحة الصلاة مع الجهل بالغصب وبحكمه ، كما نلتزم ببطلانها مع العلم بالغصب وبحكمه.

والوجه في ذلك ، هو : انّه مع الجهل بالغصب أو بحكمه لا يكون النهي فعليا كما هو مقتضى المقدمة الثانية ، وإذا لم يكن فعليا ، فلا يكون مضادا ومانعا عن الأمر بالصلاة ، كما هو مقتضى المقدمة الأولى ، وإذا لم يكن مانعا عن الأمر بالصلاة ولا معاندا له ، فلا مانع من التمسك بإطلاق دليل الوجوب ، حال الجهل بالغصب أو بحكمه ، ومعه يحكم بصحة الصلاة.

وأمّا إذا كان الغصب وحكمه معلوما ، ففي مثله يكون النّهي فعليا بحكم المقدمة الثانية ، وإذا كان فعليا فيكون مضادا وممانعا للأمر بالصلاة ، بمقتضى المقدمة الأولى ، وإذا كان ممانعا له ـ والمفروض أننا في هذه الموارد نلتزم بامتناع الاجتماع ، وتقديم جانب النّهي ـ فإنّه حينئذ لا يحكم بصحة الصلاة ، وذلك لسقوط الأمر حينئذ.

إلّا أنّ هذا الوجه غير تام نقضا وحلا :

أمّا نقضا ، فلأنّه لو تمّ هذا الوجه ، لجرى في سائر موارد التعارض والتنافي بين دليلين ، مع أنّه لا يلتزم بذلك ، فمثلا : لو ورد ، «أكرم كلّ هاشمي» ، وورد ، «لا تكرم أيّ فاسق» ، فيتعارضان في الهاشمي الفاسق ، بنحو العموم من وجه ، وفي مثله لا يكون الهاشمي الفاسق مشمولا لأيّ من الدليلين مع تساويهما ، فإذا قدّمنا جانب النّهي ينبغي أن يلتزم بمقتضى هذا الوجه ، بشمول دليل «أكرم كل هاشمي» للهاشمي الفاسق الذي لم يعلم بفسقه ، لأنّ هذا وإن كان فاسقا في الواقع ، إلّا أنّ حرمة إكرامه ، ليست فعليّة ، للجهل بها ، ومعه ، لا مانع من ثبوت وجوب إكرامه ، مع أنّه في مثل هذا المورد ، لا يلتزم بذلك ، بل يحكم بعدم شمول دليل الوجوب للهاشمي الفاسق ، سواء أكان فسقه معلوما ، أو مجهولا.

٤٤١

وكذلك ينقض هذا الوجه ، بأنّ مقتضاه ، هو جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، فيقال : بأنّه إنّما ترفع اليد عن العام بمقدار ما يكون حكم العام مضادا مع حكم الخاص ، والخاص إنّما يضاد العام إذا كان الخاص فعليا ، ومقتضى ذلك ، جواز التمسك بالعام في الموارد التي يشك في انطباق الخاص عليها ، ومن جهة الشبهة المصداقية ، لأنّ الخاص ليس فعليا بالنسبة لهذه الموارد ، مع أنّ التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة لم يلتزم به.

وأمّا حلّا ، فهو : إنّه إن كان مراد صاحب «الكفاية» بالفعلية التي أناط بها التضاد والتمانع بين الأحكام ، إن أريد بها الفعليّة بمعنى التنجّز كما أفيد في المقدمة الثانية ، فهو صحيح لأنّ التنجز فرع الوصول والعلم ، إلّا أنّ المقدمة الأولى حينئذ لا تكون صحيحة ، لأنّ التمانع بين الأحكام ، إنما هو أيضا باعتبار مبادئها من المصلحة والمفسدة ، والحب والبغض ، فلا يختص التمانع بين الأحكام بمرحلة الوصول والعلم بها ، بل قبل هذه المرحلة أيضا يوجد تضاد بينها بلحاظ مرتبة مبادئها ، كما مرّ سابقا ، وهذا لا ربط له بمرحلة التنجز.

وإن أريد بالفعليّة ، المرحلة إلى تكون قبل التنجز ، وهي ما يقابل الإنشائية ، أي كون التنجز على طبق اللفظ المنشأ من قبل الإرادة والكراهة الحقيقيتين للمولى ، فحينئذ تكون المقدمة الأولى صحيحة ، لأنّ هذه الفعلية هي مناط التضاد والتمانع ، إلّا أنّ المقدمة الثانية غير صحيحة ، لأنّ الفعلية بهذا المعنى ليست منوطة بالوصول والعلم ، بل هي منوطة بتماميّة موضوع الحكم واقعا ، سواء علم ، أو لم يعلم.

ـ الوجه الثاني : في توجيه فتوى المشهور ، هو : ما يستفاد أيضا من كلمات صاحب الكفاية «قده» (١) ، لكن لا بنحو التبنّي ، بل بنحو الإشارة ، وحاصله :

__________________

(١) نفس المصدر : ص ٢٤٧.

٤٤٢

إنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، لا بما هي هي ، بل بما هي مؤثرة في الحسن والقبح عقلا ، إذ إنّ الأحكام الشرعية هذه انعكاسات للواجبات والألطاف العقليّة ، ومن الواضح إنّ تأثير المصلحة والمفسدة في الحسن والقبح ، فرع العلم بالغصب :

إذ مع عدم العلم بالغصب : لا حكم شرعيّ بالحرمة ، فيبقى دليل الوجوب على حاله ، فتقع العبادة صحيحة ، حيث لا ملاك ولا فعليّة للحرمة حتى تضاد وتنافي الوجوب.

وأمّا في فرض العلم بالغصب : فتكون المفسدة مؤثرة في القبح ، وبالتالي مؤثرة في الحكم الشرعي بالحرمة ، ومعه تقع العبادة فاسدة.

وهذا الوجه غير تام أيضا ، ويرد عليه أولا النقض السابق بنحو ما عرفت.

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو تمّ هذا الوجه ، لتمّ في فرض الجهل بالموضوع ، وهو الغصب ، ولا يتم في فرض الجهل بالحكم ، وهو حرمة الغصب ، وذلك لأنّه في فرض الجهل بالغصب ، تصح العبادة بالنحو الذي ذكر في هذا الوجه ، وأمّا في فرض الجهل بحكم الغصب مع العلم بنفس الغصب ، فإنّ هذا الجهل لا يمنع عن ثبوت الحرمة ، لأنّ جهة الغصب معلومة ، فتؤثر في القبح ، لأنّ القبح تابع لوصول حيثيته أعني الغصب ، وهي واصلة ، وليس تابعا لوصول نفس الحرمة ـ أعني ، الحكم ـ لأنّنا فرضنا أنّ الحرمة هي تابعة له ، لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد المؤثرة في الحسن والقبح. وعليه : ففي هذه الصورة تكون الحرمة موجودة ، فلا تقع العبادة صحيحة ، مع أنّ المشهور حكموا بصحتها في هذه الصورة أيضا ، وهي العلم بالغصب مع الجهل بحكمه وهو الحرمة.

ويرد عليه ثالثا : إنّه لا دليل على ما ذكر ، من أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد المؤثرة في الحسن والقبح العقليين ، بل الدليل قام على عدمه ، كما هو مذكور في محله.

نعم قام الدليل على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية ، فلو التزم بما ذكر في الكفاية ، للزم أنّه لا بدّ في المرتبة السابقة على الحكم ، من

٤٤٣

وصول المصلحة والمفسدة ، مع أنّ المصالح والمفاسد تعلم من قبل الأحكام ، لا إنّها تعلم من قبلها.

وإن شئت قلت : إنّه يرد عليه ثالثا ، عدم صحة المبنى ، فإنّ الأحكام ليست تابعة للمصالح والمفاسد ، بما هي مؤثرة في الحسن والقبح العقليّين ، بل الدليل قام على عدمه.

نعم قام الدليل على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية ، وإلّا لو التزم بما ذكره في «الكفاية» للزم توقف تلك الأحكام على وصول تلك المصالح والمفاسد ، ومعرفة المكلفين بحيثياتها ، مع أنّ تلك المصالح والمفاسد لا تعلم إلّا في طول فعليّة الأحكام والعلم بها.

ـ الوجه الثالث في توجيه فتوى المشهور ، وهو : قد ذكر في «الكفاية» أيضا ، وهو مبني على أصل موضوعي ، وحاصله ، هو : إنّه في موارد اجتماع الأمر والنّهي يكون المجمع واجدا لكلا ملاكيّ الوجوب والحرمة ، أي : إنّه يكون ملاك كل من الحكمين فعليا فيه ، ويكون التمانع بين الحكمين. وبناء على هذا المبنى الذي افترضه أصلا موضوعيا لبحث الاجتماع يقال :

إنّ المكلف إذا كان عالما بالغصبية وبحرمتها ، فتقع الصلاة حينئذ باطلة ، لأنّها وإن كانت واجدة للملاك ، إلّا أنّه باعتبار تنجّز الحرمة ، تقع الحركة الصلاتية قبيحة ، فتكون مبعدة ، وفي هذه الحالة لا يمكن التقرب بها ، فتقع باطلة.

وأمّا مع عدم العلم بالحرمة : فتقع الصلاة صحيحة ، لإمكان التقرب بها حينئذ ، والمفروض أنّها واجدة لملاكها أيضا ، ولا يعتبر في صحة العبادة أكثر من ذلك (١).

وقد اعترض السيد الخوئي على هذا الوجه : بأنّ صحة التقرب بالفعل

__________________

(١) نفس المصدر.

٤٤٤

بلحاظ ملاكه ، إنّما يكون فيما إذا لم يكن هذا الملاك مغلوبا ، والمفروض في كلام «الكفاية» هو البناء على امتناع الاجتماع وتقديم جانب النّهي ، ومعه يكون ملاك الصلاة مغلوبا ، ولا يمكن التقرب به حينئذ ، لعدم صلاحيته لذلك ، مع كونه مغلوبا ، لأنّه في هذه الصورة يكون مبغوضا للمولى ، ولو فرض جهل المكلف بالحرمة.

وهذا الاعتراض غير تام : لأنّ صلاحية الفعل للمقربيّة ، مربوطة بوجدان المتقرب ، إذ لا يشترط في فعليّة التقرب أكثر من تخيّل الأمر والمحبوبية ولو كان واقع الفعل مبغوضا دون اشتراط المحبوبيّة الفعليّة زيادة على الملاك ، ولذا قد يفرض أنّ شيئا يكون مبغوضا محضا ، ومع هذا يصلح للمقربية ، كإنقاذ عدوّ المولى بتخيّل أنّه ولده تقربا إليه.

وفي محل الكلام ، فإنّ محبوبيّة الصلاة ، وإن كانت مغلوبة بالنسبة لمبغوضية الغصب ، إلّا أنّ المكلف لم يحرز هذه المبغوضيّة كي تمنعه عن التقرب بتلك المحبوبية.

وتحقيق الحال في هذا الوجه : إنّه سليم عن أيّ إشكال سوى أصله الموضوعي المذكور في هذا الوجه ، وهو وجدان الفعل في مورد الاجتماع لنفس ملاك الأمر بالعبادة ومصلحته.

وقد عرفت سابقا ، عدم إمكان إحراز ذلك ، إلّا بالتمسك بالمدلول الالتزامي ، بعد سقوط المدلول المطابقي ، أو إطلاق المادة ، وكلاهما كان باطلا. إذ لو كان شيء منهما تاما ، لحكم بذلك في سائر موارد التعارض ، كما عرفت سابقا.

إذن فهذه الوجوه الثلاثة التي ذكرت في «الكفاية» ، لا تفي بدفع الإشكال عن المشهور ، كما أنّ هذه الوجوه كانت مبنية على اختيار امتناع الاجتماع مع الالتزام بتقديم جانب النّهي. وكأن صاحب الكفاية «قده» لم يستشكل بصحة الصلاة ، بناء على القول بالجواز ، سواء أكانت الحرمة

٤٤٥

معلومة ، أو غير معلومة ، ولذلك حاول دفع الإشكال من تلك الجهة.

ـ الوجه الرابع : هو ما ذكره المحقق النائيني «قده» (١) في وجه هذا التفصيل ، ولكن بناء على القول بجواز الاجتماع ، وليس بناء على القول بامتناع الاجتماع ، وكأن المحقق يعترف ببطلان الصلاة بناء على الامتناع ، سواء أكانت الحرمة معلومة ، أو غير معلومة ، ولذا حاول دفع الإشكال عن فتوى المشهور من الجهة الأخرى ، حيث بنى تخريج فتوى المشهور بناء على الجواز.

وحاصل ما ذكره المحقق «قده» في المقام ، وهو : مبنيّ على مبناه ، من استحالة شمول الوجوب المتعلق بالجامع للفرد غير المقدور ، شرعا أو عقلا ، حيث قال : إنّه بناء على جواز الاجتماع ، يخرج وجوب الصلاة على الإطلاق ، وحرمة الغصب كذلك عن باب التعارض إلى باب التزاحم في مقام الامتثال ، لأنّ إطلاق الواجب للصلاة الغصبية مستحيل ، لأنّ هذا الفرد من الصلاة ، وإن كان غير الغصب خارجا بناء على جواز الاجتماع ، إلّا أنّه ملازم مع الحرام ، فلا يكون مقدورا شرعا ، ومعه فلا يكون دليل الواجب شاملا له ، لما عرفت من الأصل الموضوعي الذي بنى عليه كلامه. وعليه : فيقع التزاحم بين إطلاق دليل الواجب وبين دليل الحرمة ، وحينئذ فإذا كانت الحرمة منجزة فيستحكم التزاحم ، ومعه لا يمكن ثبوت الأمر بالنسبة لهذا الفرد ، لأهمية النّهي كما هو المفروض ، كما أنّه يستحيل أن يثبت أمر ترتّبي به ، حيث أنّ الميرزا «قده» يبني على استحالة الترتّب في موارد اجتماع الأمر والنّهي ، كما تقدم منه في محله. وعليه : فلا أمر بهذا الفرد من الصلاة.

نعم ملاك الصلاة موجود ، إلّا أنّه لا يمكن التقرب بهذا الملاك ، لأنّه مزاحم بقبح فاعلي ، لأنّنا وإن قلنا بأنّ الصلاة والغصب في الخارج ، شيئان انضمّا لبعضهما ، إلّا أنهما يوجدان بإيجاد واحد من قبل المكلف ، وبفاعلية

__________________

(١) فوائد الأصول : ج ١ ـ ط ١ ـ ص ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٤٤٦

واحدة ، وهذا الإيجاد لهما قبيح ، لأنّ أحد الفعلين وهو الغصب ، معصية ، فيكون هذا القبح مزاحما مع ملاك هذا الفرد ، ومعه لا يمكن التقرب به ، فتقع الصلاة حينئذ فاسدة ، لعدم الأمر ، وعدم إمكان التقرب بملاكها الموجود.

هذا فيما إذا كانت الحرمة منجّزة ، وقد عرفت أنّ الصلاة تقع باطلة.

وأمّا إذا لم تكن الحرمة منجزة من جهة عدم وصولها : ففي مثله لا تزاحم ، لأنّ فعليّة التزاحم فرع وصول الخطابين ، كما عرفت في محلّه ، وإذا لم يكن تزاحم ، فلا محذور في بقاء الأمر في جانب الصلاة على إطلاقه بلا أي قبح ، وحينئذ ، فيتقرب بامتثال ذلك الأمر ، وتقع الصلاة صحيحة.

ويرد على هذا التخريج :

أولا : إننا لا نسلّم بوقوع التزاحم بين الأمر بالمطلق ، وبين النّهي عن الحصة في المقام ، لأنّ ما هو الواجب ، وهو الجامع ، لا مزاحمة بينه وبين ما هو الحرام ، فعلى القول بالجواز ، كما لا يقع تعارض ، لا يقع تزاحم ، كما عرفت تحقيق ذلك في بحث الترتب.

وثانيا ، هو : إنّه لو سلمنا وقوع التزاحم كما قال الميرزا «قده» ، فلا مانع من الترتّب في مثله ، كما حقق في محله أيضا.

وثالثا ، هو : إنّه بعد قطع النظر عن الأولين ، فإنّ ما ذكره الميرزا «قده» من عدم إمكان التقرب بالملاك ، لمزاحمته بالقبح الفاعلي ، كما ذكر ، غير تام ، وذلك لأنّه إمّا أن نبني على اتحاد الإيجاد والوجود حقيقة ، وأنّ الاختلاف بينهما اعتباري فقط ، وإمّا أن نبني على اختلاف حقيقتهما :

فإن بنينا على الأول ، وقلنا بجواز الاجتماع ، فيكون عندنا في مثالنا وجودان وإيجادان : وجود للصلاة ، وآخر للغصب ، وإيجاد للصلاة ، وآخر للغصب.

ولا ريب في تغاير هذين الوجودين ، وكذلك الإيجادين ، لأنّ إيجاد

٤٤٧

الصلاة هو عين وجودها ، فإذا كان وجودها غير الغصب ، فينبغي أن يكون إيجادها غير إيجاده ، ومعه لا يكون في الصلاة أيّ قبيح ، وحينئذ ينبغي أن يحكم بصحتها ، حتى مع العلم بالحرمة ، لأنّه إذا لم يكن في وجودها قبح ، فلا يكون في إيجادها قبح ، أيضا ، لأنّ الإيجاد عين الوجود حسب الفرض ، وإذا لم يكن في إيجادها قبح ، فهذا معناه أنّه لا قبح فاعلي بها ، حتى مع العلم بالحرمة. وعليه : فتقع صحيحة حتى في هذه الصورة.

وأما إذا بنينا على أن الوجود مغاير للإيجاد حقيقة ، فحينئذ إن قلنا بأنّ لكل وجود إيجاد مستقل ، فالكلام هو الكلام ، لأنّ إيجاد الصلاة غير إيجاد الغصب حينئذ.

ومعه لا يبقى أيّ قبح في إيجادها كما لا قبح في وجودها.

وإن قلنا ، بإمكان صدور وجودات متعددة بإيجاد واحد ، فيكون عندنا وجودان : أحدهما : للصلاة ، والآخر : للغصب إلّا أنهما وجدا بإيجاد واحد ، وهذا يقتضي أن يكون هذا الإيجاد مقدمة للحرام ، لأنّه مقدمة للغصب ، إلّا أنّ مقدمة الحرام لا يسلّم كونها قبيحة ومبعّدة ، كما هو محقق في محله ، ولو سلّم قبحها ، فلا مانع من التقرب بذيها ، لأنّ القبح القائم بالمقدمة لا ينافي التقرب بذي المقدمة.

إذن فهذا الوجه غير تام أيضا.

ـ الوجه الخامس ، هو : ما يمكن اقتناصه من كلمات الميرزا «قده» مع بعض التغيير ، وحاصله ، هو : إنّه بناء على القول بالجواز ، يقع التزاحم مع وصول الحرمة ، بين إطلاق الواجب والحرمة ، كما أنّه يلتزم باستحالة الترتّب حينئذ ، وإلى هنا يشترك هذا الوجه مع سابقه ، إلّا أنّه في هذا الوجه يقال : بأنّ عدم إمكان التقرب بالملاك باعتبار عدم الدليل على ثبوته ، لأنّ الكاشف عنه هو الأمر ، والمفروض سقوط الأمر الأول بالواجب بالمزاحمة ، كما أنّ المفروض عدم إمكان الأمر الترتّبي. وعليه : فلا كاشف عن الملاك ، وبذلك تقع العبادة باطلة.

٤٤٨

هذا إذا كانت الحرمة معلومة.

وأمّا إذا لم تكن الحرمة معلومة : فلا تزاحم لأنّه فرع فعليّة الطرفين.

وعليه : فيبقى إطلاق الأمر على حاله ، فتصح العبادة بهذا الأمر ، إذن ، فاختلاف هذا الوجه عن سابقه ، إنما هو في تفسير عدم إمكان التقرب بالملاك.

ومن هنا سلم هذا الوجه عن الإشكال الثالث الذي ورد على الوجه السابق ، ويبقى الإشكالان ، الأول والثاني ، واردين عليه.

ـ الوجه السادس ، وهو : مبني على القول بجواز الاجتماع بالملاك الأول للقول بجواز الاجتماع ، وهو أنّ الأمر متعلق بالطبيعي ، ولا يسري إلى الحصص ، وإنّ النّهي متعلق بالحصة ، ولا يصعد إلى الجامع ، وبناء على هذا صحّ الاجتماع ، وحينئذ يقال : إنّ المجمع ـ على هذا المسلك ـ يكون مصداقا للواجب ، ويقع صحيحا إذا أتى به على وجه عبادي. وهذا إنما يتم إذا لم تكن الحرمة واصلة ، وأمّا إذا كانت الحرمة واصلة : فلا يمكن الإتيان به على وجه عبادي ، لأنّه قبيح بحكم العقل. وهذا أحسن وجه تخرّج به فتوى المشهور بناء على هذا المسلك.

ـ الوجه السابع : وهو مبنيّ على القول بجواز الاجتماع بالملاك الثاني للجواز ، وهو : إنّ مجرد تعدد العنوان يكفي لرفع غائلة الاجتماع. ويبنى على أنّ المجمع هو واحد خارجا له عنوانان ، ويبنى أيضا على أنّ المقربية والمبعديّة من شئون الوجود الخارجي لا العناوين. فبناء على جميع ذلك يقال : إذا كانت الحرمة واصلة ، فلا يقع المجمع مقربا لقبحه ، باعتبار أنّه موجود ، واحد ، ويشتمل على الحرام. وأمّا إذا لم تكن واصلة ، فلا قبح فيه ، فيكون حينئذ مقربا ، ويقع صحيحا.

وفرق هذا الوجه عن سابقه : إنّه قد فرض في هذا الوجه ، كون تعدد العنوان موجبا لجواز الاجتماع ، لا لإمكان المقربيّة والمبعديّة في المجمع ، وإلّا لما كان هناك فرق بينه ، وبين سابقه.

٤٤٩

ـ الوجه الثامن ، وهو مبنيّ على القول بالامتناع ، بلحاظ الملاك الأول للامتناع الذي يبني عليه الميرزا «قده» ، وهو : إنّ إطلاق الواجب للحصة المحرمة ، يتضمن ويستلزم الترخيص في تطبيق الأمر على الحصة المحرمة ، وهي الصلاة في المغصوب ، وهذا ينافي مع حرمة هذه الصلاة ، حينئذ يقال إذا كانت الحرمة معلومة فيلزم هذا التنافي المذكور وعليه : فلا بدّ من خروج هذه الحصة المحرمة من تحت إطلاق الواجب ، وحينئذ إذا أتى المكلف بها ، لا تقع صحيحه.

وأمّا إذا كانت الحرمة غير معلومة : فلا ضرورة لخروج الحصة المحرمة من الصلاة من تحت إطلاق الواجب ، لعدم المحذور في شموله لها ، باعتبار عدم حرمة هذا الفرد من الصلاة للجهل بالحرمة حسب الفرض ، فليس في المقام ما ينافي الترخيص في الأمر بالجامع على هذه الحصة المحرمة واقعا ، وحينئذ ، فإذا أتى المكلف بها تقع صحيحة.

إلّا أنّ هذا الوجه غير تام.

لأنّه إمّا أن يكون مقصودهم أنّ إطلاق الواجب هو بنفسه ترخيص في تطبيق هذا الأمر على كل حصة من حصصه ، وإن كانت محرمة.

وإمّا أن يكون مقصودهم أنّ للإطلاق معنى غير الترخيص ، لكن يستلزمه كما ذكر في الوجه المذكور.

فإن كان المقصود هو الأول : فلا يكون هذا الوجه تاما ، لأنّ الترخيص الثابت في صورة الجهل بالحرمة ، ترخيص ظاهري ، وهو لا يتنافى مع الحرمة الواقعية ، ولزوم الإعادة بعد الانكشاف. وعليه : فهو خارج عن محل كلامنا في الإطلاق الواقعي للواجب المستدعي للترخيص الواقعي الذي يتنافى مع الحرمة. ومثل هذا الترخيص لم يثبت عند الجهل بالحرمة. وعليه : فيبقى الإشكال على حاله.

وإن كان المقصود هو الثاني. وهو إنّ إطلاق الواجب يستلزم

٤٥٠

الترخيص لا إنّه عينه ، فحينئذ ، إن كان مقصودهم أنّه يستلزم الترخيص العملي ـ بمعنى أنّه لو أقدم لكان معذورا ، فيتم هذا الوجه ، لأنّ هذا الترخيص موجود في المقام ، لأنّ الترخيص الظاهري الثابت ، حال الجهل بالحرمة ، هو ترخيص عملي بهذا المعنى ـ وإن كان مقصودهم أنّه يستلزم الترخيص الواقعي ، فحينئذ لا يتم هذا الوجه ، لأنّ الترخيص الثابت حال الجهل ، عمليّ ، لا واقعي.

ـ الوجه التاسع : وهو مبني على القول بالامتناع بلحاظ الملاك الآخر للامتناع الذي بنى عليه صاحب الكفاية «قده» ومن تبعه ، وهو : إنّ الأمر المتعلق بصرف الوجود ، ينافي النّهي عن بعض حصص هذا المتعلق ، باعتبار سريان الأمر إلى حصصه. فبناء على هذا المسلك يمكن أن ترفع المنافاة بين الأمر والنّهي بأحد شكلين.

أ ـ الشكل الأول ، هو : أنّ يقيّد دليل «صلّ» بعدم الغصب مطلقا ، أي : سواء أكان معلوما ، أو مجهولا. وحينئذ فيحكم ببطلان الصلاة في المغصوب حتى مع الجهل بالغصب.

وعليه : فيبقى الإشكال على حاله بالنسبة لفتوى المشهور.

ب ـ الشكل الثاني ، هو : أن يقيّد دليل «صلّ» بعدم الغصب المعلوم ومعه تصح الصلاة في الغصب إذا كان غير معلوم.

وهذا الشكل يرفع المنافاة بين الأمر والنّهي ، لأنّ شمول الأمر للحصة يكون مترتبا على الجهل بحرمتها ، فيكون الأمر في طول الجهل بالنّهي ، وبذلك يرتفع التضاد.

وهذا الشكل غير تام ، وأوضح ما يقال في الإشكال عليه ، ما تقدم سابقا في بحث الترتّب : من أنّ تعدّد الرتبة لا يكفي لرفع غائلة اجتماع الضدّين ، لأنّ المحال هو اجتماع الضدّين ، على موضوع واحد ، في زمان واحد ، سواء أكانا في رتبتين ، أو رتبة واحدة.

٤٥١

وبهذه يظهر أنّ هذا الوجه لا يرفع الإشكال عن فتوى المشهور.

ـ الوجه العاشر ، لتخريج توجيه فتوى المشهور ، ويوجد فيه ثلاثة افتراضات :

أ ـ الافتراض الأول ، هو : أن يفرض قيام الدليل على ثبوت الملاك في المجمع ، كما يرى صاحب الكفاية (١) ، والمحقق العراقي (٢) ، والأصفهاني «قده» (٣).

ب ـ الافتراض الثاني ، هو : أن يفرض عدم قيام الدليل على وفاء المجمع بالملاك ، ولا على عدم وفائه ـ ولا بدّ من ملاحظة هذه الافتراضات لنرى صحة فتوى المشهور وعدمها ، على ضوئها.

أمّا بالنسبة للافتراض الأول : فيصح كلام المشهور ، وفي الحقيقة إنّ هذا الافتراض عبارة عن الوجه الثالث الذي نقلناه عن الكفاية.

وأمّا بالنسبة للافتراض الثاني : فأيضا يصح على ضوئه ما ذكره المشهور من التفصيل بين صورة العلم بالحرمة ، والجهل بها ، حيث يقال حينئذ : إنّه في صورة فرض العلم بالحرمة ، بناء على هذا الافتراض ، تقع الصلاة باطلة ، سواء أكانت وافية بالملاك واقعا ، أو غير وافية ، وذلك لأنّها مبغوضة للمولى ، فلا يمكن التقرب بها.

وأمّا في صورة فرض عدم العلم بالحرمة ، فتقع الصلاة صحيحة.

والوجه في ذلك : إنّ الصلاة حينئذ صالحة للتقرب بها ، فإذا أتى بها المكلف ، ثم انكشف أنّها كانت في المغصوب المحرم ، حينئذ يقع الكلام في وجوب الإعادة وعدمه.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ الخراساني : ج ١ ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٢) مقالات الأصول ـ العراقي : ج ١ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٣) نهاية الدراية ـ الأصفهاني : ج ٢ ص ٩٦ ـ ٩٧.

٤٥٢

ومرجع هذا الشك إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، باعتبار رجوع هذا الشك إلى أنّ الملاك هل هو قائم بالمقيّد ، أي : بخصوص الصلاة التي تكون في المكان المباح ، وهو الأكثر ، أو إنّه قائم بمطلق الصلاة ، وإن كانت في مغصوب لا يعلمه ، وهو الأقل وفي مثله تجري أصالة البراءة عن القيد الزائد ، ومعه يحكم بعدم وجوب الصلاة إذا وقعت في المكان المغصوب حال جهل المكلف بذلك ، وبهذا تثبت صحة الصلاة حينئذ.

هذا إذا لاحظنا عالم الملاك.

وأمّا إذا لاحظنا عالم الخطاب : وهو قوله ، «صلّ» ، فكذلك مقتضى الأصل هو عدم وجوب الإعادة.

وذلك لأنّ الصلاة في المغصوب ، إن كانت وافية بالملاك واقعا ، فيسقط الوجوب ، وإن لم يكن مصداقا للواجب بناء على القول بالامتناع ، وكل ما يسقط الوجوب يكون الوجوب حينئذ مقيدا بعدمه.

وأمّا إذا لم تكن وافية بالملاك ، فلا تسقط الوجوب ، وحينئذ فلا يكون عدم هذه الصلاة قيدا في الوجوب.

وهذا معناه : إنّ الشك يرجع إلى أنّ وجوب الصلاة هل هو مطلق ، أو مقيد بعدم الصلاة في المغصوب. ومرجع هذا إلى الشك في أنّ وجوب الصلاة هل هو ثابت على كل تقدير ، أي : حتى لو أتى بها في المغصوب ، أو إنّه ثابت في حال مخصوص ، وهو حال عدم الإتيان بها في المغصوب ، فيدور الأمر بين وجوب الأقل والأكثر ، فتجري البراءة عن وجوب الأكثر ، وهو وجوبها على كل تقدير. ومقتضى هذا الأصل هو صحة الصلاة حينئذ.

وأمّا بالنسبة للافتراض الثالث : فهو لا يتناسب مع فتوى المشهور ، لأنّه قد فرض فيه قيام الدليل على عدم وفاء المجمع بالملاك ، ومعه ، تقع الصلاة باطلة في صورة العلم بالحرمة ، والجهل بها.

إلّا أنّه بالإمكان نفي هذا الافتراض الثالث ، وتعيين أحد الافتراضين

٤٥٣

الأوّلين ، وبذلك يكون هذا الوجه صحيحا في مقام تخريج فتوى المشهور.

والوجه في نفي الافتراض الثالث هو : إنّ ما يتصوّر دليلا على نفي وفاء المجمع بالملاك ، هو التمسك بإطلاق الهيئة في خطاب «صلّ» ، فإنّ مقتضى هذا الإطلاق هو : إنّ وجوب «الصلاة» ثابت مطلقا ، أي : حتى مع الإتيان بالصلاة في الدار المغصوبة.

وهذا معناه : إنّ من يصلي في المغصوب ، يجب عليه إعادة الصلاة.

وبذلك يثبت عدم وفاء الصلاة في المكان المغصوب بالملاك.

ولكن التحقيق : إنّ التمسك بإطلاق الهيئة ، لإثبات ما ذكر غير تام.

وذلك لأنّنا لو لاحظنا خطاب «صلّ» ، بقطع النظر عن خطاب «لا تغصب» ، لكان الإطلاق في هيئة «صلّ» ومادته ، سليما ، ولا محذور فيه ، فيكون الوجوب ثابتا على كل حال ، والواجب هو الصلاة على أيّ حال ، أي : ولو كانت في المغصوب.

لكن المفروض أنّه لا بدّ من ملاحظة دليل «لا تغصب» الذي يقتضي حرمة الصلاة في المغصوب ، بناء على الامتناع. وعليه : فبمقتضى دليل «لا تغصب» لا بدّ من التصرّف في دليل «صلّ» بحيث تخرج الصلاة في المغصوب عن كونها مصداقا للواجب ، لاستحالة كون الصلاة مصداقا للواجب والحرام في آن واحد ، بناء على الامتناع ، كما هو المفروض ، والتصرف بدليل «صلّ» لأجل ما ذكر يكون بأحد وجهين :

أ ـ الوجه الأول ، هو : أن نبقي الهيئة على إطلاقها ، ونقيّد إطلاق مادة الواجب ، فتكون النتيجة : إنّ الواجب هو خصوص ما كان في المكان المباح. وعليه : فلا تكون الصلاة في المغصوب مصداقا للواجب ، وبذلك يحصل المقصود من التصرف.

ب ـ الوجه الثاني : هو : أن نقيّد إطلاق الهيئة في دليل «صلّ» ، ونبقي

٤٥٤

المادة على إطلاقها ، وتكون النتيجة : إنّ وجوب الصلاة مقيّد بمن لم يأت بالصلاة في الدار المغصوبة.

وبذلك يحصل المقصود ، لأنّ من يصلي في المغصوب ، لا تقع صلاته مصداقا للواجب ، حينئذ ، لأنّه لا وجوب بالنسبة إليه حسب الفرض.

إذا عرفت ذلك فنقول :

إنّ تقييد المادة وإبقاء الهيئة على إطلاقها ، معناه عدم وفاء المجمع بالملاك ، وإلّا لو كان وافيا بالملاك ، لكان ينبغي تقييد الوجوب الذي هو مفاد الهيئة بمن لم يأت بالصلاة في المغصوب.

وأمّا تقييد الهيئة وإبقاء المادة على إطلاقها ، فمعناه : وفاء المجمع بالملاك ، كما هو واضح ، والمفروض إنّ خطاب «صلّ» لا يعيّن أحد هذين الوجهين ، فيدخل ذلك تحت كبرى أصوليّة بحثت في بحث الواجب المشروط.

وقد ذهب المشهور في المقام ، إلى أنّه لا مرجح لأحد الإطلاقين على الآخر ، وحكموا بتساقط الإطلاقين ، وعليه : فيكون إطلاق الهيئة ساقطا ، ومعه لا يبقى دليل على إثبات عدم وفاء المجمع بالملاك ، لأنّنا فرضنا عدم تصور دليل على ذلك ، سوى إطلاق الهيئة ، وإذا لم يبق دليل على نفي وفاء المجمع بالملاك ، فينتفي الافتراض الثالث ، ويتعين أحد الافتراضين الأول ، أو الثاني.

وقد عرفت أنّه بناء على هذين الافتراضين يتم تفصيل المشهور وفتواه بالصحة مع الجهل بالحرمة ، والبطلان مع العلم بها.

وعليه : فيكون هذا الوجه وجها صحيحا لتخريج فتوى المشهور.

* ـ التنبيه السابع ، هو إنّه لو قيل بالامتناع ، فيقع التعارض حينئذ ، بين دليل «صلّ» ، ودليل «لا تغصب».

٤٥٥

وقد وقع الكلام حينئذ في أنّه هل يقدم دليل «لا تغصب» ، أو إنّهما دليلان متكافئان؟.

وقد ذكر بعضهم ، أنّه يقدم دليل النّهي على دليل الأمر ، وقرّب ذلك بأحد تقريبين :

أ ـ التقريب الأول : وهو مؤلف من صغرى وكبرى.

أمّا الكبرى : فهي : إنّه متى تعارض إطلاق شمولي ، وآخر بدلي ، فيقدم الشمولي على البدلي.

وأمّا الصغرى ، فهي : إنّ التعارض في المقام هو بين مادة «صلّ» ، ومادة «لا تغصب» ، وإطلاق مادة «صلّ» بدلي ، وإطلاق مادة «لا تغصب» شمولي ، فيكون مقامنا صغرى للكبرى المتقدمة.

وعليه : فيقدم دليل «لا تغصب» لأنّه إطلاق شمولي على دليل «صلّ» لأنّه إطلاق بدلي.

وتحقيق الكلام في المقام يستدعي التكلم في كل من الصغرى والكبرى.

أمّا الكلام في الصغرى : فقد يعترض عليه بما حاصله ، هو : إنّ التعارض إنّما يكون بين الشمولي والبدلي في صورة وجود المندوحة ، لأنّ وجوب الصلاة يكون مطلقا وثابتا على كل حال ، فلا داعي لتقييد مفاد الهيئة الذي هو الوجوب ، فلا يكون دليل «لا تغصب» بمادته ، معارضا لإطلاق هيئة «صلّ» ، وإنّما يكون معارضا لمادته كما ذكر.

وبذلك يكون التعارض بين الشمولي والبدلي كما تقدم.

إذن ففي فرض وجود المندوحة ، تكون الصّغرى تامة.

إلّا أنّه إذا فرض عدم وجود مندوحة عن الصلاة خارج الغصب ، ففي

٤٥٦

مثله يكون التعارض بين إطلاقين شموليّين ، وذلك لأنّ دليل «لا تغصب» ينفي أصل الوجوب حينئذ ، وذلك لأنّ الصلاة خارج الغصب غير ممكنة ، وفي الغصب حرام بمقتضى دليل «لا تغصب». وعليه : فلا بدّ من رفع اليد عن أصل الوجوب الذي هو مفاد هيئة «صلّ» ، وحينئذ فيكون التعارض بين إطلاق مادة «لا تغصب» ، وإطلاق هيئة «صلّ» ، وكلاهما شمولي ، ومعه لا يكون المقام صغرى للكبرى المذكورة.

ولكن هذا الاعتراض غير تام : وذلك لأنّ نفي أصل الوجوب ليس تقييدا زائدا في مفاد الهيئة ، ليتم ما ذكر ، وذلك لأنّ نفي أصل الوجوب ، باعتبار عدم القدرة في هذا الفرض. ومن الواضح أنّ دليل «صلّ» مشروط بالقدرة من أول الأمر ، فالتقييد الزائد إنما يتصور في مادة «صلّ» ، فيعود التعارض بين إطلاق مادة «صلّ» وهو بدلي ، وبين إطلاق مادة «لا تغصب» وهو شمولي ، إذن فالصحيح إنّ الصغرى المذكورة صحيحة لا إشكال فيها.

وأمّا الكلام في الكبرى ، وهي تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي عند تعارضهما : فهذا أمر موكول إلى محله في بحث التعادل والتراجيح ، حيث نبين هناك عدم تمامية هذه الكبرى.

نعم في خصوص هذا المقام وأمثاله ، إذا بنينا على ما ذهب إليه الميرزا «قده» (١) ، من اختصاص الأمر بالحصة المقدورة ، فحينئذ لا بدّ من تقديم إطلاق مادة «لا تغصب» الذي هو شمولي ، على إطلاق مادة «صلّ» الذي هو بدليّ ، لكن هذا ليس باعتبار ما ذكر في الكبرى من لزوم تقديم الشمولي على البدلي عند تعارضهما ، بل من باب الحكومة ، أو الورود.

وبيان ذلك ، هو : إنّه إذا قلنا باختصاص الأمر بالحصة المقدورة ، إذن ، فيرجع قوله ، «صلّ» ، إلى قوله ، «صلّ» الصلاة المقدورة شرعا وعقلا والمفروض إنّ دليل «لا تغصب» يقتضي حرمة الصلاة في الغصب ، وبذلك

__________________

(١) فوائد الأصول ـ الكاظمي : ج ١ ص ٢٧٢.

٤٥٧

يخرجها عن كونها مقدورة ، فتخرج حينئذ عن موضوع خطاب «صلّ» ، لأنّ موضوعه الصلاة المقدورة. فحينئذ لا بدّ من تقديم خطاب «لا تغصب» من باب أنّه يرفع موضوع خطاب «صلّ» بالنسبة إلى الصلاة في المغصوب.

وبهذا يتضح عدم تمامية هذا التقريب الأول لعدم تماميّة كبراه.

٢ ـ التقريب الثاني ، هو : إنّه كلما تعارض دليلان يتكفل أحدهما حكما إلزاميا ، والآخر حكما ترخيصيا ، بنحو العموم من وجه ، قدّم الإلزامي على الترخيصي ، كما لو ورد ، لا تغصب» ، وورد دليل على حليّة شرب الحليب ، وتعارض الدليلان في شرب الحليب المغصوب. ففي مثله ، يقدم دليل «لا تغصب» لأنّه إلزامي ، ومقتضاه : حرمة شرب الحليب المغصوب. فهذه كبرى تنطبق على محل الكلام ، لأنّ التعارض في مقامنا بين إطلاق دليل «لا تغصب» وهو الزامي ، وبين إطلاق دليل «صلّ» وهو ترخيصيّ ، لأنّ إطلاقه بدلي ، فيكون مرجعه إلى التخيير بين أفراد الصلاة من باب التوسعة ، وهذا في حقيقته حكم ترخيصي ، وحينئذ ، فيقدم دليل «لا تغصب» تطبيقا لتلك الكبرى.

والتحقيق في المقام هو : إنّ الكبرى صحيحة ، إلّا أنّ مقامنا ليس من صغرياتها.

ولتوضيح ذلك يقع الكلام في موردين :

أ ـ المورد الأول : في ملاك هذه الكبرى ، حيث نقول : إنّه لا تعارض بين دليل الحكم الإلزامي ، ودليل الحكم الترخيصي ، بل يعمل بهما معا ، ونتيجة ذلك هو الحكم بحرمة شرب الحليب المغصوب ، وذلك لأنّ كل دليل ترخيصي يدل على نفي الحرمة عن العنوان المرخص به ، كشرب الحليب ، ومعنى ذلك : إنّ شرب الحليب ليس من المحرمات الشرعية بعنوان كونه شرب حليب ، إلّا أنّ هذا لا ينافي طروّ عنوان عليه يجعله محرما ، كطروّ عنوان الغصب ، لأنّ الحرمة جعلت على عنوان الغصب ، ولا يكون ذلك منافيا للترخيص بعنوان شرب الحليب ، وفي مثله لا بدّ من العمل

٤٥٨

بكلا الدليلين ، فيحكم بحرمة الغصب ، وبحليّة شرب الحليب بما هو حليب.

وهذا لا ينافي حرمة شرب الحليب المغصوب.

ففي الحقيقة لا يكون الحكم بحرمة شرب الحليب المغصوب ، تقديما لدليل النّهي الإلزامي ، بل هو إعمال له في قبال إعمال الدليل الترخيصي.

٢ ـ المورد الثاني : هو : إنّ هذه الكبرى لا تنطبق على محل الكلام.

سواء قلنا بالامتناع ، كما هو مسلك الميرزا «قده» بالامتناع ، أو كما هو المسلك الآخر.

أمّا باعتبار المسلك الآخر : فواضح ، حيث أنّه لا منافاة بين النّهي عن الصلاة الغصبية ، والأمر بطبيعي الصلاة.

وأمّا باعتبار مسلك الميرزا «قده» ، فلأنّه وإن وقعت المعارضة حينئذ بين دليل «لا تغصب» والإطلاق البدلي لدليل «صلّ» لأنّ هذا الإطلاق يتضمن ترخيصا في تطبيق الصلاة على الصلاة الغصبية ، وهذا الترخيص يتنافى مع النّهي عن الصلاة الغصبية.

إلّا أنّنا نقول : إنّ هذا الإطلاق البدلي ، هل معناه الترخيص في هذه الحصة الغصبية ، وعدم تحريمها بما هي صلاة فقط ، مع عدم التعرض لها بما هي غصب؟ أو إنّ معناه الترخيص الفعلي على الإطلاق ، وبلحاظ تمام العناوين؟.

فإن قيل بالأول : فيكون من قبيل دليل حليّة شرب الحليب مع دليل «لا تغصب».

ولكن هذا خلف ، لأنّ معناه : إنّه لا تعارض حقيقي بين «صلّ» ، وبين «لا تغصب» ، وإنّه يجوز الاجتماع كما جاز في «لا تغصب» ، وحليّة شرب الحليب ، مع أنّ المفروض أنّنا نتكلم بناء على الامتناع.

وإن قيل بالثاني : وأنّ هذه الحصة الغصبية لا حرمة فيها بتمام

٤٥٩

عناوينها ، حينئذ يتم القول بالامتناع ، لأنّ الترخيص الفعلي على الإطلاق ، لا يجتمع مع التحريم بلحاظ بعض العناوين ، فيقع التعارض ، ويقال بالامتناع. فمن هذه الناحية لا يلزم الخلف كما في الأول.

الّا أنّه يخرج المورد عن كونه مصداقا لتلك الكبرى ، لأنّ ملاك تلك الكبرى عدم التعارض الحقيقي بين الدليلين.

بينما التعارض موجود في محل الكلام ، ولا دليل يقتضي تقديم خطاب النّهي على خطاب الأمر ، ولو فرض كونه ترخيصيا بالنحو الذي ذكر.

إلى هنا ثبت أنّه في مقام المعارضة ، لا دليل على تقديم جانب النّهي على جانب الأمر.

* ـ التنبيه الثامن : في تحقيق حل الإشكال بالنسبة للعبادات المكروهة :

وحاصل هذا الإشكال هو : إنّ الأحكام التكليفية الخمسة متضادة بأسرها ، دون أن يختص ذلك بالوجوب والحرمة. ومن هنا تنشأ المشكلة باعتبار مجموع أمرين قد تسالم الفقهاء عليهما :

أ ـ الأمر الأول ، هو : إنّ العبادة تتصف أحيانا بالكراهة «كالصلاة في الحمّام».

ب ـ الأمر الثاني : هو : إنّ الصلاة تكون صحيحة ، لو أتى بها في الحمّام ، وهذا يعني كونها مصداقا للمأمور به الوجوبي ، أو الاستحبابي ، كما هي مصداق للمكروه.

ومن هنا وقع الإشكال في كيفية اجتماع الأمر مع النّهي في العبادة الواحدة.

وربما جعل بعض القائلين بالجواز هذه المشكلة دليلا على جواز الاجتماع ، حيث أنّ الأحكام التكليفية الخمسة كلها متضادة فيما بينها ،

٤٦٠